[لا نقاش مع العلماء]
إخوتي الأعزاء الأوفياء، ويا وارثيّ الميامين وكلائي الأمناء!
أولا: أبلّغكم يقينا أن عناية الرب سبحانه وتوفيقَه الصمداني مستمر بحقنا وبخدمة رسائل النور؛ فهناك تحت الأستار القبيحة ظاهرا نتائجُ في منتهى الجمال؛ فبدلا من ضرر واحد يلحق بنا يُنعَم علينا بمائة نفع ونفع. فلا ينبغي الاهتمام بالمضايقات العابرة والهزات الموقتة.
ثالثا: مع أنني أتضايق هنا كثيرا، إلاّ أنني كلما فكرت في سعيكم المتواصل الذي لا فتور فيه، وتسلمت رسائلكم المسلية زالت تلك المضايقات، بل قد تتحول إلى أفراح ومسرات.
خامسا:......
إخوتي! عليكم بمنتهى الحيطة والحذر.. وإياكم إياكم أن تفتحوا باب النقاش مع العلماء. بل يجب التعامل معهم بالحسنى والمصالحة على قدر الإمكان، فلا تتعرضوا لغرورهم العلمي حتى لو كان أحدهم ميّالا إلى البدع ومستحدثات الأمور، لأن الزندقة الرهيبة تجاهنا، فيجب عدم دفع هؤلاء المبتدعين إلى صف الملحدين.
وإذا ما صادفتم علماءَ رسميين أُرسلوا إليكم خاصة، فلا تفتحوا باب النـزاع معهم، لأن اعتراضاتهم باسم العلم سيكون مستَنَدا بيد المنافقين.
أنتم تعلمون مدى الضرر الذي أحدثه الشيخ العالم في إسطنبول. فحاولوا قدر المستطاع أن تحوّلوه في صالح رسائل النور.
تحياتنا إلى إخواننا جميعهم فردا فردا.
[رحمة إلهية تحت المصائب]
ثانيا: إخوتي، إن معاونتكم لي عظيمة وظاهرة جدا، وذلك بجهتين:
أولاها: أن سعيكم المتواصل دون فتور في خدمة النور يُزيل جميع مصائبي وضوائقي، ويحوّلها إلى سرور وفرح.
ثانيتها: اعلموا يقينا أنه بدعواتكم يتحول ظلمهم المعذِّب إلى رحماتٍ ذات عناية ومصالح. ولم تبق لي شبهة في هذا قط، فمثلا: إن تخويفهم الناس مني وإلقاء الرعب في قلوب الموظفين لئلا يتقربوا مني، أنقذَني من كثير من الأخطاء والتصنّعات ومن حالات منافية للإخلاص ومن ضياع الوقت. فلقد أظهر القدرُ الإلهي بحقي العدالةَ الإلهية وعنايتَها ضمن ظلم البشر. وقياسا على هذا فما من مصيبة تنـزل بي إلاّ وتحتها رحمةٌ إلهية. فإن انشغالهم بي فحسبُ يُنقذ مئاتٍ من رسائل النور ولو كان فيه ضرر واحد لي. ولذلك فيا إخوتي لا تقلقوا عليّ أبدا، حتى إنني كلما نويت الدعاء عليهم -لدى إهانتهم لي إهانة شديدة تجرح مشاعري جرحا أليما- فإن الموت الذي يُعدمهم، وتَعَرُّضَهم لعذاب القبر الذي هو سجن انفراديّ لهم، وما يَنتج من تلك الإهانة من المصالح لي والمنافع لخدمتنا.. كل ذلك يحول بيني وبين الدعاء عليهم فأتخلى عنه.
[عند سماع أخبار سيئة]
عندما يسمع ذلك الأخ أخبارا سيئة ليكن مثل والدي المرحوم "ميرزا" وليس مثل والدتي "نورية"؛ إذ عندما كانت تُنقل أخبارٌ سيئة إلى والدي ووالدتي، كأن يقول أحدُهم: إن ابنكم قد قُتل أو ضُرب أو سُجن، كان أبى يبتهج ويضحك كلما سمع مثل هذه الأخبار، ويقول: ما شاء اللّٰه... قد كبر إذن ابني حتى يُظهر بطولةً أو عملا عظيما بحيث يتكلم عنه الناس. أما والدتي فكانت تبكي بكاءً مرّا مقابل سرور والدي. ثم أظهر الزمان أن والدي كان محقا في كثير من الأحيان.
[تأويل حديث شريف]
تبدو لي حقيقةٌ إيمانية في غاية الأهمية أكثر من مائة مرة. وحيث إن زمن تأليف الرسائل قد انتهى، فمهما حاولتُ اقتناص تلك الحقيقة الجليلة لم أتمكن، فانتظرت كي أستشعرها وأتمكن من أن أعبرها بوضوح، ولكن لم أوفق، والآن سأتناول تلك الحقيقة الواسعة جدا والطويلة جدا بإشارة قصيرة جدا وفي منتهى الاختصار.
