الرسالة العاشرة

 

 

 

القطعة الثالثة

من شَمَّة ([1])

من نسيم هداية القرآن

 

بسم اللّٰه الرحمن الرحيم

 

ومن اللّٰه التوفيق لأقوم الطريق ..

سبحانك يا من أنطق السماءَ بحمده وتسبيحه بكلمات النجوم والسيارات.

ويا من أنطق الأرضَ بحمده وتسبيحه بكلمات الأشجار والنباتات..

وأنطق النبات والشجر بكلمات الأزهار والثمرات..

وأنطق الزهر والثمر بكلمات البذور والنواتات..

وأنطق النواة والبذر بلسان السنابل وكلمات الحبّات..

سبحانك يا من يسبح بحمدك الضياءُ بأنواره، والهواءُ بأعصاره، والماءُ بأنهاره، والأرض بأحجاره، والنبات بأزهاره، والشجر بأثماره، والجو بأطياره، والسحاب بأمطاره، والسماء بأقماره.

والصلاة والسلام على سيدنا محمد نبراس([2]) الأنبياء، وزبرقان([3]) الأصفياء ونيّر([4]) الأولياء، وشمس الثقلين، وضياء الخافقين([5]). وعلى آله نجوم الهدى، وأصحابه مصابيح الدجى.

اعلم ([6]) يا من يضيق ذهنُه عن فهم سرّ: ﴿وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِّلشَّيَاطِينِ﴾(الملك: 5) إن للصعود إلى سماء هذه الآية سلّماً ذا درجات سبعة:

الأولى : أن للسماوات سكاناً يناسبونها يسمُّونَ بالملائكة، إذ امتلاء الأرض مع حقارتها بالنسبة إلى السماء من ذوي الحياة والإدراك، يشير بل يصرّح بامتلاء السماوات ذات البروج -تلك القصور المزينة- من ذوي الإدراك.

وكذا إن تزيينَ الكائنات بجميع هذه التزيينات والمحاسن والنقوش مستلزمةٌ لوجود أنظار متفكرين مستحسنين بالحيرة والتقدير؛ إذ لا يُظهَر الحُسن إلاّ لعاشق، كما لا يُعطى الطعامُ إلاّ لجائع. مع أنه لا يكفي الجن والإنسُ لعُشر معشار عَشِير هذه الحشمة والوظيفة، بل لا تقوم بها إلاّ ما لا يُعد من أنواع الملائكة والروحانيات.

الثانية: أن للأرض علاقةً مع السماء ومعاملةً معها وارتباطاً يجيء منها إليها أشياء، من الضياء والحرارة والبركات وغيرها. فبالحدس القطعي نعلم أن للأرضيّين طريقاً يصعدون فيها إلى السماء، إذا خَفّوا بوضع أثقالهم وخلع أجسادهم كالأنبياء والأولياء والأرواح.

الثالثة: أنَّ سكونةَ السماء وسكوتها وانتظامها واطّرادها تدل على أن أهلَها ليس كأهل الأرض التي فيها اضطرابٌ وتذبذب واختلافات وامتحان بمشاجرات، بسبب اختلاط الأشرار بالأخيار واجتماع الأضداد، بل كلُّ أهل السماء مطيعون يفعلون ما يؤمَرون.

الرابعة: أنَّ لمالك يوم الدين ولرب العالمين أسماءً متغايرةً أحكامُها، فالاسم الذي اقتضى إنـزالَ الملائكة للمحاربة في صف الصحابة مع الكفار، يقتضي وقوعَ المحاربة بين الملائكة والشياطين؛ أي السماويين الأخيار والأرضيين الأشرار. ألا ترى السلطان كيف يفعل ؟ إذ قد يقتضي شأنُ سَطوته واسمُ حشمته تشهيرَ استحقاق المكافأة والمجازاة على رؤوس الأشهاد، أو إعلانَ تعظيم بعض خدامه، بأن لا يعامِلهم بعِلْمِه بهم فقط، وبتلفونه الخاص، بل يأمر الوزيرَ فيحشّد الناسَ لميدان مبارزة محتشمة، وامتحان علوي، واستقبال سياسي.

الخامسة: أنه لابد أن يقلِّد أشرارُ الروحانيات أخيارَهم في تشبث الذهاب إلى مملكة السماء للطافتهم، ولابد أن لا يقبَلَهم أهلُ السماء ، بل يطردونهم لشراراتهم. ولابد في حكمة سلطنة الربوبية أن يكون لهذه المبارزة المعنوية والمعاملة المهمة علامةٌ وإشارةٌ في عالم الشهادة لإشهاد الإنسانِ الذي أهمُّ وظيفته المشاهدةُ والشهادةُ مع أنه لا يرى فيما بين الحادثات السماوية أنسبَ من إعلان هذه المبارزة العلوية من رمي الشُهب المشابهة للمنجنيقات المرماةِ من بروج الحصون الرفيعة، مع أنه لا يرى لهذه الحادثة حكمةً تناسبها غيرَ هذه الحكمة المشهورة المشهودة لجميع أهل الحقيقة، خلافَ سائر الحادثات.

السادسة : أنَّ القرآن الحكيم المعجز يرشد البشرَ ويزجرُه من العصيان بأسلوب غال ومثَل عال.. فانظر إلى إنذار: ﴿يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَن تَنفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ فَانفُذُوا لا تَنفُذُونَ إِلاَّ بِسُلْطَانٍ﴾(الرحمن: 33) الآية في تعجيز الثَقلين، وإعلان عجزهما في جنبِ وُسعةِ سلطنة الربوبية، كأنّهُ يقول: أيها الإنسان الحقير الصغير العاجز! كيف تعصي سلطاناً يطيعه الشموسُ والأقمارُ والنجوم والملائكة الذين يرجمون الشياطينَ ببنادقَ كأنها جبالٌ بل أعظم! وكيف تتجاسر على العصيان في مملكةِ سلطانٍ؛ من جنوده مَن يقتدر أن يرميَ في وجه الأعداء بنجومٍ في عظمة أرضكم كما ترمي جَوزَك وبندقتك.

السابعة: أنَّ النجم كالمَلك والسَمَك له أفراد في غاية الصغر وفي غاية الكبر. فكل ما يضيء في وجه السماء فهو نجم، فمن هذا النوع ما يُزَيّن به السماء كالجواهر والأثمار والأسماك([7])، ومنه ما يُرجم به الشياطين كالمنجنيقات المرماة للطرد، أو للإشارة إلى وجود الحارسين المتيقظين المطيعين المجتنبين عن اختلاط العاصين، أو للرمز إلى جريان قانون المبارزة في أوسع الدوائر.. وللّٰه الحجة البالغة والحكمة القاطعة.

اعلم أن الآيات المصرّحة بكتابة الأشياء قبل كونها وبعد كونها كثيرةٌ، كأمثال: ﴿وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ﴾(الأنعام: 59) ويصدّقها منظوماتُ مكتوباتِ كتابِ الكائنات وموزوناتُ آياتها، لاسيّما آياتُ النظام والميزان والانتظام والتصوير والتزيين والامتياز.

أما قبل الكون، فالدليلُ جميعُ المبادي والبذور وجميعُ المقادير والصور، إذ ما البذور إلا صُنيدقات لطيفةٌ أودعت فيها فهرستةُ ما رسمَه القَدر، فتبني القدرةُ وتستخدم الذرات على هندسته. وما المقادير إلاّ مكتوباتٌ قدَرية منظومة، وقوالبُ علمية موزونة؛ إذ الذرات الصم العمي الجامدة تتحرك في نمو الأشياء ثم تتوقف عند حدود معوجّة، توقفَ سميعٍ بصير بمظانّ الفوائد والثمرات. وهكذا فقس كثرة براهين الكتابة قبل الكون.

وأما الدليل على الكتابة بعد الكون؛ فمن العالَم جميعُ الثمرات التي هي كمطوياتِ صحائفِ أعمالِ الأشجار والأزهار، تَنشرُ على رأس الأشهاد ما جرى على رؤوس أُصولها، إذا دُفنت في الأرض وحُشرت في الربيع. ومن الإنسان قوته الحافظة التي هي في محل كالخردلة في الصغر، وما هي إلاّ كسَنَدٍ استنسخته يَدُ القدرة بقلم القَدر من صحيفة الأعمال، وأعطَتْه ليد الإنسان ليتذكّر به وقتَ المحاسبة، وليطمئن أن خلفَ هذا الهَرج والمَرج والفناء والزوال مرايا للبقاء رَسَم فيها القديرُ هويّات الزائلات، وألواحاً يكتب فيها الحفيظُ العليم معانيَ الفانيات.

اعلم أنه كما أن الساعة غيرُ ثابتة بل متزلزلة مضطربة الآلات، كذلك الدنيا التي هي ساعة كبرى أيضاً متزلزلة. فبإدراج الزمان فيها صار «الليلُ والنهار» كميلين يعدّان ثوانيها، و«السنة» إبرةً تعدّ دقائقَها، و«العصر» كإبرة تعد ساعاتها. وبإدراج المكان فيها صار «الجو» بسرعة تغيره وتحوله وتزلزله كمِيل الثواني. و«الأرضُ» بتبدل وجهها نباتاً وحيواناً، موتاً وحياةً كميل الدقائق. وبتزلزل بطنها وتولد «جبالها» كميل الساعات. و«السماء» بتغيراتها بحركات أجرامها وظهور ذوي الأذْناب والكسوفات والشهابات كالميل الذي يعد الأيام.

فالدنيا المبنية على هذه الأركان السبعة -مع أنها واصفةٌ لشؤونات الأسماء ولكتابة قلم القدرة والقَدر- فانيةٌ هالكة متزلزلة راحلةٌ كالماء السيال في الحقيقة. لكن تجمّدت صورةً بالغفلة، وتكدّرت بالطبيعة فصارت حجاباً عن الآخرة.

فالفلسفة السقيمة والمدنية السفيهة تزيدان جمودَتها وكُدورَتَها بالتدقيقات الفلسفية والمباحث الطبيعية. وأما القرآن فينفش الدنيا كالعهن المنفوش بآياته، ويشفّفها ببيّناته، ويذيبها بنيّراته، ويمزّق أبديتَها الموهومة بنعيّاته، ويفرّق الغفلةَ المولدة للطبيعة برعداته. فحقيقةُ الدنيا المتزلزلة تقرأ بلسان حالها المذكورة آية: ﴿وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُواْ لَهُ وَأَنصِتُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾(الأعراف: 204).

اعلم أن مميّز الإنسان عن الحيوان شمولُ علاقته بالماضي والمستقبل، وكليةُ إدراكه بالأنفس والآفاق.. وكشفُه لترتب العلل الظاهرية في إنشاء الأشياء الظاهرية. فأعظمُ وظيفته وأقدمُها([8])، وأتم جهازاته وألزمُها؛ التسبيحُ والتحميد بالجهاز المخلوق لهما، فيسبّح الإنسانُ صانعَه بلسان الماضي والحال والمستقبل، وبألسنة الأنفس والآفاق([9]).. وبسر مشاهدته لتسبيحات المخلوقات وشهادته عليها يُثني على صانع الأشياء بقراءة أسمائه المكتوبة بالترتيب والترتب في حكمة صُنع الأشياء.

فسبحان اللّٰه يتضمن معنى الحيرةِ والتقدير، ومعنى التعجب والاستحسان، ومعنى التنـزيه والتقديس، ومعنى الهَيبة مع المحبة، ومعنى المجهولية للعظمة.

اعلم أن للّٰه عطايا، وقضايا، ومقدرات.. ينفذ العطاءُ في القضاء، والقضاءُ في القدَرَ. أي يخرق العطاءُ قانونَ القضاء. كما تنخرق صلابةُ الحجر والتراب عند مرور العروق اللينة، وتنكسر مقاومةُ الحديد للمَيل اللطيف من الماء اللطيف عند الانجماد، ويُخرق لسهم القضاء قانونُ القَدر كما ينخرق القانونُ الكلي الذي هو قَدَرُ النوع بشذوذ الجزئيات الخارقة المخصّصة للإشارة إلى أنه سبحانه فاعلٌ مختار، يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ ،ويَحْكُمُ ما يريدُ، لا مانع لما أعطى، ولا رادّ لما قضى.

فنسبة العطاء إلى القضاء كنسبة القضاء إلى القَدر، أي العطاء شذوذٌ عن قانون القضاء كما يقول العارف بحقيقة الحال: «يا إلهي إن حسناتي من عطائك، وسيئاتي من قضائك. لولا عطاؤك لكنت من الهالكين». أي استعداد النفس الأمارة بالسوء قانونُ شر وهلاك.

اعلم أن السر في تختيم الآيات بفذلكات متضمنة للأسماء الحسنى كأمثال آية الملك، أو بعين الأسماء كما في كثير من الآيات، هو أن القرآن الحكيم ببيانه الإعجازي يبسط الآثار للنظر، ثم يستخرج منها الأسماء، كأمثال آية: ﴿وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾(الروم:27).

وكذا ينشر للبشر منسوجاتِ صُنعه، ثم يطويها في الأسماء.

وكذا يفصّل أفاعيلَه ثم يَجْملها بأسمائه.

وكذا يرتّب المخلوقات ويشفّفها بإراءة النظام والميزان والفوائد، ثم يريك فيها الأسماء كأن تلك المخلوقاتِ ألفاظٌ، وهذه الأسماء معانيها أو ماؤها أو نواتها إيجاداً وخلاصتها علماً.

وكذا يذكر الجزئيات المادية المتكيفةَ المتغيرة، ثم يُجمِلها بالأسماء الكلية النورانية الثابتة..

وكذا يفرش الكثرةَ المتوسعة المنتشرة، ثم يضع عليها مظاهرَ الوحدة كجهة الوحدة..

وكذا يُظهِر بإظهار غاياتِ المسبَّبات بُعْدَ ما بين الأسباب والمسبَّبات المتصلتين في الظاهر، كما يُرى تماسُّ الأفق بالسّماء في ظاهر النظر، مع أن ما بينهما مسافة مدهشة. إذ لا طاقة لأعظم الأسباب بذاته على حَمل أخف المسبَّبات، فيُظهر القرآنُ بإظهار هذا البُعد محلَّ ظهور الأسماء ومَطَالِعها.

وكذا قد يذكر أفاعيلَ الخلق فيهدّد، ثم يسلّي بأسماء تشير إلى الرحمة.. وقد يذكر مقاصدَ جزئيةً، ثم يقررها بأسماء هي كالقواعد الكلية والبراهين عليها. ([10])

اعلم([11])! أن العجز كالعشق طريقٌ موصلٌ إلى اللّٰه بل أقرب وأسلم. ثم إن أهلَ السلوك سلكوا في طرق الخفاء على اللطائف العشرة، وطرق الجهر على النفوس السبع.. وهذا العاجز استفاد من القرآن طريقاً قصيراً، وسبيلاً سوياً هو أربع خطوات:

الخطوة الأولى: ما أشارت إليها آية : ﴿فَلا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ﴾(النجم: 32).

والثانية: ما أشارت إليها آية: ﴿وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللّٰه فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ﴾(الحشر: 19).

والثالثة: ما أشارت إليها آية: ﴿مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللّٰه وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ﴾(النساء: 79).

والرابعة: ما أشارت إليها آية: ﴿كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ﴾(القصص: 88).

وإيضاحه:

 أن الإنسان بحسب جبلّته محبٌّ لنفسه، بل لا يحب بالذات -في الأول- إلاّ ذاتَه، فيمدح نفسَه مدحاً لا يليقُ إلاّ بالمعبود، ويدافع عن نفسه بشدة وينـزّهها عن المعايب ولا يقبل القصورَ لها ما أمكنه، حتى كأنه يصرفُ الجهاز المخلوق فيه لحمد معبوده وتسبيحه إلى نفسه، كمن اتّخذ إلهَه هواه. فلابد من تزكيتها هنا بعدم تزكيتها.

والثانية: نسيانُ النفس في مقام الكُلفة والخدمة، وشدةُ التزامها في مقام أَخذ الأُجرة والحظوظات. فتزكيتُها عكسُ هذه الحالة أي عدم النسيان في عين النسيان.

والمرتبة الثالثة: لا يرى من نفسه إلاّ القصورَ والنقص والعجز والفقر، ويرى كلَّ المحاسن نِعَماً من جانب فاطره تقتضي الحمد لا الفخر، فتزكيتُها في هذه المرتبة؛ علمُها بأن كمالَها في عدم كمالِها، وقدرتَها في عجزها، وغناها في فقرها.

والخطوة الرابعة: دركُ أنه في نفسه وبالمعنى الاسمي فانٍ مفقودٌ حادثٌ معدومٌ، وبالمعنى الحرفي -والمرآتية لأسماء صانعه- شاهدٌ مشهودٌ وواجدٌ موجودٌ. فتزكيتُها هنا معرفةُ أن عدَمَها في وجودِها، ووجودَها في عدمِها، ووِردُها: "له الملك وله الحمد".

وكذا إن مشرب أهل وحدة الوجود يذهب إلى إعدام الكائنات بنفي وجودها. ومشرب أهل وحدة الشهود يذهب إلى حبس الموجودات في سجن النسيان المطلق.

وأما ما أفهمُ من منهاج القرآن فهو: عفوها عن الإعدام والحبس، بل استخدامُها في وظائف إعلان الأسماء الحسنى بالمظهرية والمرآتية؛ بالمعنى الحرفي وبحسابه تعالى، وعزلها عن الخدمة بالمعنى الاسمي وبحساب نفسها.

ثم إن الإنسان في وجوده دوائرُ متداخلةٌ ومصنوعات متراكبة؛ إذ هو نبات، وحيوان، وإنسان، ومؤمن.. فالمعاملة للتزكية قد تقع أولاً في الطبقة الرابعة الإيمانية. ثم تتنازل إلى النباتية التي هي شديدة المقاومة، وقد تقع المعاملة في الكل في اليوم والليلة. ومما غَلط فيه الإنسانُ عدمُ الفرق بين تلك المراتب فيقول: خُلق لنا ما في الأرض جميعاً، فأولاً يغلط بظن انحصار الإنسانية في معدته النباتية أو الحيوانية. ثم يغلط بانحصار غايات الأشياء في ما يؤول إلى نفسه. ثم يغلط بتقدير قيمة الأشياء بمقياس مقدار منفعته منها، فلا يشتري نجم الزهرة بزهرةٍ مشمومة..

