احدى نكات اسم الله القيوم

 

 

بِسْمِ الله الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

﴿بيَدِه مَلَكوتُ كلِّ شيءٍ ﴾(يس: 83)

﴿لَهُ مقاليدُ السّمواتِ والأرض﴾(الزمر: 63)

﴿وانْ مِن شئٍ إلاّ عِنْدَنا خَزَائِنُه﴾(الحجر: 21)

﴿مَا مِنْ دَابَّةٍ إلاّ هو آخِذٌ بناصِيَتها﴾(هود: 56)

لقد تراءى لعقلي في شهر ذي القعدة وانا نزيل سجن (اسكي شهر) تجلٍ عظيمٌ من أنوار اسم الله الأعظم (القيوم) الذي هو الاسم الأعظم، أو السادس من الأنوار الستة للاسم الأعظم. كما تراءت نكتة من نكات هذه الآيات الكريمة المشيرة الى القيومية الإلهية.

بيد أن ظروف السجن المحيطة بي تحول دون أن أوفي حق هذه الانوار من البيان. وحيث ان الأمام علياً رضي الله عنه قد أبرز الاسم الأعظم في قصيدته المسماة بـ(أرجوزة السكينة) لدى بيانه لسائر الاسماء الجليلة من قصيدته (البديعة). يولي أهمية خاصة لتلك الاسماء الستة، فضلاً عما يمنحه لنا – بكرامة من الله – السلوان والعزاء اثناء بحثه لتلك الأسماء، لذا سنشير باشارات مختصرة الى بيان هذا النور الأعظم لإسم الله (القيوم) - كما فعلنا مع الاسماء الخمسة الأخرى - وسنجعل تلك الاشارات في خمسة أشعة.

الشعاع الأول:

ان خالق هذا الكون ذا الجلال (قيومٌ). أي: أنه قائم بذاته، دائم بذاته، باقٍ بذاته، وجميع الأشياء والموجودات قائمة به، تدوم به، تبقى في الوجود به، وتجد البقاء به. فلو انقطع هذا الانتساب للقيومية من الكون بأقل من طرفةِ عينٍ يُمحى الكونُ كله.

ثم ان ذلك الجليل مع قيوميته ﴿لَيْسَ كَمثلِه شئٌ﴾ كما وصفه القرآن الكريم. أي لا نظير له ولا مثيل ولا شبيه ولا شريك: في ذاته.. في صفاته.. وفي أفعاله.

نعم، ان الذي يمسك الكون كله أن يزول في قبضة ربوبيته ويدير جميع شؤونه ويدبّر جميع أحواله وكيفياته بكمال الإنتظام ومنتهى التدبير وغاية الرعاية، وفي سهولة مطلقة كادارة قصر أو بيت محالٌ ان يكون له مثلٌ او مِثيلٌ أو شريك أو شبيه.

نعم، ان مَن كان خلق النجوم سهلاً عليه وهيناً كخلق الذرات.. ويسخّر أعظم شئ في الوجود كأصغره ضمن قدرته المطلقة.. ولا يمنع شئ شيئاً عنه، ولا فعلٌ فعلاً، فالأفراد غير المحدودين نصبَ نظره كالفرد الواحد، والأصوات جميعُها يسمعها معاً، ويوفي حاجات الكل في آن واحد ودفعةٍ واحدة، ولا يخرج شئ مهما كان، ولا حالةٌ مهما كانت من دائرة مشيئته ونطاق ارادته - بشهادة الأنظمة والموازين الجارية في الكون - وكما انه لا يحدّه مكانٌ فهو بقدرته وبعلمهِ حاضرٌ في كل مكان، وكما ان كل شئ بعيدٌ عنه بُعداً مطلقاً، فهو أقرب اليه من أيّ شئ.. فهذا (الحي القيوم) ذو الجلال، لابد أنه ﴿لَيْسَ كَمثلِه شئٌ﴾ فلا نظير له ولاشريك ولاوزير ولاضد ولاندّ. بل محال في حقه كل ذلك. اما شؤونُه المنزّهة الحكيمة، فيمكن ان يُنظَر اليها بمنظار المَثَل والتمثيل (وجميع أنواع الأمثال والتمثيلات والتشبيهات الواردة في رسائل النور انما هي من هذا النوع من المثل والتمثيل).

فهذا الذات الأقدس الذي لا مثيل له، وهو الواجب الوجود، والمجرّد عن المادة المنزّه عن المكان، المحال عليه التجزؤ والانقسام، والممتنع عليه التغيّر والتبدل، والذي لا يمكن أن يُتصورَ عجزه واحتياجه ابداً، هذا الذات الأقدس قد أعطى قسمٌ من أهل الضلالة احكامَ ألوهيته العظيمة الى بعضِ مخلوقاته، وذلك بتوهمهمان تجلياته سبحانه المتجلية في صفحات الكون وطبقات الموجودات هي الذات الأقدس نفسه، ففوض قسم من هؤلاء بعض آثار تجلياته سبحانه الى الطبيعة والاسباب، والحال انه قد ثبت ببراهين متعددة ناصعة وفي عديد من رسائل النور:

أن الطبيعة: ما هي الاّ صنعة الهية ولا تكون صانعاً، وهي كتاب رباني ولا تكون كاتباً، وهي نقشٌ بديع ومحال ان تكون نقّاشاً مُبدعاً، وهي كراسٌ ولا تكون واضعة القوانين وصاحبة الكراس، وهي قانونٌ ولا تكون قدرةً، وهي مسطرٌ ولا تكون مصدراً للوجود، وهي شئ منفعل ولا تكون الفاعل، وهي نظام ومحال ان تكون ناظماً، وهي شريعة فطرية وممتنع ان تكون شارعاً مشرّعاً.

ولو أفترض محالاً وأحيل خلقُ أصغر كائن حي الى الطبيعة، وقيل لها - فرضاً -: هيا أوجدي هذا الكائن - مثلاً - فينبغي للطبيعة عندئذٍ ان تهئ قوالبَ مادية ومكائن - بعدد أعضاء ذلك الكائن لكي تستطيع ان تؤدي ذلك العمل!! وقد أثبتنا محالية هذا الفرض في مواضع كثيرة من رسائل النور.

ثم ان قسماً من أهل الضلالة الذين يطلق عليهم (الماديون) يشعرون بالتجلي الأعظم للخلاقية الإلهية والقدرة الربانية في تحولات الذرات المنتظمة، ولكنهم يجهلون مصدر ذلك التجلي، ويعجزون عن ان يدركوا من أين تُدار تلك القوة العامة النابعة من تجلي القدرة الصمدانية.. فلأنهم يجهلون كل ذلك فقد شرعوا باسناد اثار الألوهية الى الذرات نفسها والى حركاتها عينها، فتوهموا أزلية المادة والقوة. فسبحان الله!! أفيمكن لإنسانٍ ان يتردى الى هذا الدرك السحيق من الجهالة والخرافة المحضة، فيسند الآثار البديعة للخالق البديع والأفعال الحكيمة للعليم البصير - وهو المتعال عن المكان والزمان - الى ذراتٍ مضطربة بتيارات المصادفات، جامدةٍ عمياء غير شاعرة، لاحول لها ولا قوة، والى حركاتها!.. أفيمكن ان يقرّ بهذا أحد؟. فمن كان له مسكةٌ من عقل لابد ان يحكم بان هذا جهلٌ ما بعده جهل، وخرافة ما بعدها خرافة.

