القطعة الثانية
مـن
ذرة
من شعاع هداية القرآن
بسم اللّٰه الرحمن الرحيم
اعلم أن ناظمَ السماوات والأرض، ومكوّرَ الليل والنهار على جمجمة أرضنا ومهدنا كالعمامة المخططة، كيف يليق بألوهيته أن يفوّضَ بعضَ صفحات العالم إلى ممكنٍ مسكين؟ وهل يمكن أن يتصرفَ بالذات في ما تحت العرش غيرُ ربِّ العرش؟ كلاّ. إذ لا تتقاصر تلك القدرةُ عن الإحاطة. فلا فُرجةَ للغير للمداخلة، مع أن عزةَ الجبروت والاستقلالية ومحبةَ التودد والتعرّف لا تساعد ([1]) للغير -كائناً ما كان- أن يكون حجاباً وواسطةً اسميةً تجلب إلى نفسه أنظار عباد اللّٰه.
على أن التصرفاتِ في الكل والجزء والنوع والفرد متداخلةٌ متساندةٌ لا يمكن التفريق ولو بين فاعلين متفقين، إذ ناظِم العالم في عين الوصف يدبر مهدَنا، وفي عين الحال يربي الإنسان، وفي عين الوقت يتصرف في شؤونات الأنواع، وفي عين الآن يصنع حُجيرات البدن، وفي عين الزمان يخلق الذرات بتلك القدرة المتوجهة إلى جميع الصفحات. بل بعين النظم يدبر، وبنفس التدبير يربّي، وفي عين التربية يتصرف ويخلق.
فكما لا يمكن أن تنور الشمسُ وجهَ البحر دون خدود الحبابات، وعيونِ القطرات، وأناسيّ الرشاشات ([2]). كذلك لا يمكن مداخلةُ شيء من الأشياء في ذرة من حجيرة من عضو من جزئي من ساكني الأرض، بغير القدرة التي تكوّر ليلَها ونهارها. ومن صوَّر وأنشأ ونظّم دماغَ الذباب وعينَ المكروب، لا يترك أفعالَك غاربها على عنقها ([3]) سُدىً ومهملة بل يكتبها في «إمام مبين»، فيحاسبك عليها.
اعلم أن ما يُتحدس ويُرى في كل مصنوع، بل في كل ذرة من التصرف المطلق، والقدرة المحيطة، والحكمةِ البصيرة -بجميع ما يتعلق بها وما يُنظّم معها في سلك- برهانٌ باهر وآية بينة؛ على أن صانعَ كلِّ شيء واحدٌ لا شريك له، وليس لاقتداره توزيعٌ ولا انقسام ولا تجزؤ اللازمةُ للانتهاء، إذ لو كان الممكن صانعاً، لكان في تصرفه توزيعٌ وفي قوته انقسامٌ وفي توجّه اقتداره واختياره تجزؤ، مع أن ما يتعلق من الثلاثة بالنحلة مثلاً بحيثية لا يمكن -لو كان من الممكن المتجزي المتجاوز- أن لا يتجاوز. مع أن النحلةَ تتكشف عن اقتدار صانعها بوجهٍ لا يتعسر على ذلك الاقتدار خلقُ عوالم. فكيف ينحبس فيها ولا يتجاوز إلى المجاور، فلا بد بالضرورة أن يكون الصانعُ واجبَ الوجود واحداً لا نهاية ولا حدّ ولا انقسام لقدرته التي تجري في ميزان قدَره، وتُكتب على مسطره..
اعلم أن كونَ البعوضة والعنكبوت والبرغوث وأمثالها أذكى بمراتب، وأجزَل فطرة، وأتم صنعةً من الفيل والجاموس والإبل، مع قصر أعمار هؤلاء، وعدم نفعها ظاهراً، بخلاف أولئك.. برهان باهر وآية نيّرة على أن الصانع لا كُلفةَ ولا معالجة ولا تعمُّل في خلقه الأشياءَ، بَل يقول: كن فيكون، ولا يحكم عليه شيء، يفعل ما يشاء لا إله إلاّ هو.
اعلم أن شُميسةَ الحباب كما أنها جزء كذلك جزئي؛ إذ هي شمسٌ بالهوية الظلّية دون الماهيةِ الأصلية فهي لا هي ولا غيرُها. فاشتراكُ الكائنات في الشمس لا ينقص من حصة الحباب شيئاً، سواء وجودُها وعدمها بالنسبة إليه. فللحباب أن يقول: الشمسُ بالتمام لي وفيّ، متوجهة إلىّ.