اعلم([12]) أن العبوديةَ نتيجةُ النعمة السابقة وثمنُها، لا مقدمةُ المكافآت اللاحقة ووسيلتها.

أيها الإنسان! أخذتَ أجرتك؛ إذ صنَعك هكذا في أحسن تقويم. ثم تَعرَّفَ إليك بإعطاء الإيمان.

نعم، كما أنه بإعطاء المعدة أنعمَ عليك بجميع المطعومات.. كذلك بإعطاء الحياة صيَّر لك عالمَ الشهادة سُفرةً مملوءَةً من النِّعم. فانظر إلى تفاوت السُفرتين. وكما أنه بإعطاء النفس الإنساني جعل لهذه المعدة عوالمَ المُلك والملكوت مائدةً مشحونة بالنِّعم.. كذلك بإعطاء الإيمان فرشَ لك مع الموائد المزبورة موائدَ مدخراتِ كنوز أسمائه.. وبإعطاء محبته فتح لك ومنَحك ما لا يوصف، فإذا أخذتَ مثل هذه الأجرة، فعليك بالخدمة. فإذا أعطاك بعد العمل نعمةً أخرى فما هي إلاّ من محض الفضل.

اعلم أن ما يشاهَد من الجُود بلا حساب في تكثير أفراد الأنواع، لاسيما في صغار المخلوقات مع كمال الإتقان وحسن الانتظام، يشير بل يصرّحُ بعدم التناهي في تجليات الصانع.. وبمباينة ماهيته.. وبتساوي الأشياء بالنسبة إلى قدرته.. وبوجوبه.

نعم، ما هذا الجُودُ والإيجاد إلاَّ من ذلك الوجوب ومن برهانه. والجُودُ في النوع جلالي، والإتقانُ في الفرد جمالي. ([13])

اعلم أن الصنعة الإنسانية تسهل على الصانع بدرجة علمه بها، وتَعسر بمقدار جهله، لاسيما في المصنوعات اللطيفة الدقيقة الجهازات. فكلما كان أعلم كانت عليه أيسرَ وأسهلَ. فما يُشاهَد من السهولة بلا حدّ في السرعة المطلقة والوسعة المطلقة في خلق الأشياء المنتظمة، يدل قطعاً وحدساً على أن لصانعها علماً لا نهاية له. كما تشير إلى تلك السهولة آيةُ : ﴿وَمَا أَمْرُنَا إِلاَّ وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ﴾(القمر: 50).

اعلم أنه كما أن مَن لفَّ على مصنوعٍ أو مصنوعات لفائفَ مصنوعة، وألبَس مكنونةً مزينةً أو مكنوناتٍ أقمصةً نُسجت من جنس مادتها -كالجلود -وأدرج متولداتٍ منحوتات من بطونٍ متراكمة في أجوافها، لا شك ولا ريب أن المظروفَ كالظرف، والمحاطَ كالمحيط صنعُ واحدٍ ومالُه وملكُه ..

كذلك لا شك ولا ريب أن من لفَّ لفائف الوحدة الاتصالية والنوعية على الكثرة، كوحدة الكل والكلي والظرف.. وكذا ألبَس على قامات جماعاتِ هذه المصنوعات المنثورة أقمصةَ هذه العناصر التي كأمهاتها.. وكذا أدرج هذه المخلوقات لاسيما الحيوانات التي هي تماثيلُ مصغرةٌ لهذه العوالم الكبيرة في أجواف تلك العوالم اللواتي هن كأبنية متداخلة ضُربت على موجودات هن كثمراتها أو نواتاتها، ما هو إلا واحدٌ أحدٌ صمدٌ يتجلى على المحيط بالواحدية، وعلى المحاط بالأحدية..

اعلم([14]) أنه كما أن للسلطان عنواناتٍ متنوعةً لحاكميته في دوائر حكومته وطبقات رعيته ومراتب سلطنته ووظائف أميريته، كأنه موجودٌ حاضرٌ ومشهودٌ ناظرٌ في كل دائرةٍ وخلفَ كلِّ حجابٍ بممثله وقانون نظامه، كذلك مثلاً: (وللّٰه المثل الأعلى) إن مَن له الأسماء الحسنى، له تجلٍ في عالَمٍ عالَمٍ بعنوان اسمٍ من أسمائه الحسنى ويستتبع ذلك الاسمُ في دائرة سلطنته سائرَ الأسماء بل يتضمنها.. وكذا يتصرف في كل طبقةٍ طبقةٍ كلاًّ وجزءاً، كلياً وجزئياً بتجلٍّ خاص في ربوبية خاصة بجلوات اسم خاص، أي يتجلى عليه بخصوصية كأنه يخصّه، مع أنه يعمُّ ويحيط.

وله سبحانه في مراتب ربوبيته شؤوناتٌ متناظرة.. وله في سرادقات أُلُوهيته أسماء متعاكسة.. وله في مرايا حشمته تمثيلاتٌ متفاوتة.. وله في تصرفات قدرته عنوانات متنوعة.. وله في تجليات صفاته ظهورات متزاهرة. وله في جلوات أفاعيله تصرفاتٌ متظاهرة.. وله في تنويع مصنوعاته ربوبياتٌ متدائرة على تجلي الأحدية على جزئيات محاط الواحدية، كما أشار إلى هذه الحقيقة العظيمة الواسعة ترجمان لسان القدم في مناجاته في «الجوشن الكبير» ([15]) وهذه المناجاة مشتملةٌ على تسعة وتسعين عقدة، وصَدَفُ، كلٍّ منها متضمنةٌ لاثني عشر من جواهر التوحيد صريحاً أو ضمناً؛ إذ إذا نودي أحدٌ بوصفٍ مطلق في مقام التعيين يدل على انحصار الوصف فيه. مثلاً: «يا دائم» أي؛ يا من لا دائمَ في العالم إلاّ هو. فله سبحانه حجُب نورانية إلى سبعين ألفاً، كما روي([16]).. ولوجود المنافذ في الحجب والتناظر في الشؤونات والتعاكس في الأسماء، والتداخل في التمثيلات، والتمازج في العنوانات، والتشابه في الظهورات، والتساند في التعرفات، والتعاضد في الربوبيات، وتجلي الأحدية في إحاطة الواحدية، لزم البتةَ لمن عرفه سبحانه في واحد مما مرّ، أن لا يستنكرَه في سائر ذلك، بل يفهم بالبداهة أنه هو هو.

﴿لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ﴾(التين: 4).

اعلم أن من عجائب جامعية فطرة الإنسان، أن أدرج الفاطرُ الحكيمُ في هذا الجِرم الصغير موازينَ لا تُعدّ، لوزن ما لا يُحدّ من مدخرات رحمته. وأدمج فيه آلاتٍ لا تُحصى جهازاتُها المعنوية لفهمِ ما لا يتناهي من مكنونات كنوز أسمائه الحسنى.

انظر إلى حواسك العشرةَ كيف أحاطت بألوان عوالم المسموعات، والمبصَرات، والمذوقات وغيرها.. وكذا أعطاه جزئياتِ صفاتٍ وأحوالٍ من الإرادة والعلم والسمع وغيرها لفهم صفاته المحيطة وشؤونه الواسعة.. وكذا لفّ على أنانيته لفائفَ بعدد العوالم وألوانها، ليعرفَ حالها بتلك اللطائف.. وكذا ألبس على قامة ماهيته أقمصةً بعدد حُجب الربوبية ليترقى فيها بقطعها.. وكذا أودع فيه لطيفةً مُدرِكة، بصورة عجيبة، بحيث تصير الحافظة التي هي في صغر الخَردلة كعالَمٍ واسع، تسير تلك اللطيفة في تلك الخردلة دائماً، ولا تصل إلى ساحلها. ومع ذلك قد يضيق على تلك اللطيفة هذا العالمُ الكبير، فتحيط هي بهذا العالم، وتحيط بها وبجميع ميادين جولانها ومكاتيب مطالعتها هذه الخردلة. فسبحان من صغّرها بلا غاية في عين كبرها بلا نهاية. ومن هذا السر، تتفطن لتفاوت مراتب الإنسان؛ فمن الإنسان من يغرق في ذَرّة، ومن الإنسان من تغرق فيه الدنيا.

 ثم إن الإنسان قد يفتح بمفتاحٍ من مفاتيحه الموهوبة عالَماً واسعاً من أبسط ما انتشرت إليه الكثرة، فيضل فيها فلا يصل إلى الوحدة والتوحيد إلاّ بعُسر عظيم. فللإنسان في معناه وسَيره الروحي طبقات؛ ففي طبقة يتيسر له باليسر والسهولة الحضور والتوحيد، وفي طبقة أخرى تستولي الغفلةُ والأوهام، وقد تتسع عليه الضيقةُ بحيث يغرق في الكثرة غرقاً تاماً، فينسى الوحدة رأساً. وإن المدنيين الذين توهموا السقوطَ ترقياً، والجهلَ المركب يقيناً، والانغماس التام في النوم انتباهاً، هم في هذه الطبقة السفلى. فهم أبعد بدرجات من البدويين من درك الحقائق الإيمانية.

اعلم أن الواحدية تدل على أن الاسمَ يحيط بكل شيء. وأن الأحدية تدل على أن كلَّ شيء حيٍّ يشير إلى كل اسم له تعلّقٌ بالكون، فالتجلي بالواحدية بإحاطته بكل الأشياء، وبالأحدية بإراءة كل شيء لكل الأسماء.

اعلم أن أكثر مظاهر الجلال تجلي الأسماء على الكل والكليات والأنواع والجماعات. والجود المطلق في النوع من تجلي الجلال. وأن أغلب مرايا الجمال المتجلي نقوشُ جزئيات الموجودات، وجمال أشخاصها مع تزايد الحسن، وجلاء المرآتية بتلاحق الأمثال في تكثير الأفراد، والإتقان والانتظام الأجمل في شخصٍ شخصٍ من تجلي الجمال.. وكذا يظهر الجلال من تجلي الواحدية ؛ ويظهر الجمال من تجلي الأحدية. وقد يتجلى الجمالُ من الجلال كما يتجلى الجلالُ من الجمال.. فما أجملَ الجلالَ في عين الجمال، وما أجملَ الجمالَ في عين الجلال!.

اعلم أن شهود البصر للمصنوع المصنّع المرصّع، مع عدم شهود البصيرة لصانعه ليس إلاّ؛ إما لعدم البصيرة أو عُميِها، أو ضيقِها من عظمة تصور المسألة، أو للخذلان. وإلاّ فهو([17]) أنكرُ من إنكار شهود البصر، كالسوفسطائي بل أشنع وأكمه.([18])

اعلم أنه كما أن من زرع بذراً في مزرعة، وعمّتها حبّاتُ البذر ولو منمنمة([19])، تكون المزرعةُ محميّةً له، ومصونةً من تصرف الغير بالزرع مرة أخرى، حتى كأن البذر سورٌ معنوي.. كذلك كل نوع من أنواع النباتات والحيوانات المزروعة المبثوثة في مزرعة الأرض والمنثورة المنشورة في أكثر وجهها، سورٌ يمنع الشركة، وحارسٌ يطرد الغير، وحامٍ يردّ الأوهام. فكيف بتساند المجموع، وتعاضد الجميع بتلاحق الشواهد وتعانق الأفراد؟!

اعلم أنه كما أن من يُحب أن يشاهِدَ في رياض جنته وحديقته المنتظمة صورةَ القِفار الغير المنتظمة، ومثالَ أحجارها الموحشة، وتماثيلَ اعوجاجاتها المشوشة؛ لإظهار لطافةِ تنظيماته، قد يصنع فيما بين منظومات بستانه صخورَ الكهف بتنحيتاتٍ مشوشة، فكمالُ انتظامها هنا في عدم انتظامها. لكن يتفطن المدققُ أن تنظيمَ هذا بعدم الانتظام إنما هو بقصد ناظم حكيم؟

كذلك إن ما يُشاهَد فيما بين المخلوقات المنظومة والمصنوعات الموزونة، من القفار المختلفة الأشكال المشوشة، ومن الجبال والآكام المتفاوتة الأحجار البعيدة عن النظام؛ بدرجة تتوهم النظرةُ الحمقاء الظاهرية أنْ لعبَت بها يدُ التصادف، ما هي إلاّ منتظمةٌ بعدم التنظيم، ومشوشيتُه السطحية بقصدِ صانعٍ حكيم وفاطر عليم، بشهادة إحاطة المنظومات والموزونات بها وفرشها عليها، كنظم الدرر المنظومة على نحور الجواهر المنثورة لإظهار شعشعة الصنعة المنتظمة، وكإراءة شدة الظلمة لتلك النيّرات. فانظر إلى الأشجار ذوات الأشواك، وإلى النباتات المجهزة برماح أشواكها لدفع آكل النباتات، حتى ترى انتظاماً عجيباً في عدم انتظامها، ولطافةً ظريفةً في خشونتها الموحشة. ومن أمارات كون عدم الانتظام كالانتظام بقصد صانع حكيم؛ عدمُ توافق شكل بعضٍ لبعضٍ بدرجة كأن كل فرد من نوع مستقل منحصرٌ في ذلك الشخص، مع اتحاد النوع وتآخذ أسباب التوافق. فعدم التوافق دليل عدم الاتفاقي وعدم التصادف.

اعلم أن من مزايا جامعية فطرة الإنسان، ومن مميزاته على سائر الحيوان، فهمَه لتحيّات ذوي الحياة لواهب الحياة. أي إنه كما يفهم كلامَ نفسه، يفهم بسمع الإيمان جميعَ كلمات ذوي الحياة المسبّحات، بل الجمادات. فكلٌّ منها يفهم كلامَ نفسه فقط -على ما يظهر- كمتكلّمٍ أصمّ من هذه الجهة. وأما الإنسان فمتكلمٌ سميعٌ يسمع في وسعة البصر، أي يمكن له أن يسمعَ في وقتٍ بلا مزاحمة ما تتكلم به الموجودات من أدلاّت الأسماء الحسنى. فقيمة كلٌّ منها بمقدار نفسه؛ وقيمة الإنسان المؤمن بمقدار الكل. فهو فردٌ كنوعٍ ، بل كأنواع.. واللّٰه أعلم بالصواب..

اعلم أن الحقيقةَ تشبه الظاهر في الصورة، مع عظمة بُعْدِ ما بينهما في نفس الأمر. مثلاً: التوحيد العامي الظاهري يَثْبُتُ بأن لا يُثبَتَ ولا يُسنَد شيءٌ من الأشياء إلى غيره تعالى، وهذا النفي سهل بسيط. وأما التوحيد لأهل الحقيقة فإنما يَثْبُتُ بأن يُثْبِتَ كلَّ شيء مما يشاهد من الأشياء ويسندَه إليه سبحانه، ويرى فيه سكّته ويقرأ عليه خاتمه جلّ جلاله. وهذا الإثبات يُثبت الحضورَ وينافي الغفلة.

اعلم أن من حكمة إمهال الكافر المتوجّه بالمعنى الاسمي والقصد الذاتي إلى هذه الحياة الدنيوية؛ خدمتَه لتظاهر ألوان نعَمه تعالى الحاصلة بالتركيب الصُنعي، وإن لم يشعر هو.. وكذا تنظيمُه لمحاسن جميلات مصنوعاته تعالى، وإن لم يفهم هو.. وكذا تشهيرُه بطرزٍ جالبٍ للنظر لغرائب صنعته سبحانه، وإن لم يتفطن هو.. كالساعة تعلّمُك عدد الساعات وهي لا تعلم ما تعمل هي.

اعلم أنه يمكن أن يذهبَ الموفَّق من الظاهر إلى الحقيقة بلا مرور على برزخ الطريقة؛ وقد رأيتُ من القرآن طريقاً إلى الحقيقة بدون الطريقة، أي المشهورة. وكذا رأيت طريقاً موصلاً إلى العلوم المقصودة بدون المرور على برزخ العلوم الآلية.

نعم، ومن شأن الرحمة الحاكمة أن تُحسِن لأبناء هذا الزمان -السريع السير- طريقاً هكذا قصيراً سليماً.

اعلم أنه كما أن وجودَ الشيء وحياتَه برهانٌ باهر على وجوب وجود موجده وصفاته، وآيةٌ نيّرة على أنه وحده، أي له كل شيء، وحجةٌ قاطعة لأيدي الأسباب.. كذلك فناءُ الشيء وموته في تجدد الأمثال برهانٌ ظاهر على بقاء المبدئ المعيد الوارث الباعث، ودليلٌ واضح على أنه لا شريك له -أي ليس لشيءٍ من الأشياء شيءٌ من الأشياء من جهة الخلق والإيجاد- وحجة قاطعة لأيدي أنفَس الأشياء من التأثير في أنفسها.

الحاصل: أن الحياة تقول: «لا إله إلاّ هو وحده»، وتردّ الأسبابَ.. وأن الموتَ يقول:« لا إله إلاَّ هو لا شريك له»، ويردّ الأنفس.

اعلم أن من وظائف حياة الإنسان؛ شهودَه لتحيات ذوي الحياة لواهب الحياة. ثم الشهادةَ عليها، أي يشاهِد عبادةَ الكل فيشهَدُ عليها ويُعلنها كأنه ممثلُ الكلِّ ولسانُهم يخبر الكلَّ بعمل الكلِّ في الإعلان لدى سيدهم.

