الرسالة الثانية
رشحات
من بحر معرفة النبي صلى اللّٰه عليه وسلم([1])
69
_____________________
70
_____________________
بسم اللّٰه الرحمن الرحيم
تنبيه:
إنَّ ما يُعرّف لنا ربَّنا لا يعد ولا يحد، ولكن البراهين الكبيرة والحجج الكلية ثلاثة:
إحداها: هذه الكائنات، وقد سمعتَ بعض آيات هذا الكتاب الكبير.
وثانيتها: الآية الكبرى من هذا الكتاب، وهي خاتم ديوان النبوة، ومفتاح الكنوز الخفية عليه الصلاة والسلام.
وثالثتها: مفسر كتاب العالم، وحجة اللّٰه على الأنام، أي القرآن الحكيم.
فلابد أن نعرف هذا البرهان الثاني الناطق ثم نستمع إليه.. فنذكر من بحر معرفته رشحات:
الرشحة الأولى:
اعلم أن ذلك البرهان الناطق له شخصية معنوية عظيمة.
فإن قلت: ما هو؟ وما ماهيته؟
قيل لك: هو الذي لعظمته المعنوية صار سطحُ الأرض مسجدَه، ومكةُ محرابَه، والمدينةُ منبرَه.. وهو إمامُ جميع المؤمنين يأتمّون به صافّين خلْفَهُ.. وخطيبُ جميع البشر يُبين لهم دساتير سعاداتهم.. ورئيسُ جميع الأنبياء، يزكّيهم ويصدّقهم بجامعية دينه لأساسات أديانهم.. وسيدُ جميع الأولياء، يرشدهم ويربّيهم بشمس رسالته.. وقطبٌ في مركز دائرةِ حلقةِ ذكرٍ تركّبَتْ من الأنبياء والأخيار والصديقين والأبرار المتفقين على كلمته الناطقين بها.. وشجرةٌ نورانية عروقُها الحيوية المتينة هي الأنبياء بأساساتهم السماوية، وأغصانُها الخضرة الطرية وثمراتُها اللطيفة النيرة، هي الأولياء بمعارفهم الإلهامية. فما من دعوىً يدّعيها إلاّ ويشهد لها جميعُ الأنبياء مستندين بمعجزاتهم، وجميعُ الأولياء مستندين بكراماتهم. فكأن على كل دعوى من دعاويه خواتمَ جميع الكاملين؛
71
_____________________
إذ بينما تراه قال: «لا إله إلاّ اللّٰه» وادعى التوحيدَ فإذا نسمع من الماضي والمستقبل من الصفَّين النورانيين (أي شموسِ البشر ونجومِه القاعدين في دائرة الذكر) عينَ تلك الكلمة؛ فيكررونها، ويتفقون عليها، مع اختلاف مسالكهم وتباين مشاربهم. فكأنهم يقولون بالإجماع: «صَدَقْتَ وبالحَق نَطقتَ».
ولا حدّ للوَهم أن يَمُدّ يدَه لردّ دعوىً تأيدتْ بشهاداتِ مَن لا يُحدّ من الشاهدِين الذين تزكّيهم معجزاتُهم وكراماتُهم.
الرشحة الثانية:
اعلم أن هذا البرهان النوراني الذي دلَّ على التوحيد وأرشد البشرَ إليه، كما أنه يتأيد بقوة ما في جناحَيه: نبوةً وولايةً من الإجماع والتواتر.. وكذا تُصدّقه إشاراتُ الكتب السماوية من بشارات التوراة والإنجيل والزبور وزُبُر الأولين.. وكذلك تصدّقه رموزاتُ الإرهاصات الكثيرة المشهودة.. وكذا تصدّقه بشاراتُ الهواتف الشائعة المتعددة.. وكذا تصدّقه شهادات أهل الكهانة المنقولةُ بالتواتر.. وكذا تصدقه دلالات ألفِ معجزات من أمثال شق القمر، ونَبَعان الماء من الأصابع كالكوثر، ومجيء الشجر بدعوته، ونزول المطر في آن دعائه، وشبع الكثير من طعامه القليل، وتكلُّم الضب والذئب والظبي والجمل والحجر إلى ألفٍ مما بيّنَه الرواةُ الثقاة والمحدّثون المحققون.. وكذا تصدّقه شريعته الجامعةُ لسعادات الدارين.
وقد سمعتَ ورأيت في الدروس السابقة شعاعاتٍ من شمس شريعته المفيضة للسعادات. فيكفيك إنْ لم يكن على عينك غين وفي قلبك رَين فلا نطوّل هنا.
الرشحة الثالثة:
اعلم أنه كما تصدّقه الدلائلُ الآفاقية، كذلك هو كالشمس يدل على ذاته بذاته، فتصدّقه الدلائل الأنفسية؛ إذ اجتماع أعالي جميع الأخلاق الحميدة في ذاته بالاتفاق.. وكذا جمعُ شخصيته المعنوية في وظيفته أفاضلَ جميع السجايا الغالية والخصائلِ النـزيهة.. وكذا قوة إيمانه بشهادة قوة زهده وقوة تقواه وقوة عبوديته.. وكذا كمال وثوقه بشهادة سِيَره وكمال جدّيته وكمال متانته..وكذا قوةُ أمنيته في حركاته بشهادة قوة اطمئنانه، تصدّقه في دعوى تمَسُّكِه بالحق وسلوكه على الحقيقة، كما تصدّق الأوراقُ الخضرة والأزهار النضرة والأثمار الطرية حياةَ شجرتها.
72
_____________________
الرشحة الرابعة:
اعلم أنَّ للمحيط الزماني والمكاني تأثيراً عظيماً في محاكمات العقول.. فإن شئت فتعال، نخلع هذه الخيالات الزمانية والعصرية والمحيطية، ونتجرّد من هذا اللباس الملوّث؛ ثم نخوض في بحر الزمان السيال، ونَسبَح فيه إلى أن نخرج إلى عصر السعادات التي هي الجزيرة الخضراء فيما بين العصور والدهور. فلننظر إلى جزيرة العرب التي هي المدينة الشهباء في تلك الجزيرة الزمانية. ولنلبس ما نسَجَ لنا ذلك الزمانُ، وخاطه لنا ذلك المحيط، حتى نزور -ولو بالخيال- قطبَ مركزِ دائرةِ الرسالة، وهو على رأس وظيفته يعمل.
فافتح عينيك وانظر! فإن أول ما يتظاهر لنا من هذه المملكة: شخصٌ خارقٌ، له حسنُ صورةٍ فائقة، في حُسن سيرة رائقة؛ فها هو آخذ بيده كتاباً مُعجزاً كريماً، وبلسانه خطاباً موجزاً حكيماً يبلّغ خطبة أزلية ويتلوها على جميع بني آدم، بل على جميع الجن والإنس، بل على جميع الموجودات.
فيا للعجب!.. ما يقول؟ نعم، يقول عن أمر ٍجسيم، ويبحث عن نبأٍ عظيم؛ إذ يشرح ويحل المعمّى العجيبة في سرّ خِلقة العالم، ويفتح ويكشف الطلسم المغلق في سر حكمة الكائنات، ويوضح ويبحث عن الأسئلة الثلاثة المعضلة التي أشغلت العقولَ وأوقعتها في الحيرة؛ إذ هي الأسئلة التي يَسأل عنها كلُّ موجود، وهي: مَن أنت؟.. ومِن أين؟.. وإلى أين؟ ..
الرشحة الخامسة:
انظر إلى هذا الشخص النوراني، كيف ينشر من الحقيقة ضياءً نَوّاراً، ومن الحق نوراً مضيئاً! حتى صيّر ليل البشر نهاراً وشتاءَه ربيعاً، فكأن الكائنات تَبدل شكلُها فصار العالم ضاحكاً مسروراً بعدما كان عبوساً قمطريراً.
إذ إذا لم نستضئ بنوره نرى في الكائنات مأتماً عمومياً، ونرى موجوداتها كالأجانب والأعداء، لا يعرف بعضٌ بعضاً، بل يعاديه؛ ونرى جامداتها جنائز دهّاشَة، ونرى حيواناتها وأناسيها أيتاماً باكين بضربات الزوال والفراق. ونرى الكائنات بحركاتها وتنوعاتها وتغيّراتها ونقوشها مَلعَبةَ التصادف مُنجرّةً إلى العبثية مهملةً لا معنى لها.
73
_____________________
ونرى الإنسان قد صار بعَجزه المزعج وفقره المعجِز وعقله الناقل لأحزان الماضي ومخاوف المستقبل إلى رأس الإنسان، أدنى وأخسرَ من جميع الحيوانات. فهذه هي ماهية الكائنات عند مَن لم يدخل في دائرة نوره.
