{ وَإِن كُنتُمۡ فِي رَيۡبٖ مِّمَّا نَزَّلۡنَا عَلَىٰ عَبۡدِنَا فَأۡتُواْ بِسُورَةٖ مِّن مِّثۡلِهِۦ وَٱدۡعُواْ شُهَدَآءَكُم مِّن دُونِ ٱللَّهِ إِن كُنتُمۡ صَٰدِقِينَ (23)

 فَإِن لَّمۡ تَفۡعَلُواْ وَلَن تَفۡعَلُواْ فَٱتَّقُواْ ٱلنَّارَ ٱلَّتِي وَقُودُهَا ٱلنَّاسُ وَٱلۡحِجَارَةُۖ أُعِدَّتۡ لِلۡكَٰفِرِينَ (24) }

 

مقدمة في تحقيق النبوة

اعلم أنه كما أثبتت الآيةُ السابقة أوّلَ المقاصد الأساسية القرآنية وهو التوحيد؛ كذلك تثبت هذه الآية ثانيَ المقاصد الأربعة وهو إثبات نبوّة محمّد عليه الصلاة والسلام بأكمل معجزاته الذي هو التحدّي بإعجاز القرآن. ولقد فصلنا دلائلَ نبوّته في كتاب آخر فلنلخِّص بعضها هنا في ستِّ([1]) مسائل:

المسألة الأولى

اعلم أن الاستقراء التام في أحوال الأنبياء مع الانتظام المطّرد المسمى بالقياس الخفيّ ينتج أن مدارَ نبوّة الأنبياء وأساسها وكيفية معاملاتهم مع أممهم -بشرط تجريد المسألة عن خصوصيات تأثير الزمان والمكان- يوجد بأكملِ وجهٍ في محمّد عليه الصلاة والسلام الذي هو أستاذُ البشر في سنِّ كمال البشر، فينتج بالطريق الأَوْلى وبالقياس الأَوْلَويّ أنه أيضاً رسولُ اللّٰه. فجميع الأنبياء بأَلسنة معجزاتهم كأنهم شاهدون على صدق محمّد عليه السلام الذي هو البرهانُ النَيِّر على وجود الصانع ووحدته فتأمل...

المسألة الثانية

اعلم أن كلَّ حال من أحواله وكلَّ حركة من حركاته عليه السلام -وإنْ لم يكن خارقاً- يلَوِّح بالمبدأ على صدقِه وبالمنتهى على حقانيته. ألا ترى أنه عليه السلام كيف كان حالُه في أمثال واقعة الغار التي انقطع -بحسب العادة- أملُ الخلاص، يقول بكمال الوثوق والاطمئنان والجدية: ﴿لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّٰهَ مَعَنَا﴾(التوبة:40)! فكما أن ابتداءه بالحركة -بلا مبالاةٍ لمعارض وبلا خوفٍ وتردّد مع كمال الاطمئنان- يدل على تمسكه بالصدق؛

 

161
___________________

 

كذلك تأسيسُه بانتهاء حركاته -لقواعدَ هي الأساس لسعادة الدارين- وإصابتُه للحق واتصاله بالحقيقة دليلٌ على حقانيته، فهذا فرداً فرداً. وأما إذا نظرتَ إلى مجموع حركاته وأحواله يتجلى لِعينك برهانُ نبوّته كالبرق اللامع. فتبصّر!

المسألة الثالثة

اعلم أن الزمان الماضيَ والحالَ (أي عصر السعادة) والاستقبالَ اتفقتْ على تصديق نبوّته كما أن ذاتَه دليل على نبوّته. ولنطالع هذه الصحُف الأربع:

فأولاً: نتبرك بمطالعة ذاته عليه السلام. ولابد أوّلاً من تصوّر أربع نكت:

إحداها: أنه "ليس الكَحَلُ كالتكحِّل"([2]) أي لا يصل الصنعيُّ والتصنعيُّ -ولو كانا على أكملِ الوجوه- مرتبةَ الطبيعيّ والفطريّ ولا يقوم مقامَه، بل فلتاتُ غلَطاتِ هيئةِ حركةِ الصنعي تومئ بمُزخرَفِيَّته.

والثانية: أن الأخلاق العالية إنما تتصل بأرض الحقيقة بالجدّية، وأن إدامة حياتها وانتظام مجموعها إنما هي بالصدق. ولو ارتفع الصدقُ من بينها صارت كهشيم تذروه الرياحُ.

والثالثة: هي أنه كما يوجد المَيل والجذب في الأمور المتناسبة، كذلك يوجد الدفعُ والتنافر في الأمور المتضادة.

والرابعة: هي "أن للكلِّ حُكماً ليس لكلٍّ" كقوّة الحبل مع ضعف خيوطه..

وإذا تفطنت لهذه النكت فاعلم أن آثار محمّد عليه الصلاة والسلام وسِيَره وتاريخ حياته تشهد -مع تسليم أعدائه- بأنه لعلى خُلق عظيم، وبأنه قد اجتمع فيه الخصائلُ العالية كافة. ومن شأن امتزاج تلك الأخلاقِ توليدُ عزةٍ للنفس وحيثيةٍ وشرفٍ ووقار لا تساعد التنـزّلُ للسفاسف. فكما أن علوّ الملائكة لا يساعد لاختلاط الشياطين بينهم؛ كذلك تلك الأخلاقُ العالية بجَمعها لا تساعد أصلاً لتداخُل الحيلةِ والكذب بينَها. ألا ترى أن الشخص المشتهر بالشجاعة فقط لا يتنـزّل للكذب إلاّ بعُسر؟ فكيف بالمجموع؟ فثبتَ أن ذاتَه عليه السلام كالشمس دليلُ لنفسه..

 

162
___________________

 

وأيضاً إذا تأملتَ في حاله عليه السلام من الأربع إلى أربعين -مع أنّ من شأن الشبابية وتوقّدِ الحرارة الغريزية أن تُظهر ما يَخفى وتُلقي إلى الظاهر ما استتر في الطبيعة من الحِيَل- تراه عليه السلام قد تدرّج في سنينه وعاشرَ بكمال استقامةٍ ونهايةِ متانةٍ وغاية عفة واطّرادٍ وانتظامٍ. ما أومأ حالٌ من أحواله إلى حيلة، لاسيما في مقابلة المعاندين الأذكياء. وبينما تراه عليه السلام كذلك إذ تنظر إليه وهو على رأس أربعين سنة -الذي من شأنه جعلُ الحالاتِ مَلَكةً والعاداتِ طبيعةً ثانية لا تخالَف- قد تكشّف عليه السلام عن شخصٍ خارق قد أوقعَ في العالم انقلاباً عظيماً عجيباً. فما هو إلاّ من اللّٰه.

المسألة الرابعة

اعلم أن صحيفة الماضي المشتملةَ على قَصَص الأنبياء المذكورة على لسانه عليه السلام في القرآن برهانٌ على نبوّته بملاحظة أربع نكت.

إحداها: أنَّ من يأخذ أساساتِ فنٍ ويعرف العُقَد الحياتية فيه ويُحسن استعمالها في مواضعها ثم يبني مدَّعاه عليها؛ يدل ذلك على مهارته وحذاقته في ذلك الفن.

النكتة الثانية: هي أنك إن كنت عارفاً بطبيعة البشر لا ترى أحداً يتجاسر وبلا تردد وبلا مبالاة بسهولة على مخالفةٍ وكذبٍ ولو صغيراً.. في قوم ولو قليلين.. في دعوى ولو حقيرة.. بحيثيةٍ ولو ضعيفة. فكيف بمـَن له حيثيةٌ في غاية العظمة.. وفي دعوى في غاية الجلالة.. في قوم في غاية الكثرة.. في مقابلة عنادٍ في غاية الشدة مع أنه أميّ لم يقرأ.. يبحث عن أمور لا يستقلّ فيها العقلُ ويُظهرها بكمال الجدية، ويعلنها على رؤوس الأشهاد. أفلا يدلّ هذا على صدقه وأنه ليس منه بل من اللّٰه؟.

الثالثة: هي أن كثيراً من العلوم المتعارفة عند المدَنيين -بِتعليم العادات والأحوال وتلقين الوقوعات والأفعال- مجهولةٌ نظريةٌ عند البدويين. فبناءً عليه لابد لمـَن يحاكِم ويتحرى حال البدويين -لا سيما في القرون الخالية- أن يفرض نفسَه في تلك البادية.

الرابعة: هي أنه لو ناظرَ أميّ علماءَ فنٍّ -ولو فنَّ الصرف- ثم بيّن رأيه في مسائله مصدِّقاً في مظان الاتفاق، ومصحِّحاً في مطارح الاختلاف؛ أفلا يدلّك ذلك على تفوّقه، وأن علمه وهبي؟.

 

163
___________________

 

إذا عرفت هذه النكت: فاعلم أن محمّداً العربيّ عليه السلام مع أميّته قصّ علينا بلسان القرآن قصَصَ الأولين والأنبياء قصةَ مَنْ حضرَ وشاهَد، وبيّن أحوالَهم وشرحَ أسرارَهم على رؤوس العالم في دعوى عظيمة تجلب إليها دقةَ الأذكياء. وقد قصّ بلا مبالاة، وأخذ العُقَد الحياتية فيها وأساساتها مقَدَّمة لمدّعاه، مصدِّقاً فيما اتفقت عليه الكتبُ السالفة، ومصحِّحاً فيما اختلفت فيه. كأنه بالروح الجوّالِ المَعكسِ للوحي الإلهي طيَّ الزمانَ والمكانَ، فتداخل في أعماق الماضي فبيّن كأنه مشاهِد. فثبت أن حاله هذه دليل نبّوته وإحدى معجزاته. فمجموعُ دلائل نبوّة الأنبياء في حُكمٍ دليلٍ معنويٍ له، وجميعُ معجزات الأنبياء في حُكم معجزة معنوية له.

