اكبر كلٍ كأصغر جزء إزاءها

 

قطرة نورية من كليات رسائل النورسي

اكبر كلٍ كأصغر جزء إزاءها.

وينابيع هذه الحقيقة

ان اكبـر كلّ ٍ كأصغر جـزءٍ هيّن ازاء قدرة الصانع القـدير الذي يـهيمن بافعاله وتصريفه الامور في الكون وكما هو مشاهد. فايجاد الكلي بكثرة من حيث الافراد سهل كايجاد جزئي واحد.ويمكن اظهار ابداع الصنعة المتقنة في اصغر جزئي اعتيادي.

وينبع سر الحكمة لهذه الحقيقة من ثلاثة منابع:

الاول: امداد الواحدية.

الثاني: يسر الوحدة.

الثالث: تجلي الاحدية.

المنبع الاول: وهو امداد الواحدية.

اي إن كان كل شئ وكل الاشياء ملكاً لمالك واحد فعندئذ يمكن من حيث الواحدية ان يحشد قوة جميع الاشياء وراء كل شئ، ويدبر امور جميع الاشياء بسهولة ادارة الشئ الواحد.

ولاجل تقريب هذا السر الى الافهام نقول في تمثيل:

بلد يحكمها سلطان واحد يستطيع ان يحشّد قوة معنوية لجيش كامل وراء كل جندي من جنوده وذلك من حيث قانون السلطنة الواحدة. لذا يستطيع ذلك الجندي الفرد ان يأسر القائد الاعظم للعدو بل يمكن ان يسيطر باسم سلطانه على مَن هو فوق ذلك القائد.

ثم ان ذلك السلطان، مثلما يستخدم موظفاً او جندياً، ويدبر امور جميع الموظفين وجميع الجنود ايضاً بسر السلطنة الواحدة، وكأنه يرسل كل شخص وكل شئ بسر سلطنته الواحدة لإمداد اي فرد كان.يمكن ان يستند كل فرد من افراد رعيته الى قوة جميع الافراد، اي يستطيع ان يستمد منها.

ولكن لو حلّت حبال تلك الواحدية للسلطنة، واصبحت السلطنة سائبة وفوضى؛ فان كل جندي عندئذٍ يفقد ـ بالمرة ـ قوة لاتحد، ويهوى من مقام نفوذ رفيع، ويصبح في مستوى انسان اعتيادي. وعندها تنجم مشاكل للادارة والاستخدام بعدد الافراد.

كذلك (ولله المثل الاعلى ) فصانع هذا الكون لكونه واحداً، فانه يحشّد اسماءه المتوجهة الى جميع الاشياء، تجاه كل شئ. فيوجد المصنوع باتقان تام وبصورة رائعة. وان لزم الامر يتوجه بجميع الاشياء الى الشئ الواحد، ويوجهها اليه، ويمدّه بها ويقويه بها.

وانه يخلق جميع الاشياء ايضاً بسر الواحدية، ويتصرف فيها ويدبر امورها كايجاد الشئ الواحد.

ومن هذا السر - سر إمداد الواحدية - تُشاهد في الكائنات نوعيات رفيعة قيمة متقنة جداً ضمن وفرة مطلقة ورخص مطلق.

المنبع الثاني: الذي هو يسر الوحدة:

اي ان الافعال التي تتم باصول الوحدة ومن مركز واحد بتصرفٍ واحد وبقانون واحد، تورث سهولة مطلقة. بينما ان كانت تدار من مراكز متعددة، وبقوانين متعددة، وبأيدٍ متعددة تنجم مشكلات عويصة.

مثلاً: اذا جهز جميع افراد الجيش بالاعتدة والتجهيزات من مركز واحد، وبقانون واحد، وبأمر قائد عظيم واحد، يكون الامر سهلاً سهولة تجهيز جندي واحد. بينما اذا أحيل التجهيز الى معامل متفرقة، ومراكز متعددة يلزم عندئذٍ لتجهيز جندي واحد جميع المعامل العسكرية التي تزود الجيش بالتجهيزات اللازمة.

بمعنى انه اذا اسند الامر الى الوحدة فان تجهيز الجيش كاملاً يكون سهلاً كتجهيز جندي واحد، ولكن ان لم يسند الى الوحدة فان تزويد جندي واحد بالتجهيزات الاساسية يولد مشاكل بعدد افراد الجيش.