فانظر الآن بنوره، وبمرصاد دينه، وفي دائرة شريعته، إلى الكائنات كيف تراها؟ انظر! قد تبدل شكلُ العالم، فتحول بيتُ المأتم العمومي مسجدَ الذكر والفكر، ومجلسَ الجذبة والشكر.. وتحوَّل الأعداء الأجانب من الموجودات أحباباً وإخواناً.. وتحوَّل كلٌّ مِن جامداتها الميتة الصامتة حياً مؤنساً مأموراً مسخراً، ناطقاً بلسان حاله آياتِ خالقه.. وتحوَّل ذوو الحياة منها -الأيتام الباكون المشتكون- ذاكرين في تسبيحاتهم، شاكرين لترخيصاتهم عن وظائفهم.. وتحوَّلت حركات الكائنات وتنوعاتها وتغيراتها من العبثية والمُهمَليّة وملعبة التصادف إلى صيرورتها مكتوباتٍ ربانية وصحائفَ آيات تكوينية ومرايا أسماءٍ إلهية، حتى ترقّى العالمُ وصار كتابَ الحكمة الصمدانية.
وانظر إلى الإنسان كيف ترقّى من حضيض الحيوانية العاجزة الفقيرة الذليلة إلى أوج الخلافة، بقوة ضعفه، وقدرة عجزه، وسَوق فقره، وشوق فاقته، وشوكة عبوديته، وشعلة قلبه وحشمة إيمان عقله. ثم انظر كيف صارت أسبابُ سقوطه من العجز والفقر والعقل أسبابَ صعوده بسبب تنورها بنور هذا الشخص النوراني!
ثم انظر إلى الماضي، ذلك المزارِ([2]) الأكبر في ظلماته، كيف استضاء بشموس الأنبياء وبنجوم الأولياء! وإلى الاستقبال تلك الليلةِ الليلاء في ظلماته، كيف تنوّر بضياء القرآن وتكشّف عن بساتين الجنان!.
فعلى هذا؛ لو لم يوجَد هذا الشخص لسقطت الكائناتُ والإنسانُ وكلُّ شيء إلى درجة العدم، لا قيمة ولا أهمية لها، فيلزم لمثل هذه الكائنات البديعة الجميلة مِن مِثل هذا الشخص الخارق الفائق المعرِّف المحقق، فإذا لم يكن هذا فلا تكنِ الكائناتُ، إذ لا معنى لها بالنسبة إلينا. فما أصدقَ ما قالَ مَنْ ﴿ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ ﴾ (الانعَامِ : 73) "لولاكَ لَولاكَ لَما خَلقتُ الأفلاكَ".([3])
74
_____________________
الرشحة السادسة:
فإن قلت: مَن هذا الشخص الذي نراه قد صار شمساً للكون، كاشفاً بدينه عن كمالات الكائنات، وما يقول؟
قيل لك: انظر واستمع ما يقول! ها هو يخبر عن سعادة أبدية ويبشّر بها، ويكشف عن رحمة بلا نهاية، ويعلنها ويدعو الناس إليها. وهو دلاّلُ محاسنِ سلطنةِ الربوبية ونظّارُها، وكشّافُ مخفيات كنوز الأسماء الإلهية ومعرِّفها.
فانظر إليه من جهة وظيفته؛ تَرَه برهانَ الحق وسراجَ الحقيقة وشمس الهداية ووسيلة السعادة..
ثم انظر إليه من جهة شخصيته تَرَه مثالَ المحبةِ الرحمانية، وتمثالَ الرحمة الربانية، وشرفَ الحقيقة الإنسانية، وأنورَ أزهرِ ثمراتِ شجرة الخلقة.
ثم انظر، كيف أحاط نورُ دينه بالشرق والغرب في سرعة البرق الشارق، وقد قَبِل بإذعان القلب قريبٌ من نصف الأرض ومن خُمس بني آدم هديةَ هدايته بحيث تَفدي لها أرواحها.
فهل يمكن للنفس والشيطان أن يناقشا بدون مغالطة في مدَّعَيات مثل هذا الشخص، لاسيما في دعوىً هي أساس كل مدّعَياته وهو «لا إله إلاّ اللّٰه» بجميع مراتبه؟ ..
الرشحة السابعة:
فإن شئت أنْ تَعرف أن ما يحرّكه إنما هو قوّة قدسية، فانظر إلى إجراآته في هذه الجزيرة الواسعة! ألا ترى هذه الأقوام الوحشيةَ في هذه الصحراء العجيبة، المتعصبين لعاداتهم، المعاندين في عصبيتهم وخصامم، القاسيةَ قلوبُهم بدرجة يدفن أحدُهم بنتَه حيةً بلا تأثّر! كيف رفع هذا الشخصُ جميع أخلاقهم السيئة والوحشية، وقلَعَها في زمان قليل! وجهّزهم بأخلاق حسنة عالية، فصيّرهم معلِّمي العالم الإنساني وأساتيذَ([4]) الأمم المتمدنة. فانظر، ليست سلطنته على الظاهر فقط، بقوة الخوف كسائر الملوك، بل ها هو يفتح القلوب والعقول،
75
_____________________
ويسخِّر الأرواح والنفوس حتى صار محبوبَ القلوب ومعلم العقول ومربي النفوس وسلطان الأرواح.
الرشحة الثامنة:
من المعلوم أن رفعَ عادةٍ صغيرة كـ(التتون)([5]) مثلاً، من طائفة صغيرة بالكلية قد يَعسُرُ على حاكم عظيم بهمّة عظيمة، مع أنّا نرى هذا الذات ها هو قد رفع بالكلية عاداتٍ عظيمة كثيرة، من أقوام عظيمة متعصبين لعاداتهم، معاندين في حسياتهم، بقوة جزئية، وهمةٍ قليلة وفي زمان قصير، وغَرسَ بدلها برسوخ تام في سجيتهم عاداتٍ عاليةً، وخصائل غالية. فانظر إلى «عمر» رضي اللّٰه عنه قبل الاهتداء وبعده، تَرَه نواةً قد صار شجرةً باسقة. وهكذا يتراءى لنا من خوارق إجراآته الأساسية ألوفُ ما رأينا، فمن لم يَرَ هذا العصر نُدخل في عينه هذه الجزيرة!. فليجرّب نفسه فيها. فليأخذوا مائة من فلاسفتهم وليذهبوا إليها وليعملوا مائةَ سنة هل يتيسر لهم أن يفعلوا بالنسبة إلى هذا الزمان جزءاً من مائة جزءٍ مما فعل سيدُنا في سنةٍ بالنسبة إلى ذلك الزمان؟! .
الرشحة التاسعة:
اعلم -إنْ كنت عارفاً بسجية البشر- أنه لا يتيسر للعاقل أن يدّعيَ في دعوى فيها مناظرة كذباً يخجل بظهوره، وأن يقوله بلا حجاب([6]) وبلا مبالاة وبلا تأثر يشير إلى حيلته([7])، وبلا تصنّع وتهيّج يُوميان إلى كذبه، في أنظار خصومه النقادة، ولو كان شخصاً صغيراً، ولو في وظيفة صغيرة، ولو بحيثية حقيرة، ولو في جماعة صغيرة، ولو في مسألة حقيرة. فكيف يمكن تداخل الحيلة ودخول الخلاف([8]) في مدَّعَيات مثل هذا الشخص الذي هو موظف عظيم، في وظيفة عظيمة، بحيثية عظيمة، مع أنه يحتاج لأَمنية عظيمة، وفي جماعة عظيمة، وفي مقابلة خصومة عظيمة، وفي مسألة عظيمة، وفي دعوى عظيمة؟ وها هو يقول ما يقول بلا مبالاة بمعترضٍ، وبلا تردّد وبلا حجاب وبلا تخوفوبلا تأثر، وبصفوةٍ صميمية، وبجدية خالصة،
76
_____________________
وبطرزٍ يحرِّك أعصاب خصومه بتزييف عقولهم وتحقير نفوسهم وكسر عزّتِهم، بأسلوب شديد عُلوي. فهل يمكن تداخل الحيلة في مثل هذه الدعوى من مثل هذا الشخص في مثل هذه الحالة المذكورة؟ كلاَّ ﴿إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى﴾( النجم : 4).
نعم، إن الحقَّ أغنى من أن يُدلِّس، ونظر الحقيقة أعلى من أن يُدلَّس عليه! ..
نعم، إن مسلكه الحق مستغنٍ عن التدليس، ونظرهُ النقّاد منـزّهٌ من أن يلتبس عليه الخيال بالحقيقة..
