الاجرة داخلة في العمل
بسم الله الرحمن الرحيم
{ مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } [النحل:97]
قطرة نورية من كليات رسائل النورسي
اللذة والسعادة في العمل، و الألم والشقاء في الكسل
الاجرة داخلة في العمل
يامَن لايدرك مدى اللذة والسعادة في السعي والعمل.. ايها الكسلان! اعلم، ان الحق تبارك وتعالى قد ادرج لكمال كرمه جزاءَ الخدمة في الخدمة نفسها، وادمج ثوابَ العمل في العمل نفسه.
ولأجل هذا كانت الموجودات قاطبة بما فيها الجمادات - من زاوية نظر معينة - تمتثل الأوامر الربانية بشوق كامل، وبنوع من اللذة، عند ادائها لوظائفها الخاصة بها والتي تطلق عليها "الاوامر التكوينية". فكل شئ ابتداءً من النحل والنمل والطير.. وإنتهاء الى الشمس والقمر، كلٌّ منها يسعى بلذة تامة في اداء مهماتها. أي: اللذة كامنة في ثنايا وظائف الموجودات، حيث انها تقوم بها على وجه من الاتقان التام، برغم أنها لا تعقل ما تفعل ولا تدرك نتائج ما تعمل.
*فان قلت: ان وجود اللذة في الاحياء ممكنٌ، ولكن كيف يكون الشوقُ واللذة ُ موجودين في الجمادات؟
فالجواب:ان الجمادات تطلب شَرَفاً ومقاماً وكمالاً وجمالاً وانتظاماً، بل تبحث عن كل ذلك وتفتش عنه لأجل إظهار الاسماء الإلهية المتجلية فيها، لا لذاتها، لذا فهي تتنور وتترقى وتعلو اثناء إمتثالها تلك الوظيفة الفطرية، حيث أنها تكون بمثابة مرايا ومعاكس لتجليات اسماء"نور الانوار".
فمثل:قطرةٌ من الماء - وقطعة من الزجاج - رغم أنها تافهةٌ وقاتمة في ذاتها، فإذا ما توجهت بقلبها الصافي الى الشمس، تتحول الى نوع من عرشٍ لتلك الشمس، فتلقاك بوجه مضئ!
وكذلك الذرات والموجودات - على غرار هذا المثال - من حيث قيامها بوظيفة مرايا عاكسة لتجليات الاسماء الحسنى لذي الجلال والجمال والكمال المطلق، فانها تسمو وتعلو الى مرتبة من الظهور والجلاء والتنوّر هي غاية في العلو والسمو، إذ ترتفع تلك القطرة وتلك القطعة من حضيض الخمود والظلمة الى ذروة الظهور والتنور. لذا يمكن القول: بأن الموجودات تقوم باداء وظائفها في غاية اللذة والمتعة ما دامت تكتسب بها مرتبة نورانية سامية، واللذة ممكنة ان كانت للموجود حصة من الحياة العامة. وأظهر دليل على ان اللذة كامنة في ثنايا الوظيفة نفسها هو ما يأتي:
تأمل في وظائف اعضائك وحواسّك، ترَ أن كلاً منها يجد لذائذ متنوعة اثناء قيامه بمهامه -في سبيل بقاء الشخص او النوع - فالخدمة نفسها، والوظيفة ُعينها تكون بمثابة ضربٍ من التلذذ والمتعة بالنسبة لها، بل يكون ترك الوظيفة والعمل عذاباً مؤلماً لذلك العضو.
وهناك دليل ظاهر آخر هو: ان الديك - مثلاً - يؤثر الدجاجات على نفسه، فيترك ما يلتقطه من حبوب رزقه إليهن دون ان يأكل منها. ويُشاهد انه يقوم بهذه المهمة وهو في غاية الشوق وعزّ الافتخار وذروة اللذة.. فهناك إذن لذةٌ في تلك الخدمة اعظم من لذة الاكل نفسه. وكذا الحال مع الدجاجة - الراعية لأفراخها - فهي تُؤْثرها على نفسها، إذ تدع نفسَها جائعةً في سبيل اشباع الصغار، بل تضحي بنفسها في سبيل الافراخ، فتهاجم الكلب المُغير عليها لأجل الحفاظ على الصغار.
ففي الخدمة اذن لذة تفوق كل شئ، حتى انها تفوق مرارة الجوع وترجّح على ألم الموت.فالوالدات من الحيوانات تجد منتهى اللذة في حمايتها لصغارها طالما هي صغيرة. ولكن ما إن يكبر الصغير حتى تنتهي مهمة الأم فتذهب اللذة ايضاً. وتبدأ الأم بضرب الذي كانت ترعاه، بل تأخذ الحَب منه.. هذه السّنة الإلهية جارية ٌفي الحيوانات الاّ في الانسان إذ تستمر مهمة الام نوعاً ما، لأن شيئاً من الطفولة يظل في الانسان حيث الضعف والعجز يلازمانه طوال حياته، فهو بحاجة الى الشفقة والرأفة كل حين.
