رسالة لكل مريض انظر الى من هو ادنى منك

الأستاذ: منير توران

الدَّواءُ الثَّامِنَ عَشَرَ

أيُّها المَريضُ التارِكُ لِلشُّكرِ والمُستسلمُ لِلشَّكوى! الشَّكوى تكونُ نابِعةً من وُجودِ حقٍّ يَعودُ إليك، وأنتَ لمَ يذهبْ حَقُّكَ سُدىً حتَّى تَشكو، بلْ عليك حُقوقٌ كثيرةٌ لم تُؤدِّ بعدُ شُكرَها، إنك لم تُؤدِّ حقَّ اللهِ عليك، وفَوقَ ذلك تقومُ بالشَّكوى بالباطلِ وكأنَّك على حقٍّ، فليسَ لك أن تشكوَ ناظرًا إلى مَن هو أعلى مِنك مرتبةً من الأصِحَّاء، بلْ عليك النظرُ -من زاوية الصَّحَّةِ- إلى أولئك العاجِزين من المَرضى الذين هُم أدْنَى مِنك درجةً. فأنتَ مكلَّفٌ إذنْ بالشُّكرِ الجَزيلِ، فإذا كانتْ يدُكَ مَكسورةً فتأمَّلِ الْأيديَ المَبتورةَ، وإذا كنتَ ذا عَينٍ واحدةٍ فتأمَّلِ الفَاقِدينَ لكِلتا العَينينِ.. حتَّى تشكرَ اللّهَ سُبحانَه. نعم، فليسَ لأحدٍ في زاويةِ النِّعمةِ حقٌّ بِمَدِّ البصَرِ إلى مَن هو فوقَه، لِتَتأجَّجَ نارُ الشَّكْوى المحرِقةُ عندَه، وعندَ المُصيبةِ يتحتَّمُ على المرءِ من النَّظرُ إلى مَن هو أشدُّ منه مصيبةً وأعظمُ مَرضًا ليشكرَ بعد ذلك قانِعًا بما هو فيه، وقدْ وُضِّحَ هذا السرُّ في بعضِ الرَّسائلِ بمِثالٍ مُقتضاهُ كالْآتي: شخْصٌ يأخذُ بيدِ مِسكينٍ ليُصعِدَهُ إلى قِمَّةِ مَنارةٍ، ويُهدي إليه في كلِّ درجةٍ من دَرجاتِ المَنارةِ هديةً، وأخيرًا يختِمُ تلك الهَدايا بأعظمِ هديةٍ يَهَبُها له عندَ قِمَّة المنارةِ، وإذ كان المفروضُ على هذا المسكينِ أنْ يقدِّمَ الشكرَ والامْتِنانَ إزاءَ الهَدايا المتنوِّعةِ، تَراهُ يتَناسى كلَّ تلك الهَدايا التي أخذَها عندَ تلكَ الدَّرجاتِ، أو يعدُّها غيرَ ذاتِ بالٍ، فلا يشكرُ، رافِعًا بِبصرِه إلى مَن هو أعلى منه شاكيًا قائلًا: «لو كانتْ هذه المنارةُ أعلى مِمَّا هي عليه، لِأبلُغَ أعلى درجةٍ من هذه الدَّرَجاتِ! لِمَ لمْ تصبحْ مثلَ ذلكَ الجبلِ الشَّاهقِ ارْتفاعًا أو المَنارةِ المُجاوِرةِ؟..». وهكذا إذا قامَ هذا الرجلُ بهذه الشَّكوى، فما أعظمَ ما يَرتكِبُه من كُفرانٍ بالنِّعمةِ وما أعظمَ ما يقْترفُ مِنْ تَجاوُزٍ على الحَقِّ! وكذا حالُ الإنسانِ الذي أتى إلى الوُجودِ مِنَ العدَمِ ولم يُصبحْ حَجَرًا ولا شَجرًا ولا حَيوانًا، بل إنسانًا مسلمًا، وقد تمتَّعَ كثيرًا بالصَّحة والعافيةِ، ونالَ درجةً من النِّعمةِ ساميةً... مع هذا يأتي هذا الإنسانُ ويُظهرُ الشَّكوى من عدَمِ تمتُّعِه بالصحةِ والعافيةِ نتيجةَ بعضِ العَوارضِ، أو لإضاعتِهِ النِعَمَ بِسوءِ اخْتيارِهِ، أوْ مِنْ سوءِ الاستِعمالِ، أو لِعجزِه عنِ الوُصولِ إليها، ثم يقولُ: «يا وَيلَتا ماذا جَنيتُ حتَّى حَلَّ بي ما حَلَّ»، ناطِقًا بِما يَشِي بانتِقادٍ للرُّبوبيّةِ الإلهيَّةِ، فهذِهِ الحالةُ هي مرَضٌ معنويٌّ ومصيبةٌ أكبرُ من المرضِ الماديِّ والمصيبةِ التي هو فيها، فهوَ يزيدُ مرضَه بالشَّكوى كمَنْ يَتصارَعُ ويدُهُ مرضُوضةٌ، لكنَّ العاقلَ يتمثَّلُ قولَه تعالى: ﴿ٱلَّذِينَ إِذَآ أَصَٰبَتۡهُم مُّصِيبَة قَالُوٓاْ إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّآ إِلَيۡهِ رَٰجِعُونَ﴾ (البقرة:156) فيُسلِّمُ الأمرَ للهِ صابرًا حتَّى ينتهي ذلكَ المرضُ من أداءِ وَظيفتِهِ ويَمضي إلى شأنِه.

 

التعليقات