ان هؤلاء التعساء قد وقعوا في عبادة الهة كثيرة لأنهم أعرضوا عن الوحدانية المطلقة. أي لأنهم لم يؤمنوا بالهٍ واحد، أصبحوا مضطرين الى قبول ما لا نهاية له من الآلهة!.. أي لأنهم لم يستوعبوا بعقولهم القاصرة أزلية الذات الأقدس وخلاّقيته - وهما صفتان لازمتان ذاتيتان له سبحانه - فقد اصبحوا - بحكم مسلكهم الضال - مضطرين الى قبول أزلية ذرات جامدة لا حدّ لها ولا نهاية، بل الى قبول ألوهية الذرات!

فتأمل مبلغ الحضيض الذي سقطوا فيه، وسحيق الدرك الاسفل من الجهل الذي تردّوا فيه!

نعم! ان التجلي الظاهر (للحي القيوم) في الذرات قد حوّلها الى ما يشبه الجيش المهيب المنظم بحول الله وقوته وأمره، فلو سُحب أمرُ القائد الأعظم لأقل من طرفة عين من تلك التي لا تحد من الذرات الجامدة والتي لاشعور لها ولاعقل، لظلت سائبة، بل تمحى نهائياً من الوجود.

ثم ان هناك من يتظاهرون ببُعد النظر، فيسوقون فكراً أجهل من السابق وأوغل في الخرافة منه حيث يتوهمون ان مادة الأثير هي المصدر وهي الفاعل، لقيامها بمهمة المرآة العاكسة لتجليات ربوبية الخالق سبحانه! علماً انها ألطف وأرق وأطوع صحيفة من صحائف اجراءات الصانع الجليل واكثرها تسخيراً وانقياداً، وهي وسيلة لنقل أوامره الجليلة. وهي المداد اللطيف لكتاباته، والحلّة القشيبة الشفيفة لايجاداته، والخميرة الاساس لمصنوعاته، والارض الخصبة لحبّاته.

فلا شك ان هذا الجهل العجيب المرعب يستلزم محالات لاحد لها ولا نهاية، وذلك لأن مادة الأثير هي ألطف من مادة الذرات التي

غرق بها الماديون في مستنقع الضلالة، وهي اكثف من الهيولي(3) التي ضلّ فيها الفلاسفة القدماء وتاهوا. وهي مادة جامدة لاأرادة لها ولاأختيار ولاشعور، فإسناد الافعال والآثار الى هذه المادة القابلة للأنقسام والتجزؤ والمجهّزة للقيام بوظيفة النقل وخاصة الإنفعال، والى ذراتها التي هي اصغر من الذرات لاشك انه جريمة وخطأ فاحش بعدد ذرات الأثير؛ لأن تلك الافعال والآثار الربانية لا يمكن ان تحدث الاّ بارادة من يقدِر على رؤية كل شئ في أي شئ كان ومَن يملك علماًِ محيطاً بكل شئ.

نعم! ان فعل الايجاد المشهود في الموجودات يتسم بكيفية معينة واسلوب منفرد بحيث يدل دلالة واضحة على ان الموجِد هو صاحبُ قدرةٍ قادرة واختيار طليق، يرى اكثر الاشياء، بل الكون كله لدى ايجاده أيَّ شئ كان، ولاسيما الكائن الحي ويعلم كل ما يرتبط به من الأشياء، ثم يضع ذلك الشئ في موضعه الملائم له، ويضمن له البقاء في ذلك الموقع، أي ان الاسباب المادية الجاهلة لا يمكن ان تكون بحال من الأحوال فاعلاً لها.

نعم، ان فعلاً ايجادياً - مهما كان جزئياً - يدل دلالة عظيمة - بسر القيومية - على انه فعلُ خالِق الكون فعلاً مباشراً. فالفعل المتوجّه الى ايجاد نحلة - مثلاً - يدلنا بجهتين على أنه يخص خالق الكون ورب العالمين.

الجهة الاولى

ان قيام تلك النحل مع أمثالها في جميع الأرض بالفعل نفسه في الوقت نفسه يدلنا على ان هذا الفعل الجزئي الذي نشاهده في نحلة واحدة انما هو طرفٌ لفعلٍ يحيط بسطح الارض كله. أي ان من كان فاعلاً لذلك الفعل العظيم الواسع ومالكاً له فهو صاحب ذلك الفعل الجزئي.

الجهة الثانية

لأجل ان يكون أحدٌ فاعلاً لهذا الفعل الجزئي المتوجه الى خلقِ هذه النحلة الماثلة أمامنا، ينبغي ان يكون - الفاعل - عالماً بشروط حياة تلك النحلة وأجهزتها وعلاقاتها مع الكائنات الاخرى وكيفية ضمان حياتها ومعيشتها، فيلزم اذن ان يكون ذا حكم نافذ على الكون كله ليجعل ذلك الفعل كاملاً. أي ان أصغر فعلٍ جزئي يدل من جهتين على أنه يخصّ خالقَ كل شئ. ولكن اكثر ما يحيّر الانسان ويجلب انتباهه هو: ان الأزلية والسرمدية التي هي من أخص خصائص الألوهية وألزم صفةٍ للذات الأقدس المالك لأقوى مرتبة في الوجود وهو (الوجوب) وأثبت درجة في الوجود وهو (التجرد من المادة) وأبعد طور عن الزوال وهو (التنزه عن المكان) واسلم صفة من صفات الوجود وأقدسها عن التغير والعدم وهو (الوحدة).

أقول: ان الذي يحير الانسان ويثير قلقه، ويجلب انتباهه انما هو: منح صفة الأزلية والسرمدية الى الأثير والذرات وما شابهها من المواد المادية التي لها أضعف مرتبة من مراتب الوجود، وأدق درجة فيه، واكثر أطواره تغيراً وتحولاً، وأعمها انتشاراً في المكان، ولها الكثرة التي لا تحد.. فإسناد الأزلية الى هذه المواد وتصورها أزليةً، وتوهم نشوء قسم من الآثار الألهية منها، ما هو الاّ مجافاة وأي مجافاة للحقيقة وأمرٌ منافٍ أي منافاة للواقع، وبعيد كل البعد عن منطق العقل وباطل واضح البطلان وقد أثبتنا هذا في كثير من الرسائل ببراهين رصينة.

الشعاع الثاني: وهو مسألتان:

المسألة الاولى: قال تعالى:

﴿لا تأخذُهُ سِنةٌ ولا نَومٌ﴾(البقرة: 255)

﴿ما مِنْ دابةٍ الاّ هو آخذٌ بناصِيَتِها﴾(هود: 56)

﴿لهُ مقاليدُ السّموات والارض﴾(الزمر: 63)

وأمثالها من الآيات التي تتضمن حقيقة عظمى تشير الى التجلي الأعظم لاسم الله (القيوم).. سنورد وجهاً واحداً من تلك الحقيقة، وهو الآتي:

ان قيام الأجرام السماوية في هذا الكون ودوامَها وبقاءها انما هو مشدود بسر القيومية، فلو صَرف سر القيومية وتجلّيه وجهَه - ولو لأقل من دقيقة - لتبعثرت تلك الأجرام التي تفوق ضخامة بعضها ضخامة الكرة الأرضية بألوف المرات ولإنتثرت ملايين الأجرام في فضاء غير متناهٍ ولإصطدم بعضُها ببعض ولَهَوت الى سحيق العدم.