وهكذا، تأمل في جميع الذكور من الحيوانات كالديك، وجميع الوالدات منها كالدجاج، وافهم كيف انها لا تقوم بتلك الوظيفة ولا تنجز اي شئ لأجل نفسها ولالكمالها بالذات حيث تفدي نفسها اذا احتاج الامر. بل انها تقوم بتلك المهمة في سبيل المُنعم الكريم الذي انعم عليها، وفي سبيل الفاطر الجليل الذي وظّفها في تلك الوظيفة فأدرج برحمته الواسعة لذةً ضمن وظيفتها، ومتعةً ضمن خدمتها.
وهناك دليل آخر على ان الاجرة داخلةٌ في العمل نفسه وهو ان النباتات والاشجار تمتثل اوامر فاطرها الجليل بما يُشعر ان فيها شوقاً ولذة، لأن ما تنشره من روائح طيبة، وما تتزين به من زينة فاخرة تستهوي الانظار، وما تقدمه من تضحيات وفداء حتى الرَمَق الاخير لأجل سنابلها وثمارها.. كل ذلك يعلن لأهل الفطنة:
ان النباتات تجد لذةً فائقة في إمتثالها الاوامر بما يفوق اية لذة اخرى، حتى انها تمحو نفسها وتهلكها لأجل تلك اللذة.. ألا ترى شجرة جوز الهند، وشجرة التين كيف تُطعم ثمرتها لبناً خالصاً تطلبه من خزينة الرحمة الإلهية بلسان حالها وتتسلمه منها وتظل هي لا تُطعم نفسها غير الطين. وشجرة الرمان تسقي ثمرتها شراباً صافياً، وَهبَها لها ربُّها، وهي ترضى قانعةً بشراب ماءٍ عكر. حتى انك ترى ذلك في الحبوب كذلك، فهي تُظهر شوقاً هائلاً للتسنبل، بمثل اشتياق السجين الى رحب الحياة.
ومن هذا السرّ الجاري في الكائنات المسمى ب"سُنّة الله" ومن هذا الدستور العظيم، يكون العاطل الكسلان الطريح على فراش الراحة أشقى حالاً وأضيق صدراً من الساعي المجدّ، ذلك لأن العاطل يكون شاكياً من عمره، يريد ان يمضي بسرعة في اللهو والمرح. بينما الساعي المجدّ شاكرٌ لله وحامدٌ له، لايريد ان يمضي عمرَه سدىً. لذا اصبح دستوراً عاماً في الحياة: "المستريح العاطل شاكٍ من عمره والساعي المجدّ شاكرٌ". وذهب مثلاً: "الراحةُ مندمجة في الزحمة والزحمة مندمجة في الراحة".
نعم اذا ما أُمعن النظر في الجمادات فان السنة الإلهية المذكورة تظهر بوضوح؛ فالجمادات التي لم تتكشف استعداداتُها وباتت ناقصةً من هذه الناحية، تراها تسعى بشدة، وتبذل جهداً عظيماً لكي تنبسط وتنتقل من طور "القوة" الكامنة الى طور "الفعل". وعندها يشاهد عليها ما يشير الى أن في تلك الوظيفة الفطرية شوقاً، وفي ذلك التحول لذةً، جرياً بدستور سنّة الله، فان كانت لذلك الجامد حصة في الحياة العامة، فالشوق يعود اليه، والاّ فهو يعود الى الذي يمثل ذلك الجامد ويشرف عليه، بل يمكن أن يقال بناء على هذا السر: ان الماء اللطيف الرقراق ما ان يتسلم امراً بالانجماد، حتى يمتثل ذلك الامر بشدة وشوق الى حدّ انه يكسر الحديد ويحطّمه.فاذن عندما تبلّغ البرودة ُودرجاتُ الانجماد أمراً ربانياً بالتوسع، الى الماء الموجود داخل كرة حديدٍ مقفلة، فان الماء يمتثل الامر بشدة وشوق بحيث يحطّم كرة الحديد تلك، وينجمد.
وعلى هذا فقس جميع ما في الكون من سعي وحركة، ابتداءً من دوران الشموس في افلاكها وانتهاءً الى دوران الذرات - كالمولوي العاشق - ودوراتها واهتزازاتها.. فلا تجد أحداً الاّ ويجري على قانون القَدَر الإلهي، ويظهر الى الوجود بالامر التكويني الصادر من يد القدرة الإلهية والمتضمن العلم الإلهي وأمره وارادته.. حتى ان كل ذرة، وكل موجود، وكل ذي حياة، انما هو كالجندي في الجيش، له علاقات متباينة ووظائف مختلفة، وارتباطات متنوعة مع كل دائرة من دوائره. فالذرة الموجودة في عينيك -مثلاً - لها علاقة مع خلايا العين، ومع اعصاب العين في الوجه، ومع الشرايين والاوردة في الجسم، وعلى اساس هذه العلاقات والروابط تُعَيَّنُ لها وظيفة، وعلى ضوئها تنتج فوائد ومصالح وهكذا..
فقس على هذا المنوال كل شئ في الوجود.(*)
___________________
(*) كليات رسائل النور - اللمعة السابعة عشرة - ص:(188)