الرشحة العاشرة:
انظر واستمع ما يقول! ها هو يبحث عن حقائقَ مدهشة عظيمة، ويُنذر البشر ويبحث عن مسائل جاذبة للقلوب، لازمةٍ جالبة للعقول إلى الدقة([9]) فيبشّر البشر. ومن المعلوم أن شوقَ كشفِ حقائق الأشياء قد ساق الكثيرين من أهل "المَرَق"([10]) إلى فداء الأرواح. ألا ترى أنه لو قيل لك: إن أفديتَ نصفَ عمركَ أو نصف مالك، لَنـزل من القمر أو المشتري شخصٌ يخبرك بغرائب أحوالهما ويخبرك بحقيقة استقبالك، أظنك ترضى بالفداء؟ فيا للعجب! ترضى لدفع "مَرَقِك" بترك نصف العمر والمال، ولا تهتم بما يقول هذا ويصدِّقه إجماعُ أهل الشهود وتواترُ أهل الاختصاص من الأنبياء والصديقين والأولياء والمحققين؛ فيبحث عن شؤون سلطانٍ: ليس القمرُ في مملكته إلاّ كذبابٍ يطير حول فَراشٍ، يطير ذلك الفراشُ حول سِراج ٍمن القناديل التي أسرجَها في منـزلٍ أعدّه لضيوفه المسافرين من ألوفِ منازله! .. وكذا يخبر عن عالمٍ هو محل الخوارق والعجائب، وعن انقلاب عجيب، فرضاً لو انفلقت الأرضُ وتطايرت جبالُها كالسحاب ما ساوتْ عُشر معشار عَشِيْر غرائب ذلك الانقلاب. فإن شئت فاستمع من لسانه أمثالَ ﴿إذا الشَّمسُ كُوِّرَتْ﴾ و﴿إذا السَّماءُ انْفَطَرَتْ﴾ و﴿إذا زُلْزِلَتِ الأرضُ زِلْزالَهَا﴾ و﴿القَارِعَةُ﴾ .. وكذا يخبر بتحقيقٍ عن استقبال؛ٍ ليس الاستقبالُ الدنيوي بالنسبة إليه إلاّ كقطرةِ سرابٍ بلا طائلٍ بالنسبة إلى بحر بلا ساحل.. وكذا يبشّر عن شهودٍ بسعادةٍ؛ ليست السعادةُ الدنيوية بالنسبة إليها إلا كبرقٍ زائل بالنسبة إلى شمسٍ سرمدية.
77
_____________________
نعم، تحت حجاب هذه الكائنات -ذاتِ العجائب- عجائبُ، تنتظرنا وتنظر إلينا. ولابد لإخبار تلك العجائب والخوارق [من] شخصٍ عجيب خارق يشاهِد ثم يشهَد، ويُبصِر ثم يُخبر.
نعم، نشاهد من شؤونه وأطواره أنه يشاهِد ثم يشهَد فينذر ويبشّر. وكذا يخبر عن مرضيات رب العالمين ومطالبه منّا وهكذا.. من عظائم مسائل لا مفرّ منها، وعجائب حقائق لا منجا منها، ولا سعادة بدونها.
فيا حسرةً على الغافلين! ويا خسارةً على الضالين! ويا عجباً من بلاهة أكثر الناس! كيف تَعامَوا عن الحق وتصامّوا عن هذه الحقيقة! لا يهتمون بمثل هذا الذات في عجائبه، مع أن من شأن مثله أن تُفدى له الأرواحُ ويُسرع إليه بترك الدنيا وما فيها.
الرشحة الحادية عشرة:
اعلم أن هذا الشخص، المشهودَ لنا بشخصيته المعنوية، المشهور في العالم بشؤونه العلوية؛ كما أنه برهانٌ ناطقٌ صادقٌ على الوحدانية، ودليلٌ حقٌّ بدرجة حقانية التوحيد.. كذلك هو برهان قاطع ودليل ساطع على السعادة الأبدية؛ بل كما أنه بدعوته وبهدايته سببُ حصول السعادة الأبدية ووسيلةُ وصولها.. كذلك هو بدعائه وعبوديته سببُ وجود تلك السعادة ووسيلةُ إيجادها.
فإن شئت فانظر إليه وهو في الصلاة الكبرى، التي بعظمة وُسعَتها صيّرت هذه الجزيرة، بل الأرضَ، مصلين بتلك الصلاة الكبرى.. ثم انظر، إنه يصلي تلك الصلاة بهذه الجماعة العظمى، بدرجةٍ كأنه هو إمامٌ في محراب عصره واصطفّ خلفَه، مقتدين به جميعُ أفاضل بني آدم، من آدم إلى هذا العصر إلى آخر الدنيا، في صفوف الأعصار مؤتَمّين به ومُؤَمِّنين على دعائه.. ثم استمع ما يفعل في تلك الصلاة بتلك الجماعة؛ فها هو يدعو لحاجةٍ شديدةٍ عظيمةٍ عامةٍ بحيث يشترك معه في دعائه الأرضُ، بل السماء، بل كلُّ الموجودات، فيقولون بألسنة الأحوال: "نعم يا ربَّنا تقبل دعاءه، فنحن أيضاً نطلبه، بل مع جميع ما تجلى علينا من أسمائك، نطلب حصول ما يطلب هو..".
78
_____________________
ثم انظر إلى طوره في طرز تضرعاته كيف يتضرّع بافتقارٍ عظيم ٍفي اشتياق شديد وبحزن عميق في محبوبية حزينة، بحيث يهيّج بكاء الكائنات فيُبكيها فيُشركُها في دعائه.. ثم انظر، لأيّ مقصدٍ وغاية يتضرع؛ ها هو يدعو لمقصدٍ لولا حصول ذاك المقصد لسقط الإنسان بل العالم بل كل المخلوقات إلى أسفل سافلين لا قيمة لها ولا معنى. وبمطلوبه تترقى الموجوداتُ إلى مقاماتِ كمالاتها.. ثم انظر، كيف يتضرع باستمدادٍ مديد، في غياث شديد، في استرحام بتودد حزين، بحيث يُسمع العرشَ والسماوات، ويهيّج وجدَها، حتى كأن يقول العرش والسماوات: آمين اللهم آمين.. ثم انظر، ممّن يطلب مسؤولَه؟ نعم، يطلب من القدير السميع الكريم ومن العليم البصير الرحيم، الذي يَسمع أخفى دعاءٍ من أخفى حيوانٍ في أخفى حاجة، إذ يجيبه بقضاء حاجته بالمشاهدة، وكذا يبصر أدنى أملٍ في أدنى ذي حياة في أدنى غاية؛ إذ يوصله إليها من حيث لا يحتسب بالمشاهدة، ويُكرم ويَرحم بصورة حكيمة، وبطرز منتظم؛ لا يبقى ريب في أن هذه التربية والتدبير مِن سميعٍ عليم ومن بصير حكيم.
الرشحة الثانية عشرة:
فيا للعجب! .. ما يطلب هذا الذي قام على الأرض وجمَعَ خلفَه جميعَ الأنبياء، أفاضلِ بني آدم، ورَفَع يديه متوجهاً إلى العرش الأعظم، ويدعو دعاءً يُؤمِّن عليه الثقلان، ويُعلَم من شؤونه أنه شرفُ نوعِ الإنسان، وفريدُ الكون والزمان، وفخرُ هذه الكائنات في كل آن؛ ويَستشفع بجميع الأسماء القدسية الإلهية المتجلية في مرايا الموجودات، بل تدعو وتطلب تلك الأسماءُ عينَ ما يطلب هو. فاستمع! ها هو يطلب البقاءَ واللقاء والجنةَ والرضاء. فلو لم يوجَد ما لا يُعد من الأسباب الموجبة لإعطاء السعادة الأبدية من الرحمة والعناية والحكمة والعدالة المشهودات-المتوقفِ كونُها رحمة وعناية وحكمة وعدالة على وجود الآخرة، وكذا جميع الأسماء القدسية، أسبابٌ مقتضية لها- لكفى دعاءُ هذا الشخص النوراني لأن يبني ربُّهُ له ولأبناء جنسه الجنةَ، كما يُنشئ لنا في كل ربيع جِناناً مزينة بمعجزاتِ مصنوعاته.
فكما صارت رسالته سبباً لفتح هذه الدار الدنيا للامتحان والعبودية، كذلك صار دعاؤه في عبوديته سبباً لفتح دار الآخرة للمكافأة والمجازاة.
79
_____________________
فهل يمكن أن يتداخل في هذا الانتظام الفائق، وفي هذه الرحمة الواسعة، وفي هذه الصنعة الحسنة بلا قصور، وفي هذا الجمال بلا قبح، بدرجةٍ أنطق أمثال الغزالي بـ«ليس في الإمكان أبدع مما كان».. وأن تتغير هذه الحقائق بقبحٍ خشين، وبظلم مُوحش، وبتشوش عظيم؛ إذ سماعُ أدنى صوت في أدنى خلق في أدنى حاجة وقبولُها بأهميةٍ تامة، مع عدم سماع أرفَع صوتٍ ودعاءٍ في أشد حاجة، وعدمُ قبولِ أحسنِ مسؤول، في أجمل أمل ورجاء؛ قبحٌ ليس مثله قبح، وقصورٌ لا يساويه قصور، حاشا ثم حاشا وكلاّ.. لا يَقبل مثلُ هذا الجمال المشهود بلا قصور مثلَ هذا القبح المحض، وإلاّ لانقلبت الحقائقُ بانقلاب الحُسن الذاتي قبحاً ذاتياً.