لنوضح ذلك بمثال:

اننا مثلما نفهم قدرة قيومية مَن يُسيّر ألوف قصور ضخمة في السماء بدل الطائرات بمقدار ثبات تلك الكتل الهائلة التي في السماء ودوامها، وبمدى انتظام دورانها وانقيادها في جريها. نفهم أيضاً: تجلي الأسم الأعظم: (القيوم) من منح القيوم ذي الجلال قياماً وبقاءاً ودواماً - بسر القيومية - لأجرامٍ سماوية لا حدّ لها في أثير الفضاء الواسع، وجريانها في منتهى الإنقياد والنظام والتقدير، واسنادها وادامتها وابقائها دون عمد ولا سند، مع ان قسماً منها أكبر من الأرض ألوف المرات وقسماً منها ملايين المرات، فضلاً عن تسخير كل منها وتوظيفها في مهمة خاصة، وجعلها جميعاً كالجيش المهيب، منقادةً خاضعة خضوعاً تاماً للأوامر الصادرة ممن يملك أمر (كن فيكون). فكما ان ذلك يمكن ان يكون مثالاً قياسياً للتجلي الأعظم لاسم (القيوم) كذلك ذرات كل موجود - التي هي كالنجوم السابحة في الفضاء - فانها قائمةٌ ايضاً بسر القيومية، وتجد دوامَها وبقاءها بذلك السر.

نعم! ان بقاء ذرات جسم كل كائن حي دون ان تتبعثر وتجمّعها على هيئة معينة وتركيب معين وشكل معين حسب ما يناسب كل عضو من اعضائه، علاوةً على احتفاظها بكيانها وهيئتها أمام سيل العناصر الجارفة دون ان تتشتت، واستمرارها على نظامها المتقن..

كل ذلك لا ينشأ - كما هو معلوم بداهة - من الذرات نفسها، بل هو من سر القيومية الإلهية التي ينقاد لها كلٌّ فردٍ حي انقيادَ الطابور في الجيش، ويخضع لها كلُّ نوعٍ من أنواع الأحياء خضوعَ الجيش المنظم.

فمثلما يُعلن بقاءُ الأحياء والمركبات ودوامُها على سطح الأرض وسياحةُ النجوم وتجوالُها في الفضاء (سرَّ القيومية) تعلنه هذه الذرات أيضاً بألسنة غير معدودة.

المسألة الثانية:

هذا المقام يقتضي الاشارة الى قسم من فوائد الأشياء وحِكَمها المرتبطة بسر القيومية. ان حكمة وجود كل شئ، وغايةَ فطرته، وفائدةَ خلقه، ونتيجة حياته - كلاً منها - انما هي على أنواع ثلاثة.

النوع الاول: وهو المتوجه الى نفسه والى الانسان ومصالحه.

النوع الثاني: (وهو الأهم من الأول): هو ان كل شئ في الوجود بمثابة آية جليلة، ومكتوب رباني، وكتاب بليغ، وقصيدة رائعة، يستطيع كلُّ ذي شعور ان يطالعها ويتعرّف من خلالها على تجلّى اسماء الفاطر الجليل. أي ان كل شئ يعبّر عن معانيه الغزيرة لقرائه الذين لا يحصيهم العد.

أما النوع الثالث: فهو يخص الصانَع الجليل، وهو المتوجه اليه سبحانه، فلو كانت فائدةُ خلقِ الشئ في نفسه واحدةً فالتي يتطلع منها الى الباري الجليل هي مئات من الفوائد، حيث أنه سبحانه يجعله موضع نظره الى بدائع صنعه، ومحطّ مشاهدة تجلي أسمائه الحسنى فيه، فضمن هذا النوع الثالث العظيم من حكمة الوجود يكفي العيش لثانية واحدة.

هذا وسيوضح في (الشعاع الثالث) سرٌ من أسرار القيومية الذي يقتضي وجود كل شئ.

تأملتُ ذات يوم في فوائد الموجودات وحكمها من زاوية انكشاف(طلسم الكائنات) و (لغز الخلق) فقلت - في نفسي -: (لماذا ياتُرى، تعرض هذه الأشياء نَفسَها وتُظهِرُها ثم لاتلبث أن تختفي وترحل مسرعةً؟).. انظر الى أجسامها وشخوصها فاذا كل منها منظم منسق قد اُلبس وجوداً على قدِّه وقدره بحكمةٍ واضحة وزُيّن بأجمل زينة وألطفها، واُرسل بشخصية ذات حكمة وجسم منسق ليُعرَض أمام المشاهدين في هذا المعرض الواسع.. ولكن ما أن تمر بضعة أيام - أو بضع دقائق - الاّ وتراه يتلاشى ويختفي من دون أن يترك فائدة أو نفعاً.!! فقلت: تُرى ما الحكمة من وراء هذا الظهور لنا لفترة قصيرة كهذه؟..

كنت في لهفة شديدة للوصول الى معرفة السر.. فادركني لطفُ الرب الجليل سبحانه.. فوجدت - في ذلك الوقت - حكمةً مهمة من حِكَم مجئ الموجودات - ولا سيما الأحياء - الى مدرسة الأرض، والحكمة هي: ان كل شئ - ولا سيما الأحياء - انما هي كلمة إلهية ورسالة ربانية وقصيدةٌ عصماء، واعلانٌ صريح في منتهى البلاغة والحكمة. فبعد ان يصبح ذلك الشئ موضع مطالعة جميع ذوي الشعور، ويفي بجميع معانيه لهم ويستنفد أغراضه، تتلاشى صورتهُ الجسدية وتختفي مادتُه تلك التي هي: بحكم لفظ الكلمة وحروفها،تاركة معانيها في الوجود. لقد كفتني معرفة هذه الحكمة طوال سنة.. ولكن بعد مضيها انكشفت أمامي المعجزات الدقيقة في المصنوعات والاتقان البديع فيها ولا سيما الأحياء. فتبيّن لي:

ان هذا الأتقان البديع جداً والدقيق جداً في جميع المصنوعات ليس لمجرد افادة المعنى أمام أنظار ذوي الشعور؛ اذ رغم ان ما لا يحد من ذوي الشعور يطالعون كلَّ موجود الاّ ان مطالعتهم - مهما كانت - فهي محدودة، فضلاً عن أنه لا يستطيع كل ذي شعور ان ينفذ الى دقائق الصنعة وابداعها في الكائن الحي ولا يقدر على اكتناه جميع أسرارها.