إن الحديث الشريف "إن الله خلق آدم على صورة الرحمن"([1]) هو من جوامع الكَلِم ومن الأحاديث المتشابهة كذلك. وقد ظهرت لقلبي نكتَتُه الكلية العظيمة جدا أثناء قراءتي "خلاصة الخلاصة" و"الجوشن الكبير". وأنا لأجل ألاّ تفلت مني تلك النكتةُ الجميلة جدا والعجيبة جدا وضعتُ إشارات على صورة شفرات في "خلاصة الخلاصة" بين المرتبة السابعة عشرة -وهي شهادة لسان القرآن- والمرتبة الثامنة عشرة وهي شهادة الكون. وقد وضعت الإشارات ذات الشفرة كالآتي:
لا إلَهَ إلاَّ الله الوَاجِبُ الوُجُودِ الوَاحِدُ الأحَدُ بِلِسَانِ الحَقيقَةِ الإنسَانيَّةِ.. الخ.([2])
وسأوضح هذه الشفرة القصيرة في منتهى الاختصار. واجعلوها حاشية لخلاصة الخلاصة.
نعم، إن الكون العظيم يكون أمامي بمثابة حلقة ذكر في أثناء قراءتي لخلاصة الخلاصة، ولكن لأن لسان كل نوع من الأنواع واسع جدا، يتحرك العقل عن طريق الفكر كثيرا كي يذعن بالأسماء الإلهية وصفاتها بعلم اليقين، وبعد ذلك يتمكن أن يبصر ذلك بوضوح. وعندما ينظر إلى الحقيقة الإنسانية في ذلك المقياس الجامع، في تلك الخريطة المصغرة، وفي ذلك النموذج الصادق، وفي ذلك الميزان الصغير، وفي ذلك الشعور بالأنانية، فإنه يصدق تلك الأسماء والصفات بإيمان واطمئنان ووجدان جازم شهودي وإذعاني وبسهولة ويسر وبمرآته الحاضرة التي بقربه دونما حاجة إلى سياحة فكرية، فيَكسب الإيمانَ التحقيقي ويدرك المعنى الحقيقي للحديث الشريف: "إن الله خلق الإنسان على صورة الرحمن". لأن المراد من الصورة، السيرة والأخلاق والصفات. حيث إن الصورة محالة بحقه تعالى.
نعم، فكما أن أصحاب الطريقة الصوفية قد سلكوا في المعرفة الإلهية طريقين: أحدهما: السير الأنفسي، والآخر: السير الآفاقي. ووجدوا أن أقصرَ طريق وأيسرَها وأمتنها وأكثرها اطمئنانا هي الطريق الأنفسي أي في القلب، وذلك بالذكر الخفي القلبي، كذلك أهل الحقيقة الرفيعون قد سلكوا طريقين اثنين ليس بالمعرفة والتصور، بل بما هو أرقى وأجدر منهما بكثير وهو في الإيمان والتصديق.
الأول: النظر إلى الآفاق بمطالعة كتاب الكون، كما في "الآية الكبرى" و "الحزب الأكبر النوري" و"خلاصة الخلاصة" وأمثالها.
والآخر: الصعود إلى مرتبة الإيمان، الخالية من الشكوك والريوب بمطالعة خريطة الحقيقة الإنسانية وفهرس الأنانية البشرية وماهيتها النفسانية، وهي أقوى مرتبة وجدانية وشعورية وشهودية -إلى حد ما- فهي بدرجة حق اليقين، بحيث إن هذه المرتبة متوجهة إلى سر الأقربية الإلهية والوراثة النبوية.
هذا وقد وضّحتُ جزءا من حقيقة التفكر الإيماني الأنفسي في الكلمة الثلاثين في بحث "أنا" وفي "نافذة الحياة" "ونافذة الإنسان" في المكتوب الثالث والثلاثين وفي أجزاء أخرى من رسائل النور.
[الرسائل تؤدي المهمة]
إخواني الأوفياء الصادقين!
لا تقلقوا أبدا، فإني لا أُبيّن لكم حالة مرضي الشديد الذي انتابني من جراء التسميم -بتدبير مقصود- إلاّ لأنال دعواتِكم. فلا داعي للاضطراب والقلق، إذ -لله الحمد والشكر- لم يمنعني ذلك المرضُ من قراءة أورادي ولا واجبِ تصحيح الرسائل. أسأله تعالى أن يكتب لي فيه أجرا عظيما، فأنا راضٍ عن هذا المرض -من جهة- فلا تتألموا أيضا لحالي، ولقد أوشكتْ مهمتي في الحياة على الانتهاء. وتستطيع كلُّ نسخة من نسخ رسائل النور -ولا سيما المجموعات منها- أن تؤدي وظيفتي بما يفوق حسن ظنكم في "سعيد" بكثير، بل تؤديها فعلا، وكلُّ طالب فدائيّ من طلاب النور الخواص يمكنه أن يقوم بوظيفة ذلك "السعيد" على أتم وجه. فلئن نَقَصَ "سعيد" واحد فيما بينكم، فإن مئات السعيدين المعنويين -أي الرسائل- وألوف السعيدين الماديين -أي طلاب النور- يستطيعون القيام بتلك المهمة خيرَ قيام. وهم فعلا يقومون بها.