اعلم أن القرآن والمنـزَل عليه القرآن يبحثان عن مسائلَ عظيمة، ويثبتان حقائقَ جسيمةً. ويبنيان أساساتٍ واسعةً؛ كأمثال إثبات وحدانية مَنْ يطوي السَـماء ﴿كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ﴾ (الأنبياء: 104).. ﴿وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ﴾(الزمر: 67).. ﴿وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلاَّ كَلَمْحِ الْبَصَرِ﴾ (النحل: 77) بالنسبة إليه. و﴿تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ﴾(الإسراء: 44) و﴿خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ﴾(الأعراف: 54) ..﴿وَيُحْيِي الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا﴾(الروم: 19) ويحشر في تلك الأحياء أزيد من ثلاثمائة ألف حشر ونشر وقيامات، بإحياء أنواع النباتات والحيوانات، وكتابتِها على صحيفة الأرض في نهاية الاختلاط والاشتباك، مع غاية التمييز بلا خبط ولا غلط. مع أنّ حشر واحد من تلك القيامات المشهودة ليس بأهونَ من حشر طائفة الإنسان، إذ يزيد عددُ طائفةٍ واحدة من طوائف الذباب الذي يوجد في عمر سنة على عدد الإنسان في عمر الدنيا. وكذا يقولان: ﴿اللّٰه خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ* لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ﴾(الزمر: 62،63) و﴿خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ﴾(الصافات: 96) ..﴿وَأَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا أَلِيمًا﴾(الأحزاب: 8) ويقولان: ﴿وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ﴾(الزلزلة: 8).. وهكذا من عظائم المسائل المبرهنة المهمة، فليس نظرُهما في الكائنات كنظر الفنون الفلسفية والعقول الإنسانية، بل مَثَلُهما كمثل من يعرّفك صنعةً لتعريف صانعه، والمصنوعُ في قبضته يقلّبه، ويريك باطنَه وصحائفه وتلافيفَه وغاياتِ جهازاته عند صانعه، ويعلّمك كتاباً بمعانيه وإشاراته.. ومَثلُ الإنسان وفلسفته كمثل من يعرّفك مصنوعاً بعيداً من يدكما([20]) ومن فهمكما -وإنما يصل نظركما إلى سطحه ولا ينفذ إلى باطنه- فيلقمك مسائلَ سطحيةً كوساوسَ شطحيّةٍ لا تسمن ولا تغني، وكمثل أجنبي أعجمي لا يعرف من العربية كلمةً، لكن له معرفة بمناسبات النقوش والصور، فشرع يعلمك كتابَ الفصوص المذهّب ببيان مناسبات نقوش الحروف، وكيفية صورها ووضعية بعض إلى بعضٍ. وهكذا، من سفاسفَ واهيةٍ صورية.

فإذا كان هذا هكذا؛ فلا تجعلْ مقاييسَ العلوم الإنسانية محكّاً لحقائقهما ([21])، ولا تزنهما بميزانها؛ إذ لا توزَن الجبالُ الراسيات بميزان الجواهر النادرات، ولا تَطلب تزكيتَهما بها بجعل دساتيرها الأرضية مصداقاً على تلك النواميس السماوية. فلا تظنن التزلزلَ بتحريك الأهواء الضالة لبعض التفرعات الجزئية، فأهمية الشيء بقدر قيمته.

اعلم([22])! أيها المصاب ببليةٍ دامت من مدة!. لا توزّع من جنود صبرك وقوّته، في مقابلة ما مضى إلى يومك هذا، بل إلى ساعتك هذه ؛ إذ التحقتْ تلك الأيامُ الأليمة الخالية إلى صف جنودك بانقلابها لذائذ معنوية وحسناتٍ أخروية. وكذا لا توزِّع من صبرك في مقابلة ما يأتي بعد يومك هذا، بل ساعتك هذه. إذ هو عدمٌ ومعدومٌ وفي يد المشيئة. فأجمِع جميعَ قوة صبرك وجنودِه على هذا اليوم، وفي هذه الساعة، مع تقوّي قوتك المعنوية بالتحاق جنود البلايا الأعداء إلى جنودك بانقلابها أحباباً ممدّةً، مع الاستمداد من التوكل على المالك الكريم الرحيم الحكيم في مقابلة ما يأتي. فإذا فعلت هكذا، يكفي أضعفُ صبرك لأعظم مصيبتك .

اعلم أنه كثيراً ما يُتوهَّم -بقصور الفهم- ما هو من منابع الحقيقة ومعادن الحق أنه من مخايل المبالغة ومظانّ المجازفة.

مثلاً: روي: (لو وزنت الدنيا عند اللّٰه جناح بعوضة، ما شرب الكافرُ منها جرعة ماء)([23]) أو كما قال.. المراد لا يساوي ما تمثّل في مرآة حياتك الفانية ووُسعة عمرك الزائل من هذه الدنيا الخارجية، مقدارَ جناح بعوضة من عالم البقاء. كما أن حبةً باقيةً بالتنبّت ترجّح على بيدر من تبنٍ يفنى بالتفتت.. فلكلِّ أحدٍ من هذه الدنيا -التي هي مظاهرُ الأسماء الحسنى ومزرعةُ الآخرة- دنياً، فإن نظر إلى دنياه بالمعنى الحرفي، واستعملها للباقي كانت لها قيمة عظيمة؛ وإلاّ فلفنائها لا توازي ذرةً باقية، وقس عليها بعضَ ما ورد في ثواب بعض الأذكار مما لا يجري في مقاييس العقل.

اعلم أن مما يدل على أن دستورَ الحياة هو التعاونُ دون الجدال؛ كما توهمَتْه الفلاسفة الضالة المضلة، عدمَ مقاومة التراب الصلب ولا الحجر الصلد لسيَران لطائف رقائق عروق النباتات اللينة اللطيفة، بل يشق الحجرُ قلبَه القاسي بتماسّ حرير أصابع بنات النبات، ويفتح الترابُ صدرَه المصمّتَ لسرَيان رائد النباتات.

نعم، تجاوبُ أعضاء الكائنات بشمسها وقمرها لمنفعة الحيوانات، وتسارعُ النباتات لإمداد أرزاق الحيوانات، وتسابقُ مواد الأغذية لترزيق الثمرات، وتزيّنُ الثمرات لجلب أنظار المرتزقات، وتعاون الذرات في الإمداد لغذاء حجيرات البدن؛ دليلٌ قاطع ساطع على أن الدستور العام هو التعاونُ وما الجدال إلاَّ دستورٌ جزئي بين قسم من الحيوانات الظالمة.

اعلم أن من أظهر براهين التوحيد، السهولةَ المطلقةَ المشهودة. مع أن في الشركة يستلزم كلُّ شيء، لاسيما حي، كلَّ ما يلزم للكل. ففي كل فرد من الكلفة كلفةُ ما في الكون، لاستلزام الفرد في الانفراد كلَّ كلفة الكل، كميةً.

اعلمي! أيتها النفس الأمارة! أنكِ متهَمةٌ في أحسن مطالبك. إذ قد تشتاقين إلى أمور الآخرة، لكن بالمعنى الحرفي، أي لئلا تتنغصَ الدنيا عليكِ بفنائها، فشوقُ الآخرة للتسلي من ألَم الفناء. فأُفّاً وتُفاً([24]) لهمّتكِ الدنية، كيف تُصيّر السلطان الدائمي خادماً لحقير دنىٍ زائل؟ وتعمل خاناً لسكن بعض الحيوانات في ليلة بعَمَد مرصعةٍ بالجواهر تأخذُها من تحت قصرٍ سلطاني مستمرٍ ([25]).. فتخربين القصر على رأسكِ، وتأكلين ثمرات الجنة الباقية قبل بدُوّ صلاحها في هذا البستان الكاذب.

اعلمى! أيتها النفس العاشقةُ لنفسها، المستندةُ على ظهور وجودها! أنك اكتفيتِ بقطرة سراب([26]) عن بحر ماء الحياة، وبلمعةٍ ضعيفةٍ في ليلةٍ مدلهمّة عن الشمس في رابعة النهار. أما ظهورُ وجودِك بالنسبة إلى ظهور وجود فاطرك ؛ فكنسبة عدد نفسِك الواحدة، إلى ضرب جميع الموجودات في ذراتها. إذ نفسُك تدل على وجود نفسك بوجه واحد، وبمقدار جرمك.. وتدل على وجود موجِدها بوجوه لا تعد، مع دلالة كل من الموجودات على ظهور وجود موجِدك بوجوهٍ لا تعد أيضاً إفراداً وتركيباً، فلابد أن يكون ظهورُ وجوده عندك أظهرَ من وجودكِ بدرجةِ أعظميةِ العالم على صغرك.

وأما حبُّك لنفسك، لأنها مخزنٌ لذّتك ومركزُ وجودك ومعدنُ نفعك وأقربُ إليك. فقد التبس عليك ظل الظليل الزائل، بأصل الأصيل الكامل. فإن تحبَّ نفسَك لِلذةٍ زائلة؛ فلابد أن تحبَّ من يفيدك لذائذَ باقيةً بلا نهاية، ويفيضُ على جميع من تلتذ بسعاداتهم لذائذَ تُسعِدُهم.

وإن كانت نفسُك مركزَ وجودك؛ فربُّك موجِدكَ، وقيّومُ وجودك مع وجودات كل من لك علاقة بوجودهم.

وإن كانت نفسك معدنَ نفعك؛ فرازقُك هو الذي بيده الخيرُ كله، وهو النافع الباقي، وعنده نفعُك ونفعُ كلِّ مَن لك نفعٌ في نفعهم.

وإن كانت نفسُك أقربَ إليك؛ ففاطرُها أقربُ منها إليها، إذ تصل يدُه منها إلى ما لا تصل يدُها ولا شعورُها ولا حبُّها إلى ذلك الشيء الذي هو في بحبوحة نفسها، فلابد أن تجتمع جميعُ المحبات المنقسمةِ على جميع الموجودات مع محبتك لنفسك فتهديها إلى جناب المحبوب الحقيقي.

اعلم أن مما يحجُبك عن اللّٰه ويبقيك في الغفلة؛ انحصارَ نظرك الجزئي على الجزء والجزئي، فيجوِّز صدورَه بالتصادف عن الأسباب الواهية. وأما إذا رفع رأسه ومدّ نظره إلى الكل والكلي، لا يجوّز صدورَ أدنى شيء من أعظم الأسباب.

مثلاً: يمكنك أن تسند رزقَك الجزئي إلى بعض الأسباب، ثم إذا نظرتَ إلى خلو الأرض وفقرها في الشتاء، ثم امتلائها متبرّجةً متزينة بالأرزاق التي طبختها القدرةُ في مراجل الأشجار وجفان الجنان، تيقنتَ أنه لا يمكن أن يكون رازقك إلاّ من يرزق كل حي بإحياء الأرض بعد موتها.

ومثلاً: يمكنك أن تسندَ ضياءك الجزئي المادي، ونورَك المخصوص المعنوي إلى بعض الأسباب الظاهرية فتقول: ﴿إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ﴾(القصص: 78) ثم إذا نظرت إلى اتصال ضيائك بنور النهار، واتصالِ نورِ قلبك بضياء منبع الأنوار، تيقنتَ أنه لا يقتدر على إضاءة قالبك، وتنوير قلبك حقيقةً إلاّ من يُقلِّبُ الليلَ والنهار بتحريك السيارات والأقمار. يضلّ من يشاء من الفجار ويهدي من يشاء من الأبرار بتنـزيل التنـزيل للاعتبار والاختبار.

اعلم أيها الإنسان أمامك مسائلُ عظيمةٌ هائلة، تُجبر كلَّ ذي شعور على الاهتمام بها!..

منها «الموت» الذي هو فراقُك عن كلِّ محبوباتك من الدنيا وما فيها.

ومنها «السفر» إلى أبد الآباد في أهوال دهاشة.

ومنها «عجزُك» الغير المعدود في «فقرك» الغير المحدود في سفرك الغير المحصور في عمر معدودٍ محدود، وهكذا.

فما بالك تناسيتَ وتعاميتَ عنها-كطير الإبل-أي «النعامة» يخفي رأسه في الرمل، ويغمض عينه لئلا يراه الصيادُ.. إلى كم تهتم بالقطرات الزائلة، ولا تبالي بالبحور الدهاشة!!.

اعلم أني أحمد اللّٰه على أن فتح لي أعاظمَ مسائلِ هذه الكائنات بمسألة من النحو، هي الفرق بين «المعنى الحرفي والاسمي»!.. أي هذه الموجودات كلماتٌ دالات على معانٍ في غيرها، أي مكتوباتٌ ربانية تالياتٌ للأسماء الحسنى، لا اسمية حتى تدل على معنى في نفسها لذاتها.

فما تفرَّع من الوجه الأول؛ علمٌ وإيمانٌ وحكمةٌ. ومن الوجه الثاني؛ جهلٌ مركبٌ، وكفرانٌ مرجَّب([27])، وفلسفة مذهّبة.

وكذا أشكره على أن فتح لي مسألةً جسيمةً من أعاظم مسائل الربوبية بمسألة من المنطق، وهي الفرق بين «الكلي ذي الجزئي، والكل ذي الجزء»، فتجلي الجمالِ والأحدية كالأول.. وتجلي الجلالِ والواحدية كالثاني.. وتجلي الكمال والكبرياء جمع الجمع.. أي جمال في عين الجلال كالكلّي في عين الكل، والجزئي في عين الجزء..

اعلم أن الدنيا فهرستةُ الآخرة، فيها إشارات إلى مسائلها المهمة، منها الذوقُ في الرزق الجسماني. فالذي أدرج في وجودك حواسَّ وحسياتٍ، وجوارحَ وجهازات، وأعضاءَ وآلات لإحساس جميع أنواع نِعمه الجسمانية، ولإذاقة أقسام جلوات أسمائه المتجلية على الجسمانيات، في هذه الدار الزائلة الذليلة التي ليست لذيذةً ولا للَذةٍ.. يشير بهذا الصُنع الحكيم، إلى أن صاحب الإحساس والإذاقة،([28]) أعدّ لضيوف عباده ضيافةً جسمانيةً أيضاً لائقة بالأبدية في قصورٍ ﴿تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا﴾(المائدة: 119)..

اعلم ([29]) أيها السعيد العاجز الخائف! أن الخوفَ والمحبة إذا توجّها إلى الخلق، صار الخوفُ بليةً أليمةً.. وصارت المحبةُ مصيبةً منغّصةً ؛ إذ تخاف من لا يرحمُك أو لا يسمع استرحامَك. وتُحبُّ من لا يعرفك. أو يحقّرك لمحبتك، أو لا يرافقك، بل يفارقك على رغمك.. فاصرفْهما من الدنيا وما فيها إلى فاطرك الكريم وخالقك الرحيم، ليصير خوفُك تذلّلاً لذيذاً بالالتجاء إلى صدر الرحمة كتلذذ الطفل بالتخوّف الذي يجبره إلى الانضمام إلى صدر أمه الشفيقة، وتصير محبتُك سعادةً أبديةً لا تزول ولا تُذِلّ، لا إثم ولا ألم..

اعلم أيها الإنسان! أنك ثمرةٌ أو نواةٌ لشجرة الخلقة، فبجسمانيتك أنت جزءٌ صغير ضعيف، عاجز ذليل ، مقيّد محدود. لكن الصانعَ الحكيم رقّاك بلطيف صُنعه من الجزء الجزئي، إلى الكل الكلي.

فبإدراج الحياة في جسمك أطلقكَ من قيد الجزئية في الجملة، بجولان جواسيس حواسك المنبسطة على عالم الشهادة لجلب أغذيتهم المعنوية.. ثم بإعطاء الإنسانية جعلك كالكل بالقوة (كالنواة ).. ثم بإحسان الإسلامية والإيمان، جعلك كالكلي بالقوة .. ثم بإنعام معرفته ومحبته صيّرك كالنور المحيط، فاختر ما شئت.. فإن أخلدتَ إلى الأرض واللذائذ الجسمانية؛ صرتَ جزءاً جزئياً، عاجزاً، ذليلاً. وإن استعملت جهازات حياتك بحساب الإنسانية الكبرى التي هي الإسلامية؛ صرت كالكل الكلي والسراج المركزي .

اعلم يا من يحب الموجودات الدنيويةَ التي لا تصل إليها إلاّ بمقدار جِرْمك، ومساعدة قيدك. فتتألم بسائر الفراقات الأليمة، جزاءً لصرفك المحبةَ في غير محلها.. إن أحببتَ الواحدَ الأحدَ، وتوجّهتَ بحسابه وباسمه وبإذنه وبنظره وبحَوله، تنـزّهتَ بالجميع معاً في آنٍ بلا فراق ولا ألم. كمثل من ينتسب لسلطان له مع كل جزء من مملكته ارتباط، يسمع ويبصر كل ما يجري في كل مكان ومن كل مكين، كأنه هو في كلٍّ وعند كلٍّ، فيسمع ذلك الخادم بسمعِ سيدِه، ويبصرُ ببصره بواسطة آلات المخابرة والمشاهدة لذيذات النغمات وجميلات الصور الموجودات في محلّ سلطنة بعيدةٍ.

اعلم([30]) يا من يشتاق إلى معرفة أخبار أمثال القمر، بحيث لو قيل لك: إن افديتَ نصفَ عمرك؛ لنـزل أحدٌ من القمر وأخبرك بأن في القمر كذا وكذا، وأخبرك بحقيقة استقبالك، لفديت بلا تأسف.

أنه جاء أحدٌ يخبرك أخبار مَن ليس القمرُ إلاّ كذباب يطير حول فَراشٍ، يطيرُ هو حول سراجٍ من قناديل سقف بيته الذي أعدّه لعبيده المسافرين .. وكذا يخبرك بأخبار الأزل والأبد، والحياة الأبدية، والحقائق الأساسية، والمسائل العظيمة التي أصغرُها أعظمُ من انفلاق الأرض مع القمر. فإن شئتَ فاستمع إلى سورة ﴿إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ﴾ وإلى ﴿إِذَا السَّمَاء انفَطَرَتْ﴾ وأمثالِها.. وكذا يريك سبيلاً سوياً إلى الوحدة، يُنجيك من التشتت في ضلالات الكثرة الموحشة، ويمد إلى يدك العروة الوثقى وسلسلة عرشية تنقذ من استمسك بها من الغرق في ظلمات الممكنات المشتتة، ويسقيك من عين الإيمان بالحياة الأبدية ماء الحياة، لتخلِّصك من الاحتراق بنار الفراق من جميع ما تحبه على الإطلاق.. وكذا يخبرك بمرضيات خالقك الذي الشمسُ والقمرُ والنجوم مسخَّرات بأمره، واستقرت الأرض بإذنه وبمطالبه منك.. وكذا صار ترجماناً لمخابرة سلطان الأزل والأبد الذي لا نهاية لقدرته وغَنَائه، وبمكالمته معك أيها العاجز بلا نهاية، والفقير بلا غاية.

