القطعة الثالثة
من
ذرة
من شعاع هداية القرآن
بسم اللّٰه الرحمن الرحيم
اعلم أنه يلزم لمثل هذه التزيينات والكمالات والمناظرِ الحسنة وحشمة الربوبية وسلطنةِ الألوهية من مشاهِدٍ لها، ومتنـزّهٍ بها، ومتحيّرٍ فيها، ومتفكر ينظر إلى أطرافها ومحاسنها، فينتقل منها إلى جلالة صانعها ومالكها واقتداره وكماله.
نعم، إن الإنسان مع جهالاته وظلماته له استعدادٌ جامع كأنه أنموذجُ مجموع العالم، وأُودع فيه أمانةٌ يفهم بها الكنـزَ المخفي ويفتحه. ولم يُحدَّد قواه، بل أُرسلَت مطلقةً فيكون له نوع شعور كلي بشعشعة كمال حشمة جلال سرادق جمال عظمة ألوهية سلطان الأزل. وكما أن الحُسن يستلزم نظرَ العشق، كذلك ربوبيةُ النقاش الأزلي تقتضي وجودَ نظر الإنسان بالتقدير والحيرة والتحسين والتفكر، وتستلزم أيضاً بقاءَ ذلك المتفكر المتحير إلى الأبد ورفاقتَه لمَا تحيّر فيه في طريق أبد الآباد.
نعم، إنّ مَن زيّن وجوهَ الأزاهير كما أوجد لها عشاقاً مستحسِنين من أنواع الذبابات والعصافير، وزيّن خدودَ المُلاّح فأوجد لها أنظار المشتاقين الوالهين.. كذلك من زيّن وجهَ العالَم بهذه الزينة الجاذبة، ونوّر عيونَه بهذه المصابيح المتبسّمة وحسّنه بأنواع المحاسن المتلألئة، وأدمج في كل نقش بكمال الوضوح تودداً وتعرفاً وتحبباً، لا يخليه من أنظار مشتاقين متحيرين متفكرين منجذبين عارفين بقيمة كل؛ فلجامعية الإنسان صار الإنسان الكامل سبب خلق الأفلاك علّة غائية له وثمرة له.
اعلم أن من كمال السعادة واللذة الحقيقية، تركُ كل شيء حتى الوجود لأجل أنه جل شأنه هو هو، ولأجل أنه واجب الوجود، ولأجل أنه الكامل المطلق، ولأجل أنه ذو الجلال والجمال المطلق، فليكن له فداءً كلُّ شيء لي، وكُلّي والكلَّ وكلُّ شيء.
اعلم أن التوافقَ بين الأشياء كما يدل على أن الصانع واحدٌ أحدٌ، كذلك أن التخالف المنتظم بينها، يدل على أن الصانع مختارٌ حكيمٌ. مثلاً: توافقُ أفراد الإنسان بل الحيوان في أساسات الأعضاء. لاسيما التماثل في الأعضاء المثناة في الشخص برهان باهر على وحدة الخالق، وتخالفُها في التعيّنات والصور المتقنة آيةٌ نيّرة على اختيار الخالق وحكمته.
اعلم أن أظلم الخلق الإنسانُ. فانظر ما أشدَّه ظلماً ! فلشدة حبه لنفسه لا يعطي الأشياءَ قيمةً إلاّ بمقدار خدمتها لنفسه، وينظر إلى ثمرتها بمقياس نفعها للإنسان، ويظن العلّةَ الغائية في الحياة عينَ الحياة. كلا، إن للخالق في كل حي حِكَماً تدِقّ عن العقول. لِمَ لا يجوز أن يكون هذه الحيوانات القصيرةُ الأعمار والحوينات السريعة الزوال مباديَ ومساطرَ ومصادرَ وأساساتٍ ونواتاتٍ لغرائبَ مثاليةٍ وبرزخية وملكوتية وتجليات سيالة وترشحات وثمرات لتصرفات القدرة في الغيب؟..
.. .. .. .. ([1])
اعلم أن اللّٰه بكمال قدرته صيَّر جميعَ ذرّات الكائنات عبيداً لشريعته الفطرية وأوامره التكوينية. فكما يقول للذباب كن هكذا، فيكون هكذا.. كذلك يقول بعين السهولة لجميع الحيوانات كونوا بهاتيك الصفات وبهاتيك الأشكال وبهاتيك الأعمار، فيكونون كما أُمروا بلا كلفة !...
اعلم أن القوةَ والقدرة التي أخذت هذه الأجرامَ في قبضتها، ونظّمَتها كتنظيمِك فصوصَ الجواهر على مرآتك بيدك، لا تعجز عن شيء ولا تساعد لمداخلة شيء ما في دائرة تصرفها.