الرشحة الثالثة عشرة:
يا رفيقي في هذه السياحة العجيبة، ألا يكفيك ما رأيت؟ فإن أردتَ الإحاطة فلا يمكن، بل لو بقينا في هذه الجزيرة مائة سنة ما أحطنا ولا مَلِلْنا من النظر بجزءٍ واحد من مائة جزء من عجائب وظائفه، وغرائب إجراآته.. فلنرجع قهقرياً، ولننظر عصراً عصراً، كيف اخضرّت تلك العصور واستفادت من فيض هذا العصر؟
نعم، نرى كلَّ عصرٍ نمرُّ عليه قد انفتحت أزاهيرُه بشمس عصر السعادة، وأثمَر كلُّ عصرٍ من أمثال أبي حنيفة،(*) والشافعي،(*) وأبى يزيد البسطامي،(*) والجنيد البغدادي،(*) والشيخ عبد القادر الكيلاني(*) والإمام الغزالي، ومحيي الدين بن عربي،(*) وأبى الحسن الشاذلي،(*) والشاه النقشبند،(*) والإمام الرّبّاني ونظائرهم ألوف ثمراتٍ منورات من فيض هداية ذلك الشخص النوراني.
فلنؤخر تفصيلات مشهوداتنا في رجوعنا إلى وقت آخر.
ونصلي ونسلم على هذا الذات النوراني، ذي المعجزات، أعني سيدنا محمداً عليه الصلاة والسلام:
80
_____________________
اللّٰهُمَّ صَلِّ وَسَلِّمْ عَلٰى هٰذَا الذَّاتِ النُّورَانِىِّ الَّذِى أُنْزِلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ اْلحَكِيمُ مِنَ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ مِنَ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ، أعْنِي سَيِّدَنَا مُحَمَّداً ألْفَ ألْفِ صَلاَةٍ وَألْفَ ألْفِ سَلاَمٍ بِعَدَدِ حَسَنَاتِ أمَّتِهِ.
عَلٰى مَنْ بَشَّرَ بِرِسَالَتِهِ التَّوْرَاةُ وَاْلإنْجِيلُ وَالزَّبوُرُ وَبَشَّرَ بِنُبُوَّتِهِ اْلإِرْهَاصَاتُ وَهَوَاتِفُ الْجِنِّ وَأوْلِيَاءُ اْلإنْسِ وَكَوَاهِنُ الْبَشَرِ، وَانْشَقَّ بِإشَارَتِهِ الْقَمَرُ.. سَيِّدِنَا وَمْوْلاٰنَا مُحَمَّدٍ ألْفُ ألْفِ صَلاَةٍ وَألْفُ ألْفِ سَلاَمٍ بِعَدَدِ أنْفَاسِ أمَّتِهِ.
عَلٰى مَنْ جَاءَتْ لِدَعْوَتِهِ الشَّجَرُ، وَنَزَلَ سُرْعَةً بِدُعَائِهِ الْمَطَرُ، وَأظَلَّتْهُ الْغَمَامَةُ مِنَ الْحَرِّ، وَشَبِعَ مِنْ صَاعٍ مِنْ طَعَامِهِ مِئاٰتٌ مِنَ الْبَشَرِ، وَنَبَعَ الْمَاءُ مِنْ بَيْنِ أصَابِعِهِ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ كَالْكَوْثَرِ، وَسَبَّحَ فِي كَفَّيْهِ اْلحَصَاةُ وَالْمَدَرُ، وَأنْطَقَ اللّٰهُ لَهُ الضَّبَّ وَالظَّبْي وَالذِّئْبَ وَالْجِذْعَ وَالذِّرَاعَ وَالْجَمَلَ وَالْجَبَلَ وَالْحَجَرَ وَالشَّجَرَ صَاحِبِ الْمِعْرَاجِ وَمَا زَاغَ الْبَصَرُ... سَيِّدِنَا وَمَوْلاَنَا وَشَفِيعِنَا مُحَمَّدٍ ألْفُ ألْفِ صَلاَةٍ وَألْفُ ألْفِ سَلاَمٍ بِعَدَدِ كُلِّ الْحُرُوفِ الْمُتَشَكِّلَةِ فِي اْلكَلِمَاتِ الْمُتَمَثِّلَةِ بِإذْنِ الرَّحْمٰنِ فِي مَرَايَا تَمَوُّجَاتِ الْهَوَاءِ عِنْدَ قِرَاءَةِ كُلِّ كَلِمَةٍ مِنَ الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ قَارِئٍ مِنْ أوَّلِ النُّزُولِ إلٰى آخِرِ الزَّماَنِ وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا يَا إلٰهَنَا بِكُلِّ صَلاَةٍ مِنْهَا آمِينَ آمِينَ آمِينَ
* * *
اعلم([11]) أن دلائل النبوة الأحمدية لا تعد ولا تحصى، وقد ذكرنا قسماً منها في «الكلمة التاسعة عشرة» و«المكتوب التاسع عشر» فمع شهادة «معجزاته» البالغة إلى ألف، ومع شهادة «القرآن» البالغِ وجوهُ إعجازه إلى أربعين، السابقِ تفصيلها في «الكلمة الخامسة والعشرين» على رسالة محمّد عليه الصلاة والسلام.. كذلك تشهد هذه «الكائناتُ» بآياتها على نبوته؛ إذ كما أن في هذه المصنوعات المبثوثة في الكائنات آياتٌ لا تُحد، تشهد على وحدانية الذات الأحدية، كذلك فيها بيّنات لا تعد، تشهد على رسالة الذات الأحمدية عليه الصلاة والسلام؛
منها: كمال حسن الصنعة؛ إذ كمال حُسن الصنعة في هذه المصنوعات، يدل على الرسالة الأحمدية دلالة قطعية؛ لأن جمال هذه المصنوعات المزيَّنات يُظهر للناظر حُسنَ صنعةٍ وزينةٍ بالمشاهدة،
81
_____________________
وأن حسن الصنعة وزينة الصورة يدلان بالبداهة على أن في صانعها إرادةَ تحسينٍ وطلبَ تزيينٍ في غاية القوة. وأن إرادة التحسين وطلبَ التزيين يدلان بالضرورة على أن في صانعها محبةً عُلويةً لصنعته، ورغبةً قدسية لإظهار كمالاتِ صنعته. وأن تلك المحبة والرغبة تدلان بالقطع على أن الإنسان الذي هو أكمل المصنوعات وأبدعها وأجمل المخلوقات وأجمعها، هو المظهرُ الجامعُ والمدارُ البارعُ لتلك المحبة والرغبة، وهو الذي تتمركزان فيه. وأن الإنسان لكونه أجمع وأبدع المصنوعات فهو الثمرة الشعورية لشجرة الخلقة. أي هو لها كثمرةٍ ذات شعور. فلكونه كالثمرة، فهو ما بين أجزاء الكائنات جزء أجمعُ وأبعدُ من جميع الأجزاء. فلكونه أجمعَ وأبعدَ وذا شعور، فله نظرٌ عام وشعور كلي. فلكون نظره عاماً يرى مجموع شجرة الخلقة، ولكون شعوره كلياً يعرف مقاصد الصانع، فهو المخاطَب الخاص للصانع. فلكون عموم النظر وكلية الشعور سبباً لخصوصية الخطاب، فالفرد الذي يَصرِف كلَّ نظرهِ العامِ وعمومَ شعوره الكلي إلى التعبد للصانع، والتحبب إليه، والمحبة له، ويوجِّه تمامَ شعورِه ودقةِ نظره إلى استحسان صنعة الصانع وتقديرها وتشهيرها، ويَستعمِل جميعَ نظره وشعوره ومجموعَ قوّته وهمّته إلى شكر نعمةِ ذلك الصانع الذي يطلب الشكر في مقابلة إنعامه، وإلى دعوة الناس كافةً إلى التعبد والاستحسان والشكر، فبالبداهة يكون ذلك الفردُ الفريد هو المخاطبَ المقرَّبَ والحبيبَ المحبَّب..
فيا أيها الناس! هل يمكن عندكم أن لا يكون محمّد عليه الصلاة والسلام ذلك الفردَ الفريد؟ وهل يستطيع تاريخكم أن يُظهر فرداً آخر أليقَ بهذا المقام من محمّد عليه الصلاة والسلام؟ فيا مَن له بصر بلا رَمَد، وبصيرة بلا عمى! انظر إلى عالم الإنسان في هذه الكائنات، حتى تشاهد بالعيان دائرتين متقابلتين، ولوحين متناظرين:
فأما إحدى الدائرتين، فدائرةُ ربوبيةٍ محتشمة منتظمة في غاية الاحتشام والانتظام. وأما أحد اللوحين فلوح صنعةِ مصنّعٍ مرصّع في غاية الإتقان والاتزان.