وبناءً على هذه الحقيقة، لا تهتموا كثيرا بشخصي ولا بالحوادث التي تجري عليّ، بل اسألوا الله سبحانه، وادعوه متضرعين إليه أن يثبتنا على الإخلاص.
وعاونوني يا إخوتي بدعواتكم -التي لا ريب في استجابتها- لِما ألمّ بي من شيخوخة ومن آلام كثيرة.
[الفلسفة التي تهاجمها الرسائل ]
بِاسمِهِ سُبحَانَهُ
﴿وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ﴾
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ابدا دائما...
إخوتي الأعزاء الصديقين!
نظرا لشروع رسائل النور بالانتشار بآلة "الرونيو" والتفافِ الكثيرين من الطلاب والمدرسين الذين يقرأون الفلسفة الحديثة في المدارس حول رسائل النور، لزم بيان الحقيقة الآتية:
إن الفلسفة التي تهاجمها رسائل النور وتصفعها بصفعاتها القوية، هي الفلسفة المضرة وحدها، وليست الفلسفة على إطلاقها، ذلك لأن قسمَ الحكمة من الفلسفة التي تخدم الحياة الاجتماعية البشرية، وتُعِين الأخلاقَ والمُثل الإنسانية، وتمهّد السبل للرقي الصناعي، هي في وفاق ومصالحة مع القرآن الكريم، بل هي خادمةٌ لحكمة القرآن، ولا تعارضها، ولا يسعها ذلك؛ لذا لا تتصدى رسائل النور لهذا القسم من الفلسفة.
أما القسم الثاني من الفلسفة، فكما أصبح وسيلةً للتردي في الضلالة والإلحاد والسقوط في هاوية المستنقع الآسن للفلسفة الطبيعية، فإنه يسوق الإنسان إلى الغفلة والضلالة بالسفاهة واللّٰه. وحيث إنه يعارِض بخوارقه التي هي كالسحر الحقائقَ المعجزة للقرآن الكريم، فإن رسائل النور تتصدى لهذا القسم الضال من الفلسفة في أغلب أجزائها وذلك بنَصبها موازينَ دقيقة ودساتير رصينة، وبعقدها موازنات ومقايسات معزّزة ببراهين دامغة. فتصفعها بصفعاتها الشديدة، في حين أنها لا تمس القسمَ السديد النافع من الفلسفة.
ومن هنا لا يعترض طلاب المدارس الحديثة على رسائل النور، بل ينضوون -وينبغي لهم أن ينضووا- تحت لوائها دونَ تردد وإحجام.
بيد أن المنافقين المتسترين، الذين استغلوا عددا من علماء الدين وجعلوهم في عداء مع رسائل النور-لأسباب تافهة جدا ولا معنى لها إطلاقا- التي هي بضاعة المدارس الشرعية وهم أصحابُها الحقيقيون، فلربما يستغلّون أيضا الغرورَ العلمي لدى بعض أرباب الفلسفة ويثيرونهم على رسائل النور، لذا أرى من الأنسب كتابةَ هذه الحقيقة في مستهل كلٍ من مجموعة "عصا موسى" و "ذو الفقار".
سعيد النورسي
([1]) انظر: الحافظ ابن حجر في الفتح 5/183؛ ابن أبى عاصم، السنة 1 /228؛ الطبرانى، المعجم الكبير 12 /430؛ الدارقطنى، الصفات 1/229 عن ابن عمر بلفظ: " لا تقبّحوا الوجه فإن اللٰه خلق آدم على صورة الرحمن عزّ وجلّ".
([2]) لا إلَهَ إلاَّ الله الوَاجِبُ الوُجُودِ الوَاحِدُ الأحَدُ بِلِسَانِ الحَقيقَةِ الإنسَانيَّةِ بِكَلِماتِ حَياتِها وحِسِّيَّاتِها وسَجِيَّاتِها ومِقياسِيَّتِها ومِرآتِيَّتِها وَبِكَلِمَاتِ صِفَاتِهَا وَأخْلاَقِهَا وَخِلاَفَتِهَا وفِهْرِسْتِيَّتِها وأنانِيَتِهاوبِكَلِماتِ مخلُوقِيَّتِها الجامِعَةِ وَعُبُودِيَّتِها المُتَنَوِّعةِ وَاِحْتِيَاجَاتِها الكَثيرةِ وَفَقْرِها وَعَجْزِهاَ وَنَقْصِهَا الْغَيرِ المَحْدُودَةِ وَاِسْتِعْدَادَاتِها الْغَيرِ المَحْصُورةِ.