فأهم نتيجة اذاً في خلق الأحياء وأعظم غاية لفطرتها انما هي:

عرضُ بدائع صنع (القيوم الأزلي) أمامَ نظره سبحانه، وابرازُ هدايا رحمته وآلائه العميمة التي وهبها للأحياء، أمام شهوده جل وعلا.. لقد منحتني هذه الغاية اطمئناناً كافياً وقناعة تامة لزمن مديد. وأدركت منها:

ان وجود دقائق الصنع وبدائع الخلق في كل موجود - ولا سيما الأحياء - بما يفوق الحد، انما هو لعرضها أمام (القيوم الأزلي) أي ان حكمة الخلق هي:

مشاهدة (القيوم الازلي) لبدائع خلقه بنفسه.. وهذه المشاهدة تستحق هذا البذل العميم وهذه الوفرة الهائلة في المخلوقات.

ولكن بعد مضي مدة.. رأيت أن دقائق الصنع والاتقان البديع في شخوص الموجودات وفي صورتها الظاهرة لاتدوم ولاتبقى، بل تتجدد بسرعة مذهلة، وتتبدل آناً بعد آن، وتتحول ضمن خلق مستمر متجدد وفعالية مطلقة.. فأخذتُ أوغل في التفكير مدة من الزمن.

وقلت: لابد ان حكمة هذه الخلاقية والفعالية عظيمةٌ عظمَ تلك الفعالية نفسها.. وعندها بدت الحكمتان السابقتان ناقصتين وقاصرتين عن الايفاء بالغرض. وبدأت أتحرى حكمة أخرى بلهفة عارمة، وابحث عنها باهتمام بالغ.. وبعد مدة - و لله الحمد والمنة - تراءت لي حكمةٌ عظيمة لاحد لعظمتها وغاية جليلة لامنتهى لجلالها، تراءت لي من خلال فيض نور القرآن الكريم ونبعت من سر القيومية..

فأدركت بها سراً إلهياً عظيماً في الخلق، ذلك الذي يطلق عليه (طلسم الكائنات) و (لغز المخلوقات)!

سنذكر في (الشعاع الثالث) هنا بضع نقاط من هذا السر ذكراً مجملاً حيث انه قد فصل تفصيلاً كافياً في (المكتوب الرابع والعشرين) من المكتوبات.

نعم! انظروا الى تجلي سر القيومية من هذه الزاوية وهي :

ان الله أخرج الموجودات من ظلمات العدم ووهب لها الوجودومنحها القيام والبقاء في هذا الفضاء الواسع، وبوأ الموجودات موقعاً لائقاً لتنال تجلياً من تجليات سر القيومية كما بينته الآية الكريمة: ﴿الله الذي رفعَ السمواتِ بغير عَمَدٍ تَرَوْنها﴾(الرعد:2). فلولا هذه الركيزة العظيمة وهذا المستند الرصين للموجودات، فلا بقاء لشئ بل لتدحرج كل شئ في خضم فراغ لا حدّ له، ولهوى الى العدم.

وكما تستند جميع الموجودات الى (القيوم الأزلي) ذي الجلال في وجودها وفي قيامها وبقائها، وان قيام كل شئ به سبحانه.. كذلك جميعُ أحوال الموجودات قاطبة وأوضاعها كافة وكيفياتها المتسلسلة كلها مرتبطةٌ بداياتُها أرتباطاً مباشراً بسر القيومية، كما توضحها الآية الكريمة: ﴿واليه يُرجَع الأمرُ كُلُّه﴾(هود: 123) اذ لولا استناد كل شئ الى تلك النقطة النورانية، لنتج ما هو محال لدى أرباب العقل من ألوف الدور والتسلسل، بل بعدد الموجودات. ولنوضح ذلك بمثال:

أن الحفظ، أو النور، أو الوجود، أو الرزق أو ما شابهه من أي شئ كان، انما يستند - من جهة - الى شئ آخر، وهذا يستند الى آخر، وهذا الى آخر وهكذا.. فلابد من نهاية له، اذ لا يعقل الاّ ينتهي بشئ. فمنتهى امثال هذه السلاسل كلها انما هو في (سر القيومية).

وبعد أدراك هذا السر (سر القيومية) لايبقى معنىً لأستناد أفراد تلك السلاسل الموهومة بعضها بالبعض الآخر، بل تُرفع نهائياً وتزال. فيكون كل شئ متوجهاً توجهاً مباشراً الى (سر القيومية).

الشعاع الثالث:

سنشير في مقدمة أو مقدمتين الى طرفٍ من انكشاف (سر القيومية) الذي تتضمنه الخلاقية الإلهية والفعالية الربانية كما تشير اليها امثال هذه الآيات الكريمة:

﴿كُلَّ يَوم هو في شأن﴾(الرحمن: 29)

﴿فعّالٌ لِمَا يُريدُ﴾(البروج:16)

﴿يَخْلُقُ ما يَشَاءُ﴾(الروم:54)

﴿بِيَدِهِ مَلكُوت كلِّ شىءٍ﴾(يس:83)

﴿فانْظُر الى آثارِ رَحْمتِ الله كَيْفَ يُحيي الأرض بَعْدَ مَوتِهَا﴾(الروم:50)

حينما ننظر الى الكائنات بعين التأمل، نرى: ان المخلوقات تضطرب في خضم سيل الزمان وتتعاقب قافلةً إثر قافلة. فقسمٌ منها لا يلبث ثانية ثم يغيب، وطائفة منها تأتي لدقيقة واحدة ثم تمضي الى شأنها. ونوع منها يمر الى عالم الشهادة مر الكرام ثم يلج في عالم الغيب بعد ساعة. وقسم منها يحط رحلَه في يومٍ ثم يغادر، وقسم منها يمكث سنة ثم يمضي، وقسم يمضي عصراً ثم يرحل، وآخر يقضي عصوراً ثم يترك هذا العالم.. وهكذا فكلٌ يأتي ثم يغادر بعد اداء مهمته الموكولة اليه.

فهذه السياحة المذهلة للعقول، وذلك السيل الجاري للموجودات والسفر الدائب للمخلوقات، انما تتم بنظام متقن وميزان دقيق وحكمة تامة، والذي يقود هذه الرحلة المستمرة ويمسك بزمامها، يقودها ببصيرة ويسيّرها بحكمة، ويسوقها بتدبير بحيث لو اتحدت جميع العقول واصبحت عقلاً واحداً لما بلغ معرفة كنه هذه الرحلة ولا يصل الى ادراك حكمتها، ناهيك عن ان يجد فيها نقصاً او قصوراً.

وهكذا ضمن هذه الخلاقية الربانية يسوق الخالق تلك المصنوعات اللطيفة المحبوبة اليه - ولاسيما الاحياء - الى عالم الغيب دون ان يمهلها لتتفسح في هذا العالم. ويعفيها من مهماتها في حياتها الدنيوية دون ان يدعها تنشرح وتنبسط، فيملأ دار ضيافته هذه بالضيوف ويخلّيها منهم باستمرار دون رضاهم، جاعلاً من الكرة الارضية ما يشبه لوحة كتابة - كالسبورة - يكتب فيها باستمرار قلم القضاء والقدر كتاباته ويجددها، ويبدلها، بتجليات مَن(يُحيي ويُميت).