وأما الدائرة الأخرى فهي دائرة عبوديةٍ منوّرة مزهرة في غاية الانقياد والاستقامة. وأما اللوح الآخر، فهو لوحُ تفكرٍ واستحسان في غاية الوُسعَة، وصحيفةُ تشكُّرٍ وإيمان في غاية الجمع.
82
_____________________
فإذ شاهدتَ هاتين الدائرتين وهذين اللوحين، فانظر إلى مناسبة الدائرتين واللوحين حتى تشاهِد بالعيان أن دائرة العبودية تتحرك جميعُ جهاتها باسم الدائرة الأولى، وتعمل بجميع قوتها بحسابها. وحتى تشاهد بأدنى دقة أن لوح التفكر والتشكُّر والاستحسان والإيمان ينظر بجميع معانيه وإشاراته إلى لوح الصنعة والنعمة.
فإذ شاهدتْ عينُك هذه الحقيقةَ فهل يمكن لعقلك أن ينكر أعظَم المناسبة بين رئيس دائرة العبودية وصاحب دائرة الربوبية؟ وهل يجوز لقلبك أن لا يوقن بان ذلك الرئيس الذي يخدم بالإخلاص لمقاصد الصانع في تشهير صنعته وتقديرها، له مناسبة عظيمة مع الصانع، وانتساب قوي إليه وله معه مكالمة ومنه إليه رسالة؟ نعم، فبالبداهة يُعْلَمُ أنه محبوبٌ مقبولٌ عند مالك الملك بل أحب الخلق إليه وأقربهم منه.
فيا أيها الإنسان! هل يمكن في عقلك أن لا يباليَ ولا يهتمَّ صانعُ هذه المصنوعات المزيّنات بأنواع المحاسن، ومُنعِمُ هذه النعم، المُراعي لدقائق الأذواق في أفواه الخلق، بمثل هذا المصنوع الأجمل الأكمل المتوجه إليه بكمال الاشتياق والتعبد والتحبب، وبمثل هذا المخلوق الذي أطربَ الفرشَ والعرشَ بوَلْوَلة استحساناته، ودمدَمة تقديراته، لمحاسن صنعة ذلك الصانع، واهتز البرُّ والبحرُ جذبةً من زَمْزَمَة تشكّراته لإحسانات ذلك الفاطر، ومن شَعْشَعَة تكبيراته لعظمة ذلك الخالق المنعم؟
فهل يمكن أن لا يبالي مثلُ ذلك الصانع المُحسن المقتدر بمثل هذا المصنوع المستحسِن المتشكِّر؟ وهل يمكن أن لا يتوجهَ إليه؟ وهل يمكن أن لا يتكلم معه؟ وهل يمكن أن لا يحبه؟ وهل يمكن أن لا يقرّبه إليه؟ وهل يمكن أن لا يريد سرايَة وَضْعِيَّته الحَسنة وحالته الجميلة إلى عموم الخلق؟ وهل يمكن أن لا يجعله قدوةً للناس حتى ينصبغوا بصبغته ووضعيته وحالته؟ وهل يمكن أن لا يجعله رسولاً إلى الناس كافة؟
أم هل يمكن أن لا يكون لصانع هذه المصنوعات المنتظمةِ الدالةِ نقوشُ صنعتها على علم بلا نهاية، وعلى حكمة بلا غاية، شعورٌ واطلاعٌ على الفرد الأكمل والأجمل من مصنوعاته؟
أم هل يمكن أن يعلَم ويبصر ولا يتكلم معه؟
أم هل يمكن أن يتودد ويتعرف بتزيينات مصنوعاته، ولا يودّ ولا يعرف مَن يودّه كما يَحِق، ويعرفه كما يليق، ويتودد إليه بالصدق، ويتعبّد له بالحق؟ ..
* * *
83
_____________________
الرشحة الرابعة عشرة
المتضمنة لقطرات من بحر المعجزة الكبرى:
القطرة الأولى
اعلم أن دلائل النبوة الأحمدية لا تعد ولا تحد؛ ولقد صَنَّف في بيانها أعاظمُ المحققين. وأنا مع عجزي وقصوري قد بينتُ شعاعاتٍ من تلك الشمس في رسالة تركية مسماة بـ«شعاعات». وكذا بينتُ –إجمالاً- وجوهَ إعجاز معجزته الكبرى «أي القرآن»؛ وقد أشرتُ بفهمي القاصر إلى مقدار أربعين وجها من وجوهِ إعجاز القرآن في «لمعات»،([12]) وقد بينتُ من تلك الوجوه واحداً وهو البلاغة الفائقة النظمية في مقدار أربعين صحيفة من تفسيري العربي المسمى بـ«إشارات الإعجاز». فإن شئت فارجع إلى هذه الكتب الثلاثة..
القطرة الثانية
اعلم أنك قد تفهمتَ من الدروس السابقة أن القرآن الذي جاء من خالق هذه السماوات والأجرام العلوية، وهذه الأرضِ والموجودات السفلية، ويعرّف لنا ربَّنا ربَّ العالمين، له مقامات ووظائف كثيرة.
فإن قلت: القرآن ما هو ؟
قيل لك: هو الترجمة الأزلية لهذه الكائنات والترجمان الأبدي لألسنتها التاليات للآيات التكوينية، ومفسِّر كتاب العالَم. وكذا هو كشافٌ لمخفياتِ كنوز الأسماء المستترة في صحائف السماوات والأرض. وكذا هو مفتاح لحقائق الشؤون المُضْمَرة في سطور الحادثات. وكذا هو لسان الغيب في عالم الشهادة. وكذا هو خزينة المخاطبات الأزلية السبحانية والالتفاتات الأبدية الرحمانية. وكذا هو أساسٌ وهندسةٌ وشمسٌ لهذا العالم المعنوي الإسلامي. وكذا هو خريطة للعالم الأخروي. وكذا هو قولٌ شارحٌ وتفسير واضحٌ وبرهان قاطعٌ وترجمان ساطعٌ لذات اللّٰه وصفاته وأسمائه وشؤونه. وكذا هو مربٍّ للعالم الإنساني. وكالماء وكالضياء للإنسانية الكبرى التي هي الإسلامية.. وكذا هو الحكمة الحقيقية لنوع البشر، وهو المرشد المُهدي إلى ما خُلِقَ البشر له. وكذا: هو للإنسان كما أنه كتابُ شريعة، كذلك كتابُ حكمة.
84
_____________________
وكما أنه كتاب دعاء وعبودية، كذلك هو كتاب أمر ودعوة. وكما أنه كتاب ذكر، كذلك هو كتاب فكر. وكما أنه كتابٌ واحد، لكن فيه كتب كثيرة في مقابلة جميع حاجات الإنسان المعنوية، كذلك هو كمَنـزلٍ مقدسٍ مشحون بالكتب والرسائل، حتى إنه قد أبرز لمَشربِ كلِّ واحدٍ من أهل المشارب المختلفة، ولمسلَكِ كل واحدٍ من أهل المسالك المتباينة من الأولياء والصديقين ومن العرفاء والمحققين، رسالةً لائقةً لمذاق ذلك المَشرب وتنويره، ولمَساق ذلك المسلك وتصويره حتى كأنه مجموعة الرسائل..
القطرة الثالثة
في بيان لمعة الإعجاز في تكرارات القرآن.([13])وفي هذه اللمعة ستة نقاط:
النقطة الأولى:
اعلم أن القرآن لأنه كتابُ ذكرٍ، وكتابُ دعاء وكتابُ دعوةٍ، يكون تكرارُه أحسن وأبلغ بل ألزم. إذ الذكر يُكرَّر، والدعاء يُردَّد، والدعوةُ تُؤكَّد. إذ في تكرير الذكر تنويرٌ، وفي ترديد الدعاء تقريرٌ، وفي تكرار الدعوة تأكيدٌ.
النقطة الثانية:
اعلم أن القرآن خطاب ودواءٌ لجميع طبقات البشر؛ من أذكى الأذكياء إلى أغبى الأغبياء؛ ومن أتقى الأتقياء إلى أشقى الأشقياء؛ ومن الموفقين المُجِدِّين الفارغين من الدنيا إلى المخذولين المتهاونين المشغولين بالدنيا. فإذن لا يمكن لكل أحد في كل وقتٍ قراءةُ تمام القرآن الذي هو دواء وشفاء لكل أحدٍ في كل وقتٍ. فلهذا أدرج الحكيمُ الرحيم أكثرَ المقاصد القرآنية في أكثر سُوَرٍ؛ لاسيما الطويلة، حتى صار كلُّ سورة قرآناً صغيراً، فسَهَّل السَبيلَ لكل أحدٍ. وينادي مشوِّقاً: ﴿وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ﴾( القمر: 17).