المسألة الخامسة

في بيان صحيفة عصر السعادة لا سيما مسألة جزيرة العرب. فها هنا أيضاً أربع نكت:

إحداها: أنك إذا تأملتَ في العالم ترى أنه قد يتعسر ويستشكل رفعُ عادةٍ ولو حقيرةً في قوم ولو قليلين. أو خصلةٍ ولو ضعيفةً.. في طائفةٍ ولو ذليلين.. على مَلِك ولو عظيماً.. بهمّة ولو شديدة. في زمان مديد بزحمة كثيرة.([3]) فكيف أنت بمَن لم يكن حاكماً، تشبثَ في زمان قليل بهمّة جزئية -بالنسبة إلى المفعول- وَقَلَعَ عاداتٍ وَرَفَعَ أخلاقاً قد استقرت بتمام الرسوخ واستُؤنس بها نهاية استيناس واستمرت غايةَ استمرار، فغرسَ فجأةً بَدَلَها عاداتٍ وأخلاقاً تكمّلت دفعةً عن قلوب قوم في غاية الكثرة ولمألوفاتهم في نهاية التعصب. أفلا تراه خارقاً للعادات؟..

النكتة الثانية: هي أن الدولة شخصٌ معنويّ. تشكُّلُها تدريجيّ كنمو الطفل، وغلَبتُها للدولة العتيقة -التي صارت أحكامُها كالطبيعة الثانية لملّتها- متمهلةٌ. أفلا يكون حينئذ من الخارق لعادةِ تشكُّلِ الدول تشكيلُ محمّد عليه السلام لحكومةٍ عظيمةٍ دفعةً، مهيَّئةً لنهاية الترقي، متضمنةً للأساسات العالية الأبدية مع غلبتها للدول العظيمة دفعةً مع إبقاء حاكميته لا على الظاهر فقط، بل ظاهراً وباطناً ومادةً ومعنىً.

النكتة الثالثة: هي أنه يمكن بالقهر والجبر تحكّمٌ ظاهريّ، وتسلّط سطحيّ.

 

164
___________________

 

لكن الغلبةَ على الأفكار، والتأثيرَ بإلقاء حلاوته في الأرواح، والتسلطَ على الطبائع مع محافظةِ حاكميته على الوجدان دائماً لا يكون إلاّ من خوارق العادات.. وليس إلاّ الخاصةُ الممتازة للنبوّة.

النكتة الرابعة: هي أن تدوير أفكار العموم وإرشادَها بحِيَل الترهيب والترغيب والخوف والتكليف إنما يكون تأثيرُها جزئياً سطحياً موقتاً يسدّ طريقَ المحاكمة العقلية في زمان. أما مَن نفذ في أعماق القلوب بإرشاده، وهيَّج دقائقَ الحسيات، وكشف أكمامَ الاستعدادات، وأيقظ الأخلاق، وأظهر الخصائل المستورة، وجعل جوهر إنسانيتهم فوّاراً، وأبرزَ قيمةَ ناطقيتهم؛ فإنما هو مقتبِسٌ من شعاع الحقيقة ومن الخوارق للعادة. بينما ترى شخصاً في قساوة قلبِه يقبُرُ بنتَه حيةً ولا يتألم ولا يتأثر إذ تراه بعد يوم -وقد أسلم- يترحّم على نحو النمل، ويتألم بألَم حيوان. فباللّٰه عليك أَ ينطبق هذا الانقلاب الحسي على قانون؟

فإذا عرفت هذه النكت تأمّل في نقطة أخرى وهي: أن تاريخ العالم يشهد: أن الداهيَ الفريدَ إنما هو الذي اقتدر على إنعاش استعداد عموميّ، وإيقاظِ خَصلة عمومية، والتسببِ لانكشاف حسّ عموميّ؛ إذ مَن لم يوقِظ هكذا حسّاً نائماً يكون سعيُه هباءً موقتاً ولو كان جليلاً في نفسه.. وأيضاً إن التاريخ يرينا أن أعظمَ الناس هو الموفَّق لإيقاظ واحد أو اثنين أو ثلاث من هذه الحسِّيات العمومية: كحسّ الحَميّة الملّية، وحس الأخوّة، وحس المحبة، وحس الحرية... الخ. أفلا يكون إذَن إيقاظُ ألوفٍ من الحسِّيات المستورة العالية، وجعلُها فوّارةً منكشفة في قوم بَدَوييّن منتشرين في جزيرة العرب تلك الصحراءِ الوسيعة، من الخوارق؟.. نعم!([4]) هو من ضياء شمس الحقيقة.

فيا هذا! مَن لم يُدخِل في عقله هذه النقطة نُدْخِل جزيرةَ العرب في عينه. فهذه "جزيرةُ.." بعد ثلاثة عشر عصراً وبعدَ ترقِي البشر في مدارج التمدّن! فانتخِب أيها المعانِد من أكملِ الفلاسفة مائةً، فليسعَوا مائةَ سنة فإن فعلوا جزءاً من مائة جزءٍ مما فعلَه محمّد العربي عليه الصلاة والسلام بالنسبة إلى زمانه...([5]) فإن لم تفعل -ولن تفعل- فاتّق عاقبةَ العناد! نعم، هذه الحالة خارقةٌ للعادة وإن هي إلاّ معجزةٌ من معجزاته عليه الصلاة والسلام.

واعلم أيضاً أن من أراد التوفيق يلزم عليه أن يكون له مصافاةٌ مع عادات اللّٰه،

 

165
___________________

 

ومعارَفَةٌ مع قوانين الفطرة، ومناسبةٌ مع روابط الهيئة الاجتماعية. وإلاّ أجابته الفطرةُ بعدم الموفَّقية جوابَ إسكات..

وأيضاً مَن تحرك بمسلك في الهيئة الاجتماعية يلزمه أن لا يخالفَ حركة الجريان العموميّ. وإلاّ طيّرَه ذلك الدولابُ عن ظهره فيسقط في يده. فإذن مَن ساعده التوفيقُ في ذلك الجريان كمحمّد عليه السلام يثبت أنه متمسكٌ بالحق.

فإذا تفهمت هذا، تأمل في حقائق الشريعة مع تلك المصادمات العظيمة والانقلابات العجيبة، وفي هذه الأعصار المديدة تَرَها قد حافظتْ على موازنة قوانينِ الفطرة وروابطِ الاجتماعيات اللاتي بدقتها لا تتراءى للعقول مع كمال المناسبة والمصافاة معها. فكلما امتدّ الزمانُ تظاهرَ الاتصال بينها. ويتظاهر من هذه الحالة؛ أن الإسلامية هي الدين الفطريّ لنوع البشر وأنها حقٌ، لهذا لا ينقطع وإن رَقَّ. ألا ترى أن الترياق الشافي للسموم القاتلة في الهيئة الاجتماعية إنما هو أمثالُ: "حرمةِ الربا ووجوبِ الزكاة" اللتين هما مسألتان في أُلوف مسائل تلك الشريعة.

فإذا عرفت هذه النكت الأربع مع هذه النقط الثلاث، اعلم أن محمداً الهاشميّ عليه الصلاة والسلام مع أنه أمّيّ لم يقرأ ولم يكتب، ومع عدم قوّته الظاهرية وعدم حاكميةٍ له أو لسَلفه، وعدمِ ميلِ تحكّم وسلطنةٍ، قد تشبثَ بقلبه بوثوقٍ واطمئنان في موقع في غايةِ الخطر وفي مقام مهم، بأمر([6]) عظيم فغلَب على الأفكار، وتحبّب إلى الأرواح، وتسلّط على الطبائع، وقلع من أعماق قلوبهم العاداتِ والأخلاقَ الوحشيةَ المألوفة الراسخة المستمرة الكثيرة. ثم غرس في موضعها في غاية الإِحكام والقوة -كأنها اختلطت بلَحمهم ودمهم- أخلاقاً عاليةً وعاداتٍ حسنة، وقد بدَّل قساوةَ قلوب قوم خامدين في زوايا الوحشة بحسيات رقيقة وأظهرَ جوهرَ إنسانيتهم. ثم أخرجهم من زاوية الوحشة وَرقّى بهم إلى أوج المَدَنية وصيّرهم معلِّمي عالَمهم، وأسَّس لهم دولةً ابتلعت الدول كـ"عصا موسى"، فلما ظهرت صارت كالشعلة الجوّالة والنور النوّار، فأحرقت روابط الظلم والفساد، وجعل سريرَ تلك الدولة الدفعية في زمان قليل الشرقَ والغربَ.

أفلا تدل هذه الحالة على أن مسلكَه حقيقة وأنه صادق في دعواه؟

 

166
___________________

 

المسألة السادسة

في صحيفة المستقبل لاسيما "مسألة الشريعة".

ولابد من ملاحظة أربع نكَت في هذه المسألة:

إحداها: أنَّ شخصاً ولو خارقاً إنما يتخصص ويصير صاحبَ ملَكة في أربعة فنون أو خمسة فقط.

النكتة الثانية: إنَّ كلاماً واحداً قد يتفاوت بصدوره عن متكلِّمين، فكما يدل على سطحية أحدٍ وجهله.. كذلك يدلّ على ماهرية الآخر وحذاقته، مع أن الكلامَ هو الكلامُ؛ إذ أحدُهما لمّا نظر إلى المبدأ والمنتهى، ولاحظ السياق والسباق، واستحضر مناسبتَه مع أخواته، ورأى موضعاً مناسباً فأحسنَ الاستعمال فيه، وتحرى أرضاً منبتة فزرعه فيها، ظهر منه أنه خارق وصاحب مَلَكة فيما هذا الكلام منه. وكل فذلكات القرآن من الفنون وملتقطاته إنما هي من هذا القبيل.