وهكذا، فان سراً من اسرار هذه الفعالية الربانية وهذه الخلاًقيةالالهية، ومقتضياً اساساً من مقتضياتها وسبباً من الاسباب الداعية لها انما هو حكمة عظيمة لا حدّ لها ولانهاية، هذه الحكمة تتشعب الى ثلاث شعب مهمة:

فالشعبة الاولى من تلك الحكمة:

هي أن كل نوع من انواع الفعالية - جزئياً كان ام كلياً - يورث لذة، بل ان في كل فعالية لذة، بل الفعالية نفسها هي عين اللذة، بل الفعالية هي تظاهر الوجود الذي هو عين اللذة، وهو انتفاضة بالتباعد عن العدم الذي هو عين الالم.

وحيث ان صاحب كل قابلية يرقُب بلهفة ولذة ما ينكشف عن قابلياته بفعالية ما، وان تظاهر كل استعداد بفعالية انما هو ناشئٌ من لذةٍ مثلما يولّد لذةً، وان صاحب كل كمال ايضاً يتابع بلهفة ولذة تظاهر كمالاته بالفعالية، فاذا كان في كل فعالية لذة كامنة مطلوبة كهذه وكمال محبوب كهذا، والفعالية نفسها كمال، وتشاهد في عالم الاحياء تجليات أزلية لرحمة واسعة ومحبة لا نهاية لها نابعة من حياة سرمدية.. فلا شك ان تلك التجليات تدل على:

ان الذي يحبّب نفسه الى مخلوقاته، ويحبّهم ويرحمهم باسباغ نِعَمه وألطافه عليهم على هذه الصورة المطلقة، تقتضي حياته السرمدية عشقاً مطلقاً (لاهوتياً اذا جاز التعبير) ومحبة مقدسة مطلقة، ولذة - منه - منزّهة سامية.. وأمثالها من الشؤون الالهية المقدسة اللائقة بقدسيته والمناسبة لوجوب وجوده. فتلك الشؤون الالهية بمثل هذه الفعالية التي لا حد لها، وبمثل هذه الخلاقية التي لا نهاية لها، تجدّد العالَم وتبدٍّله وتخضّه خضاً.

الشعبة الثانية من حكمة الفعالية الالهية المطلقة المتوجهة الى سر القيومية:

هذه الحكمة تطل على الاسماء الالهية الحسنى.

من المعلوم ان صاحب كل جمال يرغب ان يرى جماله ويُريَه الآخرين، ويودّ صاحب المهارة ان يلفت الانظار اليه بعرض مهاراته واعلانه عنها. فالحقيقة الجميلة الكامنة، والمعنى الجميل المخبوء يتطلعان اذاً الى الانطلاق واستقطاب الانظار.

ولما كانت هذه القواعد الرصينة سارية في كل شئ، كلٍ حسب درجته. فلا بد ان كل مرتبة من مراتب كل اسمٍ من ألف اسم واسم من الاسماء الحسنى للجميل المطلق وللقيوم ذي الجلال، ينطوي على حُسنٍ حقيقي، وكمالٍ حقيقي، وجمال حقيقي، وحقيقة جميلة باهرة بشهادة الكائنات كلها، وتجليات تلك الاسماء الظاهرة عليها، واشارات نقوشها البديعة فيها، بل ان كل مرتبة من مراتب كل اسم من الاسماء الحسنى فيهامن الحسن والجمال والحقائق الجميلة ما لايحصره حدّ.

وحيث ان هذه الموجودات وهذه الكائنات هي مرايا عاكسة لتجليات جمال هذه الاسماء المقدسة.. وهي لوحات بديعة تُعرض فيها نقوش تلك الاسماء الجميلة.. وهي صحائفها التي تعبر عن حقائقها الجميلة.

فلابد ان تلك الاسماء الدائمة الخالدة ستعرض تجلياتها غير المحدودة، وتبرز نقوشها الحكيمة غير المعدودة، وتشهر صحائف كتبها امام نظر مسمّاها الحق وهو (القيوم) ذو الجلال، فضلاً عن عرضها امام انظار ما لا يعد من ذوي الارواح وذوي الشعور لمطالعتها والتأمل فيها.

ولا بد انها تجدّد الكائنات عامة وعلى الدوام بتجلياتها وتُبدِّلها إستناداً الى ذلك العشق الالهي المقدس، وبناءً على سر القيومية الالهية، وذلك لاجل ابراز لوحاتٍ لا نهاية لها من شئ محدود، وعرض شخوصٍ لا حدّ لها من شخص واحد، واظهار حقائق كثيرة جداً من حقيقة واحدة.

الشعاع الرابع:

الشعبة الثالثة من حكمة الفعالية الدائمة المحيٍّرة في الكون:

هي ان كل ذي رحمة يُسرّ بإرضاء الآخرين، وكل ذي رأفة ينشرح اذا ما أدخل السرور الى قلوب الاخرين، وهكذ يبتهج ذو المحبة بابهاج مخلوقاته الجديرة بالبهجة، كما يسعد كلُّ ذي همة عالية وصاحب غيرة وشهامة باسعاده الآخرين، ومثلما يفرح كل عادل بجعل اصحاب الحقوق ينالون حقهم ويشكرونه لوضع الحق في نصابه وانزال العقاب على المقصّرين، يزهو كلُّ صناع ماهر ويفتخر بعرض صنعته واشهار مهارته لدى قيام مصنوعاته بانتاج ما كان يتوقعه على أتم وجه يتصوره.

فكلٌ من هذه الدساتير المذكورة آنفاً، قاعدة اساسية عميقة راسخة جارية في الكون كله مثلما تجري في عالم الانسان.

ولقد وضّحنا في (الموقف الثاني من الكلمة الثانية والثلاثين) أمثلة ثلاثة تبين جريان هذه القواعد الاساسية في تجليات الاسماء الحسنى، نرى من المناسب اختصارها هنا فنقول:

ان الذي يملك رحمة فائقة وهمة عالية مع منتهى الكرم والسخاء، يسعده جداً ان يغدق على فقراء مدقعين ومحاويج مضطرين ويتفضل عليهم بكرمه وجوده، فيعدّ لهم موائد ولائم فاخرة ومأكولات نفيسة على متن سفينة عامرة تجري بهم في بحار الأرض ليُدخل البهجة والسرور في قلوبهم ضمن سياحة جميلة ونزهة لطيفة.. فهذا الشخص يستمتع من مظاهر الشكر المنبعثة من اولئك الفقراء، وينشرح صدره انشراحاً عظيماً وهو يشاهد تمتعهم بمباهج النعم والآلاء، ويفتخر بسرورهم ويزهو بفرحم.. كل ذلك بمقتضى ما أودع الله في فطرته من سجايا سامية وصفات رفيعة.