النقطة الثالثة:
اعلم أنه كما أن الحاجات الجسمانية مختلفة في الأوقات؛ فإلى بعضٍ في كل آن كالهواء، وإلى قسم في كل وقتِ حرارةِ المعدة كالماء، وإلى صنفٍ في كل يوم كالغذاء، وإلى نوع في كل أسبوع كالضياء، وإلى طائفة في كل شهر، وإلى بعض في كل سنة كالدواء، كلها في الأغلب، وقس عليها. كذلك إن الحاجات المعنوية الإنسانية أيضا مختلفة الأوقات؛ فإلى قسم في كل آن كـ "هو" و"اللّٰه"، وإلى قسم في كل وقت كـ«بسم اللّٰه»، وإلى قسم في كل ساعة كـ«لا إله إلا اللّٰه» وهكذا فقس.
85
_____________________
فتكرار الآيات والكلمات للدلالة على تكرّر الاحتياج، وللإشارة إلى شدة الاحتياج إليها، ولتنبيه عِرق الاحتياج وإيقاظه، وللتشويق على الاحتياج، ولتحريك اشتهاء الاحتياج إلى تلك الأغذية المعنوية .
النقطة الرابعة:
اعلم أن القرآن مؤسِّس لهذا الدين العظيم المتين ولأساساته، وأساساتٍ لهذا العالم الإسلامي، ومقلِّب لاجتماعيات البشر ومحوِّلُها ومبدلُها. ولابد للمؤسس من التكرير للتثبيت، ومن الترديد للتأكيد، ومن التكرار للتقرير والتأييد.
وكذا إن القرآن فيه أجوبة لمكرَّراتِ أسئلةِ الطبقات المختلفة البشرية بألسنة الأقوال والأحوال. .
النقطة الخامسة:
اعلم أن القرآن يبحث عن مسائل عظيمة ويدعو القلوب إلى الإيمان بها، وعن حقائق دقيقة ويدعو العقول إلى معرفتها. فلابد لتقريرها في القلوب وتثبيتها في أفكار العامة من التكرار في صور مختلفة وأساليب متنوعة.
النقطة السادسة:
اعلم أن لكل آيةٍ ظهراً وبطناً وحدّاً ومطّلعاً، ولكل قصة وجوهاً وأحكاماً وفوائد ومقاصد، فتذكر في موضعٍ لوجهٍ، وفي آخر لأخرى، وفي سورةٍ لمقصدٍ وفي أخرى لآخر وهكذا، فعلى هذا لا تكرار إلا في الصورة. .
القطرة الرابعة
في بيان لمعة الإعجاز في إهمال القرآن في بعض المسائل الكونية الفلسفية، وإبهامِه في بعضٍ آخر منها، وإجمالِه في قسم منها، وفي هذه اللمعة ست نكت:
النكتة الأولى:
فإن قلت: لأي شيء لا يبحث القرآن عن الكائنات كما يبحث عنها فن الحكمة والفلسفة ؟
قيل لك: لأن الفلسفة عدَلَت عن طريق الحقيقة فاستخدمَت الموجودات لأنفسها بـ«المعنى الاسمي». وأما القرآن فبالحق أُنزل وبالحق نَزَل، وإلى الحقيقة يذهب، فيستخدم الموجودات بالمعنى الحرفي لا لأنفسها بل لخالقها.
86
_____________________
فإن قلت: لأي شيء أبهَم القرآنُ وأجملَ في أمثالِ ماهيةِ الأجرام العلوية والسفلية وشكلها وحركتها على ما بيّنها الفن؟.([14])
قيل لك: لأن الإبهامَ أهمُّ والإجمالَ أجملُ:
فأولاً: لأن القرآن إنما يبحث عن الكائنات استطراداً للاستدلال على ذات اللّٰه وصفاته، ومن شرط الدليل أن يكون ظاهراً وأظْهَر من النتيجة، والنتيجة معرفة ذات اللّٰه وصفاته وأسمائه. فلو قال على ما يشتهيه أهل الفن: «يا أيها الناس، انظروا إلى الشمس في سكونها، وإلى الأرض في حركتها لتعرفوا عظمةَ قدرة خالقها»، لصار الدليل أخفى وأغمض من النتيجة، وأبعدَ بمراتبَ مِن فهم أكثر البشر في أكثر الأزمان والأعصار، مع أن حق الأكثر المطلق أهم في نظر الإرشاد والهداية. فمراعاة فهمهم لا تنافي استفادة المتفلسفين المتعمقين القليلين. ولكن في مراعاة هذا الأقلِّ محروميةُ الأكثر في أكثر الأوقات.
وثانياً: إن من شأن البلاغة الإرشادية مماشاةَ نظر العموم، ومراعاةَ حس العامة ومؤانسة فكر الجمهور؛ لئلا يتوحش نظرهم بلا طائل ولا يتشوش فكرهم بلا فائدة، ولا يتشرد حسهم بلا مصلحة. فأَبلغُ الخطاب معهم والإرشاد أن يكون ظاهراً بسيطاً سهلاً لا يُعجزهم، وجيزاً لا يملهم، مُجملا فيما لا يلزم تفصيله لهم.
وثالثاً: إنَّ القران لا يذكر أحوال الموجودات لها، بل لمُوجِدها.. فالأهم عنده أحوالها الناظرة إلى مُوجِدها. وأما فن الحكمة فتبحث عنها لها. فالأهم عنده أحوالها الناظرة إلى نفسها.. فشتان ما بين الثريا والثرى.
وكذا إنَّ التنـزيل يخاطب كل الناس ويراعى فهم الأكثر ليعرفوا تحقيقاً لا تقليداً.. والفن يتكلم بالأصالة مع أهل الفن، وأما مع العموم فللتقليد. فما فصَّل فيه الفن -بشرط الصدق- لابد أن يُجمل فيه القرآن أو يُبهم أو يُهمل على درجات نفع العامة.
ورابعاً: إنَّ القرآن لأنه مرشد لكل طبقات البشر تستلزم بلاغةُ الإرشاد أن لا يذكر ما يوقع الأكثرَ في المغلطة والمكابرة مع البديهيات في نظرهم الظاهري، وأن لا يغيّر بلا لزومٍ ما هو من المتعارَفات المحسوسة عندهم، وأن يُهمل أو يُجمل ما لا يلزم لهم في وظيفتهم الأصلية.
87
_____________________
مثلاً: يبحث عن الشمس، لا للشمس ولا من ماهيتها، بل لمن نوّرها وجعلها سراجاً، وعن وظيفتها بصيرورتها زنبركَ انتظامِ صنعةٍ، ومركزَ نظامِ خلقةٍ، ومكوكَ انسجامِ صنعةٍ في نسج النقاش الأزلي لهذه المنسوجات بخيوط الليل والنهار، في اختلاف الفصول، المفروشاتِ تلك المنسوجاتُ على وجه الأرض والسماء. ليعرّفنا القرآن بإراءة نظام النسج وانتظام المنسوجات كمالاتِ فاطرها الحكيم وصانعِها العليم. وحركةُ الشمس سواء كانت ظاهرية أو حقيقية، لا تؤثر في مقصد القرآن. إذ المقصد إراءة نسج النظّام الحكيم في ضمن إراءة جريان الشمس المشهود. فالنسج مشهود بكمال حشمته فلا يضره سكون الشمس في الحقيقة على ما يزعمه الفن..
النكتة الثانية:
إنَّ القرآن يقول: ﴿وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِراجاً﴾( نوح: 16) و﴿والشَمْسُ تَجْري لمُستَقَرٍ لها﴾( يس: 38)
فإن قلت: لأي شيءٍ عبّر عن الشمس بالسراج، مع أنها عند الفن أعظم من أن تكون تابعةً للأرض، بل هي مركز الأرض مع السَّـيَّاراتِ؟
قيل لك: إن في التعبير بالسراج تصويرَ العالم بصورةِ قصر؛ وتصويرَ الأشياء الموجودة فيه في صورة لوازماتِ ذلك القصر ومزيِّناته ومطعوماته لسكان القصر ومسافريه، وإحساسَ أنه قد أحضرتْها لضيوفه وخدامِه يدُ كريمٍ رحيم. وما الشمس إلاّ مأمورٌ مسخّر وسراج منوَّر. ففي تعبير السراج إخطارُ رحمةِ الخالق في عظمة ربوبيته، وإفهامُ إحسانه في وسعة رحمته، وإحساسُ كرمه في حشمة سلطنته، وإعلان وحدانيته بإراءة أعظمِ ما يتوهمه المشركُ معبوداً؛ أنه ما هو إلا سراج مسخَّر. إذ أين السراج المسخر الجامد وأين لياقة العبادة؟
وفي تعبير الجريان إخطارُ التصرفات المنتظَمة العجيبة في ما بين اختلاف الليل والنهار ودوران الصيف والشتاء.. وفي إخطارها إفهامُ عظمةِ قدرةِ الصانع في إنفراده في ربوبيته.
فمن نقطتَي الشمس والقمر يوجه الذهن إلى صحائف الليل والنهار، والصيف والشتاء، ومنها إلى سطور الحادثات المكتوبة في أجوافها. فتعبير الجريان عنوان لهذه المعاني، فيكفي ظاهر العنوان ولا تعلُّقَ للمقصد بحقيقته.