فمع كل ذلك كيف لا تترك نفسَك لفهم هدى القرآن؟ ولا تنسَى هَوسكَ لاستماع رسول الرحمن؟ وكيف لا تستقبل رسولَه بالتسليم والإيمان؟ وكيف لا تشتاق إلى السلام عليه بالصلاة والسلام؟ وكيف لا تحتاج إلى الاستخبار منه ما يطلبه سيدُنا الحنّان ومالكُنا المنّان جلّ جلالُه؟

اعلم أننا نرى الصانعَ الحكيم بكمال حكمته، وعدم العبثية في صنعه وعدم التضييع، يُنسج من الأشياء الحقيرة الصغيرة القصيرة الأعمار، منسوجاتٍ جسيمةً غالية عالية دائمة، لاسيما في نسج النباتات.. وكذا بسرّ عدم العبثية مطلقاً، وعدم الإسراف، يوظّف الفردَ الواحد من الآلات والجهازات بوظائفَ كثيرة متنوعة، لاسيما في رأس الإنسان. فلو انفرد لكل وظيفة من الوظائف المكلفة بها ما في رأسك مقدار خردلة، للزم أن يكون رأسك كجبل الطور في الكبر ليسع أصحاب الوظائف. ألاَ ترى اللسان -مع سائر وظائفه العظيمة- مفتشٌ([31]) لمدخرات خزينة الرحمن، ولجميع المطعومات المطبوخة في مطبخ القدرة، فله وظائف بعدد تنوع أذواق المطعومات، وقس . أفلا تشير هذه الفعاليةُ الحكيمةُ إلى أن ذلك الصانعَ يجوز -بل يجب– أن ينسجَ من الأشياء السيالة السريعة في سيل الزمان، ومن الأيام الميتة والأعوام الماضية والأعصار الخالية نسائجَ غيبيةً، ومنسوجاتٍ أخرويةً بمكوك الليل والنهار والشمس والقمر في اختلاف الملوين ([32])، وتحوّل الفصول؟ كما نسج في الإنسان الذي هو فهرستةُ العالم ما يؤيد هذا، إذ يُبقي دقائقَ حياته الماضية الفانية بين منسوجات حافظته ومكتوباتها، فيكون الفناءُ والموت في هذه الشهادة الضيقة، انتقالاً باقياً وبقاءً صافياً في دوائر عوالم الغيب. وقد نسمع من منابع الوحي «أن دقائق عمر الإنسان تعود إليه»؛ فإما مظلمةٌ بالغفلات والسيئآت، وإما مضيئةٌ بمصابيح الحسنات المعلقة في حلقات الدقائق.

اعلم أن من حكمة تفنن الصانع الجميل الحكيم في تصوير الأفراد صغيراً وكبيراً كما في الحيوان لاسيما فيما يطير بجناحَيه، وفي السمك وفي المَلَك وفي العوالم في الجملة، من الذرات إلى الشموس، بجعل الصغير مثالاً مصغراً للكبير.. لُطفَ الإرشاد، وتسهيلَ التفكّر، وتيسيرَ قراءة مكتوبات القدرة، وإظهارَ كمال القدرة، وإبرازَ نوعي الصنعة الجمالية والجلالية، إذ من أسباب المجهولية الدقةُ والخفاءُ، فيزيلهما بوضوح حروف الكبير. وكذا من أسباب المجهولية الوسعةُ والعظمة، فلا يحيط بها النظر ولا يضبطها الفَهم فيزيلهما بتقارب حروف الصغير. وأما النفسُ الأمارة المتتلمذة عند الشيطان فتظن صغرَ الجسم سببَ صغر الصنعة، فتجوِّز صدورَها من أسباب صمٍ عُميٍ، وتدّعى في الكبير المنبسط عدم الكتابة بالحكمة، ووجودَ العبثية والتصادف..

اعلم ([33]) أنه إن قيل: إن الجودَ المطلق والرزقَ بلا حساب يلائمان العبثيةَ، وينافيان الحكمة من جهة ؟ يقال له:

نعم؛ إن انحصرت الغايةُ في الواحدة مع أن لكل شيء لا سيما حيّ، غاياتٍ متعددةً وثمرات متنوعة ووظائفَ مختلفة. ألا ترى أن للسانك وظائفَ بعدد شعر رأسك؟ فالجود باعتبارٍ غايةٌ بلا حساب وباعتبارٍ وظيفةٌ لا ينافي الحكمة والعدالة في وجوده الناظر إلى مجموع الغايات والوظائف، كالعسكر المستخدَم في تعقيب ذي جناية أو في حماية قافلة مثلاً. ففي العسكر كثرةُ وجود بلا حساب بالنسبة إلى أمثال هذه الخدمات الجزئية مع القلة والمساواة لما يلزم لحفظ الثغور والحدود وسائر الغايات..

اعلم أنه يمكن أن يُتَصَوَّرَ الإنسانُ خلف أثره وصنعته الجزئية، ولا يمكن في مصنوع الصانع الأزلي إلاّ من خلف سبعين ألف حجاب خلف ذلك المصنوع الجزئي. ولو أمكن لك أن تنظر إلى مجموع مصنوعاته دفعةً؛ لارتفعت الحُجبُ الظلمانيةُ، وبقيت الحُجبُ النورانية. فالطريق الأقرب في نفسك، لا في الآفاق إلاّ بالعشق السديد.

اعلم([34]) أن أغلبَ مَن له نسلٌ من الحيوانات والنباتات ينوى كلُّ فرد -من الأغلب- الاستيلاءَ على وجه الأرض، ويريد التسلطَ عليها ليتخذَها مسجداً خالصاً لنفسه يَعبُد بإظهار أسماء فاطره، في كل جزءٍ منها عبادةً غير متناهية لخالقها الذي لا نهاية للياقته للعبادة. فإن شئتَ فانظر إلى البطيخ ونواتاته، والشجر والنواتات في ثمراته، والسمك وبييضاته، والطير وبيضاته، إلاّ أنّ ضيقَ عالَم الشهادة وإحاطةَ علم عالم الغيب والشهادة بما كان، وبما يكون، وبما لم يكن لو كان كيف يكون.. اقتضيا قبولَ عباداتها بالقوة([35])، ونياتها المندمجة في بذورها.

اعلم أن ذكر القرآن لبعض الغايات الراجعة إلى الإنسان إنما هو للإخطار([36]) لا للانحصار. أي لتوجيه نظره إلى الدقة في فوائد نظام ذلك الشيء ذي الغاية، وفي انتظامه الدال على أسماء صانعه؛ إذ الإنسان إنما يهتم بما له علاقةٌ ما به، فيرجّح ذرةً ما إليه على شمس ليست إليه.. مثلاً: ﴿وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ﴾( يس: 39) ﴿لِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ﴾(يونس: 5) هذه غايةٌ من ألوف غايات تقدير القمر، وليس المراد الانحصار، أي إنما خُلق ذلك لهذا، بل إن هذا المشهود لكم من ثمرات ذاك.

اعلم أن من سكّته التي لا تُقلَّد، ومن خاتَمه الذي يختص به، ومن أبهر براهين التوحيد في قدرة غير متناهية، وعلمٍ لا يتناهى في تصرفٍ مطلق، في إتقان مطلق، في سهولةٍ مطلقةٍ.. خلقُ أشياء مختلفات لا تُعد، من شيء واحد بسيط، كالنباتات بأشتاتها من التراب وكمختلفات أعضاء الحيوان دماً لحماً عظماً وغيرها من غذاءٍ بسيط.. وكذا خلقُ الواحد من أنواعٍ متباينة لا تحصى كجسد الإنسان -مثلاً- من مطعوماته الغير المحصورة..

فسبحان مَن هو القدير على أن يجعل شيئاً كلَّ شيءٍ، ويجعلَ كلَّ شيء شيئاً.

اعلم أن في ﴿أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ﴾( الواقعة: 64) سر عظيم ومثل عظيم!.. ([37]) إذ كما أنك تحفظ من التفتت والضياع بعضَ البذور وتدّخرها ثم تزرعها في مزرعتك.. كذلك إن الوارثَ الباعث الحفيظ الذي يحيي الأرضَ بعد موتها يكتب ثمرات أعمال جميع النباتات فيرثُها حافظاً لها، ثم يزرعها منثورةً بحكمة توزيعٍ وانتظام تقسيم بإطارة بعض البذور إلى الأطراف لا مجتمعةً خلف أصلها فقط، ثم ينشر أوراقَها وأزهارها حتى يصير نظير: ﴿وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ﴾( التكوير: 10) فانظر من شدة اهتمامك حتى تقتدرَ على حفظ بعض البذور، إلى كمال حفيظية الحفيظ المطلق في محافظةِ ما لا يعد من الصُنَيدقات اللطيفة المتضمنة لفهرستات أمهاتها المعيّنة بمسطر القدر، من مغيّرات ومُفسدات لا تحد في انقلابات لا تُعد، مع نهاية التمييز في نهاية الاختلاط. فهذا الحفظ لا يخليك غاربك على عنقك([38]) تفعل ما تشاء ثم تموت وتستريح.. ﴿أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَن يُتْرَكَ سُدًى﴾( القيامة: 36) كلا ليحاسبنّ على النقير والقطمير.

اعلم أن من وظائف الحياة الإنسانية؛ فهمَ الإنسان بمقياسية جزئيات صفاته وشؤونه وشؤون أبناء نوعه أو جنسه، لصفات فاطره وشؤونه. وأما فهمُ عظائم شؤونه الحشرية والأخروية وكليات أفعاله في القيامة وإحياء الأموات؛ فتحتاج لفهمها بالإذعان إلى جعل الفاعلية في الحشر الربيعي والقيامة الخريفية قياساً لشؤونه في القيامة الكبرى. انظر إلى الربيع لترى فيه تنظيراً -كتفسيرٍ- لأمثال: ﴿إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ﴾( التكوير: 1).

اعلم أن من عظمة إحاطة الإسلامية امتدادَ أساسات جدرانها من أعلى عليي كليات صفات ذي العرش، ومسائل خلق العرش والسماوات والأرض وملائكتها، إلى جزئيات خطراتِ القلب. مع امتلاء ما بينهما بدساتير محكمةٍ رصينةٍ.

*  *  *

بسْمِ اللّٰه الرَّحْمن الرَّحِيْم

﴿فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُم بِاللّٰه الْغَرُورُ﴾( لقمان: 33)

اعلم([39]) يا من يدعو المسلمين إلى الحياة الدنيوية التي هي لعِبٌ في نوم ولهو، ويشوقهم للخروج من دائرة ما أحلّه اللّٰه من الطيبات الكافية (لكيفهم) ([40])، إلى الدخول في دائرة ما حرَّمه من الخبيثات المنغّصة التي تجبرهم على ترك بعض شعائر دينهم أو ترك دينهم.. إن مثَلَك معهم ([41]) كمثل سكران بسُكر لا يميّز بين الأسد المفترس، والفرس المؤنس؛ ولا يفرق بين آلة الصَلب، وآلة لعب الصبيان من الحبل المتحرك في الهواء؛ ولا يعرف الجرحَ المبرّح من الورد المفرّح، بل يظن الأسدَ فرساً، وآلة الصلب حبلَ اللعب، والجرحَ المقشعر الورد المحمرّ. ومع ذلك يظن نفسه مرشداً مصلحاً.. فجاء إلى رجل هو في وضعيةٍ مدهشة؛ إذ خلف هذا الرجل أسدٌ عجيب متهيئ للهجوم في كل آن، وقدامَ الرجل آلة الصلب قد نُصِبتْ، وفي جنبيه جرحةٌ عميقة قد انفرجت، وقرحةٌ مزعجة قد انفجرت.. وفي يديه علاجان إذا استعملهما، انقلب بإذن اللّٰه الجرحان وردَين محمرّين. وفي لسانه وقلبه طلسمان إذا استعملهما انقلب بأمر اللّٰه الأسدُ فرساً يركبه إلى حضور سيده الكريم الذي يدعوه إلى دار السلام يضيّفه. وانقلب حبلُ الفراقِ والصلب المتدلي من شجر الزوال والفناء بلطف اللّٰه آلةَ السير والتنـزّه، والمرور بالاهتزاز على المناظر السيالة المتجددة وعلى المرايا الجوالة المتبدلة، لازدياد لذة تجدد تجليات الجمال المجرد الدائم التجلي والظهور، على مرّ الفصول والعصور والدهور. ولازدياد اللذةِ في تجدّد صوَر الإنعام والنِّعم على مرِّ الأنام والأيام والأعوام. ثم يقول ذلك السكران الذي هو أيضاً في مثل تلك الوضعية لذلك الرجل: اترُك الطلسمَين واطرح العلاجين وتعال نَلْهُ ونلعبْ ونرقص ونطرب! فيقول له الرجل: يكفي لكيفي ما يساعده حِرز الطلسمين وحفظ العلاجين. ولا يمكن اللذة والسعادة في ما عداه. إن أمكن لك أن تقتل أسدَ الموت الذي «لا يموت إلا في الجنة» ([42]).. وأن ترفع هذه الآلة المسمَّرة في الأرض إلى الثرى بحكم حاكم الأرض، أي تزيل آلةَ الزوال بتبديل الأرض غير الأرض.. وأن تشفيَ من هذا الجرح المستولى على كلَّية حياتي، بتبديل حياتي العاجزة الفانية حياةً باقيةً قادرة على الإطلاق وأن تُبرئ هذه القرحة المحيطة بكلية ذاتي، بتحويل ذاتي الفقيرة ذاتاً سرمديةً غنيةً على الإطلاق. وإذ لم يمكن لك هذه الأمور «الأربعة» لا يتيسر لك أيها الشيطان السكران أن تخدع إلاّ مثلَك سكراناً بسُكرٍ لا يميّز بين الضحك والبكاء، والبقاء والفناء، والداء والدواء، والهوى والهدى. وأما أنا «فحسبي اللّٰه ونعم الوكيل نعم المولى ونعم النصير».. فإذا تفطنتَ لسر التمثيل، أو اشتقت إلى رؤية صورة الحقيقة؛

فاعلم أن تلاميذ المدنية السفيهة الضالة، وطلبةَ الفلسفة السقيمة المضلة، قد سُكروا باحتراصات عجيبة وتفرعنات غريبة، فجاؤوا يدعون المسلمين إلى اتّباع عادات الأجانب، وترك شعائرَ فيها شعورٌ وإشعار بأنوار الإسلام، فيقابلهم تلامذة القرآن بـ:

يا أيها الضالون الغافلون! إن اقتدرتم أن ترفعوا من الدنيا الزوال والموت. ومن الإنسان العجز والفقرَ فاستغنوا عن الدين وشعائره، وإلاّ فاخسؤوا واتركوا وسوَستَكم ودمدمتكم التي هي كزمزمة الذباب([43]) في ما بين نعرات هذه الرعود الأربعة ، والآيات التكوينية المنادية بأعلى صوتها على لزوم الدين بشعائره ﴿وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُواْ لَهُ وَأَنصِتُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾(الأعراف: 204).

نعم، إن خلفي أسد الأجل يهددني دائماً، فإن استمعتَ بسمع الإيمان صدى القرآن، انقلب الأسدُ فرساً، والفراقُ بُراقاً يوصلني إلى رحمة الرحمن الرحيم وإلى حضور سيدي الحنّان الكريم. وإلاّ صار الموت أسداً مفترساً يمزقني على رغمي، ويفرّقني عن جميع محبوباتي فراقاً أبدياً. وكذا بين يدي وأمامي آلات الفناء والزوال، قد نُصبت وتدلت في اختلاف الليل والنهار، وآلات الهلاك والفراق قد تموجت على أمواج الفصول والعصور. فهذه الآلاتُ نصبت لصلبي مع جميع أحبابي، فإن أصغيت بصماخ الإيقان لإرشاد القرآن انقلبت تلك الآلاتُ مركبَ السير والتنـزّه في نهر الزمان وبحر الدنيا لمشاهدة تجدّد تجليات شؤونات القدرة على صفحات الفصول، بزنبرك([44]) الشمس وسير القمر ودوران الأرض للتعمم([45]) بلفائف الليل والنهار، والتقمّص بحُلتي الصيف والشتاء. ولمشاهدة تجدد جلوات الأسماء على المظاهر السيالة والمرايا المتحولة والألواح المتبدلة في اختلاف الليل والنهار.

وكذا، إنَّ في جنبي الأيمن من الفقر الغير المحدود قرحةً مستوليةً، فمع أني أعجزُ من أعجزِ حيوان من جنس الحيوان، إني أفقرُ من جميع الحيوانات، أي: حاجاتي المعنوية والمادية تساوي حاجات الكل، مع أن اقتداري أقلُّ من فعالية عصفورة. فإن تداويتُ بشفاء القرآن انقلب الفقرُ المطلق الأليم شوقاً لذيذاً إلى ضيافة الرحمة، واشتهاءً لطيفاً لتناول ثمرات رحمة الرحمن الرحيم. فيزداد لذةُ الفقر والعجز بمراتب على لذة الغناء والقوة. وإلاّ بقيت في آلام إزعاجات الحاجات، وفي ذل السؤال والتعبد لكل ما عنده حاجة من مطالبي، والتذلل لكل شيء.

وفي جنبي الأيسر أيضاً، جرحٌ عميق هو عجزٌ وضعفٌ بلا حد في مقابلة أعداء ومهالكَ بلا عدٍّ. فألم الخوف يزيل لذةَ الحياة الدنيوية.. فإن أنصتُّ بالتسليم لدعوة القرآن، انقلب عجزي تذكرةَ دعوةٍ للاستناد بالقدير المطلق، والاتصال بسر التوكل بنقطة استناد فيها أمنٌ وأمان من الأعداء. وإلاّ بقيتُ مضطرباً بين أعداءٍ متشاكسين لا تعد، بعجز لا يحد.

وكذا إنّي على جناح سفر طويل، يمر على القبر والحشر إلى الأبد، فلا يرينا العلم والعقل نوراً ينوّر ظلمات تلك الطريق، ولا يعطينا رزقاً يصير زادَ ذلك السفر؛ إلاّ ما يُقتَبس من شمس القرآن ويؤخَذ من خزينة الرحمن. فإن وجدتَ شيئاً يمنعني عن هذا السفر، لكن غيرَ قطع الطريق بالضلالة التي هي قبول السقوط من فم القبر في دهشة ظلمات العدم الذي هو أهوَلُ وأدهشُ، فقل.. وإلاّ فاسكت حتى يقولَ القرآن ما يقول. فبعدما قرأتْ هذه الآياتُ الخمسة ([46]) من كتاب العالم على رأس الإنسان آية: ﴿فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُم بِاللّٰه الْغَرُورُ﴾(لقمان: 33) كيف يجوز اتّباعُك أيها الغِرّ المغرور؟ ولا يختار مشرَبَك إلاّ سكرانُ بشراب السياسة، أو حرصِ الشهرة، أو شهوةِ السُمعة، أو رقةِ الجنسية، أو زندقةِ الفلسفة، أو سفاهة المدنية وغيرها مما يُسكَر بمثله.. مع أن هذه الضربات القارعةَ على رأس الإنسان، وهذه الأهوال التي تضرب وجهَ البشر سيطيّر سُكره. ومع ذلك إن الإنسان ليس كالحيوان مبتلىً بآلام الحال فقط، بل يضرب رأسَه خوفُ المستقبل وحزنُ الماضي مع ألم الحال.