اعلم أنه كما لا ريب في اتحاد القطرة مع البحر في كونهما ماء، ومع النهر في كونهما من السحاب، واتحاد شُميسة القطرة مع شمس السماوات، واتحاد السمك مثل الإبرة مع السمك الذي يسمّى بـ( بالينه بالغى )([2]) في النوع، واتحاد الحبَّة مع الصُبرة.. كذلك إن الاسمَ المتجلي على حُجيرة في جزء من الجزئيات متّحدٌ في المسمى مع الاسم المحيط بالكون من الأسماء الحسنى، كالعليم بكل شيء مع الخالق لهذه الذرة، والمصوّر لهذه النحلة، والمنشئ لهذه الثمرة، والشافي لهذه العلة، بل محال أن لا يكون الواسعُ الأوسع عينَ الاسم الجزء الجزئي..
اعلم أنه لأن العطالة والسكون والتوقفَ والاستمرار على طرز في الممكن -الذي ظهور وجوده بتغيره- نوعُ عدمٍ في الأحوال والكيفيات، والعدم ألمٌ محض وشرٌ صرف، كانت الفعاليةُ لذةً شديدة والتحولُ في الشؤون خيراً كثيراً، ولو كان ألماً ومصيبة. فالتأثرات والتألمات حسنةٌ من جهات، قبيحةٌ من جهة.
فالحياة التي هي نور الوجود تتصفى بالتأثرات، وتتصَيقل بالتألمات.. فلا تنافرها الحياة. فلا توزَنْ بميزان البقاء العائد للحي، بل بميزان الظهور والمعكسية لتجلّي شؤون «المحيي» جلَّ شأنه، إذ للمحيي في الحياة ألوف حصص، وللحي حصة عرَضية. كمالُها في تبعيتها لحصص المحيي.
فتزيّن الحباب بشُميسيته في آنٍ سيال لا يعطي له حقاً بدرجة يعارض الشمسَ في حقوق تجلياتها المشحونة بالحكم الجسيمة. إلاّ أن حباب الإنسان إذا آمن ينقلب بالإيمان زجاجةً كأنها كوكبٌ دريّ يوقد مصباحها من أشعة شمس الأزل..
اعلم أنه كيف يمكن أن يصنع أحدٌ جميع أساسات قصر وأثاثاته وتركيباته المتوجهةِ جميعاً إلى بناء القصر الواحد، ولا يكون القصرُ علّةً غائية لذلك الصانع ([3])، ولا يكون ثمرات القصر عائدة إليه. أيها الإنسان !. الأرض قصر والعالَم قصر.
اعلم أن اللّٰه جل جلاله تعرّف إلينا بخلقه ومصنوعاته وتودّد بنعَمِه وإنعاماته وتحبّب برزقه ورحماته، ففعل هاتيك لتلك، بل كأنها هي. وهكذا تجلى كلُّ اسم من أسمائه الحسنى. فمن تفَهّمَها منها كما هو حقها -بتفهيمه تعالى- ثم فهّمها لغيره كافةً -بإذنه جلّ شأنه- يحق له أن يقال في حقه: «لولاكَ لَولاكَ لمَاَ خَلَقْتُ الأفلاَك» وما هو إلا الرابط المتين الأمين بين السماوات والأرض، الذي ارتبط العرش بالفرش بالحبل المنسوج على قلبه الذي هو أشرف الكائنات جنساً، وأكملُ ذوي الحياة نوعاً وسيدُ النوع الذي شُرّف بالخلافة شخصاً، وهو سيد المرسلين وأمام المتقين، حبيب رب العالمين محمد عليه وعلى آله وصحبه الصلاة والسلام أبد الآبدين..
* * *
خاتمة
للّٰه دَرُّ العلّةِ والمصيبة والذلّة، ما أحلاها وهي مُرّة! إذ هي التي تُذيقُك لذةَ المناجاة والتضرع والدعاء ..
عن ابن سمعون ([4]): «كل كلام خلا عن الذكر فهو لغو». ([5])
اعلم أني على جناح السفر إلى الآخرة، فلكثرة ذنوبي لا يكفي عمري بل أعمار للاستغفار، فأُوكلُ كتابي هذا وأُوصيه بأن ينادي مستغفراً بعدي بدلاً عني دائماً بهذا (الفرياد) ([6]):
(أي واه) وا اسفا وا حسرتا وا خسارتا وا ندامتا! على تضييعي لعمري وحياتي وصحتي وشبابي، في المعاصي والذنوب والهوسات الزائلة المضرة، فأورثَتْ في أوان شيبي ومرضي آثاماً وآلاماً. وأنا بهذا الحمل الثقيل والوجه الأسود والقلب المريض متقرب إلى باب القبر للفراق الأبدي من الدنيا الفانية.
فيا ذلّي إذا ما قال ربي: إلى النيران سوقوا ذا المرائي!