فاذا كان الانسان الذي هو بمثابة أمين على ودائع الخالق الكريم وموظف للتوزيع ليس الاّ، اذا كان يستمتع وينشرح ويتلذذ الى هذا القدر لدى اكرامه الآخرين في ضيافة جزئية، فكيف اذن ياترى بالحيالقيوم - ولله المثل الاعلى - الذي تنطلق اليه آياتُ الحمد والشكر وتُرفع اليه اكفّ الثناء والرضى بالدعاء والتضرع من مخلوقاتٍ لا حدّ لهم من الاحياء الى الانسان والملائكة والجن والارواح، الذين حملهم في سفينة الرحمن - الارض - واسبغ عليهم نِعَمه ظاهرة وباطنة بانواع مطعوماته المنسجمة تماماً مع ما غرز فيهم من اذواق وارزاق، وتفضَّل عليهم بهذه السياحة الربانية في أرجاء الكون. فضلاً عن جعله كلَّ جنةٍ من جنانه في دار الخلود، دار ضيافة دائمة معدَّة فيها كل ما تشتهيه الأنفس وتلذ الاعين... فجميع آيات الشكر والحمد والرضى المنطلقة من جميع المخلوقات قاطبة والمنبعثة من سرورهم وفرحهم وابتهاجهم بالنعم والآلاء العميمة عليهم والمتوجهة كلها الى الحي القيوم تولد من الشؤون الالهية، المقدسة التي تقتضي هذه الفعالية الدائمة والخلاقية المستمرة، تلك الشؤون التي يُعجز التعبير عنها ولم يؤذن لنا بالافصاح عنها، بل ربما يشار اليها باسماء: (الرضى المقدس) و(الافتخار المقدس) و (اللذة المقدسة) وما شابهها من الاسماء التي نُعبّر بها - نحن البشر - عن معاني الربوبية المنزّهة.

ومثال آخر:

اذا قام صنّاع ماهر، بصنع حاكٍ - بلا اسطوانة - يعبّر عما يريده منه ويعمل على افضل صورة يرغبها هو، كم يكون ذلك الصناع مفتخراً، وكم يكون متلذذاً من رؤية صنعته على هذه الصورة وكم يكون مسروراً حتى يردد في نفسه: ما شاء الله..

فاذا كانت صنعة صغيرة صورية - من دون ايجاد حقيقي - تثير في روح صانعها الى هذه الدرجة من مشاعر الافتخار والرضى. فكيف بالصانع الحكيم الذي أوجد هذه الموجودات كلها وجعلها موسيقى إلهية تعبّر عن شكرها وتسبيحها وتقديسها بأنواعٍ من النغمات وانواع من الكلام، كما جعلها مصنعاً عجيباً فضلاً عما أسبغعلى كل نوع من أنواع الكائنات، وكل عالم من عوالم الكون من صنعةٍ متقنة بديعة متباينة معجزة بخوارقها، أضف الى ذلك المكائن الكثيرة التي اودعها في رؤوس ذوي الحياة الشبيهة بالحاكي وآلات التصوير وأجهزة البث والاستقبال، بل أودع أعجب من هذه الاجهزة المعجزة حتى في رأس أصغر حيوان! بل لم يودع في رأس الانسان مجرد حاكٍ بلا اسطوانة، ولا آلة تصوير بلا عدسة، ولا هاتفاً بلا سلك بل مكائن اعجب بكثير وخوارق أعظم وأعظم مما ذكر بكثير.

فما يُنشئه عمل هذه المكائن العاملة وفق ارادته والمودَعة في رأس الانسان المخلوق في احسن تقويم من معاني الافتخار المقدس والرضى المقدس، وأمثالها من المعاني الجليلة والشؤون المقدسة للربوبية - التي هي من هذا النوع - يستلزم حتماً هذه الفعالية الدائمة المشاهدة.

ومثلاً:

ان الحاكم العادل يجد لذة ومتعة ورضىً عندما يأخذ حقَّ المظلوم من الظالم ويجعل الحق يأخذ نصابه، ويفتخر لدى صيانته الضعفاء من شرور الاقوياء، ويسر لدى منحه كل فرد ما يستحقه من حقوق.. كل ذلك من مقتضيات الحاكمية والعدالة وقواعدهما الاساس.

فلا بد ان الحاكم الحكيم العادل الذي هو (الحي القيوم) منحه شرائط الحياة في صورة حقوق الحياة للمخلوقات كافة ولاسيما الاحياء.. وباحسانه اليهم باجهزة تحافظ على حياتهم.. وبحمايته الضعفاء من شرور الاقوياء بكل رحمة ورأفة.. وبتوليه اظهار سر العدالة في الكون باعطاء كل ذي حق من الاحياء حقَّه كاملاً، وبانزال شئ من العقوبة بالظالمين - في هذه الدنيا - وبخاصة ما يحصل من التجلي الكامل للعدالة العظمى في المحكمة الكبرى ليوم الحشر الاعظم.. يحصل من كل هذا ما نعجز عن التعبير عنه من شؤون ربانية ومعانٍ قدسية جليلة هي التي تقتضي هذه الفعالية الدائمة فيالكون.

وهكذا في ضوء هذه الامثلة الثلاثة:

فان الاسماء الالهية عامة، وكلَّ اسمٍ منها خاصة، يقتضي هذه الخلاّقية الدائمة، حيث يكون محوراً لقسم من هذه الشؤون الالهية المقدسة وأمثالها ضمن هذه الفعالية الدائمة.

وحيث ان كل قابلية وكل استعداد يورث فرحاً وانشراحاً ولذةً، بمنحها الثمار والفوائد لدى انبساطها وانكشافها.. وان كل موظف يشعر - عند اتمام الوظيفة وانهائها على الوجه المطلوب - براحة وأيّ راحة.. وان جني ثمرات كثيرة من بذرة واحدة، واغتنام ربح مئات الدراهم من درهم واحد هي حالات مفرحة جداً لأصحابها وتعد تجارة رابحة لهم..

فلا بد ان يفهم مدى أهمية المعاني المقدسة وشؤون الربوبية الالهية الناشئة من الفعالية الدائمة والخلاقية الربانية التي تكشف عن جميع الاستعدادات التي لا تحد، وجميع القابليات التي لا تعد، لجميع المخلوقات غير المحدودة.. والتي تُنهي وظيفة جميع المخلوقات بعد ان تستخدمها في وظائف جسيمة وترقّيها بهذا التسريح الى مراتب أسمى وأعلى - كأن ترقى العناصر الى مرتبة المعادن، والمعادن الى حياة النباتات، والنباتات الى درجة حياة الحيوانات بما تمدّها من رزق، والحيوانات الى مرتبة الانسان الشاعرة والعالية بالشكر والحمد - والتي تجعل كل كائن يخلُف انواعاً من الوجود كروحه وماهيته وهويته وصورته بعد زوال ظاهر وجوده لتؤدي المهمة نفسها (كما وضح في المكتوب الرابع والعشرين).

جوابُ قاطع عن سؤال مهم

يقول قسم من أهل الضلالة:

ان الذي يغيّر الكائنات بفعالية دائمة ويبدلها، يلزم ان يكون هو متغيراً ومتحولاً أيضاً.

الجواب:

كلا ثم كلا. حاش لله ألف ألف مرة حاش لله!

ان تغيّر اوجه المرايا في الارض، لا يدل على تغير الشمس في السماء، بل يدل على اظهار تجدد تجليات الشمس. فكيف بالذي هو أزلي وأبدي وسرمدي وفي كمال مطلق وفي استغناء مطلق (عن الخلق) وهو الكبير المتعال المقدس عن المادة والمكان والحدود، والمنزّه عن الامكان والحدوث، فتغيّر هذا الذات الاقدس محال بالمرة.