فانظر إلى كلمات القرآن مع كونها سهلةً بسيطةً معروفةً؛ كيف صارت أبواباً ومفاتيحَ لخزائنِ لطائفِ المعاني.
88
_____________________
ثم انظر إلى مُطَنْطَناتِ كلماتِ الحكمة الفلسفية كيف أنها مع شَعْشَعَتها لا تفيدك كمالاً علمياً ولا ذوقاً روحياً، ولا غاية إنسانية ولا فائدة دينية. بل إنما تفيدك حيرة مدهشة ودهشة موحشة. وتسقطك من سماء التوحيد المضيء في أودية الكثرة المظلمة. فاستمع بعض ما يقول الفلسفي في الشمس يقول:
«هي كتلة عظيمة من المائع الناري أعظم من أرضنا بمليون وثلاثمائة ألف مرة، تدور على نفسها في مستقرها، تطايرت منها شرارات وهي أرضنا وسيارات أخرى. فتدور هذه الأجرام العظيمة المختلفة في الجسامة، والقربِ من الشمس والبعدِ منها، بالجاذب العمومي حول الشمس في الفضاء الخالي. فإنْ خرج أحدها من مداره بالتصادف بحادثة سماوية كمرور النجم ذي الذنَب به لحصل هرْجٌ ومرْجٌ في المنظومة الشمسية، وفي الدنيا بدرجة تتدهش منه السماوات والأرض».
فانظر إلى نفسك ما أفادتك هذه المسألة ؟.. فيا سبحان اللّٰه!.. كيف تَقلِب الضلالةُ شكلَ الحقيقة، وما «الشمس مع سياراتها، إلاَّ مصنوعةٌ موظفةٌ ومخلوقةٌ مسخرةٌ بأمر فاطرها الحكيم وبقوة خالقها القدير. وما هي -مع عظمتها- إلاّ قطرة متلمعة في وجه بحر السماء يتجلى شعاع من اسم "النور" عليها».
والفلاسفة لو أدرجوا في مسائلهم قبساً من القرآن فقالوا: "يفعل اللّٰه بهذه الأجرام المدهشة الجامدة وظائف في غاية الانتظام والحكمة، وهي في غاية الإطاعة لآمره"، لكان لِعِلْمِهِمْ معنىً، وإلاّ بأن أسندوا إلى أنفسها وإلى الأسباب صاروا كما قال القرآن :﴿وَمَن يُشْرِكْ بِاللّٰه فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاء فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ﴾( الحج: 31) وقس على هذه المسألة سائر المسائل. .
النكتة الثالثة:
اعلم، أن مقاصد القرآن الأساسيةَ وعناصرَه الأصلية أربعة: التوحيد، والرسالة، والحشر، والعدالة مع العبودية. فيصير سائر المسائل وسائل هذه المطالب. ومن القواعد: عدم التعمق في تفصيل الوسائل، لئلا ينتشر البحث بالاشتغال بما لا يعني فيفوتَ المقصد. فلهذا قد أَبهَم وقد أَهمَل وقد أجمل القرآنُ في بعض المسائل الكونية. وكذا إن الأكثر المطلق من مخاطبي القرآن عوام، وهم لا يقتدرون على فهم الحقائق الغامضة الإلهية بدون توسيط التمثيل والتقريب بالإجمال،
89
_____________________
ولا يستعدون في كل وقت لمعرفة مسائلَ لم يصل إليها بعدَ القرون الطويلة إلاّ قليلٌ من الفلاسفة. فلهذا أكثرَ القرآنُ من التمثيل. ومن التمثيل بعضُ المتشابهات فإنها تمثيلات لحقائق غامضة إلهية. وأجملَ فيما كشفه الزمانُ بعد عصور وبعد حصولِ مقدماتٍ مرتَّبة..
النكتة الرابعة:
اعلم، أنه كما أن الساعة غير ثابتة بل متزلزلةٌ مضطربةُ الآلات، كذلك الدنيا التي هي ساعة كبرى أيضا متزلزلة. فبإدراج الزمان فيها صار «الليلُ والنهار» كمِيلَين يَعُدّان ثوانيها، و«السنةُ» إبرةً تَعدّ دقائقَها، و«العصر» كإبرة تعد ساعاتها. وبإدراج المكان فيها صار «الجو» -بسرعة تغيّره وتحوّله وتزلزُله- كميل الثواني، و«الأرضُ» بتبدل وجهها نباتاً وحيواناً، موتاً وحياة كميل الدقائق، وبتزلزل بطنها وتولُّد «جبالِها» كميل الساعات، و«السماء» بتغيراتها بحركات أجرامها وظهور ذوي الأذناب، والكسوفات والشهابات كالميل الذي يعدُّ الأيام.
فالدنيا المبنية على هذه الأركان السبعة -مع أنها واصفة لشؤونات الأسماء ولكتابة قلم القدرةِ والقَدَر- فانية هالكة متزلزلة راحلة كالماء السيال في الحقيقة، لكن تجمدت صورةً بالغفلة، وتكدرت بالطبيعة فصارت حجاباً عن الآخرة. فالفلسفة السقيمة والمدنية السفيهة تزيدان جمودتها وكدورتها بالتدقيقات الفلسفية والمباحث الطبيعيّة. وأما القرآن فينفُش الدنيا كالعهن بآياته، ويشففها([15]) ببيناته، ويذيبها بنيراته، ويمزق أبديتها الموهومة بنَعَيَاته، ويفرّق الغفلة المولدة للطبيعة برعداته. فحقيقة الدنيا المتزلزلة تقرأ بلسان حالها المذكورة آيةَ ﴿وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُواْ لَهُ وَأَنصِتُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾( الأعراف: 204).
فلهذا أجمل القرآن فيما فصّلتْ فيه الفلسفةُ من ماهيات الأشياء وخواصها.. وفصّل فيما أجملتْ أو أهملت فيه من وظائفها في امتثال الأوامر التكوينيةِ، ودلالاتها على أسماء فاطرها وأفعاله وشؤونه.
الحاصل: أن القرآن يبحث عن معاني كتاب الكائنات ودلالاتها، أما الفلسفة فإنما يبحث عن نقوش الحروف ووضعياتها ومناسباتها. ولا تعرف أن الموجودات كلماتٌ تدل على معانٍ.
90
_____________________
فإن شئت أن ترى فرق حكمة الفلسفة، وحكمة القرآن فراجع ما في بيان آيةِ ﴿وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا﴾( البقرة: 269).
النكتة الخامسة :
[تحال إلى الأنوار الثلاثة من الشعلة الثانية للكلمة الخامسة والعشرين «المعجزات القرآنية» حيث تتضمن هذه النكتة آياتٍ كثيرةً جداً والمقام هنا ليس مقامَ إيضاح]. ([16])
النكتة السادسة:
اعلم أنه يفهم من هذه النكتة السابقة أن القرآن إنما ينظر إلى وجوه دلالات الآثار على أفعاله تعالى، وإلى وجوه إظهار الأفعال لأسمائه سبحانه، وإلى صور انصباب الأفعال إلى الأسماء أو جريانها من الأسماء، وإلى وجوه إحاطة الأسماء التي هي أشعة الصفات بالأشياء.
الحاصل: أنَّ القرآن إنما ينظر من الموجودات إلى وجوهها الناظرة إلى فاطرها. وأما الفلسفة فإنما تنظر من الموجودات إلى وجوهها الناظرة إلى أنفسها وأسبابها، وغايتِها الناظرة إلى مصالحَ جزئيةٍ فلسفية أو صنعوية. فما أجهلَ مَن اغتر بالفنون الفلسفية، وصيَّرها مِحَكّاً لمباحث القرآن القدسية. ولقد صدق من قال: «إن الفنون جنون كما أن الجنون فنون»([17]).
القطرة الخامسة
اعلم أن مِن لمعات إعجاز القرآن كما ذكرتُ في «حبة» أنه جَمَع السلاسةَ الرائقة والسلامة الفائقة، والتساندَ المتين والتناسبَ الرصين، والتعاونَ بين الجمل وهيئاتها، والتجاوبَ بين الآيات ومقاصدها، بشهادة علم البيان وعلم المعاني، مع أنه نزل في عشرين سنة نجماً نجماً لمواقع الحاجات، نزولاً متفرقاً متقاطعاً مع كمال التلاؤم كأنه نزل دفعة، ولأسبابِ نزولٍ مختلفة متباينة مع كمال التساند كأن السبب واحد. وجاء جواباً لأسئلة مكررة متفاوتة مع نهاية الامتزاج والاتحاد كأن السؤال واحد. وجاء بياناً لحادثاتِ أحكام متعددة متغايرة مع كمال الانتظام كأن الحادثة واحدة. ونزل متضمناً لتنـزلاتٍ إلهية في أساليبَ تُناسب أفهامَ المخاطَبين، لاسيما فهم المنـزَل عليه عليه السلام بحالات في التلقي متنوعة متخالفة مع حسن التماثل والسلاسة؛ كأن الحالة واحدة.