النكتة الثالثة: هي أن كثيراً من الأمور العادية الآن -بسبب تكمّل المبادئ والوسائط حتى يلعبُ بها الصبيان- لو كانت قبل هذا بعصرين لعُدّت من الخوارق. فما يحافظ شبابيتَه وطراوتَه وغرابته على هذه الأعصار المديدة يكون البتة من خوارق العادات والعادات الخارقة.

النكتة الرابعة: هي أن الإرشاد إنما يكون نافعاً إذا كان على درجة استعداد أفكار الجمهورِ الأكثرِ. والجمهورُ -باعتبار المعْظَم- عوامُّ، والعوام لا يقتدرون على رؤية الحقيقة عريانةً ولا يستأنسون بها إلاّ بلباس خيالهم المألوف. فلهذه النكتة صوّرَ القرآنُ تلك الحقائقَ بمتشابهات وتشبيهات واستعارات، وحافظ الجمهورَ الذين لم يتكمّلوا عن الوقوع في ورطة المغلطة، فأبْهَمَ وأهمَلَ في المسائل التي يعتقد الجمهورُ -بالحس الظاهري- خلافَ الواقع ضرورياً، لكن مع ذلك أومأ إلى الحقيقة بنَصْب أمارات.

فإذا تفطنتَ لهذه النكت، اعلم أن الديانة والشريعة الإسلامية المؤسّسةَ على البرهان العقليّ ملخصةٌ من علوم وفنون تضمنت العُقَد الحياتية في جميع العلوم الأساسية: من فنّ تهذيب الروح، وعلم رياضة القلب، وعلم تربية الوجدان، وفنّ تدبير الجسد، وعلم تدوير المنـزل،

 

167
___________________

 

وفنِّ سياسة المدنية، وعلم نظامات العالم، وفنِّ الحقوق، وعلم المعاملات، وفنِّ الآداب الاجتماعية، وكذا وكذا وكذا... الخ. مع أن الشريعة فسّرت وأوضحت في مواقع اللزوم ومظانّ الاحتياج، وفيما لم يلزم أو لم يستعد له الأذهانُ أو لم يساعد له الزمانُ أجملتْ بفذلكة ووضعت أساساً أحالَت الاستنباطَ منه وتفريعَه ونُشُوءَ نَمَائِه على مَشُورة العقول. والحال أن كل هذه الفنون بل ثلثَه بعد ثلاثة عشر عصراً -مع انبساط تلاحق الأفكار وتوسع نتائجها، وكذا في المواقع المتمدنة، وكذا في الأذكياء - لا يوجد في شخص. فمن زيّن وجدانَه بالإنصاف يصدّق بأن حقيقة هذه الشريعة خارجةٌ عن طاقة البشر دائما لاسيما في ذلك الزمان، ويصدّق بمآل ﴿لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا﴾.

"والفضل ما شهدت به الأعداء"([7]):

فهذا "قارلائيل"(*) فيلسوف أمريكا نقل عن الأديب الشهير الألماني وهو "كوته"(*) إذ قال بعد ما أمعن النظر في حقائق القرآن: "عجباً، أيمكن تكمّل العالم المدني في دائرة الإسلامية؟" فأجاب بنفسه: "نعم، بل المحققون الآن مستفيدون -بجهةٍ- من تلك الدائرة." ثم قال الناقل: لما طلعتْ حقائقُ القرآن صارت كالنار الجوّالة وابتلعت سائر الأديان، فحُقَّ له؛ إذ لا يحصل شيءٌ من سفسطيات النصارى وخرافات اليهود. فصدّق ذلك الفيلسوفُ مآلَ: ﴿فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ... فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ﴾.

- فإن قلت: إن القرآن وكذا مفسِّرَه -أعني الحديث- إنما أَخذ من كلِّ فنٍّ فذلكةً، وإحاطةُ فذلكاتٍ كثيرة ممكنةٌ لشخص.

قيل لك: إن الفذلكة بحُسن الإصابة في موقعها المناسب، واستعمالَها في أرض منبتةٍ مع أمور مرموزةٍ غيرِ مسموعة -قد أشرنا إليها في النكتة الثانية- تشفّ كالزجاجة عن مَلَكة تامة في ذلك الفن واطلاعٍ تام في ذلك العلم، فتكون الفذلكةُ في حُكم العلم ولا يمكن لشخص أمثالُ هذه.

اعلم أن نتيجة هذه المحاكمات هي أن تستحضر أوّلاً ما سيأتي من القواعد وهي:

أن شخصاً لا يتخصص في فنون كثيرة..

 

168
___________________

 

وأن كلاماً واحداً يتفاوت من شخصين، يكون بالنظر إلى واحدٍ ذهباً وإلى الآخر فحماً..

وأن الفنون نتيجةُ تلاحق الأفكار وتتكمّل بمرور الزمان..

وأن كثيراً من النظريات في الماضي صارت بدهيةً الآن..

وأن قياس الماضي على هذا الزمان قياسٌ مثبّط مع الفارق..

وأن أهل الصحراء لا تستر بساطتَهم وصفوتهم الحيلُ والدسائسُ التي تختفي تحت حجاب المدنية..

وأن كثيراً من العلوم إنما يتحصل بتلقين العادات والوقوعات وبتدريس الأحوال لطبيعة البشر بإعداد الزمان والمحيط..

وأن نور نظر البشر لا ينفذ في المستقبل ولا يرى الكيفيات المخصوصة..

وأنه كما أن لحياة البشر عمراً طبيعياً ينقطع؛ كذلك لقانونه عمرٌ طبيعيّ ينتهي البتة..

وأن للمحيط الزماني والمكاني تأثيراً عظيماً في أحوال النفوس..

وأن كثيراً من الخوارق الماضية تصير عادية بتكمّل المبادئ..

وأن الذكاء -ولو كان خارقاً- لا يقتدر على إيجاد فنٍ وتكميله دفعةً بل كالصبيّ يتدرج.

وإذا استحضرتَ هذه المسائل وجعلتها نُصبَ عينيك فتجرَّدْ وتعرَّ من الخيالات الزمانية والأوهام المحيطية، ثم غُصْ من ساحل هذا العصر في بحر الزمان، ماراً تحته إلى أن تخرج من جزيرة عصر السعادة ناظراً على جزيرة العرب! ثم ارفع رأسك والبَس ما خاط لك ذلك الزمانُ من الأفكار، ثم انظر في تلك الصحراء الوسيعة! فأول ما يتجلى لعينك: أنك ترى إنساناً وحيداً لا مُعينَ له ولا سلطنة، يبارزُ الدنيا برأسه.. ويهجم على العموم.. وحمَل على كاهله حقيقةً أجلّ من كرة الأرض.. وأخذ بيده شريعةً هي كافلةٌ لسعادة الناس كافة.. وتلك الشريعة كأنها زبدةٌ وخلاصةٌ من جميع العلوم الإلهية والفنون الحقيقية.. وتلك الشريعةُ ذاتُ حياةٍ لا كاللباس بل كالجلد، تتوسع بنموّ استعداد البشر وتثمر سعادة الدارين، وتنظّم أحوالَ نوع الإنسان كأهلِ مجلسٍ واحد. فإن سُئلتْ: قوانينُها من أين.. إلى أين؟ لقالت بلسان إعجازها:

 

169
___________________

 

نجيء من الكلام الأزليّ ونرافق فكرَ البشر إلى الأبد، فبعد قطع هذه الدنيا نفارق -صورةً- من جهة التكليف ولكن نرافقُ دائماً بمعنوياتنا وأسرارنا فنغذّي روحَهم ونصير دليلَهم.. فيا هذا أفلا يتلو عليك ما شاهدتَ الأمرَ التعجيزيَّ في: ﴿فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ... فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا..﴾ الخ.

ثم اعلم أن آيةَ ﴿وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا﴾...الخ: تشير إلى أن ناساً -بسبب الغفلة عن مقصود الشارع في إرشاد الجمهور، وجهلهم بلزوم كونِ الإرشاد بنسبة استعداد الأفكار- وقَعوا في شكوك وريوب منبعُها ثلاثة أمور:

أحدها: أنهم يقولون: وجود المتشابهات والمشكلات في القرآن منافٍ لإعجازه المؤسَّس على البلاغة المبنية على ظهور البيان ووضوحِ الإفادة.

والثاني: أنهم يقولون: إنَّ القرآن أطلق وأبهمَ في حقائق الخِلقة وفنون الكائنات مع أنه منافٍ لمسلك التعليم والإرشاد.

والثالث: أنهم يقولون: إن بعض ظواهر القرآن أميَلُ إلى خلاف الدليل العقلي، فيَحتمل خلافَ الواقع، وهو مخالفٌ لصدقه.

الجواب -وباللّٰه التوفيق-:

أيها المشككون اعلموا أن ما تتصورونه سبباً للنقص إنما هو شواهدُ صدق على سر إعجاز القرآن.

 أما الجواب عن الريب الأول وهو وجود المتشابهات والمشكلات، فاعلم أن إرشاد القرآن لكافة الناس، والجمهورُ الأكثرُ منهم عوام، والأقلُّ تابع للأكثر في نظر الإرشاد. والخطابُ المتوجه نحو العوام يستفيد منه الخواصُّ ويأخذون حصتهم منه.. ولو عكس لبقيَ العوام محرومين، مع أن جمهورَ العوام لا يجرِّدون أذهانهم عن المألوفات والمتخيلات، فلا يقتدرون على دَرك الحقائق المجرّدة والمعقولات الصِّرفة إلاّ بمنظار متخيلاتهم وتصويرِها بصورة مألوفاتهم. لكن بشرط أن لا يقف نظرُهم على نفس الصورة حتى يلزم المحالُ والجسميةُ أو الجهة، بل يمر نظرهم إلى الحقائق.