ثم ان تغير الكائنات، ليس دليلاً على تغيّره هو، بل هو دليل على عدم تغيره، وعدم تحوّله سبحانه وتعالى. لان الذي يحرّك اشياءً عديدة بانتظام دقيق ويغيّرها، لابد الاّ يكون متغيراً والاّ يتحرك.. مثال ذلك: انك اذا كنت تحرك كرات كبيرة وصغيرة مرتبطة بعدة خيوط؛ حركة منتظمة ودائمة، وتضعها في اوضاع منتظمة، ينبغي ان تكون أنت ثابتاً في مكانك دون ان تتحول عنه والاّ اختل الانتظام.

ومن القواعد المشهورة: ان الذي يحرّك بانتظام ينبغي الاّ يتحرك، والذي يغيّر باستمرار ينبغي الاّ يكون متغيراً. كي يستمر ذلك العمل في انتظامه.

ثانياً: ان التغير والتبدل ناشئ من الحدوث، ومن التجدد بقصد الوصول الى الكمال، ومن الحاجة، ومن المادية، ومن الامكان.

أما الذات الاقدس؛ فهو قديم أزلي، وفي كمال مطلق، وفي استغناء مطلق، منزّه عن المادة، وهو الواجب الوجود، فلا بد ان التبدل والتغير محال في حقه وغير ممكن أصلاً.

الشعاع الخامس:

المسألة الاولى:

اذا اردنا ان نرى التجلي الاعظم لاسم الله (القيوم) فما علينا الاّ ان نجعل خيالنا واسعاً جداً بحيث يمكنه ان يشاهد الكون بأسره، فنجعل منه نظارتين احداهما ترى أبعد المسافات كالمرصد والاخرى تشاهد اصغر الذرات .

فاذا ما نظرنا بالمنظار الاول نرى:

ان ملايين الكرات الضخمة والكتل الهائلة التي منها ما هو اكبر من الارض بألوف المرات، قد رُفعت بتجلي اسم (القيوم) بغير عمد نراها، وهي تجري ضمن أثير لطيف ألطف من الهواء، وتسخَّر لاجل القيام بمهام عظيمة في حركاتها وفي ثباتها الظاهر.

لنرجع الآن الى المنظار الاخر.. لنرى أصغر الاشياء، فاذا بنا امام ذرات متناهية في الصغر تشكل اجسام الاحياء - بسرّ القيومية - وهي تأخذ اوضاعاً منتظمة جداً كالنجوم، وتتحرك وفق نظام معين وتناسق مخصص منجزة بها وظائف جمة، فان شئت فانظر الى الكريات الحمر والبيض تراهما تتحركان حركات خاصة شبيهة بحركات المولوية لأنجاز مهمات جسيمة في الجسم وهما تجريان في السيل الدافق للدم.

خلاصة الخلاصة :(3)

لقد ارتأينا ان ندرج هنا خلاصة تبين الضياء المقدس الحاصل من امتزاج أنوار الاسماء الستة للاسم الأعظم، كامتزاج الألوان السبعة لضوء الشمس - ولله المثل الاعلى - ولأجل مشاهدة هذا النور المقدس نسوق هذه الخلاصة:

تأمل في موجودات الكون كله وانظر اليها من وراء هذا التجلي الاعظم لاسم (القيوم) الذي منح البقاء والدوام والقيام لها ترَ: ان التجلي الاعظم لاسم (الحي) قد جعل تلك الموجودات الحية ساطعةً منورة بتجليه الباهر، وجعل الكائنات كلها منورة بنوره الزاهر، حتى يمكن مشاهدة لمعان نور الحياة على الاحياء كافة.

والآن انظر؛ الى التجلي الاعظم لاسم (الفرد) من وراء اسم (الحي) ترَه قد ضمّ جميع الكائنات بأنواعها وأجزائها واستوعبها ضمن وحدة واحدة، فهو يطبع على جبهة كل شئٍ ختم الوحدانية، ويضع على وجه كل شئ ختم الاحدية، فيجعل كل شئ يعلن تجلّيه بألسنة لا حد لها ولا نهاية.

ثم انظر من خلف اسم (الفرد) الى التجلي الاعظم لاسم (الحكم) ترَ: انه قد ضم الموجودات كلها من أعظم دائرة فيها الى أصغرها كلياً كان أم جزئياً - ابتداءً من النجوم وانتهاء الى الذرات - منح كل موجود ما يستحق من نظام مثمر وما يلائمه من انتظام حكيم وما يوافقه من انسجام مفيد. فلقد زيّن اسم (الحكم) الاعظم الموجودات كلها ورصّعها بتجليه الساطع.

ثم انظر من خلف التجلي الأعظم لأسم (الحكم) الى التجلي الاعظم لاسم (العدل) - كما اوضحناه في النكتة الثانية - ترَه يدير جميع الكائنات بموجوداتها ضمن فعالية دائمة بموازينه الدقيقة ومقاييسه الحساسة ومكاييله العادلة بحيث يجعل العقول في حيرة واعجاب، فلو فقد نجمٌ من الأجرام السماوية توازنه لثانية واحدة. أي اذا انفلت من تجلي اسم (العدل) لحلِّ الهرجُ والمرج في النجوم كلها ولأدّى - لامحالة - الى حدوث القيامة.

وهكذا فكل دائرة من دوائر الوجود وكل موجود من موجوداتها ابتداءً من الدوائر العظيمة - المسماة بدرب التبانة - الى حركات أصغر الموجودات في الجسم من كريات حمر وبيض، كلٌّ منها قدفُصّل تفصيلاً خاصاً وقُدّر تقديراً دقيقاً وقيس بمقاييس حساسة، ومُنح شكلاً معيناً ووضعاً مخصوصاً بحيث يُظهر - كل منها - الطاعة التامة والانقياد المطلق ودينونة كاملة للأوامر الصادرة من الذي يملك أمر (كن فيكون) ابتداءً من جيوش النجوم الهائلة المتلألئة في الفضاء الى جيوش الذرات المتناهية في الصغر.

فانظر الآن من خلف التجلي الاعظم لاسم الله ( العدل) ومن خلاله، وشاهد التجلي الاعظم لاسم الله (القدوس) - الذي وضحناه في النكتة الاولى - تَرَ : ان هذا التجلي الاعظم لاسم (القدوس) قد جعل موجودات الكائنات نظيفة، نقية طاهرة، براقة، صافية، زكية، مزينة، وجميلة وحوّلها الى ما يشبه مرايا جميلة مجلوة لائقة لاظهار الجمال البديع المطلق، وتناسب عرض تجليات اسمائه الحسنى.

نحصل مما تقدم:

ان هذه الاسماء والانوار الستة للاسم الاعظم، قد عمّت الكون كله وغطت الموجودات قاطبة ولَفَعَتْها باستار مزركشة ملونة بازهى الالوان المتنوعة وابدع النقوش المختلفة وأروع الزينات المتباينة.