91
_____________________
وجاء متكلماً متوجهاً إلى أصنافِ مخاطبين متعددة متباعدة مع سهولة البيان وجزالة النظام ووضوح الإفهام، كأن المخاطبَ واحد، بحيث يظن كل صنف أنه المخاطب بالأصالة. ونزل مُهدياً وموصلاً لغايات إرشادية متدرجة متفاوتة مع كمال الاستقامة والموازنة والنظام كأن المقصد واحد. فمن كانت له عين سليمة في بصيرته، فلا ريب أنه يرى في القرآن عيناً ترى كل الكائنات ظاهراً وباطناً كصحيفة مبصَرةٍ واضحةٍ يقلّبها كيف يشاء، فيعرِّف معانيها على ما يشاء..
القطرة السادسة
في بيان أنه لا يقاس القرآن على سائر الكلام، كما ذكرت في رسالة «قطرة» .
اعلم، أن منابع علوِّ طبقةِ الكلام وقوّته وحسنه وجماله أربعة: المتكلم، والمخاطب، والمقصد، والمقام، لا المقام فقط.. كما ضلَّ فيه الأدباء. فانظر إلى مَن قال؟ ولمن قال؟ ولم قال؟ وفيمَ قال؟ فالكلام إن كان أمراً ونهياً فقد يتضمن الإرادة والقدرة بحسب درجة المتكلم، فتتضاعف عُلويته وقوته.
نعم، أين صورةُ أمرِ فضوليٍ ناشئٍ أمرُه من أماني التمني وهو غير مسموع، وأين الأمر الحقيقي النافذ المتضمن للقدرة والإرادة؟ فانظر، أين ﴿يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءكِ وَيَا سَمَاء أَقْلِعِي﴾( هود: 44).. ﴿فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ﴾( فصلت: 11)، وأين خطاب البشر للجمادات بصورة هذيانات المبرسَمين([18]) في المرض: اسكني يا أرض وانشقي يا سماء وقُومي أيها القيامة»؟. وكذا، أين أمرُ أميرٍ مطاع لجيش عظيم مطيع بـ«آرْش!..»([19]) واهجُموا على أعداء اللّٰه، وأين هذا الأمر إذا صدر من حقير لا يُبالَى به وبأمره؟ أين ﴿إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾( يس: 82)، وأين كلام البشر ؟ وكذا أين تصوير مالكٍ حقيقي، وآمِرٍ مؤثرٍ أمرُه، ونافذٍ حكمُه، وبيانُ صانعٍ وهو يصنع، ومنعمٍ وهو يحسن قد شرع في آن الصنعة والإحسان يصوّر أفاعيله؛ يقول فعلتُ كذا وكذا، وأفعلُ هذا وذاك. انظر إلى ﴿أَفَلَمْ يَنظُرُوا إِلَى السَّمَاء فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍ * وَالأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ * تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ * وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاء مَاء مُّبَارَكًا فَأَنبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ * وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَّهَا طَلْعٌ نَّضِيدٌ * رِزْقًا لِّلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَّيْتًا كَذَلِكَ الْخُرُوجُ﴾( ق: 6-11).
92
_____________________
ثم أين تصويرُ فضوليٍّ في بحثه عن أفاعيلَ لا تماسَّ له بها؟
نعم، أين أعيان النجوم.. ثم أين تماثيلها الصغيرة السيالة -التي لا هي موجودة ولا معدومة- المرئيةُ في الزجَيْجات؟
نعم، أين ملائكةُ كلمات كلام خالق الشمس والقمر الملهمة لأنوار الهداية.. ثم أين زنابير مزوّرات البشر النفاثات في عقد الهوسات؟
نعم، أين ألفاظ القرآن التي هي أصدافُ جواهر الهداية، ومنبع الحقائق الإيمانية، ومعدن الأساسات الإسلامية المنبثة من عرش الرحمن مع تضمن تلك الألفاظ للخطاب الأزلي وللعلم والقدرة والإرادة.. ثم أين ألفاظ الإنسان الهوائية الواهية الهوسية؟
نعم، أين القرآن الذي هو كشجرة تفرعت وأورقت وأزهرت وأثمرت هذا العالم الإسلامي بمعنوياته وشعائره وكمالاته ودساتيره وأصفيائه وأوليائه، حتى انقلب كثير من نواة تلك الشجرة الطوبائية دساتيرَ عملية وأشجاراً مثمرة الذي قيل في حقه: ﴿قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا﴾( الإسراء: 88) وقد أفحم بجزالة نظمه وبلاغة معناه، وبداعة أسلوبه، وبراعة بيانه، وفصاحة لفظه، في جامعية اللفظ لوجوه كثيرة مقبولة، وحُسنِ دلالته في جامعيته لبحر هذه الشريعة المتضمنة للحقيقة والطرائق بمأخذ المجتهدين، وأذواق العارفين، ومشارب الواصلين، ومسالك الكاملين، ومذاهب المحققين.. وبطراوة شبابيته في كل عصر، وبلياقته وموافقته في كل عصر لكل طبقة. وألزَم مصاقع الخطباء ونوابغ العلماء، بل أعجز جميعَ البشر أن يأتوا بسورة من مثله، ثم أين كلام البشر؟. أين الثرى من الثريا!..
93
_____________________
اللَّهم بحق القرآن وبحق مَن أُنزل عليه القرآن نوّر قلوبنا بنور القرآن، واجعل القرآن شفاءً لنا من كل داءٍ، ومونساً لنا في حياتنا وبعد مماتنا، واجعله لنا في الدنيا قريناً، وفي القبر مونساً، وفي القيامة شفيعاً، وعلى الصراط نوراً، ومن النار ستراً وحجاباً، وإلى الجنة رفيقاً، وإلى الخيرات دليلاً وإماماً، بفضلك وحمدك وكرمك وإحسانك ورحمتك، يا أكرم الأكرمين ويا أرحم الراحمين.
وصل وسلم على من أنزلت عليه القرآن وأرسلته رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه صلاةً تُرضيك وترضيه وتَرضى بها يا رب العالمين. .
فيا منـزل القرآن، بحق القرآن اجعل هذا الكتاب نائباً عني ناطقاً بهذا الدعاء بدلاً عني إذا أسكتَ الموتُ لساني آمين. ألف آمين. .
* * *
94
_____________________
---------------------------------
([1]) ترجم الأستاذ النورسي هذه «الرشحات» إلى التركية وجعلها «الكلمة التاسعة عشرة» ونحن بدورنا نسّقناها في ضوئها.
([2]) المقبرة.
([3]) أي: إنَّ هذا حديث قدسي. وقد تكلم علماء محققون حول هذا الحديث، فمنهم من أقره، ومنهم من ضعفه ومنهم من أنكره ولعلّ قول علي القاري في شرح الشفا (1 / 6) يعدّ خلاصة جيدة، إذ يقول: «إنه صحيح معنىً ولو ضُعّف مبنى» وأيده ابن تيمية من حيث صحة معناه في مجموع الفتاوى ( 11 / 96 - 98).
([4]) جمع أستاذ.
([5]) التتون: التبغ والتدخين.
([6]) أي بلا خجل.
([7]) أي إلى خداعه.
([8]) أي خلاف الواقع.
([9]) أي الملاحظة والتدبر وإنعام النظر.
([10]) أي الولع واللهفة والرغبة الملحة والاهتمام والفضول. ويستعملها الأستاذ في أماكن متفرقة ويعقبها بمعناها العربي.
([11]) هذا البحث القيم في دلالة الكائنات بحث مستقل عن «الرشحات» ترجمه الأستاذ النورسى إلى التركية وجعله «النقطة الثالثة من الكلمة الثامنة عشرة».
([12]) وترجمت إلى رسالة "اللوامع" المنشورة ملحقةً بمجلد الكلمات.
([13]) المسألة العاشرة من «الشعاع الحادي عشر» توضح حكمة التكرار إيضاحاً وافياً.
([14]) أي العلوم الحديثة وتفصيل المسألة في «الشعلة الثانية من الكلمة الخامسة والعشرين».
([15]) أي يجعلها شفافة.
([16]) هذه النكتة الخامسة موجودة بكاملها في الرسالة الأخيرة «أنوار من نجوم القرآن».
([17]) للمحقق التفتازاني ذكرهما في العكس من البديع في المطول:
طويت لإحراز الفنون ونيلها رداء شبابي والجنون فنون
فمنذ تعاطيت الفنون وخضتها تبين لي أن الفنون جنون. (الكشكول ص 207 للبهاء العاملي).
([18]) المبرسم: الذي أصيبت بالبرسام ، والبِرسام ـ بالكسر: علّة يُهذَى فيها.
([19]) آرش: إيعاز عسكري يعني تقدّم للهجوم.