فإن أردتَ أن لا تبقى أشقى وأذلَّ وأحمقَ وأضلَّ من جميع الحيوانات؛ فأنصت واستمع بسمع الإيمان بشارة القرآن بإعلان: ﴿أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللّٰه لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ * لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَياةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ لاَ تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللّٰه ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾(يونس: 62-64).

 

*  *  *

بسْمِ اللّٰه الرَّحْمن الرَّحِيْم

﴿وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ *وَطُورِ سِينِينَ * وَهَذَا الْبَلَدِ الأَمِينِ * لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ* ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ * إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ﴾(سورة التين).

اعلم([47]) أن إتقان الصنعة وكمالَها في كل شيء يدلّ على أن صانع الكلِّ كما أنه عند كلٍّ في كلِّ مكان ليس في مكان وليس عند شيء.

وأن الإنسان لاحتياجه إلى كل شيء من أصغر جزء جزئي إلى أكبر كل كلّي، لا يليق أن يَعْبُد إلاّ مَن «بيده ملكوتُ كل شيء، وعنده خزائنُ كل شيء».

وأن نفسَ الإنسان من جهة الوجود والإيجاد والخير والفعل في غاية الصغر والقصور والنقص، أدنى من النمل والنحل وأضعفُ من العنكبوت والبعوضة. ومن جهة العدم والتخريب والشر والانفعال، أعظمُ من السماوات والأرض والجبال. مثلاً: إذا أحسن، أحسن بما تسعه ذاتُ يده وتصل إليه قوةُ ذاته. وإذا أساء، أساء بما يتعدى وينتشر.

فبسيئةِ الكفر يحقّر مجموعَ الكائنات والموجودات بتنـزيل قيمتها من أوج كونها مكتوباتٍ ربّانيةً ومرايا إلهيةً إلى حضيض صيرورتها موادَّ متغيرةً سريعةَ الزوال والفراق، يلعب بها التصادفُ بالعبثية.. ويُسقط الإنسانَ الذي هو قصيدةٌ منظومة موزونة معلنة لجلوات الأسماء القدسية، ونواةٌ لشجرة باقية، وخليفةٌ تفوَّقَ على أعاظم الموجودات بحمل الأمانة، إلى دركة جعْلِهِ أذلَّ من أذلّ حيوان زائل فانٍ، وأضعفَ وأعجزَ وأفقر.

وكذا إن الإنسانَ من جهة «أنا» له اختيارٌ كشعرة، واقتدار كذرة، وحياة كشعلة، وعمرٌ كدقيقة، وموجوديةٌ هي جزء جزئي مما لا يعد من أنواع لاتحد في طبقات الكائنات.. ولكن من جهة عجزه وفقره له وسعةٌ عظيمة إذ له عجز عظيم بلا نهاية، وفقر جسيم بلا غاية، يتيسر له أن يصير مرآة واسعة لتجليات القدير بلا نهاية والغني بلا غاية.

وكذا إن الإنسان من جهة الحياة الدنيوية المادية الحيوانية كنواة، تصرف الجهازاتِ المعطاةَ لها للتسنبل والتشجر في وسعة عالم الفضاء إلى جلبِ موادَّ واهيةٍ في مضيق التراب إلى أن تتفسخَ بلا فائدة.. فمن جهة الحياة المعنوية كشجرة باقية امتدت أغصانُ آمالها إلى الأبد.

وكذا إن الإنسان من جهة الفعل والسعي المادي حيوانٌ ضعيف عاجز، له دائرة ضيقةٌ نصف قطرها مَدُّ يده.. ومن جهة الانفعال والدعاء والسؤال؛ ضيفٌ عزيز للرحمن الذي فتح له خزائنَ رحمته وسخّر له بدائعَ صنعته، له دائرة عظيمة نصف قطرها مدُّ نَظَرِهِ بل خياله بل أوسع.

وكذا إن الإنسان من جهة لذة الحياة الحيوانية وكمالها وسلامتها ومتانتها أدنى من العصفور بمائة درجة لتنغُّص لَذّاتِه بأحزان الماضي ومخاوف الاستقبال.. ومن جهة الجهازات وتفصّل الحواس وتنوع الحسيات وانبساط الآلات وتكثّر مراتب الاستعدادات -المشيرة هذه الحالة- إلى أن وظيفته الأصليةَ هي: الشهودُ لتسبيحات الموجودات، والشهادةُ عليها، والتفتشُ بالتفكر، والنظارةُ بالعبرة، والدعاءُ للحاجة، والعبودية بدرك العجز والفقر والقصور.. ومن وجه جامعية استعداده المستعد لأنواع العبادات أعلى من أعلى عصفور بمائة مراتب. فبالبداهة يعلم من له عقل؛ أنّه ما أُعطي له هذه الجهازات لهذه الحياة ، بل لحياة باقية.. مثلاً: إذا رأينا أحداً أعطى لأحد خدَمه عشرة دنانير ليشتري لنفسه لباساً من قماش مخصوص، فاشترى من أعلاه. ثم أعطى لآخر ألف دينار للاشتراء. نعلم يقيناً أن هذا ليس لاشتراء لباس من ذلك القماش الذي ما قيمةُ أعلاه إلا عشرةُ دنانير، بل إنما أُعطي لما هو أغلى وأعلى بمائة مراتب. فإذا اشترى لبلاهته بالألف لباساً من ذلك مع أن ما اشتراه أدنى بمائة درجة من لباس الأول، لابد أن يعاقَب عقاباً مديداً ويؤدَّب تأديباً شديداً.

وكذا إن الإنسان بقوة ضعفه، وقدرة عجزه أقوى وأقدر بمراتبَ، إذ يُسخَّر له بالدعاء والاستمداد ما لا يَقتدر على عُشر معشاره باقتداره. فهو كالصبي يصل ببكائه إلى ما لا يصل إليه بألوف أضعاف قوته. فيتفوقُ بالتسخير لا بالغلبة والغصب والجلب. فعليه أن يعلن عجزه وضعفَه وفقرَه وفاقته بالاستمداد والتضرع والعبودية.

وكذا إن الإنسان من جهة نظاريته لمحاسن كمالات سلطنة الربوبية، ودلاّليته لبدائع جلوات الأسماء القدسية وفهمه بطعمه لمدخرات خزائن الرحمة، وعلمه بوزنه لجواهر كنوز الأسماء المتجلية، وتفكره بمطالعته لمكتوبات قلم القدرة، وشوقه برؤيته للطائف المصنوعات.. أشرفُ المخلوقات وخليفةُ الأرض.

*  *  *

بسْمِ اللّٰه الرَّحْمن الرَّحِيْم

﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللّٰه﴾(فاطر: 15).

﴿فَفِرُّوا إِلَى اللّٰه﴾(الذاريات: 50).

اعلم أيها السعيد القاصر العاجز الفقير! أن في نفسك قصوراً بلا نهاية، وعجزاً بلا غاية، وفقراً بلا انتهاء، واحتياجاً بلا حد، وآمالاً بلا عدّ. فكما أُودع فيك الجوعُ والعطشُ لمعرفة لذة نعمته تعالى، كذلك رُكّبْتَ من القصور والفقر والعجز والاحتياج لتنظر بمرصادِ قصورك إلى سرادقات كماله سبحانه، وبمقياسِ فقرك إلى درجات غناه ورحمته، وبميزانِ عجزك إلى قدرته وكبريائه، ومن تنوع احتياجك إلى أنواع نِعَمه وإحسانه.

فغايةُ فطرتك هي العبودية. والعبودية؛ أن تعلن عند باب رحمته: قصورَك بـ«استغفر اللّٰه » وبـ«سبحان اللّٰه».. وفقرَك بـ«حسبنا اللّٰه» وبـ«الحمد للّٰه » وبالسؤال.. وعجزَك بـ«لا حول ولا قوة إلاّ باللّٰه » و بـ« اللّٰه أكبر» وبالاستمداد.. فتُظهرَ بمرآة عبوديتك جمالَ ربوبيته.

*  *  *

بسْمِ اللّٰه الرَّحْمن الرَّحِيْم

﴿إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ﴾(الانفطار: 13-14).

اعلم ([48]) أيها السعيد الغافل!. أن لكل أحدٍ في سفر حياته طريقين إلى القبر، والطريقان متساويان في القصر والطول.

لكن أحدهما؛ مع أنه لا ضرر فيه، فيه منفعةٌ عظيمة بشهادات أهل الشهود المتواترين وإجماعهم. يصل إلى تلك المنفعة العظيمة من عشرةِ سالكيه تسعةٌ.

والآخَر؛ فمع أنه لا نفعَ فيه بالاتفاق، فيه ضررٌ عظيم بإجماع أهل الخبرة والشهود. فاحتمالُ الضرر من العشرة تسعة، إلاّ أن مَن يسلك في هذا لا يحمل سلاحاً ولا زاداً فيخفّ في الظاهر ويخلص من ثقل مَنٍّ([49])، لكن يحمل على ظهر قلبه مائة مَنٍّ مِن المِنّة ويثقل على عاتق روحه أحمال الأهوال والمخاوف. ولأن التمثيل يريك المعقول محسوساً، نمثل لهذه الحقيقة مثالاً :

مثلاً : تريد أن تذهب إلى إستانبول، أو تُرسَل إليه، ومن مكانك إليه طريقان؛ يميناً وشمالاً متساويان قصراً وطولاً، متخالفان نفعاً وضراً خفةً وكلفةً. ففي جانب اليمين نفعٌ عظيم بإجماع أهل الشهود والاختصاص بلا ضررٍ وبالاتفاق.. وحمل سلاح ومِزوَد زادٍ بمقدار مَنّ، مع خلاص الروح والقلب من ثِقَلة حمل المنّة والخشية اللتين هما في ثقلة الجبال.. وفي اليسار ضرر بشهادات ملايينَ من أهل الخبرة والشهود وبلا نفع باتفاق الموافقين والمخالفين، مع خفة ظاهر في طرح السلاح الصارم اللازم وترك الزاد الألذّ الألزم. لكن حَمَل([50]) على عاتق روحه بدل (قيتي)([51]) السلاح قناطيرَ الخوف، وعلى ظهر قلبه بدل أربع (حقات) ([52]) الزاد مائة مَنٍّ من المِنّة. إذ قد يخبر الشاهدون الصادقون أن الذاهبين بيُمن الإيمان في اليمين في أمنٍ وأمان في مدة سيرهم، وإذا وصلوا إلى البلد حصل لتسعةٍ من العشرة نفع عظيم وربح جسيم. وأن الماشين بشؤم الضلالة والبطالة والبلاهة في اليسار، لهم في مدة سيرهم اضطرابٌ عظيم من الخوف والجوع، يتنـزل الماشي لكل شيء لخوفه في ضَعفه في عجزه، ويتذلّل لكلِ شيءٍ لاحتياجه في فقره. وإذا وصلوا إلى البلد يُحْبَسون أو يُقتَلون لا ينجو إلاّ واحد أو اثنان. فمَن له أدنى عقلٍ لا يرجّح ما فيه احتمالُ الضرر، على ما لا ضرر فيه لأجل خفةٍ قليلة. فكيف يرجّح ما فيه أعظم الضرر من المائة بتسعة وتسعين احتمالاً، على ما فيه أَعظم النفع بتسعة وتسعين احتمالاً لأجل خفّة جزئية في الصورة، مع ثقلةٍ كلّيةٍ في الحقيقة؟

أما المسافر فأنتَ. وأما استانبول فعالم البرزخ والآخرة. وأما الطريق الأيمن، فطريق القرآن الآمر بالصلاة بعد الإيمان. وأما الطريق الأيسر، فطريق أهل الفسق والطغيان. وأما أهلُ الخبرة والشهود، فالأولياء المشاهدون؛ إذ ذو الولاية ذو ذوق شهودي في الحقائق الإسلامية، فما يعتقده العامي قد يشاهده الولي. وأما السلاح والزاد، ففي ضمن التكليف المتضمِّن للعبودية المتضمنة للصلاة المتضمنة لكلمة التوحيد المتضمنة لنقطتي الاستناد والاستمداد المتضمنتين للتوكل على القدير الحفيظ العليم وعلى الغني الكريم الرحيم.. فخلُصَ من التنـزل والتذلل لكل شيء له فيه جهة ضرٍّ أو نفع. إذ «لا إِلهَ إِلاَّ اللّٰه» يفيد أن لا نافعَ ولا ضار إلاّ هو ولا نفعَ ولا ضرَّ إلاّ بإذنه.

*  *  *

بسْمِ اللّٰه الرَّحْمن الرَّحِيْم

﴿وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ﴾(العنكبوت: 64).

اعلم ([53]) أيها السعيد المسافر إلى الشيب، إلى القبر، إلى الحشر، إلى الأبد!. إن ما أعطاك مالكُك من العمر لتحصيل لوازمات الحياتين بقدر الطول والقصر، قد ضيعتَه كلَّه في هذه الحياة الفانية التي هي كقطرة سرابٍ بالنسبة إلى البحر، فإن كان لك عقل فاصرف نصفَه أو ثلثه لا أقل عُشرَه للباقية. ومن العجائب أن يقال لمثلك مِن أحمق الناس هو عاقل ذو فنون.

مثلاً: هل ترى أحمقَ من عبدٍ أعطاه سيدُه أربعة وعشرينَ ديناراً وأرسله من «بوردور»، إلى «انطالية»([54])، إلى «الشام»، إلى «المدينة»، إلى «اليمن». وأمره أن يصرف تلك الدنانير في لوازمات سفره ، لكن إلى «انطالية»، يمشي راجلاً له نوع اختيارٍ، لو لم يصرف شَيئاً لوصل أيضاً. ومنها إلى سائر منازله لا اختيار له، إن اشترى وثيقةً لركب سفينةً أو (شمندوفراً)([55]) أو طيارةً وقطع مسافة شهرٍ في يومٍ . وإلا لذهب ماشياً طريداً تائهاً وحيداً . مع أن ذلك السائح الأبله صرف ثلاثة وعشرين ديناراً في مسافة يومين!

فقيل له : فلا أقلَّ فاصرف الواحد لِزاد السفر الطويل، يمكن أن يرحمك سيدُك.

فقال : لا أصرف لاحتمال عدمِ الفائدة.

فقيل له: فيا للعجب لبلاهتك إلى هذه الدرجة!.. كيف يفتيك عقلُك أن ترمي نصفَ مالك في قمار (البيانكو) ([56]) وهو ثمانية وأربعون ديناراً، مع اشتراك ألف إنسان برجاء الظفر بألفِ دينارٍ، باحتمال واحد من ألف احتمالٍ. فكيف لا يفتيك هذا العقلُ بأن تعطي جزءً واحداً من أربعة وعشرين جزءً من مالكَ لتظفر بكنوزٍ لا نفاد لها بتسعمائة وتسعة وتسعين احتمالاً بشهادات ملايين من أهل الخبرة والاختصاص. مع أنه يُهتم في مثل هذه المنفعة الجسيمة بإخبار واحدٍ عامي، فكيف بإخبارياتِ شموس البشر ونجومه المتواترين وأهل الشهود الذين يُرجَّح اثنان من مثبتي أهل الشهود على ألوف النافين المنكرين، كما يرجَّح شاهدان لهلال رمضان على ألوف المنكرين لرؤيته.

أما العبد المسافر فأنت. وأما «بوردور» فدنياك. وأما «انطاليه» فالقبر. وأما «الشام» فالبرزخ. وأما  «اليمن» فما بعد الحشر. وأما الدنانير الأربعة والعشرون، فأربعٌ وعشرون ساعة في عمر اليوم، تصرف ثلاثاً وعشرين ساعةً لمصالح الحياة الفانية؛ وتتهاونُ في صرف ساعةٍ واحدةٍ في أداء خمس صلوات التي هي من ألزم الزاد في السفر الطويل !

هذا التمثيل لبيان سر من أسرار الآية الكريمة: ﴿وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ * وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ﴾(الشعراء: 90،91).

اعلم ([57]) يا أيها الغافل التارك للدين في طلب الدنيا! أحكي لك حكايةً تمثيليةً، فيها مثال قسم من حقائق الدنيا والدين.

كان فيما غبرَ من الزمان أخوَان، فذهبا إلى أن انقسم الطريق طريقين: في أحداهما كلفة اتّباع القوانين، وفي الأخرى لا كلفةَ في الظاهر.. فذو الخُلق الحَسن اختار جانب اليمين مع الكلفة الخفيفة. وذو الخُلق السيئ اختار جانب اليسار مع الخفة الثقيلة. فذهب ذو الشمال فيما بين القِفار إلى أن دخل صحراءَ خالية فسمع صوتاً هائلاً، فرأى أسداً مدهشاً يهجم عليه، ففرّ إلى أن صادف بئراً عميقاً بستّين ذراعاً، فرمى نفسه فيه، فسقط ثلاثين ذراعاً فوصل يدُه إلى شجرة في جداره، ولها عِرقان؛ قد تسلطت عليهما فأرتان بيضاء وسوداء تقطعان العرقين. فنظر فيما تحته فرأى ثعباناً عظيماً رفع رأسه إلى قرب رجله، وسعةُ فمه كفم البئر. ونظر في جوانبه فرأى حشرات مضرّة مؤذيةً. فنظر إلى الشجرة فرآها شجرة التين، لكن أثمرت أنواعاً متباينةً من ثمرات الأشجار المختلفة، فبينما ضجت لطائِفُه من دهشة الوضعية، إذ تجاهلت نفسُه بالتغافل مع أنينات لطائفِه، فحسِبَ بالمغالطة أنه في بستانٍ، فبسرّ حديث: (أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي ) ([58]) هكذا ظنَّ، فهكذا عُومل. فبقى أبداً بين هذه الأهوال لا يموت ولا يحيى. فهذا المسكين بسوء فهمه لم يتفطن أنه لا يمكن التصادف في هذه الأمور المطلسمة.