 

170
___________________

 

مثلاً: إن الجمهور إنما يتصورون حقيقةَ التصرف الإلهي في الكائنات بصورة تصرف السلطان الذي استوى على سرير سلطنته. ولهذا اختار الكناية في: ﴿الرَّحْمٰنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾(طه:5) وإذا كانت حسيّات الجمهور في هذا المركز فالذي يقتضيه منهجُ البلاغة ويستلزمه طريقُ الإرشاد رعايةُ أفهامهم واحترامُ حسياتهم ومماشاةُ عقولهم ومراعاةُ أفكارهم، كمن يتكلم مع صبي فهو يتصبّى في كلامه ليفهمه ويستأنس به. فالأساليبُ القرآنية في أمثال هذه المنازل المرعيِّ فيها الجمهورُ تسمى بـ"التنزلات الإِلهية إلى عقول البشر"، فهذا التنـزّلُ لتأنيس أذهانهم. فلهذا وُضِعَ صورُ المتشابهات منظاراً على نظر الجمهور. ألا ترى كيف أكثرَ البُلغاء من الاستعارات لتصور المعاني الدقيقة، أو لتصوير المعاني المتفرقة! فما هذه المتشابهات إلاّ من أقسام الاستعارات الغامضة، إذ إنها صورٌ للحقائق الغامضة.

أما كون العبارة مُشكلاً؛ فإما لدقّة المعنى وعمقِه، وإيجازِ الأسلوب وعلويته، فمشكلاتُ القرآن من هذا القبيل.. وإما لإِغلاق اللفظ وتعقيد العبارة المنافي للبلاغة، فالقرآن مبرأٌ منه. فيا أيها المرتاب! أفلا يكون من عين البلاغة تقريبُ مثل هذه الحقائق العميقة البعيدة عن أفكار الجمهور إلى أفهام العوام بطريق سهل، إذ البلاغةُ مطابقةُ مقتضى الحال؟ فتأمل..

أما الجواب عن الريب الثاني، وهو إبهامُ القرآن في بحث تشكّل الخِلقة على ما شرحتْه الفنونُ الجديدة... فاعلم أن في شجرة العالم ميلَ الاستكمال، وتشعَّبَ منه في الإنسان ميلُ الترقي، وميلُ الترقي كالنواة يحصل نشوؤه ونماؤه بواسطة التجارب الكثيرة، ويتشكل ويتوسع بواسطة تلاحق نتائج الأفكار؛ فيثمر فنوناً مترتبة بحيث لا ينعقد المتأخر إلاّ بعد تشكّل المتقدم، ولا يكون المتقدمُ مقدمةً للمؤخر إلاّ بعد صيرورته كالعلوم المتعارَفة. فبناءً على هذا السر، لو أراد أحدٌ تعليم فنٍّ أو تفهيمَ علمٍ -وهو إنما تولّدَ بتجارب كثيرة- ودعا الناس إليه قبل هذا بعشرة أعصُرٍ لا يفيد إلاّ تشويشَ أذهان الجمهور، ووقوعَ الناس في السفسطة والمغلطة.

مثلا: لو قال القرآن: "أيها الناس انظروا إلى سكون الشمس([8]) وحركةِ الأرض واجتماع مليون حيوان في قطرة، لتتصوروا عظمة الصانع"،

 

171
___________________

 

لأَوْقع الجمهورَ إما في التكذيب وإما في المغالطة مع أنفسهم والمكابرةِ معها بسبب أن حسهم الظاهريّ -أو غلط الحس- يرى سطحيةَ الأرض ودوران الشمس من البدهيات المشاهَدة. والحال أن تشويش الأذهان -لا سيما في مقدار عشرة أعصر لتشهِّي بعض أهل زماننا- منافٍ لمنهاج الإرشاد وروح البلاغة.

يا هذا! لا تظنن قياس أمثالها على النظريات المستقبلة من أحوال الآخرة،([9]) إذ الحس الظاهري لمّا لم يتعلق بجهة منها بقيت في درجة الإمكان فيمكن الاعتقاد والاطمئنان بها فحقها الصريح التصريح بها. لكن ما نحن فيه لما خرج من درجة الإمكان والاحتمال في نظرهم -بحكم غلط الحس- إلى درجة البداهة عندهم فحقه في نظر البلاغة الإبهام والإطلاق احتراماً لحسياتهم وحفظاً لأذهانهم من التشويش. ولكن مع ذلك أشار القرآن ورمز ولوّح إلى الحقيقة، وفَتَح الباب للأفكار ودعاها للدخول بنصب أمارات وقرائن. فيا هذا! إن كنت من المنصفين إذا تأملت في دستورِ: "كلِّم الناس على قدر عقولهم" ورأيت أن أفكار الجمهور -لعدم إعداد الزمان والمحيط- لا تتحمل ولا تهضم التكليفَ بمثل هذه الأمور -التي إنما تتولد بنتائج تلاحق الأفكار- لعرفتَ أن ما اختاره القرآنُ من الإبهام والإطلاق من محض البلاغة ومن دلائل إعجازه.

أما الجواب عن الريب الثالث -وهو إمالةُ بعض ظواهر الآيات إلى منافي الدلائل العقلية وما كشفَه الفن-: فاعلم أن المقصد الأصليّ في القرآن إرشادُ الجمهور إلى أربعة أساسات هي: إثبات الصانع الواحد، والنبوّة، والحشر، والعدالة.. فذكرُ الكائنات في القرآن إنما هو تبَعيّ واستطراديّ للاستدلال؛ إذ ما نزل القرآنُ لدرس الجغرافيا والقوزموغرافيا([10])، بل إنما ذكرَ الكائنات للاستدلال بالصنعة الإِلهية والنِظام البديع على النَّظّام الحقيقي جلّ جلالُه، والحال أن أثر الصنعة والعمد والنظام يتراءى في كل شيء. وكيف كان التشكّل فلا علينا؛ إذ لا يتعلق بالمقصد الأصلي، فحينئذ ما دام أنه يبحث عنها للاستدلال، وما دام أنه يجب كونه معلوماً قبل المُدَّعى، وما دام أنه يُستحسن وضوحُ الدليل.. كيف لا يقتضي الإرشادُ والبلاغةُ تأنيسَ معتقداتهم الحسية، ومماشاةَ معلوماتهم الأدبية بإمالة بعض ظواهر النصوص إليها،

 

172
___________________

 

لا ليدلّ عليها بل من قبيل الكنايات أو مستتبعات التراكيب مع وضع قرائن وأمارات تشير إلى الحقيقة لأهل التحقيق.

مثلا: لو قال القرآنُ في مقام الاستدلال: "أيها الناس! تفكّروا في سكون الشمس مع حركتها الصورية، وحركةِ الأرض اليومية والسنوية مع سكونها ظاهراً، وتأملوا في غرائب الجاذب العموميّ بين النجوم، وانظروا إلى عجائب الأَلَكْتِرِيق وإلى الامتزاجات الغير المتناهية بين العناصر السبعين، وإلى اجتماع ألوفِ ألوف حيوانات في قطرة ماء لِتعلموا أن اللّٰه على كل شيء قدير!"... لكان الدليلُ أخفى واغمضَ وأشكلَ بدرجاتٍ من المدَّعى. وإنْ هذا إلاّ منافٍ لقاعدة الاستدلال. ثم لأنها من قبيل الكنايات لا يكون معانيها مدارَ صدق وكذب. ألا ترى أن لفظ "قال" ألفُه يفيد خفةً سواء كان أصلُه واواً أو قافاً أو كافاً.

الحاصل: أنَّ القرآن لأنه نزل لجميع الإنسان في جميع الأعصار يكون هذه النُقط الثلاث دلائل إعجازه. والذي([11]) علّم القرآنَ المعجِزَ، إنّ نظر البشير النذير وبصيرته النقّادَة أدقّ وأجلّ وأجلى وأنفذُ من أن يلتبس أو يشتبه عليه الحقيقةُ بالخيال، وإن مسلكه الحقّ أغنى وأعلى وأنْزَهُ وأرفع من أن يُدلِّس أو يغالط على الناس!

المسألة السابعة

اعلم أن كتب السير والتاريخ قد ذكرت كثيراً من معجزاته المحسوسة، والخوارق الظاهرة المشهورة عند الجمهور، وقد فسرها المحققون. فلأن تعليم المعلوم ضائع، اَحَلْنا التفصيلَ على كتبهم فلنجملْ بذكر الأنواع:

فاعلم أن الخوارق الظاهرة وإن كان كل فرد منها آحاديا غيرَ متواتر لكن الجنس وكثيراً من الأنواع متواتر بالمعنى. ثم إن أنواعها ثلاثة:

الأول: الإرهاصات المتنوعة كانطفاء نار المجوس، ويبوسة بحر ساوة، وانشقاق إيوان كسرى، وبشارات الهواتف... حتى كأنه يتخيل للإنسان أن العصر الذي ولد فيه النبيُّ عليه الصلاة والسلام صار حسّاساً ذا كرامةٍ فبشَّر بقدومه بالحسّ قبل الوقوع.

 

173
___________________

 

النوع الثاني: الإخبارات الغيبية الكثيرة مِن فتح كنوز كسرى وقيصر، وغلبة الروم، وفتح مكة، وأمثالها. كأن روحَه المجرّد الطيّار مزّق قيد الزمان المعيّن والمكانِ المشخّص، فجال في جوانب المستقبل فقال لنا كما شاهَد.