إلــهي لا ملجأ ولا منجأ إلا باب رحمتك.
إلـهي عبدُك العاصي أتاك مقرّاً بالذنوب وقد دعاك
فإن ترحم فأنت لذاك أهلٌ وإن تطرد فمَن يرحم سواك ([7])
يا رب زكناه زشت خود منفعلم
أز قول بد وفعل بد خود خجلم
فيضي بد لم زعالم قدس بريز
تا محو شود خيال باطل زدلم ([8])
«استفتح باب الرحمة بنداء مولانا »
أى خدا مَن اللّٰه اللّٰه مى زنم
بردر تو شيئاً للّٰه مي زنم
اى خدا باسوى خود راه نما
زانكى من كم راهم راه مي زنم ([9])
إلــهي لستُ للفردوس أهلاً ولا أقوى على نار الجحيم
فهبْ لي توبةً واغفر ذنوبي فإنك غافرُ الذنب العظيم
* * *
في (ط1):
هذا تقريظ أخي في اللّٰه الحسيب النسيب
السيد محمد شفيق الأرواسي (*)
باسمه سبحانه
﴿وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ﴾
والصلاة والسلام على خير خلقه..
ومن المعروض لدى ناظر آثار أستاذنا بديع الزمان، الملهَمة من فيوضات آيات القران، والمستفادة من إشارات تهدي إليها نكاتُ بلاغة الفرقان التي لا يدركها إلاّ مَن منّ عليه الملك المنان، بانكشاف اللطائف الأمرية، وتوسيع الدائرة العقلية، مع صيقلة سائر مرآة الحواس والوجدان بأن خلاصة ما لخصته من الإخلاص في حقها، أن كلاً منها حصن حصين في مقابلة أشرار أعداء الدين، بل سد صيني لا يؤثر فيه وساوس النفس، ودسائس الشيطان، وتلقينات عبدة الطبيعة، وأباطيل أفكار الفلاسفة الضالين.. وأنه يجري من منابع مباحثها ماءُ حياة تنمو به العقدة الإيمانية وتنطفئ منه الشرارات النفسانية، فلابد لكل طالب من السعي البليغ في مطالعتها كي تُحصِّن بما حصله من براهينها وتشفى بما ناله من ذوقياتها ودقائقها.. وإن وجد تعسراً في فهم معانيها، فلا يكن سبباً لفتور السعي فيها، فإن صداق الفوائد الجليلة إنما هو المساعي الكثيرة، ولا يلومنّ مؤلفَّها أيضاً، لأن صعوبتها غير اختياري، لما فيها من مسائلَ موضوعاتُها من الخوارق للعادات، وقضايا ذوقيةٍ لا يسعها ضيق العبارات وبراهينَ من نتائج بدهية عنده وعند الغير من النظريات، ومفهومات متناسبة ومتناسلة قد نصبت على بعضها نُصب وترك في البعض الآخر الآيات، لأن بعد المسافة لا تكفيها راياتُ الجُمل والكلمات وغيرُ ذلك من الأسباب مثل بدائع التشبيهات وغرائب التمثيلات.
الحقير
محمد شفيق
([1]) في (ط1): اعلم: أن البصر كما ينحصر عنده المعلوم -بل الموجود- في المبصر ، كذلك النفس الأمارة إذا لم تر شيئاً تنكر وجوده ، ولو كان من أبده البديهيات.
([2]) الحوت العظيم من حيتان البحر.
([3]) في (ط1): لذلك الصانع، ولو معلوما مبصراً، ولا يكون في تدبيره وتصرفه ، بل لا يمكن أصلا، كذلك أنت قصر والأرض قصر.
([4]) (300 - 387هـ) ابن سمعون الزاهد البغدادي ، وهو أبو الحسين محمد بن احمد بن إسماعيل ( أو سمعون) كان يلقب الناطق بالحكمة، مولده ووفاته ببغداد، علت شهرته، حتى قيل: «أوعظ من ابن سمعون!».
([5]) في (ط1): وكل سكوت خلا عن الفكرة فهو سهو ، وكل نظر خلا من العبرة فهو لهو .
([6]) أي الاستغاثة والنداء.
([7]) ينسب إلى إبراهيم بن ادهم: إلـهي عبدُك العاصي أتاكا مقرّاً بالذنوب وقد دعاكا
([8]) [[ يا رب إنني متألم نادم على سيئاتي وآثامي
وخجِلٌ من أقوالي وأفعالي السيئة
فاسكب من عالم القدس فيضاً على قلبي
كي يمحي من قلبي الخيال الباطل ]]
([9]) [[ يا الهي إنني أُردد اللّٰه اللّٰه
وأنادي وأقول شيئاً في سبيلك على بابك
يا الهي اهدني الطريق إليك
فقد ضللت ولكني سائر في الطريق ]]