فلنرجعْ ونترك هذا المشؤوم في عذابه؛ ولنذهب خلف الأخ الميمون المتيامن. فهذا يذهب مستأنساً بحُسن ظنه الناشئ من حُسن سيرته. انظر كيف استفاد بحُسن نَظره مما لم يستفد منه أخوه، إذ صادف في طريقه بستاناً فيه أثمارٌ وأزهار، مع مستقذراتٍ وميتات. فتنـزّه بالمستحسنات ولم يلتفت إلى الملوَّثات كأخيه. ثم ذهب حتى دخل في صحراء خالية فسمع صوتَ الأسد الهاجم، فخاف لكن لا بدرجة أخيه، باحتمال أن الأسدَ مأمورُ سلطان الصحراء، ففرّ فصادف بئراً بستين ذراعاً فطرح نفسه فيه، فتعلق في نصفه بشجرة لها عِرقان، تسلطت عليهما فأرتان تقطعانهما، فنظر فوقه فرأى الأسد؛ ونظر تحته فرأى ثعبانا عظيماً -فمه كفم البئر- تقرُب إلى رجليه، فتدهّش من الخوف لكن أدنى بمراتب من دهشة أخيه. لأنه تفطّن بحُسن ظنِّه وفهمه من تناظر هذه الأمور العجيبة أن فيه طلسماً، وأنها تحت أمر حاكم ناظر إليه يجرّبه. فتولّد من خوفه (مَرَق) معرفَةِ مَن هو الذي يتعرّف إليَّ ويسوقنى إلى أمرٍ من عنده. فتولد من (مرقه) محبة صاحب الطلسم. فنظر إلى رأس الشجرة فإذا هي تينة أثمرت أثماراً متباينةً فزال خوفه بالكلية، وتيقن أنه تحت حُكم طلسم، إذ لا يمكن أن تثمر التينة ثمرات سائر الأشجار. فما هي إلا إشاراتٌ إلى ألوان الأطعمة التي أعدّها ذلك الملك الكريم لضيوفه. فتولد من محبته له طلبُ ما يفتح به الطلسم ويرضى به الطلسم، فأُلهِمَ المفتاح، فنادى: تركتُ الكلَّ لك، وتوكلتُ عليك! فانشقّ الجدار، فانفتح بابٌ إلى جنانٍ نـزيهة. فرأى الأسد والثعبان انقلبا خادمَين يدعوانه إلى الدخول..

فانظر إلى تفاوت حال الأخوين: ذاك ينتظر الدخولَ في فم الحية، وهذا يُدعى إلى الدخول في باب البستان المنوّر المزهر المثمر.. وذاك في دهشة أليمةٍ وخوف يتفطّر منه أعماقُ قلبه، وهذا في عبرة لذيذة وخوف تتقطر منه محبةٌ وحرمة ومعرفة.. وذاك في وحشةٍ ويأسٍ ويُتمٍ، وهذا في أُنسيةٍ ورجاء واشتياق.. وذاك في هدفِ تَهاجُم الأعداء الموحشة، وهذا ضيف يستأنس بخدام المضيف.. وذاك يعجِّل عذابَه بأكل الثمرات اللذيذة التي أُذن في طعمها لاشتراء ما هي من أنموذجها لا إلى أكلها، إذ في بعضها سمٌّ. وهذا يؤجّل الأكلَ ويلتذ بالانتظار..

فإذا تفهّمتَ دقائق التمثيل فاعرف أوجه التطبيق: أما الأخَوَان فالروحُ المؤمن والكافر، والقلبُ الصالح والفاسق. وأما الطريقان فطريق القرآن والإيمان، وطريق العصيان والطغيان. وأما الصحراء فالدنيا. وأما الأسد فالموت. وأما البئر فالبدن والحياة، وأوسط العمر ستون. وأما الشجر فالعمر. وأما الفأرتان البيضاء والسوداء فالنهار والليل. وأما الثعبان فالبرزخ الذي فمه القبر.. وأما الحشرات المضرة فالمصيبات.. وأما الثمرات فالنعم الدنيوية المشابهة المذكِّراتُ لثمرات الجنة.. وأما المسمومة منها فالمحرّمات. وأما الطلسم فسر حكمة الخلقة.. وأما المفتاح فـ ﴿اللّٰه لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ﴾(البقرة: 255) أي -يا اللّٰه أنت معبودي ورضاك مطلوبي- و«لا إله إلا اللّٰه». وأما تبدّلُ فم الثعبان بباب البستان ؛ فلأن القبرَ لأهل القرآن والإيمان باب إلى رحمة الرحمن في دهليز الجنان. ولأهل الضلالة والطغيان باب إلى ظلمات الوحشة والنسيان في برزخ كالزندان ([59]) كبطن الثعبان. وأما تبدلُ الأسد المفترس فرساً مونساً؛ فلأن الموتَ للضال فراقٌ أبدى عن جميع محبوباته، وإخراجٌ له من جنته الكاذبة الدنيوية إلى زندان القبر في الانفراد. وأما للهادي فوصالٌ إلى أحبابه، ووصولٌ إلى أوطانه، وخروج من زندان الدنيا إلى بستان الجنان لأخذ أُجرة الخدمة من فضل الحنّان، المنّان الديّان الرّحمن. جل جلالُه ولا إله إلا هو.

اعلم([60]) أيها السعيد المغرور المفتخر بما لم تفعل! أنه لا حقَّ لك في الفخر والغرور؛ إذ ليس منك في نفسك إلا القصور والشر. وإن كان خيراً فهو جزئي كجزئك الاختياري، لكن بجزئك الاختياري تفعل شرّاً كلياً، إذ بقصورك تُسقِط ثمرات سائر الأسباب المتوجهه إلى مقصودك. فتستحق خسارة كليةً وخجالةً عامةً، لكن عكستَ القضية فَتَفَرْعَنت..

مثَلُك في هذا، كمثل مغرورٍ أحمق صار شريكاً لجماعةٍ في التجارة بسفينةٍ، ففعل كل واحد وظيفته، فترك هو وظيفته التي بها تتحرك السفينة حتى غرقت فخسروا ألف دينارٍ، فقيل له: الحقُّ أنّ كلَّ الخسارة عليك، فقال : لا، بل تنقسم علينا فعليَّ بمقدار حصتي. ثم في سفر آخر، فعلَ كما فعلوا فربحوا ألف دينار ؛ فقيل له : فليُقسم الربحُ على رأس المال، فقال: لا، بل كل الربح لي، إذ قلتم أولاً كل الخسارة عليك ، فإذن كل الربح لي. فقيل له: أيها الجاهل! «الوجودُ» يتوقف على وجود كل أجزاء الموجود والشرائط. فثمرةُ الوجود تُعطى للكل، والربح وجود. وأما الخسارة فثمرةُ العدم مع أن الكلَّ ينعدم بعدم جزء واحد وبفَقد شرطٍ.

فيا أيها السعيد اسماً، والشقي جسماً! تُرجَع ثمرةُ العدم على من صار سبباً للعدم، فلا حقَّ لك في الفخر والغرور.

أما أولاً: فلأن الشرَّ منك والخير من ربك.

وأما ثانياً: فلأن شرَّك كلي وخيرَك جزئي.

وأما ثالثاً: فلأنك أخذتَ أُجرة عملك الخير قبل العمل، بل لا تساوي جميعُ حسناتك لعُشر معشار عشير ما أنعم عليك مَن جعلك إنساناً مسلماً. ومن هذا السر تكون الجنة من محض الفضل، وتكون جهنم عين العدل؛ إذ قد يعمل البشر بشرّه الجزئي الآني جنايةً كليةً دائمةً.

وأما رابعاً: فلأن الخير إنما يكون خيراً إن كان للّٰه. فإذا كان له، فالتوفيق منه، فالمنّة له.. فالحقُّ «الشكرُ» لا «الفخر» بالإراءة والرياء الذي يصيّر الخيرَ شراً.. فمن جهلك بهذه الحقيقة صرتَ مغروراً في نفسك، غَروراً لغيرك.. فتسند حسنات الجماعة إليه فيتفرعنُ في نظرك، بل تقسِّم مالَ اللّٰه وفعلَه على الطواغيت.

وكذا من هذا الجهل إسنادُك سيئاتك التي هي منك -بالنص- إلى القدَرَ فراراً من المسؤولية، وتملّكُك للحسنات التي هي من فيض فضل فاطرك -بالنص- إلى نفسك، لتُحمَد بما لم تفعل.. فتأدّبْ بأدب القرآن: ﴿ما أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللّٰه وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ﴾( النساء: 79) فالتزم ما لَك، ولا تغصِب ما ليس لك.. وكذا تأدّب بآداب القرآن؛ بجعل جزاءِ السيئة مثلَها.. والحسنةِ عشرَ أمثالها.. فلا تُعدّي عداوتَك من المسيء بصفةٍ إلى أقاربه وإلى سائر صفاته.. وتجاوزْ بمحبتك من المحسن إلى أنسابه مع الصفح عن عيوبه. ([61])

اعلم ([62]) أيها السعيد الغافل الفضولي!. إنك تترك وظيفتَك، وتشتغل بوظيفة ربِّك. فمِن ظلمك وجهلك تركُك لوظيفة العبودية الخفيفة التي هي في وسعتك.. وحملُك على ظهرك ورأسك وقلبك الضعيف وظيفةَ الربوبية التي تختص بمن ﴿خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ * فِي أَيِّ صُورَةٍ مَّا شَاء رَكَّبَكَ﴾(الانفطار: 7،8) فالتزم وظيفتَك، وفوّض إليه وظيفته لتسعدَ وتستريح.. وإلاّ صرت عاصياً شقياً وخائناً غوياً. مثلُك([63]) كمثل نفرِ عسكرٍ له وظيفة أصلية هي التعليم المخصوص، والحرب والجهاد، والسلطان مُعينُه في هذه الوظيفة بإحضار لوازماتها، ولسلطانه وظيفةٌ مخصوصة هي إعطاء أرزاق ذلك النفر وتعييناته ولباسه حتى دوائه.. لكن قد يَستخدم النفر في وسائل هذه الوظيفة، لكن بحساب الدولة.

ومن هذا السر؛ إذا قلتَ لنفر يطبخ طعامه: ما تفعل؟ يقول: أفعل سُخرةً (وعنقرةً) ([64]) للدولة، ولا يقول أعمل لرزقي.. لعلمه أنه ليس من وظيفته، بل على الدولة حتى أن تُدخل اللقمةَ في فمه، إن لم يقتدر بالمرض مثلاً. فالنفر المشتغل بالتجارة لتدارك رزقه جاهلٌ شقيّ يُزيَّف([65]) ويؤدّب.. والتارك للتعليم والجهاد خائن عصيّ يُضرَب ويُعنَّف.

فيا سعيد الشقي! أنت ذلك النفر، وصلاتُك هي تعليماتك. وتقواك -بترك الكبائر ومجاهدتُك مع النفس والشيطان- هي حربُك. فهذه هي غاية فطرتك لكن اللَّٰهَ هو الموفق المعين. وأما رزقُك وإدامةُ حياتك وما يتعلق بك من الأموال والأولاد، فهي من وظيفة فاطرك، لكنه قد يستخدمك في وسائل قرع أبواب خزائن رحمته بالسؤال الفعلي أو الحالي أو القالي، وقد يستعملك في الذهاب في المسالك التي توصلك إلى مطابخ نعمته، فتطلب بلسان الاستعداد أو الاحتياج أو الفعل أو الحال أو القال ما عَيّن وَقَدّر لك. . فما أجهلَك في اتهامك -في حق رزقك- مَن رزقك أطيب الرزق، وأنت طفل صغير بلا اختيار ولا اقتدار ويرزق كل دابة لا تحمل رزقها وَهُو السميع العليم القدير الغني الذي جعل الأرض في الصيف مطبخةً لضيوفه يفيض فيوضه في ظروف الرياض، ويملأ أواني الأشجار بلذيذات الأطعمة.. فاعمل بحسابه وباسمه وبإذنه فيما استعملك فيه بعد إيفاء وظيفتك الأصلية.. فإذا تعارضا فعليك بوظيفتك فتوكل عليه، وقُلْ: حَسْبِيَ اللّٰه ونِعْمَ الوَكيلُ نِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصير.

*  *  *

بسْمِ اللّٰه الرَّحْمن الرَّحِيْم

﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ﴾(البقرة: 186).

وكذا ﴿ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ﴾(غافر: 60).

وكذا ﴿قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلا دُعَاؤُكُمْ﴾(الفرقان: 77).

اعلم ([66]) يا مَن يدّعي أنه يدعو ولا يُجاب! إن الدعاء عبادةٌ. وثمرة العبادة في الآخرة. وأما المقاصد الدنيوية فأوقاتُ تلك الأدعية التي هي عبادات مخصوصة.

فكما أن الغروبَ وقتُ صلاة المغرب. والخسوف والكسوف وقتُ صلاة الكسوفين لا غايةٌ لهما، وانقطاعَ المطر؛ وقتُ صلاة الاستسقاء، لا أن الصلاة وُضعت لنـزول المطر، بل هي عبادةٌ لوجه اللّٰه تدوم مادام لم ينـزل، وإذا نـزل المطر انقضى وقتُها.

وكذا، تسلّطُ الظالمين ونـزولُ البلايا أوقاتٌ لأدعيةٍ مخصوصة تدوم مادامت هي، فإن رُفعت بها فنورٌ على نور. وإن لم تُرفَع لا يُقال لم يُقبَل الدعاء، بل لم ينقضِ وقتُ الدعاء.

وأما وعد الإجابة في ﴿ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ﴾ فالإجابة غيرُ قبول الدعاء بعينها. بل الجوابُ دائمي، وإسعافُ الحاجة تابعٌ لحكمة المُجيب.

مثلاً: تقول لطبيبك: يا حكيم! فيقول: لبيك مجيباً.. فتقول: اعطني هذا الطعامَ أو الدواء. فقد يعطيك عينَ ما طلبت أو أحسنَ منه، وقد يمنعُك بضرورةٍ في مرضك. ومن أسباب عدم قبول الدعاء ظنُّ كونٍ الدعاء لهذه المقاصد الدنيوية. مثلاً : يُظن صلاةُ الاستسقاء موضوعةً للمطر فلا تكون خالصةً فلا تُقبل.

اعلم أن بالانقلاب ينفرجُ وادٍ معنويّ بين الطرفين، فلابد من جسر ممدود فيه مناسبة بين العالَمين ليمرَّ عليه بالتعريّ والتلبّس من هذا العالم إلى ذلك العالم. لكن الجسر له أشكالٌ متخالفة، وماهيات متباينة وأسماءٌ متنوعة باعتبار أجناس الانقلابات وبُعد مقام المنقلَب إليه عن نوع المنقلِب. فالنومُ جسرٌ بين عالم اليقظة والمثال. والبرزخ جسر بين الدنيا والآخرة. والمثال جسر بين العالم الجسماني والروحاني. والربيع جسر بين الشتاء والصيف. وأما في الحشر فليس فيه واحد، بل تندمج فيه انقلاباتٌ كثيرة عظيمة فجسرُها أعجبُ وَأعوج وأغرب!.

اعلم أن في إكثار ذكر القرآن لمآل ﴿إلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ﴾(الأنعام: 60) ﴿وَإلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾(البقرة: 28)، ﴿وَإلَيْهِ الْمَصيرُ﴾( المائدة: 18) ﴿وإليه مَآب﴾(الرعد: 36) بشارةً عظيمة، وتسليةً جسيمة -وإن تضمنت للعاصي تهديداً- إذ تقول هذه الآيات للناس: إن الموتَ والزوال والفناء والفراق من الدنيا ليست أبواباً للعدم والسقوط في ظلمات الفناء والانعدام، بل هي أبوابٌ للقدوم والذهاب إلى حضور سلطان الأزل والأبد. فهذه الإشارة تُنجي القلبَ من دهشة ألَمِ تصوُّر تَمزُّقِهِ مع جميع محبوباته بين أيدي عدَمَات هائلة غير متناهية، والتفرّق بين أنياب فراقات مدهشة. فانظر إلى دهشة جهنّم المعنوية المندمجة في الكفر!.. إذ بسر:( أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي) ظنَّ الكافرُ هكذا.. فصَوَّرَ فاطرُه ظنَّه عذاباً أبدياً عليه.. ثم انظر إلى درجة تفوّق لذة اليقين بلقاء اللّٰه حتى على الجنة. ثم بعدَه مرتبةُ الرضاء، ثم بعده درجة الرؤية، حتى إن جهنم الجسمانية للمؤمن العارف العاصي كالجنة بالنسبة إلى جهنم المعنوية للكافر الجاهل بخالقه. ولو لم يكن من البراهين الغير المحصورة للبقاء ووسائله، إلا «تضرّعاتُ حبيب المحبوب الأزلي» وقد اصطف خلفَه في تلك الصلاة الكبرى صفوفُ الأنبياء وصفوفُ الأولياء مؤمّنين على دعَواته ومناجاته، لكَفَتْ وسيلةً وبرهاناً. أ يمكن أن يوجد في هذا الحُسن الأبدع الأجمل، والجمال الأبرع الأكمل هذا القبحُ الأعجَبُ والنقصُ الأغرب؟.. أي بأن لا يَسمعَ مَن يَسمع أخفى هواجس الحاجات، لِأخفى المخلوقات بدليل قضائها في أوقاتها اللائقة، وأن لا يَقبلَ أرفعَ الأصوات الصاعدة من الفرش إلى العرش، وأحلى المناجاة، وأعظمَ الدعوات، في أشد الحاجات..؟ كلا ثم كلا ..هو السميع البصير.

نعم، هذه المعاملة من أوسع مراتب شفاعته عليه الصلاة والسلام وكونه رحمةً للعالمين.