النوع الثالث: الخوارق الحسيَّة التي أظهرها وقتَ التحدِّي والدعوى. كتكلم الحجر، وحركة الشجر وشق القمر، وخروج الماء... وقد قال الزمخشري: "بلغ هذا النوع إلى ألف". وأصنافٌ من هذا النوع متواترة بالمعنى حتى إنّ ﴿وَانْشَقَّ الْقَمَرُ﴾ لم يتصرف في معناه من أنكر القرآن أيضاً.

- فإن قلت: مِثلُ انشقاق القمر لابد أن يشتهرَ في العالم ويُتعارف.

قيل لك: فلاختلافِ المطالع، ووجودِ السحاب، وعدم الترصد للسماء كما في هذا الزمان، ولكونه في وقت الغفلة، ولوجوده في الليل، ولكون الانشقاق آنيّاً.. لا يلزم أن يراه كلُّ الناس أو أكثرُهم. على أنه قد ثبت في الروايات أنه قد رآه كثيرٌ من القوافل الذين كان مَطلعهم ذلك المطلع.

ثم إن رئيس هذه المعجزات هو القرآن المبين المبرهَن إعجازُه بجهات سبع أُشير إليها في هذه الآية.

174
___________________

 

وإذ تفهمتَ هذه المسائل فاستمع لما يُتلى عليك من نظم الآية بوجوهها الثلاثة؛ مِن نظم المجموع بما قبله، ونظم الجمل بعضها مع بعض، ونظم هيئاتِ وقيودِ جملةٍ جملةٍ.

أما النظم الأول فمن وجهين:

الأول: أنه لمّا قال:﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ﴾ لإثبات التوحيد -على تفسير ابن عباس- أَثبت بهذه نبّوةَ محمد عليه الصلاة والسلام الذي هو مِن أظهرِ دلائل التوحيد... ثم إن إثبات النبوّة بالمعجزات. وأعظمُ المعجزات هو القرآن. وأدقُّ وجوه إعجاز القرآن ما في بلاغة نظمه... ثم إنه اتفق الإسلامُ على أن القرآن معجِز، إلاّ أن المحققين اختلفوا في طرق الإعجاز، لكن لا تزاحمَ بين تلك الطرق، بل كلٌّ اختار جهةً من جهاته؛ فعند بعضٍ إعجازُه إخباره بالغيوب، وعند بعضٍ جمعُه للحقائق والعلوم، وعند بعض سلامتُه من التخالف والتناقض، وعند بعض غرابةُ أسلوبه وبديعيتُه في مقاطعِ ومبادئ الآيات والسور، وعند بعض ظهورُه من أُمّيّ لم يقرأ ولم يكتب، وعند بعض بلوغُ بلاغة نظمِه إلى درجةٍ خارجة عن طوق البشر، وكذا وكذا.. الخ.

ثم اعلم أن معرفة هذا النوع من الإعجاز تفصيلاً إنما تحصل بمطالعة أمثال هذا التفسير، وإجمالاً يُعرَف بثلاث طرق. -كما حققها عبد القاهر الجرجاني شيخ البلاغة، والزمخشري والسكاكي والجاحظ(*)-:

الطريق الأول: هو أنّ قومَ العرب كانوا بدويين أمّيين، ولهم محيطٌ عجيب يناسبهم.. وقد انتبهوا بالانقلابات العظيمة في العالم.. وكان ديوانُهم الشعرَ وعلمُهم البلاغةَ، ومفاخرتُهم بالفصاحة في أمثال سوق عُكاظة([12]).. وكانوا أذكى الأقوام.. وكانوا أحوجَ الناس لجَوَلان الذهن إذن.. ولقد كان لأذهانهم فصلُ الربيع، فطلع عليهم القرآنُ بحَشمة بلاغته فمحا وبهَر تماثيل بلاغتهم وهي "المعلقات السبعة" المكتوبة بذَوب الذهب على جدار الكعبة. مع أن أولئك الفصحاء البلغاء -الذين هم أمراء البلاغة وحُكام الفصاحة- ما عارضوا القرآن وما حاروا([13]) ببنت شفةٍ، مع شدة تحدِّي النبيّ عليه السلام لهم، ولَومِه لهم، وتقريعه إياهم، وتسفيهه لأحلامهم، وتحريكِه لأعصابهم في زمان طويل، وترذيله لهم،

 

175
___________________

 

مع أنّ من بلغائهم من يحكّ بيافوخه([14]) كتفَ السماء، ومنهم من يناطح السِّماكَيْن([15]) بكبره... فلولا أنهم أرادوا وجرّبوا أنفسهم فأحسوا بالعجز، لَمَا سكتوا عن المعارضة البتة؛ فعجزُهم دليلُ إعجاز القرآن.

والطريق الثاني: هو أن أهلَ العلم والتدقيق وأهل التنقيد الذين يعرفون خواصَّ الكلام ومزاياه ولطائفه تأملوا في القرآن سورةً سورةً، وعشراً عشراً، وآيةً آيةً، وكلمةً كلمةً؛ فشهدوا بأنه جامعٌ لمزايا ولطائفَ وحقائقَ لا تجتمع في كلام بشر. فهؤلاء الشهداءُ ألوفُ ألوفٍ. والذي يدلّ على صدق شهادتهم هو أن القرآن أوقعَ في العالم الإنساني تحوّلاً عظيماً، وأسّس ديانةً واسعة، وأدام على وجه الزمان ما اشتمل عليه من العلوم. فكلما شابَ الزمانُ شَبَّ، وكلما تكرّر حَلا. فإذن ﴿إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى﴾(النجم:4).

والطريق الثالث:([16]) -كما حقّقه الجاحظ-: هو أن الفصحاء والبلغاء مع شدة احتياجهم إلى إبطال دعوى النبيّ عليه السلام، ومع شدة حقدهم وعنادهم له تركوا المعارضةَ بالحروف: الطريقَ الأسلمَ والأقربَ والأسهلَ، والتجأوا إلى المقارعةِ بالسيوف الطريقِ الأصعبِ الأطولِ، المشكوكةِ العاقبةِ، الكثيرةِ المَخاطر؛ وهم بدرجةٍ من الذكاء السياسي، لا يمكن أن يخفى عليهم التفاوتُ بين هذين الطريقين. فمَن ترك الطريقَ الأول -لو أمكن- مع أنه أشدُّ إبطالاً لدعواه، واختار طريقاً أوقعَ مالَه وروحَه في المهالك، فهو إما سفيهٌ -وهو بعيد ممن ساسوا العالم بعد أن اهتدوا-، وإما أنه أحسَّ من نفسه العجزَ عن السلوك في الطريق الأول فاضطر للطريق الثاني.

- فإن قلت: يمكن أن تكون المعارضةُ ممكنة.

قيل لك: لو أمكنتْ لطمِع فيها ناسٌ لتحريك أعصابهم لها. ولو طمعوا لفعلوا لشدة احتياجهم. ولو عارضوا لتظاهرت للرغبة وكثرةِ الأسباب للظهور. ولو تظاهرت لوجد من يلتزمها ويدافع عنها ويقول: إنه قد عورض، لاسيما في ذلك الزمان. ولو كان لها ملتزمون ومدافعون -ولو بالتعصب- لاشتهرت، لأنها مسألة مهمة. ولو اشتهرت لنقلتها التواريخُ كما نقلت هذيانات "مسيلمة" بقوله: "الفيل ما الفيل، وما أدراك ما الفيل، صاحب ذَنَبٍ قصير، وخُرطوم طويل".

 

176
___________________

 

- فإن قلت: "مسيلمة" كان من الفصحاء فكيف صار كلامُه مَسْخرة وأضحوكة بين الناس؟

قيل لك: لأنه قوبل بما فاقَه بدرجات كثيرة. ألا ترى أن شخصاً -ولو كان حسناً- إذا قوبل بيوسف عليه السلام لصار قبيحاً ولو كان مليحاً. فثبت أن المعارضة لا يمكن؛ فالقرآن معجِز.

- فإن قلت: للمرتابين كثيرٌ من الاعتراضات والشكوك على تراكيب القرآن وكلماته مثل: ﴿إِنْ هَذَانِ﴾(طه:63) و﴿وَالصَّابِؤُونَ﴾(المائدة:69) و﴿الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً﴾ وأمثالها من الاعتراضات النحوية؟

قيل لك: عليك بخاتمة مفتاح السكاكي فإنه ألقَمهم الحجر بـ"أفلا يتفطنون أنّ من كررَ كلامَه في زمان مديد مع أنه فصيح بالاتفاق كيف لا يُحس بالغلطات التي تَظهر لنظر هؤلاء الحُمَقَاء"؟.

- أما الوجه الثاني لنظم الآية: فاعلم أن الآية السابقة لمّا أمرت بالعبادة استَفسر ذهنُ السامع بـ"على أية كيفية نعبدُ"؟ فكأنه أجاب: "كما علّمكم القرآن". فعاد سائلاً: "كيف نعرف أنه كلام اللّٰه تعالى؟" فأجاب بقوله: ﴿وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا...﴾ الخ.

أما نظم الجمل بعضها مع بعض فهو: أن جملةَ ﴿وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا﴾ قد وقعتْ في موقعها المناسب؛ إذ لمّا أمر القرآنُ بالعبادة كأنه سُئل: كيف نعرف أنه أمرُ اللّٰه حتى يجب الامتثال؟ فقيل له: إن ارتبتَ فجرِّب نفسك لتتيقن أنه أمرُ اللّٰه.