اعلم أن ما يتصاغر ويتباعد عن دائرة الاسم الظاهر العظيم الواسع يتقارب ويتقيد بدائرة الاسم الباطن النسبي أو الحقيقي ﴿وَاللّٰه مِن وَرَائِهِم مُّحِيطٌ﴾( البروج: 20) بأسمائه ([4]). فالإنسان بذهنه الجزئي المحدود المقيد الفاني فيما تعلق به، ينظر إلى عظمته تعالى وتدويره للسيّارات حول الشمس، فيستبعد منه أن يشتغلَ بخلق الذباب مثلاً، بقياس الواجب على الممكن المسكين قياساً شيطانياً. فمن هذا القياس ينشأ ظلمٌ عظيم للمخلوقات الصغيرة، وتحقيرٌ لهم؛ إذ ما من شيء إلاّ ويُسبّح خالقَه، ولا يتنـزل لأن يكون له ربٌّ غيرُ مَن صيّر الدنيا بيتَه، والشمسَ سراجَه، والنجومَ قناديلَه، كأنه ليس في الدنيا إلاّ ذلك الشيء الحي. فلا يجوز للكبير أن يتكبَّر على الصغير، إذ الوجود كالحق، لا فرق بين القليل والكثير. وكم من قليلٍ كثيرٌ، وكثيرٍ قليلٌ.
اعلم أن كل شيء من شمس الشموس إلى ثمرة الشجرة إذا أُمعن النظرُ يُرى أنه انتُخب واختير ومُيّز مما لا يحد. فأي شيء كان ينظر إلى ما لا يتناهى، فلا يتصرف فيه بالذات إلاّ من لا نهاية لتجليات صفاته. فتأمل!
اعلم أن العموم لا ينافي القصدَ الخصوصي والعنايةَ الشخصيةَ في الإنعام، إذ نِعمُ اللّٰه ليست مثلَ مال الوقف أو ماء النهر ([5])، حتى يرى إنعاماً على الإطلاق، وحتى لا يحس الشخصُ في نفسه احتياجاً إلى الشكر الخاص. وأن التعيّنات، والخصوصيات، ليست كالأواني والقوالب الحاصلة أولاً، حتى يكون التعيّن، هو الذي يحصّل وجهَ الإنعام للمتعيّن. إذ المنعمُ الحقيقي جل شأنه يصنع لكل فرد قصعةً تناسبُه، ثم يملؤها من طعام نعمته فيحسنهما بالقصد الخصوصيّ للشخص باسمه ورسمه. فكما وجب الشكرُ على مطلق النعمة، وجب على الخاصة بالخصوصي.
اعلم أن الكتابَ الكبير المشهود «أي العالَم» والكتابَ العزيز المسموع «أي القرآن» بَخسَ أكثرُ البشر حقَّهما، إذ فيلسوفهم المتفكّر لا يعطي بالذات «للواجب» إلا جزءاً بسيطاً وقشراً رقيقاً أو تركيباً اعتبارياً، ثم يقسم الباقي على علل موهوماتٍ، بل ممتنعات، وأسماءٍ بلا مسميات﴿قَاتَلَهُمُ اللّٰه أَنَّى يُؤْفَكُونَ﴾( التوبة: 30). وأما الموحّد، فيقول: الكل مالُه ومنه وإليه وبه. أما القرآن، فأديبُهم المتخيل لا يعطي لذي العرش من ذلك القصر المحتشم ([6]) من أساساته المتينة ودساتيره المكينة وأحجاره المذهبة وأشجاره المزهرة إلا بعضَ نقوش النظم، وقسماً من المعاني.. ثم يقسم الباقي من تلك النجوم السماوية على ساكني الأرض بدسيسة تلاحق الأفكار. (تُوه)([7]) على عقله الذي خيل إليه تطاولَ يد البشر إلى النجوم بتبديلها والتصرف في أجرامها. مثله كمثل من يعطي لفياض البحر بعضَ الحبابات. والمؤمن المحقق يقول: كل ما اشتمل عليه ([8]) من أول الأساسات إلى آخر نقوش النظم منه وله. وأن القرآنَ لُفَّ في أساليبَ هي معاكِسُ ألوفِ مراتب مقتضيات المقامات وحسيات المخاطبين. وكذا مرّ القرآنُ على سبعين ألف حجاب؛ وتداخل إلى أعماق القلوب والأرواح، وسافر ناشراً لفيضه ومونساً بخطابه على طبقات البشر، يفهمُه ويعرفُه كلُّ دور، ويعترف بكماله ويقبله كلُّ قرن. ويستأنس به ويتخذه أستاذاً كل عصر، ويحتاج إليه ويحترمه كلُّ زمان بدرجة يتخيل كلٌّ: أنه أُنزل له خاصة. فليس ذلك الكتاب شيئاً رقيقاً سطحياً، بل بحرٌ زخّار وشمسٌ فيّاض وكتابٌ عميق دقيق.