اعلم أنه كثيراً ما أُصادف الغافلين وهم يتحججون بمسألة القَدر، ويتعمقون في مسألة الجزء الاختياري، وخَلق الأفعال.. مع أنهم بلسان غفلتهم ينكرون القدر رأساً ويعطون الأزمّة ليد التصادف، يتوهمون أنفسَهم فاعلين على الإطلاق، ويقسّمون مالَ اللّٰه وصُنعَه على أبناء جنسهم وعلى الأسباب. فالنفسُ الكافرة أو الغافلة في وقت الغفلة تسلب الكلَّ باطناً وإن أثبتت ظاهراً. والمؤمنةُ العارفة تثبت الكلَّ له إيماناً وإذعاناً؛ فهاتان المسألتان في الكلام، غايتان لحدود التوكّل والإيمان، ولمراقي التوحيد والإسلام، لأهل الصحو والحضور من العارفين، وبرزخٌ حاجز([67]). فأين أنتم أيها الغافلون المتفَرعنون في أنانيتكم، وأين التحقق بهاتين المسألتين؟ فإن ترقيتَ في المَحويّة والعبودية إلى درجة نفي الجزء الاختياري، وإلى مقام إحالة كل شيء على القَدرَ، فلا بأس عليك، إذ فيك نوعٌ من السُكر؛ إذ هما حينئذٍ من المسائل الإيمانية الحالية، لا العلمية التصورية.

اعلم ([68]) أن التواضعَ قد ينافي تحديث النعمة. وقد ينجرُّ تحديثُ النعمة إلى الكِبر والغرور، فلابد من الدقة والإمعان وترك الإفراط والتفريط.

وللاستقامة ميزان وهو: أن لكل نعمةٍ وجهين:

وجهٌ إلى المُنعَم عليه فيزيّنه ويميّزه ويتلذذ به، فيفتخر، فيقع في السُكر فينسى المالك، فيتملّك، فيظن الكمالَ بمُلكه الذاتي، فيتكبر بما لا حقّ له فيه.

ووجهٌ ينظر إلى المنعِم فيظهر كرمَه، ويُعلن رحمته، وينادي على إنعامه، ويشهد على أسمائه. وهكذا مما يتلو من آيات جلواته في إنعامه. فالتواضع إنما يكون تواضعاً إذا نظر إلى الوجه الأول، وإلاّ تضمن كفراناً. وتحديثُ النعمة إنما يكون شكراً معنوياً وممدوحاً إذا نظر إلى الوجه الثاني، وإلا تضمن تمدحاً وغروراً.

يا يوسف الكشرى([69]). إذا تلبستَ بلباس فاخر غالٍ لأخيك يوسف الكيشي، فقال لك سعيد: ما أحسَنك! فقل: الحُسن للّباس، لا لي، فتصيرَ متواضعاً في التحديث.

اعلم أن عِرقَ الرقابة والغبطة والحسد إنما يتحرك عند أخذ الأُجرة وتوزيع المكافأة وملاحظتِها. وأما عند الخدمة وفي وقت العمل فلا، بل الأضعفُ يحبُّ الأقوى، والأدنى يميل إلى الأعلى، ويستحسن تفوّقَه عليه، ويحب زيادته في الخدمة عليه؛ لأنه يتخفف عنه ثقلُ الخدمة وكلفةُ العمل. فإذ كانت الدنيا دار خدمة وعمل فقط للأمور الدينية والأعمال الأخروية، لابد أن لا يتداخل فيها الرقابةُ والحسدُ، وإذا تداخلت فيها الرقابة يظهر عدمُ الإخلاص، وأنّ العامل في تلك الأعمال يلاحظ مكافأةً دنيوية أيضاً، وهو تقديرُ الناس واستحسانُهم. ولا يعرف المسكينُ أنه بهذه الملاحظة أبطلَ عملَه -بدرجةٍ- بعدم الإخلاص بتشريك الناس برب الناس في إعطاء الثواب، وأضعفَ قوتَه بتنفير الناس عن معاونته.

اعلم أن معنى الكرامة مباينٌ لمعنى الاستدراج، إذ الكرامةُ كالمعجزة فعلُ اللّٰه.. ويتفطّن صاحبُها أنها منه سبحانه، وليس من نفسه، ويطمئن بأنه حامٍ له رقيبٌ عليه يختار له الخير. فيزداد يقيناً وتوكلاً. فقد يشعر بتفاصيل الكرامات بإذن اللّٰه، وقد لا يشعر وهذا أولى وأسلمُ. كأن أنطقه اللّٰه بما في قلب أحدٍ، أو مثّله له يقظةً لهدايته، وهو لا يعلم ما يفعل اللّٰه به لعباده.

وأما الاستدراج فينكشف له صورة الأشياء الغائبة وهو في غفلة، أو يعمل أفعالاً غريبة، وهو مستند بنفسه واقتداره فيزدادُ بُعداً وأنانية وغروراً. فيقول: ﴿إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي﴾(القصص: 78) وانكشف لي بصفاء نفسي وضياء قلبي.

فلا التباس بين أهل الاستدراج وأهل الولاية في الطبقة الوسطى.

وأما مظهر الفناء الأتمَّ من أهل الطبقة العليا المنكشف لهم بإذن اللّٰه الأشياءُ الغيبية، فيرونها بحواسهم التي هي للّٰه ([70]) فالفرق أظهرُ؛ إذ نورانيةُ باطنِهم المترشحةُ إلى الظاهر أرفع من أن تلتبس بظلمات من يرائي ويدعو إلى أنانيته.

 

﴿وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ﴾(الإسراء: 44).

اعلم([71]) أن التسبيح والعبادة على وجوه غير محدودة في كل شيء، ولا يلزم شعورُ كل شيء بكل وجوه تسبيحاته وعباداته دائماً. إذ لا يستلزم الحصولُ الحضورَ؛([72]) مثَلُ ذلك كمثل أجير جاهل يعمل في سفينة لمالكها الذي استأجره ليجسَّ بإصبعه على بعض مسامير (الالكتريكية) في بعض الأوقات، ولا يعرف الأجير ما يترتبُ على عمله من الغايات الغالية. وإنما يعرف ما يعود إلى نفسه من الأجرة ولذةِ المكافأة. حتى قد يتوهمُ أنّ وضعَ هذا العمل ليس إلاّ لهذه اللذة.. كمَثل الحيوان الذي لا يعرف من غايات الازدواج إلاّ لذّةَ قضاء الشهوة، ولا يضرّ جهلُه هذا –ولا يمنع– من حصول النسل الذي هو غايةٌ من الغايات المطلوبة لمالكه. كمثل النمل ينظّف وجهَ الأرض من جنائز الحُوينات، مع أنه لا يعرف إلاّ تطمين حرصه.. أو كمثل العنكبوت الذي يزيّن وجهَ الفضاء، ورؤوس النباتات والأحجار بخيوط حريره المتلمّعة بالضياء للمسابقة مع الهوام في سير الهواء ولا يعرف إلاّ نسجّ مصيدته، ومدَّ ما يطير به ليمرَّ عليه.. وكمثل الساعة تُعرِّفك عددَ ما انقضى من عمرك اليومي، وهي لا تعرف إلاّ زوال ألم تضييق أمعائها([73]).. وكمثل النحل صنع ما صنع بحلاوة الوحي المندمج في لذّته الخاصة.. وكمثل الوالدات النباتية والحيوانية والإنسانية إنما تعمل للذة الشفقة، ولا تخل جهالاتُها بالغايات بحصول تلك الغايات التي زيّنت بيتَ الكائنات. بل كأن تلك الشفقة نواةٌ ومِسطَر لتلك الغايات.

ويكفي المسبّحين العابدين علمُهم بكيفية عملهم فقط. كما قال عز وجل:﴿كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ﴾(النور: 41). ولا يلزمهم علمُهم بكون عَمَلهم تسبيحاً مخصوصاً هكذا، وشعورِهم بصفة العبادة المعينة. ويكفيهم شعورُ سائر إخوانهم المتفكرين بما في أعمالهم من لطائف العبادات وغرائب التسبيحات. بل يكفي علمُ المعبود المطلق فقط. وإذ لا ابتلاء بالتكليف لا تلزمهم «النية» فلا يلزم شعورُهم بوصف عملهم. على أن تلك المصنوعات في الأصل كلماتُ تسبيحاتٍ أفادت معانيَها ثم صارت تلك الكلماتُ مسبّحاتٍ بألسنتها كذواتها. وفي تلك الكلمات مسبحاتٌ أخرى. وفي هذه أيضاً مسبّحات صغار، وفيها أيضاً مسبحات أصاغر وهكذا، إلى ما شاء السبّوح القدّوس جلّ جلالُه ولا إله إلاّ هو.

اعلم أن ما أُرسل إليك وزيّنك من الرأس إلى القدم من أشتات النِعم والمحاسن واللطائف إنما تمرّ «بميزان» من خلال حُجبٍ متباينة. وتتسَلَّلُ «بنظام» من بين لفائفَ متخالفةٍ. وتتوجه إليك «بالانتظام» من خلف طوائفَ متضادة.

اعلم أن في النفس أمراً لطيفاً كدرهم من وَرِق رقيق. أظن أنه مرصاد الأبد. إذ ما يمسّه شيء إلاّ ويعطيه حُكمَ الأبد ويموّهه بوَهم الأبدية. وإذا استعمله الهوى والهوس، صار آلةً تجلب أحجارَ الآخرة وأساساتِها إلى الدنيا، فيبنى قصرها عليها، فيأكل أثمارَ الآخرة بلا نضج في الدنيا الفانية.

اعلم أن النفسَ شيءٌ عجيب !.. وكنـزُ آلاتٍ لا تُعد، وموازين لاتحد، لدَرك جلوات كنوز الأسماء الحسنى إن تزكّت.. وكهفُ حيّات وعقارب وحشرات، إن دسَّت وطغت. فالأَولى-واللّٰه أعلم- بقاؤها لا فناؤها؛ فالبقاءُ مع التزكية -كما سلكت عليه الصحابةُ- أوفقُ بسر الحكمة من موتها الأتم كما سلك عليه معظم الأولياء.

نعم، إن في جرثوم([74]) النفس جوعاً شديداً، واحتياجاً عظيماً، وذوقاً عجيباً. وإذا تحوّل مجرى سجاياها، انقلب حرصُها المذموم اشتياقاً لا يشبع، وصار غرورُها المشؤوم وسيلةَ النجاة عن جميع أنواع الشرك. وتحول حبُّها الشديد لنفسها وذاتها؛ حباً ذاتياً لربها وهكذا.. حتى تنقلب سيئاتُها حسناتٍ.

اعلم أنه كما أن قيمةَ الإنسان المؤمن قيمةُ ما فيه من الصنعة العالية، والصبغة الغالية ونقوش جلوات الأسماء. وقيمةَ الإنسان الكافر أو الغافل قيمةُ مادته الفانية الساقطة.. كذلك قيمةُ هذا العالم تزيد بلا نهاية -إن نُظِر إليه بالمعنى الحرفي وبحسابه سبحانه- كما علَّم القرآن. وتسقط قيمتُه إلى درجة المادة المتغيرة الجامدة -إن نُظِر إليه بالمعنى الاسمي وبحساب الأسباب- كما علَّمَتْه الحكمةُ الفلسفية.

فالعلم المستفاد من القرآن المتعلق بالكائنات؛ أعلى وأغلى بما لا يُحدّ من العلم المستفاد من فنون الفلسفة.

مثلاً: يقول القرآن: ﴿وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا﴾( نوح: 16) فانظر كيف يفتح بهذا الحُكم لفهمك مشكاةً إلى سلسلة جلوات الأسماء. أي أيها الإنسان! إن هذه الشمس بعظمتها مسخَّرةٌ لكم، ونورٌ لبيتكم، ونار لإنضاج مطعوماتكم بأمرِ مَن يرزقكم، فلكُم مالكٌ رحيم، عظيم القدر بدرجةٍ ما هذه الشموس إلا مصابيح له أُسرجت في منـزل معدّ للمسافرين فيما بين منازله الباقية، وهكذا فقس.

وأما ما تقول الحكمة من أن «الشمس نارٌ عظيمة متحركة على نفسها تطايرت منها أرضُنا وسيارات هي منظوماتها، وارتبطت بالجاذبة جارية في مداراتها».. فلا تفيدك إلاّ حيرةً في دهشة، وعظمة صماء، وحكمة عمياء.

اعلم أنه لا حقَّ لك في أن تطلب حقاً من الحق سبحانه، بل حقٌّ عليك أن تشكره دائماً؛ إذ له الملك والحمد.

 

يا اللّٰه، يا رحمن، يا رحيم، يا كريم! اجعل هذا الكتابَ نائباً عني في تكرير هذه الشهادة بعد موتي إلى يوم الدين:

اللهم يا ربَّ محمد المختار، يا رب الجنة والنار، يا رب النبيين والأخيار، يا رب الصديقين والأبرار، يا رب الصغار والكبار، يا رب الحبوب والأثمار، يا رب الأنوار والأزهار، يا رب الأنهار والأشجار، يا رب الإعلان والإسرار، يا رب الليل والنهار! نُشهدك ونُشهد حملةَ عرشك، ونُشهد جميع ملائكتك، ونُشهد جميع مخلوقاتك، بشهادات جميع أنبيائك وبشهادات جميع أوليائك، وبشهادات جميع آياتك التكوينية والكلامية، وبشهادات جميع مصنوعاتك، وبشهادات ذرات الكائنات ومركباتها، وبشهادات حبيبك عليه أفضل صلواتك، المتضمنة شهادته لجميع تلك الشهادات، وبشهادات قرآنك، بأنّا كُلَّنا نَشهد بأنك أنت اللّٰه الواجب الوجود، الواحد الأحد، الفرد الصمد، الحق المبين، الحي القيوم، العليم الحكيم، القدير المريد، السميع البصير، المتكلم، لك الأسماء الحسنى. ونَشهد أن لا إله إلاّ أنت وحدك لا شريك لك. لك الملك. ولك الحمد. ونستغفرك ونتوب إليك.. وكذا نشهد بأن محمداً عبدك، ونبيك، وحبيبك، ورسولك، أرسلته رحمةً للعالمين.. فَصَلِّ وسلِّم عليه وعلى آله وأصحابه أبد الآبدين آمين آمين آمين..

 

في بيان جوهرة من كنوز آية:

﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ﴾( الذاريات: 56).

اعلم([75]) يا أيها السعيد الناسي لنفسك، ولوظيفة حياتك!. الغافِلُ عن حكمة خِلقة الإنسان، الجاهلُ بما أودع الصانعُ الحكيمُ في هذهِ المصنوعات المزيَّنة!.. أن مَثَل بناء هذا العالم وإدخال العالم الإنساني فيه، كمثل سلطان له خزائن فيها أصناف الجواهر، وله كنوزٌ مخفية، وله مهارةٌ في صنع الغرائب، وله معرفةٌ بعجائبِ فنونٍ لا تعد وبغرائبِ علوم لا تحد. فأراد ذلك الملك، أن يُظهر على رؤوس الأشهاد حشمةَ سلطنتِهِ وشعشعةَ ثروته وخوارقَ صنعتِه وغرائبَ معرفته، أي أن يشهَد كمالَه وجمالَه وجلالَه المعنوية بالوجهين؛ بنظره، ونظر غيره.

فبنى قصراً جسيماً ذا منازل وسرادقات. فزيّنها بمرصّعاتِ جواهر كنوزه، ونَقَشَها بمزينات لطائف صنعته، ونظّمها بدقائق فنون حكمته، ووسَمها بمعجزات آثار علومه، وفرش فيها سُفرةَ لذيذاتِ نعمه ونعمته. وهكذا مما يَظهر بمثله الكمالاتُ الخفية. فدعى رعيته للسير والتنـزّه، وأضافهم بضيافة لا مثل لها، كأن كل لقمة منها أنموذجُ مئاتِ صنعةٍ لطيفة. ثم عيّن أستاذاً لتعريف ما في ذلك القصر من رموز تلك النقوش وإشارات تلك الصّنائع، ووجوه دلالات تلك المرصعات المنظومات والجواهر الموزونات على كمالات صاحبها، ولتعليم الناس آدابَ الدخول والمعاملات مع صانع القصر، فيقول لهم:

أيها الناس! إن مليكي يتعرف إليكم بإظهار ما في هذا، فاعرفوه.. ويتودَّدُ إليكم بهذه التزيينات، فتودَّدوا إليه بالاستحسانات.. ويتحبَّب إليكم بهذه الإحسانات، فأحبّوه.. ويرحم إليكم، فاشكروه.. ويتظاهر إليكم فاشتاقوا إليه. وهكذا مما يليق بمثله أن يقول للداخلين. فدخل الناس فافترقوا فرقتين: ففريق نظر إلى ما في القصر، فقالوا: لهذا شأن عظيم، فنظروا إلى المعلم الأستاذ فقالوا: السلام عليك! لابد لمثل هذا، من مِثلِكَ.. فَعَلِّمْنَا ممّا علَّمك سيدُك.. فنَطق فاستمَعوا فاستفادوا فعملوا بمرضيات الملِك.. ثم دعاهم الملك لقصر خاص لا يوصَف، فأكرمهم بما يليق بمثله لمثلهم في مثل ذلك القصر..

والفريق الآخر: ما التفتوا إلى شيء غير الأطعمة، فتعامَوا وتصامُّوا، فأكلوا أكلَ البهائم فتناموا، وشربوا من الإكسيرات التي لا تُشرب، فسكروا فتنهقوا، فشوشوا على الناظرين، فأخذهم جنودُه فطرحهم في سجن يليق بهم.

وأنت تعلم أن الملك لما بنى هذا القصر لهذه المقاصد، وحصولُ هذه المقاصد مربوطٌ بوجود هذا الأستاذ، وباستماع الناس له.. يحقّ أن يقال: لولا هذا الأستاذ لَما بنى الملكُ القصر. وإذا لم يستمع الناس لتعليمات الأستاذ المبلِّغ يخرب القصر ويبدَّل.

وإذا تفطنت لسر التمثيل فانظر إلى صورة الحقيقة.. أما القصر فهذا العالم الذي نُوّر سقفُه بمصابيح متبسمة، وزُيّن فرشُه بأزاهير متزينة. وأما الملك فهو سلطان الأزل والأبد الذي: ﴿تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ﴾(الإسراء: 44).. ﴿اللّٰه الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ﴾(الأعراف:54). وأما المنازل، فالعوالم المزيَّنة كلٌّ بما يناسبه. وأما الصنائع الغريبة؛ فهي معجزاتُ قدرته. وأما الأطعمةُ؛ فهي خوارق ثمرات رحمته. وأما المطبخ والتنور؛ فالأرض وسطحها. وأما الكنوز المخفية وجواهرها؛ فالأسماء القدسية وجلواتها. وأما النقوش ورموزها؛ فمنظوماته المصنوعات المرموزات ودلالاتها على أسماء نقاشها. وأما الأستاذ المعلم ورفقاؤه وتلامذته؛ فسيدُنا محمد والأنبياء عليهم الصلاة والسلام والأولياء رضي اللّٰه عنهم . . وأما حواشي الملك في القصر؛ فالملائكة عليهم الصلاة والسلام.. وأما المسافرون المدعوون للسير والضيافة؛ فالإنسان مع حواشيه من الحيوانات. وأما الفريقان؛ فأهل الإيمان والقرآن الذي يفسّر لأهله معانيَ آيات كتاب الكائنات. والفريق الآخر؛ أهل الكفر والطغيان التابعون للنفس والشيطان صمّ بُكم عميٌ هم ﴿كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً﴾(الفرقان: 44) لا يفهمون إلاّ الحياة الدنيوية..