وكذا اذا زودت ثمرات شجرة ما ـ من حيث الوحدة ـ بالمادة الحياتية من مركز واحد وبقانون واحد واستناداً الى جذر واحد. فان ألوف الثمرات تتزود بها بسهولة كسهولة ثمرة واحدة.بينما اذا ربطت كل ثمرة الى مراكز متعددة، وارسلت الى كل منها موادها الحياتية، عندها تنجم مشكلات بقدر عدد ثمرات الشجرة، لان المواد الحياتية التي تلزم شجرة كاملة تلزم كل ثمرة من الثمرات ايضاً.

وهكذا فبمثل هذين التمثيلين (ولله المثل الاعلى) فان صانع هذا الكون لكونه واحداً أحداً، يفعل مايريد بالوحدة. ولأنه يفعل بالوحدة، تسهل جميع الاشياء كالشئ الواحد. فضلاً عن انه يعمل الشئ الواحد باتقان تام كالاشياء جميعاً. ويخلق أفراداً لاحدّ لها في قيمة رفيعة. فيظهر جُوده المطلق بلسان هذا البذل المشاهد والرخص غير المتناهي، ويظهر بها سخاءه المطلق وخلاقيته المطلقة.

المبع الثلث: وهو تجلي الاحدية؛

أي ان الصانع الجليل منزّه عن الجسم والجسمانية، لذا لا يحصره زمان ولايقيده مكان، ولا يتداخل في حضوره وشهوده الكون والمكان، ولا تحجب الوسائط والاجرام فعله بالحجب. فلا انقسام ولاتجزؤ في توجهه سبحانه ولايمنع شئ شيئاً،

يفعل مالايحد من الافعال كالفعل الواحد، ولهذا فانه يدرج معنىً شجرة ضخمة جداً في بذرة صغيرة، ويدرج العالم في فرد واحد، ويدير امور العالم كله بيد قدرته كادارة فرد واحد.

فكما اوضحنا هذا السر في كلمات اخرى نقول ايضاً:

ان ضوء الشمس الذي لاقيد له الى حدٍ ما، يدخل في كل شئ لمّاع، حيث انه نوراني، فلو واجهتها الوفٌ بل ملايين المرايا، فان صورتها النورانية المثالية تدخل في كل مرآة دون انقسام، كما هي في مرآة واحدة. فلو كانت المرآة ذات قابلية، فان الشمس بعظمتها يمكن أن تُظهر فيها آثارها، فلا يمنع شئ شيئاً. اذ يدخل ـ مثال الشمس ـ في المرآة الواحدة كما في الالوف منها بسهولة تامة، وهي توجد في مكان واحد بسهولة وجودها في الوف الاماكن.وتكون كل مرآة وكل مكان مظهراً لجلوة تلك الشمس كما هي لألوف الاماكن.

(ولله المثل الاعلى) ان لصانع هذا الكون ذي الجلال تجلياً ، بسرّ توجّه الاحدية، بجميع صفاته الجليلة التي هي انوار، وبجميع اسمائه الحسنى التي هي نورانية، فيكون حاضراً ناظراً في كل مكان، ولايحدّه مكان، ولا انقسام في توجهه سبحانه، يفعل مايريد فيما يشاء في كل مكان، في آن واحد ومن دون تكلف ولامعالجة ولامزاحمة.

فبسر امداد الواحدية ويُسر الوحدة وتجلي الاحدية هذه:

اذا اسندت جميع الموجودات الى الصانع الواحد، فالموجودات كلها تسهل كالموجود الواحد ويكون كل موجود ذا قيمة عالية كالموجودات كلها من حيث الاتقان والابداع. كما ان دقائق الصنعة المتقنة الموجودة في كل موجود رغم الوفرة في الموجودات تبين هذه الحقيقة.

بينما ان لم تسند تلك الموجودات الى الصانع الواحد بالذات فان كل موجود عندئذٍ يكون ذا مشاكل بقدر مشاكل الموجودات كلها. وان قيمة الموجودات كلها تسقط الى قيمة موجود واحد. وفي هذه الحالة لايأتي شئ الى الوجود، او اذا وجد فلا قيمة له ولايساوي شيئاً.

ومن هذا السرّ، تجد السوفسطائيين الموغلين في الفلسفة، السابقين فيها قد نظروا

الى طريق الضلالة والكفر معرضين عن طريق الحق ورأوا أن طريق الشرك عويصة وعسيرة وغير معقولة قطعاً بالوف المرات من طريق التوحيد، طريق الحق؛ لذا اضطروا الى انكار وجود كل شئ وتخلّوا عن العقل.(*)

__________________

(*) كليات رسائل النور - المكتوب العشرون - ص: 319

 

قرئت 3 مرات
لإضافة تعليق يرجى تسجيل الدخول أو إنشاء قيد جديد