ومن وجوه النظم أيضاً أن القرآن لما أثنى على نفسه بجملةِ ﴿ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ﴾ ثم استتبع مدحه مدح المؤمنين، ثم استطرد مدح المؤمنين ذمّ الكافرين والمنافقين، ثم استعقب الأمر بالعبادة والتوحيد.. عاد القرآنُ إلى الأول بالنظر إلى ﴿لاَ رَيْبَ فِيهِ﴾ أي أما القرآن فليس قابلاً للشك والريب؛ فما ريوبكم إلاّ مِن مرض قلوبكم وسقامةِ طبعكم. كما:

قَدْ يُنْكَرُ ضَوْءُ الشَّمْسِ مِنْ رَمَدٍ        وَيُنْفَرُ طَعْمُ اْلماءِ مِنْ سَقَمٍ([17])

 

177
___________________

 

وأما نظمُ ﴿فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ﴾ فاعلم أن هذه جزاءُ الشرط، وجزاءُ الشرط يلزم أن يكون لازماً لفعل الشرط. ولمّا كان الأمر تعجيزياً استلزم تقديرَ "تشبثوا"([18])، ولما كان الأمر إنشاءً والإنشاء لا يصير لازماً، يلزم أن يكون لازمُ الأمر جزاءً، وهو الوجوب الذي هو من أصول معاني الأمر، ثم وجوبُ التشبث أيضاً لا يظهر لزومُه للريب فاقتضى تقديرَ جُمَل مطويةٍ تحت إيجاز الآية. فالتقدير: "إن كنتم في ريب أنه كلام اللّٰه، يجب عليكم أن تتعلموا إعجازه، فإن المعجِز لا يكون كلامَ البشر ومحمّدٌ عليه السلام بشر، وإن أردتم ظهورَ إعجازه فجرِّبوا أنفسكم ليظهر عجزُكم، فيجب عليكم التشبث بإتيان سورةٍ من مثله".

 فللّٰه درُّ التنـزيل ما أوجزَه وما أعجزَه!

وأما نظم: ﴿وَادْعُوا شُهَدَاءَكُم مِنْ دُونِ اللّٰهِ﴾ فبثلاثة أوجه:

أحدها: أنهم يقولون عجزُنا لا يدلّ على عجز البشر.. فأفحمَهم بقوله: ﴿وَادْعُوا شُهَدَاءكُم﴾ أي كبراءكم ورؤساءكم.

والثاني: أنهم يزعمون: أنّا لو عارضنا فمَن يلتزمنا ويدافع عنا؟ فألقمَهم الحجرَ بأنه ما من مسلك إلاّ وله متعصبون، ولو عارضتم لظهر لكم شهداءُ يذبّون عنكم.

والثالث: أن القرآن كأنه يقول: لما استَشهد النبيُّ عليه السلام اللّٰهَ تعالى صدّقه اللّٰه وشَهِد له بوضع سِكّةَ الإعجاز على دعواه، فإن كان في آلهتكم وشهدائكم فائدةٌ لكم فادعوهم. وما هذا إلا نهاية التهكّم بهم.

وأما نظمُ ﴿فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا﴾ فظاهر، إذ التقدير: "فإن جربتم فانظروا، فإن لم تقدروا ظهر عجزكم، ولم تفعلوا".

وأما نظمُ ﴿وَلَنْ تَفْعَلُوا﴾ فكأنه لمّا قال لم تفعلوا.. قيل من جانبهم: "عدمُ فعلِنا فيما مضى لا يدل على عَجز البشر فيما سيأتي". فقال: ﴿وَلَنْ تَفْعَلُوا﴾، فرَمَزَ إلى الإعجاز بثلاثة أوجه.

أحدها: الإخبار بالغيب وكان كما أخبر.

 

178
___________________

 

ألا ترى أن الملايين من الكتب العربية مع التمايل إلى تقليد أسلوب التنـزيل وكثرةِ المعاندين -لو فتشتَها-؛ لم يوافقه شيءٌ منها. كأن نوعَه منحصر في شخصه. فإما هو تحت الكلِّ وهو باطل بالاتفاق. فما هو إلاّ فوق الكل.

والوجه الثاني: أن القطع والجزمَ بعدم فعلِهم -مع التقريع عليهم وتحريك أعصابهم في هذا المقام المُشْكِل وفي هذه الدعوى العظيمة- علامةٌ صادقة على أنه واثقٌ أمين مطمئن بمالِه ومقالِه.

والوجه الثالث: أن القرآن كأنه يقول: "إذا كنتم أمراءَ الفصاحة وأشدَّ الناس احتياجاً إليها ولم تقتدروا لم يقتدر عليه البشر". وكذا فيه إشارةٌ إلى أن نتيجة القرآن التي هي الإسلاميةُ كما لم يقتدر على نظيرها الزمانُ الماضي؛ كذا يعجز عن مثلها الزمانُ المستقبل.

وأما نظم: ﴿فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ﴾: فاعلم أن تعقيب ﴿إِنْ لَمْ تَفْعَلُوا﴾ بـ﴿فَاتَّقُوا﴾ يقتضي في ذوق البلاغة تقديراً هكذا: "إن لم تفعلوا ولن.. ظهر أنه معجِز، فهو كلام اللّٰه، فوجبَ عليكم الإيمان به وامتثال أوامره... ومن الأوامر: يا أيها الناس اعبدوا لتتقوا النار... فاتقوا النار". فأوجَز فأعجزَ.

وأما نظم: ﴿الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ﴾ فاعلم أن المقصد من ﴿فَاتَّقُوا﴾ هو الترهيب، ومعنى الترهيب إنما يؤكد بالتهويل والتشديد فهوّله بـ﴿وَقُودُهَا النَّاسُ﴾ إذ النار التي حطبها كان إنساناً أَخْوَفُ وأدهشُ.. ثم شدّده بعطف الحجارة؛ إذ ما تحرق الحجرَ أشدُّ تأثيراً.. ثم أشار إلى الزجر عن عبادة الأصنام: أي لو لم تتمثلوا أمر اللّٰه، وعبدتم أحجاراً لدخلتم ناراً تأكل العُبّادَ ومعبوداتهم.

وأما نظم: ﴿أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ﴾ فهو أنها توضيحُ وتقريرُ لزوم جزاء الشرط لفعله؛ أي هذه المصيبة ليست كالطوفان وسائر المصائب التي لا تصيب الظالمين خاصة، بل تعمُّ الأبرارَ والأخيار؛ فإنما هذه تختص بالجانين، يجرّها الكفرُ، لا سبيل للنجاة إلاّ امتثال القرآن.

ثم اعلم أن ﴿أُعِدَّتْ﴾ إشارة إلى أن جهنم مخلوقةٌ موجودة الآن، لا كما زعَمت المعتزلة.

ثم إن مما يدلّك ويفيد حدساً لك على أبدية جهنم أنك إذا تفكرت في العالم بنظر الحكمة ترى النار مخلوقةً عظيمة مستولية غالبة، كأنها عنصرٌ أساس في العُلويات والسفليات.

 

179
___________________

 

وتفهّمتَ وجودَ رأسٍ عظيم وثمرةٍ عجيبة تدلّت إلى الأبد. ألا ترى أن من رأى عِرقا ممتداً تفطّن لوجود بطيخ مثلاً في رأسه؛ وكذلك من رأى الخلقة النارية تفطن لانتهائها إلى حنظلةِ جهنم. وكذا من رأى النعم والمحاسن واللذائذ يحدس بأن مصبّها ومَخلصها وروضَها الجنةُ.

فإن قلت: إذا كانت جهنم موجودة الآن فأين موضعُها؟

قيل لك: نحن معاشر أهل السنة والجماعة نعتقد وجودَها الآن لكن لا نعيّن موضعَها.

فإن قلت: إن ظواهر الأحاديث تدل على أنها تحت الأرض. وفي حديث: إن نارها أشدّ وأحرّ من نار الدنيا بمائتي دفعة. وأن الشمس أيضاً تدخل في جهنم؟

قيل لك: إن "تحت الأرض" عبارة عن مركزها، إذ تحتَ الكرة مركزُها. وقد ثبت في نظريات الحكمة أن في مركزها ناراً بالغة في الشدة إلى مقدار مائتي ألف درجة. إذ كلما تحفر الأرض ثلاثة وثلاثين ذراعاً بذراع التجار تتزايد -تقريباً- درجةُ حرارة. فإلى المركز تصير -تقريباً- مائتي ألف درجة. فهذا النظريّ مطابقٌ لمآل الحديث الذي يقول: إنها أشدّ من نار الدنيا بمائتي درجة. وأيضاً في الحديث: أن قسماً من تلك النار زمهرير تحرق ببرودتها.([19]) وهذا الحديث مطابق لهذا النظري؛ إذ النارُ المركزية مشتملةٌ على المراتب النارية كلِّها إلى السطح. وقد تقرر في الحكمة الطبيعية: أن للنار مرتبةً تجذب دفعةً حرارةَ مجاوِرها فتحرقه بالبرودة وتصير الماء جَمَداً.

فإن قلت: ما في جوف الأرض ومظروفُها صغير فكيف تسع جهنمَ التي تسع السماوات والأرض؟

قيل لك: نعم باعتبار المِلك والمطويتية وان كانت مظروفةً للأرض لكن بالنظر إلى العالم الأُخروي بالغةٌ في العظمة إلى درجة تسع أُلوفاً من أمثال هذه الأرض. بل إن عالَم الشهادة كحجاب مانعٍ لارتباط تلك النار بسائر أغصانها. فما في جوف الأرض إلاّ مركزُها وسرُّها أو قلبُ عفريتِها. وأيضاً لا تستلزم التحتية اتصالها بالأرض، إذ شجرةُ الخلقةِ أثمرتْ أغصانُها الشمسَ والقمرَ والنجومَ وأرضَنا وأرَضينَ أخرى.