فأما السعداء الأبرار فاستمعوا للعبد الواصف لربه بـ«الجوشن الكبير» وللمبلّغ بدلالته للقرآن الكريم. وأنصَتوا للقرآن؛ فصاروا نظّارين لمحاسن سلطنة الربوبية؛ فكبّروا مسبّحين، ثم صاروا دلالين لبدايع جلوات الأسماء القدسية؛ فسبّحوا حامدين وصاروا فاهمين بالطبع بحواسهم لمدخرات خزائن الرحمة؛ فحمدوا شاكرين. ثم صاروا عالمين بجواهر كنوز الأسماء المتجلية بالوزن بموازين جهازاتهم؛ فقدسوا مادحين. ثم صاروا مطالعين لمكتوبات قلم القدرة؛ فاستحسنوا متفكّرين. ثم صاروا متنـزّهين برؤية لطائف الفطرة؛ فأحبّوا الفاطر مشتاقين. ثم قابلوا تَعَرُّفَ الصانع إليهم بمعجزاتِ صنعته بالمعرفة في الحيرة فقالوا: "سبحانك ما عرفناك حق معرفتك يا معروفُ، بمعجزات جميع مصنوعاتك.." ثم قابلوا تودّدَه إليهم بمزينات ثمرات الرحمة بالمحبة. ثم قابلوا تعطّفه وتعهّده لهم بلذائذ نعَمه بالمحمَدة والشكر، فقالوا: "سبحانك ما شكرناك حقَّ شكرك يا مشكورُ، بأَثْنية جميع إحساناتك على رؤوس الأشهاد، وبإعلانات جميع نعمتك ولذائذها في سوق الكائنات، وبشهادات نشائد منظومات جميع ثمرات رحمتك ونعمتك لدى أنظار المخلوقات". ثم قابلوا إظهاره لكبريائه وكماله وجماله وجلاله في مظاهر الكائنات ومرايا الموجودات السيالة؛ بالسجود في المحبة في الحيرة في المحوية. ثم قابلوا إراءته وُسعةَ رحمته وكثرةَ ثروته بالفقر والسؤال. ثم قابلوا تشهيره للطائف صنعته؛ بالتقدير والاستحسان والمشاهدة والشهادة والأشهاد. ثم قابلوا إعلانَه لسلطنة ربوبيته في أقطار الكائنات؛ بالتوحيد، بالإطاعة والعبودية بإعلان عجزهم في ضعفهم وفقرهم في فاقتهم. فأَدَّوا وظائف حياتهم في هذه الدار، حتى صاروا في أحسن تقويم، أعلى من كل الخلق خليفة أميناً ذا أمانة، ويُمنٍ وإيمانٍ. ثم دعاهم ربُّهم إلى دار السلام للسعادة الأبدية فأكرمهم بما لا عينٌ رأت، ولا أذنٌ سمعت، ولا خطر على قلب بشر.

وأما الفريق الآخر الفجّار الأشرار، فكفروا فحقَّروا بالكفر جميعَ الموجودات بإسقاط قيمتها كما مرَّ سابقاً. وردّوا جميع تجليات الأسماء فجنوا جناية غير متناهية فاستحقوا عقاباً غير متناه.

أيها السعيد المسكين!. أ تحسب أن وظيفةَ حياتك حُسنُ محافظةِ النفس والتربية المدنية وخدمة البطن والهوسات؟.. أم تحسب أن غايةَ إدراج هذه الحواس والحسيات، والجوارح والجهازات، والأعضاء والآلات، واللطائف والمعنويات في ماكنة حياتك استعمالُها في هوَسات النفس الدنية في هذه الحياة الفانية؟ كلا! بل ما حكمةُ إدراجها في فطرتك إلاّ إحساسُك جميعَ أنواع نِعَمه تعالى، وإذاقةُ معظم أقسام تجليات أسمائه.

فما غاياتُها إلاّ أن تزن بتلك الموازين مدخرات خزائن رحمته، وأن تفتح بتلك الجهازات مخفيات كنوز جلوات أسمائه جل جلاله؛ بل ما غاياتُ حياتك إلاّ إظهارك وتشهيرك بين إخوانك المخلوقات ما في حياتك من غرائب جلوات أسمائه.. ثم إعلانُك بحالك وقالك عند باب ربوبيته عبوديتَك.. ثم تبرُّجُك وتزيُّنك بمرصّعات جواهر جلوات أسمائه للعرض والظهور لنظر شهود الشاهد الأزلي.. ثم فهمُك لتحية ذوي الحياة بالتسبيحات لواهب الحياة، ومشاهدتُك لها، وشهادتُك بها، وإشهادك عليها.. ثم فهمُك بمقياسية جزئيات صفاتك وشؤونك لصفات خالقك وشؤونه المطلقة المقدسة.. ثم فهمُك الكلمات الموجودات الناطقات بتوحيده وربوبيته.. ثم تفطّنُك بأمثال عجزك وفقرك لدرجات تجليات قدرته وغناه.

وما ماهيةُ حياتك إلاّ خزينةٌ وخريطةٌ وأنموذج وفذلكة ومقياس وميزان وفهرستة لغرائب آثار جلوات أسماء خالق الموت والحياة.

وما صورةُ حياتك إلاّ كلمةٌ مكتوبة مسموعة مفهّمة لأسمائه الحسنى. وما حقيقتُها إلاّ مرآتيتها لتجلي الأحدية. وما كمالها في سعادتها إلاّ شعورُها بما تمثَّل فيها مع المحبة والشوق لما هي مرآةٌ له، وأما سائر ذوي الحياة فيشاركونك في بعض الغايات المذكورة لكن لا يساوونك، إذ أنت المرآةُ الجامعة كما رُوي :«ما يسعني أرض ولا سماء ويسعني قلب عبدي المؤمن».([76])

 

بسْمِ اللّٰه الرَّحْمن الرَّحِيْم

 

يا اللّٰه، يا رحمن، يا رحيم، يا فرد، يا حي، يا قيوم، يا حكم، يا عدل، يا قدوس. بحق اسمك الأعظم. وبحق آيات فرقانك الأحكم، صلّ على سيدنا محمد رسولك الأكرم بعدد ذرات وجودنا وبعدد عاشرات دقائق عمرنا وحياتنا، وأنـزل علينا وعلى (ناشر هذه المجموعة من طلاب النور) وعلى طلبة رسائل النور السكينةَ والتمكين والاطمئنان كما أنـزلتَ على أصحابِ وآل نبيّك المختار عليه الصلاة والسلام، وأنـزل علينا وعلى طلبة رسائل النور السكينة والإيمان الخالص واليقين الكامل والنية الصادقة والمتانة الأتم في خدمة القرآن والإيمان.. وآمِن فَزَعَنا بدفع البدعيات الهائلات عن شعائر الإسلام، وفرّح قلوبنا بإعلان الشعائر الإسلامية في العالم عن قريب الزمان. وبنشر رسائل النور بكمال الرواج بين عالم الإسلام. وسلِّمنا وسلِّم ديننا وسلم طلبة رسالة النور من تجاوز الملحدين.. وارزقنا وارزق طلبة رسائل النور السلامة، والعافية في الدين والدنيا والآخرة. واشف أمراضنا واجعل القرآن شفاء لنا ولهم من كل داء واجعلنا واجعلهم من الحامدين الشاكرين دائما آمين والحمد للّٰه رب العالمين. وصلى اللّٰه على سيدنا محمد وآله وصحبه. أجمعين آمين..

 

*    *    *

 

 

 

([1])  هذه الرسالة بكاملها غير موجودة في الطبعة الأولى ، وإنما هي في المخطوط وفي الطبعة التالية وهى رسالة مستقلة في الترجمة التركية. تضم خلاصة لكثير من مباحث رسالة «المدخل إلى النور» والتي فصّلت في «الكلمات».

([2])  النبراس: المصباح.

([3])  زبرقان (بكسر الزاي والباء): أي القمر.

([4])  نير:(بفتح النون وتشديد الياء): المقصود الشمس.

([5])  أفق المشرق والمغرب.

([6])  تفصيل هذا البحث في «الكلمة الخامسة عشرة» و«الكلمة التاسعة والعشرين».

([7])  أي: إن هذه الأفراد الكثيرة لنوع النجم تزيّن وجه السماء وتتلألأ كالجواهر، كما تزين الأثمارُ البساتينَ الغناء والأسماكُ البحارَ.

([8])  أي: أولى الوظائف وأهمها (ت: 188)

([9])  أي: إن الإنسان يحمد ربه ويسبّحه بما أنعم عليه في الماضي والحال وما سينعم عليه من نعم في المستقبل، وبما يجده منها في نفسه أو في الآفاق (ت: 188)

([10])  الكلمة الخامسة والعشرون، رسالة «المعجزات القرآنية» تفصّل هذه المسائل بأمثلة كثيرة.

([11])  تفصيله في ذيل «الكلمة السادسة والعشرين».

([12])  تفصيله في الثمرة الثانية من الغصن الخامس للكلمة الرابعة والعشرين.

([13])  أي: يتجلى جلاله سبحانه إذا نظر إلى النوع - بأفراده الكثيرة - أما إذا ما أُنعم النظر في كل فرد فيتجلى جمال الإتقان في الصنعة . ففي الفرد يتجلى الجمال وفي النوع يتجلى الجلال.

([14])  تفصيله في الغصن الأول من «الكلمة الرابعة والعشرين» وفي «الكلمة الحادية والثلاثين».

([15])  الجوشن: لغةً: الصدر والدرع. والمقصود هنا مناجاة الرسول r المروية عن علي بن الحسين الملقب بـ"زين العابدين" رضي اللّٰه عنه.

([16])  انظر: أبو يعلى، المسند 13/520؛ الطبراني، المعجم الأوسط 6/278، 8/382؛ الروياني، المسند 2/212؛ ابن أبي عاصم، السنة 2/367؛ الطبري، جامع البيان 16/95؛ الهيثمي، مجمع الزوائد 1/79.

([17])  أي: عدم شهود البصيرة للصانع ، أي إنكار الصانع!

([18])  كمه، كمها: عمى ، أكمه: أكثر عمىً ، وشبه بالسوفسطائي لأنه ينكر وجود الأشياء بل حتى نفسه.

([19])  منمنمة:صغيرة الحبوب.

([20])  أي: بعيداً عن يد الإنسان وفلسفته.

([21])  أي: القرآن والمنـزل عليه القرآن r. وتفصيل هذه المسائل في «الكلمة الثانية عشرة».

([22])  تفصيل هذه المسألة في «الكلمة الحادية والعشرين» .

([23])  الترمذى 4 / 560؛ ابن ماجه  2 /1376؛الحاكم 4 /341؛ وانظر العجلوني، كشف الخفا 2/207.

([24])  الأف: وسخ الأذن. والتف وسخ الأظفار، ثم استعمل ذلك عند كل شيء يضجر منه . قاله الأصمعي.

([25])  أي: كيف تهونين من شأن الآخرة، فتجعلينها في خدمة الدنيا .. فإنك تبنين عمارة موقتة لنـزول بعض الدواب - الشهوات - بما تسرقينه من أعمدة مذهّبة لقصر سلطان في الآخرة!

([26])  المقصود الحياة الدنيا كما سيأتي.

([27])  المرجب: الذي جعل له رُجْبة وهي دعامة من الأحجار تدعم بها النخلة (مجمع الأمثال 1 / 32)

([28])  أي: الذي وهب هذا الإحساس والتذوق

([29])  الغصن الخامس من «الكلمة الرابعة والعشرين» يفصل هذه الخاطرة.

([30])  تراجع الرشحة العاشرة من «الكلمة التاسعة عشرة».

([31])  بمعنى ناظر أو مشرف.

([32])  أي: الليل والنهار. الواحد: ملاً.

([33])  هذه المسألة الدقيقة «حكمة تعدد الغايات» توضحها حاشية الحقيقة السادسة من «الكلمة العاشرة - رسالة الحشر».

([34])  تفصيل هذه المسألة في الثمرة الثانية من الغصن الخامس للكلمة الرابعة والعشرين.

([35])  حتى ولو لم تخرج بعدُ إلى طور الفعل.

([36])  للتنبيه.

([37])  الأظهر: سراً عظيماً ومثلاً عظيماً.

([38])  لعله : حبلك على غاربك.

([39])  الدرس الثالث من رسالة «المدخل إلى النور»

([40])  لمسرّاتهم البريئة المباحة شرعاً.

([41])  جاء هذا المثال بوضوح تام في الكلمة السابعة.

([42]) عن أبى سعيد الخدري رضي اللّٰه عنه قال: قال رسول اللّٰه r:« يُؤْتَى بِالْمَوْتِ كَهَيْئَةِ كَبْشٍ أَمْلَحَ فَيُنَادِي مُنَادٍ يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ فَيَشْرَئِبُّونَ وَيَنْظُرُونَ فَيَقُولُ هَلْ تَعْرِفُونَ هَذَا فَيَقُولُونَ نَعَمْ هَذَا الْمَوْتُ وَكُلُّهُمْ قَدْ رَآهُ ثُمَّ يُنَادِي يَا أَهْلَ النَّارِ فَيَشْرَئِبُّونَ وَيَنْظُرُونَ فَيَقُولُ هَلْ تَعْرِفُونَ هَذَا فَيَقُولُونَ نَعَمْ هَذَا الْمَوْتُ وَكُلُّهُمْ قَدْ رَآهُ فَيُذْبَحُ ثُمَّ يَقُولُ يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ خُلُودٌ فَلا مَوْتَ وَيَا أَهْلَ النَّارِ خُلُودٌ فَلا مَوْتَ ثُمَّ قَرَأَ ﴿وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ﴾(مريم: 39) وَأَشَارَ بِيَدِهِ إِلَى الدُّنْيَا ». رواه البخاري في تفسير هذه الآية ، ورواه مسلم برقم 2849. (يشرئبون: يَمُدُّونَ أَعْنَاقهمْ يَنْظُرُونَ)

([43]) تتابع صوته.

([44])  زنبرك:المحرك، النابض

([45])  لبس العمامة.

([46])  وهي: زوال الدنيا، موت الإنسان، عجزه وفقره وسفره الطويل.

([47])  الدرس التاسع من «المدخل الى النور» وتوضيحه في «الكلمة الثالثة والعشرين» .

([48])  الدرس الرابع من «المدخل إلى النور» وفي «الكلمة الثالثة» توضيح وافٍ.

([49]) المن يساوي 24 أوقية.

([50])  أي السالك قد حمل على عاتق ...

([51])  مقياس للوزن يساوي (1282 غم) .

([52])  أو أوقية: مقياس للوزن القديم.

([53])  الدرس الخامس من «المدخل إلى النور» و«الكلمة الرابعة» تكشف دقائق هذا المثال.

([54])  أسماء مدن تقع جنوبي تركيا

([55])  شمندوفر:القطار

([56])  البيانكو: اليانصيب.

([57])  البحث خلاصة «الكلمة الثامنة» والدرس الثاني من «المدخل إلى النور».

([58])  البخاري، التوحيد 15،35؛ مسلم، الذكر 2، 19، التوبة 1؛ الترمذي، الزهد 51، الدعوات 131؛ ابن ماجه، الأدب 58.

([59])  الزندان:السجن.

([60])  الدرس السادس من «المدخل الى النور».

([61])  هذه المعاني مفصّلة في المكتوب الثاني والعشرين، رسالة «الأخوة».

([62])  «الكلمة الخامسة» والدرس  السابع من «المدخل إلى النور».

([63])  هذا المثال موضح في «الكلمة الثانية».

([64])  عنقرة: كلمة مستعملة بالتركية أصلها يوناني ، وهي تعني العمل مجاناً من دون رغبة ولا أجرة.

([65])  بمعنى: يهان ويحقر.

([66])  الدرس الثامن من «المدخل إلى النور» وموضح في «الكلمة الثالثة والعشرين».

([67])  وبرزخ حاجز لأهل الغفلة.

([68])  المسألة السابعة من «المكتوب الثامن والعشرين» توضح هذا البحث.

([69])  الكلام موجه إلى «ملا يوسف» أحد طلاب الأستاذ النورسي القدامى.

([70])  كما جاء في الحديث الشريف «... فإذا أحببته: كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها...» رواه البخاري.

([71])  «الكلمة الرابعة والعشرون - الغصن الرابع» توضيح واف لهذه المسألة.

([72])  أي لا يستلزم حصول التسبيح جمعَ النفس وبلوغها تمام اليقظة عند التسبيح.

([73])  المقصود حركة النابض وانفتاحه التدريجي.

([74])  أي أصله.

([75])  الدرس  العاشر من «المدخل إلى النور» وهو خلاصة «الكلمة الحادية عشرة» ونواتها.

([76])  الحديث (ما وسعني سمائي ولا أرضي ولكن وسعني قلب عبدي المؤمن). قال ابن حجر الهيتمي في الفتاوى الحديثية: وذكرُ جماعةٍ له من الصوفية لا يريدون حقيقة ظاهره من الاتحاد والحلول لأن كلاً منهما كفر، وصالحو الصوفية أعرف الناس باللّٰه وما يجب له وما يستحيل عليه، وإنما يريدون بذلك أن قلب المؤمن يسع الإيمان باللّٰه ومحبته ومعرفته. أ هـ .

وانظر: أحمد بن حنبل، الزهد ص81؛ الغزالي، إحياء علوم الدين 3/15؛ الديلمي، المسند 3/174؛ الزركشي، التذكرة في الأحاديث المشتهرة ص135؛ السخاوي، المقاصد الحسنة ص990؛ العجلوني، كشف الخفاء 2/255.

« Önceki Sayfa  | | Sonraki Sayfa »
Ekranı Genişlet