اعلم انظر إلى الماء والهواء كيف خُلقا سهلَين سلسَين، فسبحان من يرزق ويلقم المكروبَ والفيل. فانظر طباخَ القدرة كيف صنع طعاماً لا يضيق عن لقمته فمُ النحل ويملأ فمَ الفيل، ولا يتكبر على فم المكروب ولا يتكبر عليه فمُ الكركدن، ويقول كلاماً يسعه صماخُ الذرة ويمتلئ به أُذن الشمس، ويعطي للكلمة التي تتكلم به تناسلاً واستنساخاً، بوجهٍ يمتلئ بعين تلك الكلمة كهفُ الجبل فيجيبك بالصدى، ولا تتعاظم على الحجيرة التي في صماخ البعوضة.
اعلم أنه يليق أن يُتصوَّر وقتَ الصلاة عالمُ الإسلام مسجداً، محرابُه مكّة وآية المحراب الكعبة، يصلي في ذلك المسجد أجيال. فإذا سجدوا في الفَناء، يجيء أجيال أُخر فيصلون فيذهبون، فيُملأ ويُفرغ دائماً. فالأعشار كدقائق وقت العصر في مسجد «بايزيد»..
اعلم يا سعيد!. من السعادة أن تتركَ اليوم على الكرم منك -وأنت عزيز مستبقياً للفضيلة - ما يتركك غداً على الرغم منك وأنت ذليل، مبقياً عليك الخسارة؛ إذ إن تركتَ الدنيا انسللتَ من شرها فأورِثتَ خَيرَها، وإذا تركَتْك انسللتَ من خيرها وأثمرتْ لك شرَّها.
اعلم أن المدنية الفاسقة أبرزت رياءً مدهشاً يتعذر الخلاصُ منه على أصحاب المدنية، إذ سمّت الرّياء بـ(شان وشرف)([9]) وصيّرت المرءَ يرائي للمِلَل ويتصنع للعناصر كما يرائي للأشخاص، وصيّرت الجرائدَ دلالين له، وجعلت التاريخ يصفق ويشوق بالتصفيق، وأنسَت الموتَ الشخصيَّ بحياة العنصرية المتمردة بدسيسة الحَمية الجاهلية الغدارة.([10])
اعلم أن جمعيةَ النساء مذكّر يتخاشن، كما أن جمعية الرجال مؤنثة تتلاين، بإشارة: ﴿وَقَالَ نِسْوَةٌ﴾( يوسف: 30) و﴿قَالَتِ الأَعْرَابُ﴾( الحجرات: 14). وجمعيةَ الضعفاء قوي، وجمعية الأقوياء ضعيف.
اعلم أن في انكسار الجِنَّة وخَفْضِها، انفتاحَ الجَنَّة وفَتحَها.([11])
اعلم أن من أظهر براهين النبوّة الأحمدية، التوحيدَ. إذ الرافعُ لأعلام التوحيد بمراتبه على رؤوس الكائنات، ودلاّل التوحيد بمقاماته على أنظار العالم، ومفصِّلُ ما أجمله الأنبياءُ عليهم السلام، سيدُنا محمد عليه الصلاة والسلام ففي حقيقة التوحيد وقوته حقيقةُ نبوته وحقانيتها..
* * *
([1]) بمعنى لا تسمح
([2]) أناسي: جمع إنسان: وهو هنا إنسان العين أي سوادها ومقلتها. أي: مُقل الحبيبات المائية المتطايرة من رشاش الماء والشلال.
([3]) ينظر إلى الهامش في رسالة ( لا سيما).
([4]) محيط بعلمه وإرادته وقدرته وبسائر صفاته الجليلة (ت: 171) فلا شيء خارج دائرة إحاطته.
([5]) أي ليست مشاعاً وعاماً للجميع (ت: 171).
([6]) المقصود: القرآن الكريم.
([7]) كلمة تضجر وتحقير .
([8]) أي القرآن الكريم.
([9]) أي: الشهرة.
([10]) بمعنى: غدت حياة الشخص تفدى لحياة العنصرية تحت ستار الحمية الجاهلية (ت: 172)
([11]) العبارة فيها جناس عجيب: فانكسار الجنة -أي بكسر الجيم- تعني الشياطين ، وخفضها يعني احتقارها وعدم طاعتها، ففي خفضها انفتاح الجنة وفتحها -بفتح الجيم-.. واللّٰه أعلم.