 

180
___________________

 

فما تحت الثمرةِ يشمل ما بينَ الأغصان أين كان. فمُلك اللّٰه تعالى واسع، وشجرة الخلقة منتشرةٌ فأينَ سافرتْ جهنمُ لا تُرَدُّ. وفي حديثٍ: "إنَّ جَهَنَّمَ مَطْوِيَّةٌ" فيمكن أن تكون بيضة لأرضنا الطيارة متى يمتزق حجابُ المُلك ينفتق تلك البيضة وتتظاهر هي كاشرةً أسنانَها لأهلِ العصيان. ويحتمل أن ما ثبط أهل الاعتزال وأوقعهم في الغلط بعدم وجودها الآن إنما هو هذه المطوِيَّتِيَّة.

وأما نظم هيئاتِ وقيودِ جملةٍ جملةٍ:

فاعلم أن جملة: ﴿وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا﴾

الواو فيها -بناءً على المناسبة بين المتعاطفَين- تومئ إلى: تقديرِ: "كما علّمكم القرآن"..

وإيرادُ ﴿إِنْ﴾ التردديةِ في موضعِ "إذا" التي هي للقطع، مع أن ريبَهم مجزومٌ به إشارةٌ إلى أنه لأجل ظهور أسباب زوال الريب شأنُه أن يكونَ مشكوكَ الوجود، بل من المحال يُفرَض فرضاً. ثم إن الشك في ﴿إنْ﴾ بالنظر إلى الأسلوب لا بالقياس إلى المتكلم تعالى.

وإيرادُ ﴿كُنتُمْ فِي رَيْبٍ﴾ بدلَ "ارتبتم" مع أنه أقصرُ إشارةٌ إلى أن منشأ الريب طبعُهم المريض وكونُهم... وظرفيةُ الريب لهم مع أنه مظروفٌ لقلبهم إيماءٌ إلى أن ظلمةَ الريب انتشرت من القلب فاستولت على القالب، فأظلم عليه الطُّرُق..

وتنكير ﴿رَيْبٍ﴾ للتعميم، أي أيُّ نوع من أنواع الريب ترتابونه فالجواب واحد وهو: أن هذا معجِز وحقٌّ، فتخطئتُكم بالنظر السطحيّ خطأ، فلا يلزم لكلِّ ريبٍ جوابٌ خاص. ألا ترى أن من رأى رأسَ عينٍ وذاقَه عذباً فراتاً لا يحتاج إلى ذوقِ كلِ جدولٍ وفرعٍ قد تشعّب منه.

و"مِن" في ﴿مِمَّا نَزَّلْنَا﴾ إيماء إلى تقدير لفظِ: "في شيء مما".

ولفظُ ﴿نَزَّلْنَا﴾ إشارة إلى أن منشأ شبهَتِهم هو صفةُ النـزول. فالجواب القاطع إثباتُ النـزول فقط.

وإيثار ﴿نَزَّلْنَا﴾ الدالِّ على النـزول تدريجاً على "أنزلنا" الدالِ عليه دفعةً إشارة إلى أن ما يتحجّجون به قولَهم: "لولا أُنزل عليه دفعة، بل على مقتضى الواقعات تدريجاً؛ نوبةً نوبةً، نجماً نجماً، سورةً سورةً.."

 

181
___________________

 

وإيثار العبد على "النبي" و"محمد" إشارةٌ إلى تعظيم النبي، وإيماءٌ إلى علو وصف العبادة، وتأكيدٌ لأمرِ ﴿اعْبُدُوا﴾، ورمزٌ إلى دفع أوهامٍ بأن النبيّ عليه السلام أَعبدُ الناس وأكثرُهم تلاوةً للقرآن... فتفكَّرْ!

وأن جملة: ﴿فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ﴾:

الأمرُ في ﴿فَأْتُوا﴾ للتعجيز، وفيه التحدِّي والتقريعُ والدعوة إلى المعارضةِ والتجربةِ ليظهرَ عجزُهم.

ولفظ ﴿بِسُورَةٍ﴾ إشارة إلى نهايةِ إفحامٍ، وشدّةِ تبكيتٍ، وغايةِ إلزامٍ؛ إذ:

أول طبقات التحدِّي هو: أن يُقال: فأتوا بمثل تمام القرآن بحقائقه وعلومِه وإخباراته الغيبية مع نظمه العالي من شخص أُمّي!

وثانيتها: أن يقال: إن لم تفعلوا كذا فأتوا بها مفترَياتٍ لكن بنظم بليغ مثله.

وثالثتها: أن يقال: إن لم تفعلوا هكذا أيضاً فأتوا بمقدار عشر سور.

ورابعتها: أنه إن لم تقتدروا عليه أيضاً فلا أقلّ من أن تأتوا بقدر سورة طويلة.

وخامستها: أنه إن لم يتيسر لكم هذا أيضاً فأتوا بمقدار سورةٍ مطلقاً ولو أقصر كـ﴿إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ﴾ من شخص أُميّ مثله.

وسادستها: أنه إن لم يمكنكم الإِتيان من أُميّ فأتوا من عالم ماهر وكاتب حاذق.

وسابعتها: أنه إن تعسّر عليكم هذا أيضاً فليعاون بعضكم بعضاً على الإتيان.

وثامنتها: أنه إن لم تفعلوا فاستعينوا بكافة الإِنس والجن واستمِدوا من مجموع نتائج تلاحق أفكارهم من آدم إلى قيام الساعة. ونتائجُ أفكارهم هي ما بين أيديكم من هؤلاء الكتب على الأسلوب العربي مع شوقِ التقليد وعنادِ المعارضة؛ ففضلاً عن أهل التحقيق لو تصفّحها مَنْ له أدنى مُسكَةٍ -ولو جاهلاً-، لقال: ليس فيها مثلُه. فإما هو تحت الكلِّ وهو باطل بالاتفاق، وإما فوق الكلِّ وهو المطلوب كما مرَّ آنفاً. نعم، لم يعارَض في ثلاثة عشر عصراً، هكذا مرّ الزمان، وهكذا يمرّ إلى يوم القيامة.

 

182
___________________

 

وتاسعتها: أن يقال لا تتحجّجوا بأن ليس لنا شهداءُ وأنتم لا تشهدون لنا. ألاَ فادعوا شهداءَكم والمتعصبين لكم فليراجعوا وجدانَهم هل يتجاسرون على تصديق دعواكم المعارَضة.

وإذا تفهمتَ هذه الطبقات فانظر إلى القرآن كيف أعجزَ بأنْ أوجز فأشار إلى هذه المراتب، فألقمَهم الحجرَ وأرخى لهم العِنانَ.

ثم اعلم أن عجز البشر عن معارضة أقصر سورة إنِيَّـتُهُ بدهية. وأما لِمِيَّتُهُ فقيل هي: أن اللّٰه تعالى صرَف القوى عن المعارضة. والمذهب الأصح في اللِّمِيَّة ما عليه "عبد القاهر الجرجاني" و"الزمخشري" و"السكاكي" وهو: أنّ قدرة البشر لا تصل إلى درجة نظمِه العالي. ثم إن "السكاكي" اختار: أن الإعجاز ذوقيٌّ لا يعبّر عنه ولا يُشرح بل يُذاق ذوقاً. وأما صاحب دلائل الإعجاز فاختار أنه يمكن التعبير عنه. ونحن على مذهبه في هذا البيان.

وإيثار ﴿سُورَة﴾ على نجم أو طائفةٍ أو نوبةٍ إشارة إلى إلزامهم في منشأ شبهتهم وهي: لولا أُنزل عليه دفعة واحدة؟ أي فهاتوا أنتم ولو بنوبةٍ فذّة. وأيضاً إيماء إلى تضمّن تسوير التنـزيل سورةً سورةً لفوائد جمّة بيّنها "الزمخشري"، وإلى تضمّن هذا الأسلوب الغريب للطائف.

ولفظ ﴿مِنْ مِثْلِهِ﴾ فيه معنيان أي بمثل المنـزَل، أو من مثل المنـزَل عليه.

اعلم أن حق العبارة على الأول "مثل سورة منه" لكن عُدِل إلى ﴿مِنْ مِثْلِهِ﴾ للإيماء إلى ملاحظة الاحتمال الثاني، أي إنما تكون معارضتكم مبطلةً لدعواه لو جاءت من مثله في عدم التعلّم.. وكذا إشارة إلى أن المعارضة إنما تُبطل الإعجازَ لو كان المعارَض به من مجموع مثل.. وكذا رمزٌ إلى توجيه الأذهان إلى أمثال القرآن في النـزول من الكتب السماوية ليوازِن ذهنُ السامع بينها فيتفطّنَ لِعلُوّه.

وأن جملة :﴿وَادْعُوا شُهَدَاءَكُم مِنْ دُونِ اللّٰهِ﴾

إيثارُ ﴿ادْعُوا﴾ فيها على "استعينوا" أو "استمدوا" إيماء إلى أن من يلبّيهم ويذُبّ عنهم لا يفقدهُم بل حاضرٌ لا يحتاجون إلاّ إلى ندائه.

 

183
___________________

 

ولفظ ﴿شُهَدَاءَ﴾ جامع لثلاثة معانٍ: أي كبراءكم في الفصاحة.. ومن يشهدُ لكم.. وآلهتكم. فنظراً إلى الأول؛ إلزامٌ لهم؛ يقطع تحجُّجَهم بأن عدمَ قدرتِنا لا يدل على عدم قدرةِ كبرائنا. ونظراً إلى الثاني؛ إفحامٌ لهم، يقطع تعلُّلهم بأن ليس لنا شهداءُ، بأنه لا مسلك إلاّ له ذابّون وشهداءُ. ونظراً إلى الثالث؛ تبكيتٌ لهم وتهكّم بهم بأن الآلهة التي ترجون منها النفعَ ودفعَ الضرّ كيف لا تُعينكم في هذا الأمر الذي يهمّكم.

وإضافة "شُهَدَاءَ" إلى "كُمْ" المفيدةِ للاختصاص تقوّي عضد المعنى الأول؛ بأن الكبراء حاضرون معكم، وبينكم اختصاصٌ لو اقتدروا لعاونوكم البتة. وتصل جناح المعنى الثاني بأنّا نقبل شهادة من يلتزمكم ويتعصب لكم فإنهم أيضاً لا يتجاسرون على الشهادة على بدهيّ البطلان. وتأخذ بساعد المعنى الثالث مع التقريع بأن الآلهة التي اتخذتموها معبوداتٍ كيف لا تمدّكم؟!

ولفظ ﴿مِنْ دُونِ اللّٰهِ﴾ نظراً إلى الأول إشارة إلى التعميم أي كلّ فصيح في الدنيا ما خلا اللّٰه تعالى. وكذا إلى أن إعجازه ليس إلاّ لأنه من اللّٰه.. ونظراً إلى الثاني إشارة إلى عجزهم ومبهوتِيَّـتِهم بقولهم: "اللّٰه شاهد، اللّٰه عليم إنّا نقتدر". لأن ديدَن العاجز المحجوج الحلفُ باللّٰه والاستشهاد به على ما لا يقتدر على الاستدلال عليه.. ونظرا إلى الثالث إشارة إلى أن معارضَتهم مع النبيّ عليه الصلاة والسلام ليست إلاَّ مقابلةَ الشرك بالتوحيد والجمادات بخالق الأرض والسماوات.

وأن جملة: ﴿إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ إشارةٌ إلى قولهم: لو شئنا لقلنا مثلَ هذا.. وكذا تعريضٌ بأنكم لستم من أهل الصدق إلاّ أن يُفرَض فرضاً، بل من أهل السفسطة، ما وقعتم في الريب من طريق طلب الحق بل طلبتم فوقعتم فيه.. ثم إن جزاء هذا الشرط محصَّلُ ما قبله أي فافعلوا.

أما جملة: ﴿فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ..﴾ إلخ.

فاعلم أن ﴿إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ احتجاجُ القرآن عليهم بقياس استثنائيٍ؛ استثنى نقيضَ التالي لإنتاج نقيضِ المقدَّم.

 

184
___________________

 

تلخيصه: "إنْ كنتم صادقين تفعلوا المعارضة وتأتوا بسورةٍ، لكن ما تفعلون ولن تفعلوا"، فأنتج: "فلم تكونوا صادقين، فكان خصمُكم وهو النبيّ عليه السلام صادقاً، فالقرآن معجِز، فوجبَ عليكم الإيمان به لتتّقوا من العذاب". أُنظر كيف أوجزَ التنـزيل فأعجزَ. ثم إنه ذكرَ موضعَ استثناءِ نقيضِ التالي وهو "لكن ما تفعلون" لفظَ ﴿إِنْ لَمْ تَفْعَلُوا﴾ مشيراً بتشكيك ﴿إنْ﴾ إلى مجاراة ظنّهم، وبالشرطية إلى استلزام نقيضِ التالي لنقيضِ المقدَّم. ثم ذكر موضعَ النتيجة وهي نقيضُ المقدَّم أعني: "فلم تكونوا صادقين" علة لازمِ لازمِ لازمِها وهي قوله: ﴿فَاتَّقُوا النَّارَ﴾ لتهويل الترهيب والتهديد.([20])

أما ﴿إِنْ لَمْ تَفْعَلُوا﴾ الماضي بالنظر إلى ﴿لَمْ﴾ والمستقبلُ بالقياس إلى ﴿إِنْ﴾ فلتوجيه الذهن إلى ماضيهم كأنه يقول لهم:"انظروا إلى خطبكم المزيّنة ومعلقاتكم المذهّبة أتساويه أو تدانيه أو تقع قريبا منه؟".

وإيثار ﴿تَفْعَلُوا﴾ على "تأتوا" لنكتتين:

إحداهما: الإيماءُ إلى أن منشأ الإعجاز عجزُهم ومنشأ العجز الفعل لا الأثر.

والثانية: الإيجاز، إذ "فَعَل" كما أنه في الصَّرف ميزانُ الأفعال وجنسُها؛ كذلك في الأساليب مصدر الأعمال وملخص القصص كأنه ضمير الجمل كناية عنها.

أما: ﴿وَلَنْ تَفْعَلُوا﴾ فاعلم أن التأكيد والتأبيد في ﴿لَنْ﴾ إيماءٌ إلى القطعية، وهي إشارة إلى أن القائل مطمئن جدّي لا ريب له في الحُكم. وهذا رمز إلى أنْ لا حيلةَ.

أما ﴿فَاتَّقُوا﴾ بدلَ "تجنبوا" فللإيماء إلى ما نابَ عنه الجزاءُ مِن "آمِنوا واتقوا الشركَ الذي هو سبب دخول النار".

أما تعريف ﴿النَّارَ﴾ فللعهد، أي النارَ التي عُهِدَت واستقرّت في أذهان البشر بالتسامع عن الأنبياء من آدم إلى الآن.

وأما توصيفُها بـ﴿الَّتِي﴾ الموصولةِ مع أن من شأنها أن تكون معلومةً أوّلاً؛ فلأجل نزولِ ﴿نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ﴾(التحريم:6) قبل هذه الآية، فالمخاطبون قد سمعوا تلك، فالموصولية في موقعها.

 

185
___________________

 

وأما ﴿وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ﴾ فالغرض كما مرَّ آنفاً الترهيبُ، والترهيب يؤكَّد بالتهويل والتشديد. فهوّلَ بلفظ ﴿النَّاسُ﴾ كما قرعَ به، وشدّد بـ﴿الْحِجَارَةُ﴾ كما وبّخ بها. أي ما ترجون منه النفعَ والنجاة وهو الأصنامُ يصير آلةً لتعذيبكم.

وأما جملةُ ﴿أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ﴾ فاعلم أن الموضع موضعُ "أعدت لكم"، لكن القرآن يذكر الفذلكة والقاعدةَ الكلية في الأغلب في آخر الآيات ليشير إلى كبرى دليلِ الحُكم؛ إذ أصل الكلام: "أُعدّت لكم إن كفرتم، لأنها أُعدّت للكافرين". فلهذا أُقيم المَظهرُ مقام المضمر..

وأما ماضيّة ﴿أُعِدَّتْ﴾ فإشارة كما مرَّ إلى وجود جهنم الآن.

*  *  *

186
___________________

 

------------------------

[1]() في سبع مسائل. (ش).

[2]() لأنَّ حِلمَكَ حِلمٌ لا تَكَلَّفُهُ          لَيسَ التَكَحُّلُ في العَينَينِ كَالكَحَلِ (للمتنبي)

[3]() في زمان ولو مديد بزحمة ولو كثيرة. (ش).

[4]()  لعله بلى. (ش).

[5]() وجواب إن محذوف، أي فاطلب ما تشاء (ش).

[6]() بأمر: متعلق بـ"تشبث".

[7]() وشمائلٌ شَهِدَ العدوُّ بفَضْلِها   والفضلُ ما شَهِدَتْ به الأعداءُ. (السري الرفاء، ت 366هـ).

[8]() قد سنح لي في المرض بين النوم واليقظة في: ﴿وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا﴾(يس:38) أي في مستقرها، لاستقرار منظومتها، أي جريانها لتوليد جاذبتها النظامة للمنظومة الشمسية، ولو سكنت لتناثرت (هذه الحاشية النومية دقيقة لطيفة).(المؤلف).

[9]() أي لا تظنن أن أمور الآخرة وأحوالها التي هي مجهولة لنا كتلك النظريات التي يكشف عنها المستقبل. (ت: 133).

[10]() القوزموغرافيا: علم الفلك.

[11]() الواو للقسم.

[12]() في كتب اللغة: "عكاظ".

[13]() الحَوْرُ: الرجوع عن الشيء وإِلى الشيء، وطَحَنَتْ فما أحارَت شيئاً، أي ما رَدَّتْ شيئاً من الدَّقيقِ. (القاموس المحيط)

[14]()  اليافوخ: الموضع الذي يتحرك من رأس الطفل، والمقصود هنا: من علا قدره وتكبّر من البلغاء.

[15]()  السماكان: نجمان نيّران.

[16]()  هذه الطريق حجة قاطعة. (المؤلف).

[17]() قد تُنْكِرُ العيْنُ ضَوْءَ الشِّمْسِ من رَمدٍ    ويُنْكِرُ الفَمُّ طَعْمَ الماء ِمن سَقَمٍ 

    (لشرف الدين البوصيري في قصيدته البردة).

[18]() أي حاولوا. والتشبّثُ بالشيء: التَّعَلُّق به.

[19]() عن أبي هريرة رضي اللّٰه عنه قال: قال رسول اللّٰه : "اشتكت النار إلى ربها، فقالت: "يا رب! أكل بعضي بعضاً، فجعل لها نفَسين. نفس في الشتاء ونفس في الصيف. فشدّة ما تجدون من البرد من زمهريرها، وشدة ما تجدون من الحر من سمومها" (رواه البخاري، كتاب الإيمان؛ ابن ماجه 4319؛ الترمذي 2592). وعن أبي هريرة رضي اللّٰه عنه أن رسول اللّٰه  قال: "هذه النار جزء من مائة جزء من جهنم" (رواه أحمد 24/164 (الفتح الربانى). وأورده الهيثمى في المجمع 1/387 وقال: رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح).

[20]() قد استعمل المنطق هنا استعمالاً حسناً. (المؤلف).

 

 

 

« Önceki Sayfa  | | Sonraki Sayfa »
Ekranı Genişlet