المسألة الثانية من الشعاع الخامس:

ان جلوة من تجليات القيومية على الكون، وشعاعاً من نورها مثلما يعمّ الكون بمظاهر (الواحدية والجلال)، فانه يبرز على هذا الانسان - الذي يمثل محور الكون وقطبه وثمرته الشاعرة - مظاهر (الاحدية والجمال). وهذا يعني:

ان الكائنات التي هي قائمة بسر القيومية فهي تقوم ايضاً - من جهة - بالأنسان؛ الذي يمثل اكمل مظهر من مظاهر تجلي اسم (القيوم). أي: ان القيومية تتجلى في الانسان تجلياً يجعل منه عموداً سانداً للكائنات جميعاً، بمعنى ان معظم الحِكَم الظاهرة في الكائنات وأغلب مصالحها وغاياتها تتوجه الى الانسان.

نعم ، يصح ان يقال: ان (الحي القيوم) سبحانه قد أراد وجود الانسان في هذا الكون، فخلق الكون لاجله، وذلك لان الانسان يمكنه ان يدرك جميع الاسماء الالهية الحسنى ويتذوقها بما اودع الله فيه من مزايا وخصائص جامعة. فهو يدرك - مثلاً - كثيراً من معاني تلك الاسماء بما يتذوق من لذائذ الارزاق المنهمرة عليه، بينما لا يبلغ الملائكة الى ادراك تلك الاسماء بتلك الاذواق الرزقية.

فلأجل جامعية الانسان المهمة يُشعِر (الحي القيوم) الانسان بجميع اسمائه الحسنى، ويعرّفه بجميع انواع احسانه، ويذوّقه طعوم آلائه، فمَنحَه معدةً ماديةً يستطيع بها ان يتذوق ما أغدق عليه من نِعمٍ لذيذة قد بسطها في سُفرة واسعة سعة الارض. ثم وهب له حياة، وجعل هذه الحياة كتلك المعدة المادية تستطيع ان تتنعم بأنواع من النعم المُعَدّة على سُفرة واسعة مفروشة أمامها وتتلذذ بها بما زودها - سبحانه - من مشاعر وحواس لها القدرة ان تمتد - كالايدي - الى كل نعمة من تلك النعم، فتؤدي عند ذلك حقها من انواع الشكر والحمد.

ثم وهب له - فوق معدة الحياة هذه - معدة الانسانية، وهذه المعدة تطلب رزقاً ونعَماً ايضاً. فجعل العقل والفكر والخيال بمثابة أيدي تلك المعدة، لها القدرة على بلوغ آفاق أوسع من ميادين الحياة المشهودة، وعندها تستطيع الحياة الانسانية ان تؤدي ما عليها من شكر وحمد تجاه بارئها حيث تمتد أمامها سُفرةُ النِعَم العامرة التي تسع السماوات والارض.

ثم لأجل ان يمدّ امام الانسان سفرة نعمٍ أخرى عظيمة جعل عقائد الاسلام والايمان بمثابة معدة معنوية تطلب ارزاقاً معنوية كثيرة فمدّ سفرة مليئة بالرزق المعنوي لهذه المعدة الايمانية وبَسَطها خارج الممكنات المشاهدة. فضم الاسماء الالهية في تلك السفرة العظيمة..

ولهذا يستشعر الانسان - بتلك المعدة المعنوية - ويتمتع بأذواق رفيعة لا منتهى لها، نابعة من تجليات اسم (الرحمن) واسم (الحكيم) حتى يردد (الحمد لله على واسع رحمته وجليل حكمته).. وهكذا - مكّن الخالق المنعم الانسان - بهذه المعدة المعنوية العظمى - ليستفيد ويغنم نعماً الهية لا حد لها، ولا سيما أذواق محبته الالهية، في تلك المعدة فان لها آفاقاً لا تحد وميادين لا تحصر.

وهكذا جعل (الحي القيوم) سبحانه الانسان مركزاً للكون، ومحوراً له، بل سخّر الكون له فمدّ أمامه سفرة عظيمة عظم الكون لتتلذذ انواع معداته المادية والمعنوية.

اما حكمة قيام الكون بسر القيومية على الانسان - من جهة - فهي للوظائف المهمة الثلاث التي انيطت بالانسان:

الاولى:

تنظيم جميع انواع النعم المبثوثة في الكائنات بالانسان وربطها بأواصر المنافع التي تخص الانسان، كما تنظَّم خرز المسبحة بالخيط، فتُربط رؤوس خيوط النعم بالانسان ومصالحه ومنافعه. فيكون الانسان بما يشبه فهرساً لأنواع ما في خزائن الرحمة الالهية ونموذجاً لمحتوياتها.

الوظيفة الثانية:

كون الانسان موضع خطابه سبحانه بما أودع فيه من خصائص جامعة أهّلته ليكون موضع خطابه سبحانه وتعالى، ومقدّراً لبدائع صنائعه ومعجباً بها، ونهوضه بتقديم آلاء الشكر والثناء والحمد الشعوري التام. على ما بُسط أمامه من أنواع النعم والألاء العميمة.

الوظيفة الثالثة:

قيام الانسان بحياته بمهمة مرآة عاكسة لشؤون (الحيالقيوم)ولصفاته الجليلة المحيطة، وذلك بثلاثة وجوه:

الوجه الاول:

هو شعور الانسان بقدرة خالقه سبحانه المطلقة ودرجاتها غير المحدودة بما هو عليه من عجز مطلق. فيدرك مراتب تلك القدرة المطلقة بما يحمل من درجات العجز. ويدرك كذلك رحمة خالقه الواسعة ودرجاتها بما لديه من فقر، ويفهم أيضاً قوة خالقه العظيمة بما يكمن فيه من ضعف... وهكذا.

وبذلك يكون الانسان مؤدياً مهمة مرآةٍ قياسية صغيرة لأدراك صفات خالقه الكاملة، وذلك بما يملك من صفات قاصرة ناقصة؛ اذ كما ان الظلام كلما اشتد سطع النور اكثر، فيؤدي هذا الظلام مهمة اراءة المصابيح، فالانسان ايضاً يؤدي مهمة اراءة كمالات صفات بارئه سبحانه بما لديه من صفات ناقصة مظلمة.

الوجه الثاني:

ان ما لدى الانسان من ارادة جزئية وعلمٍ قليل وقدرة ضئيلة وتملّك في ظاهر الحال وقابلية على إعمار بيته بنفسه، يجعله يدرك بهذه الصفات الجزئية خالق الكون العظيم ويفهم مدى مالكيته الواسعة وعظيم اتقانه وسعة ارادته وهيمنة قدرته واحاطة علمه. فيدرك ان كلاً من تلك الصفات انما هي صفات مطلقة وعظيمة لا حدّ لها ولا نهاية.وبهذا يكون الانسان مؤدياً مهمة مرآة صغيرة لأظهار تلك الصفات وادراكها.

أما الوجه الثالث:

من قيام الانسان بمهمة مرآة عاكسة لكمالات الصفات الالهية فله وجهان:

lاظهاره بدائع الاسماء الالهية الحسنى المتنوعة وتجلياتهاالمختلفة في ذاته. لأن الانسان بمثابة فهرس مصغر للكون كله - بما يملك من صفات جامعة - وكأنه مثاله المصغر، لذا فتجليات الاسماء الالهية في الكون عامة نراها تتجلى في الانسان بمقياس مصغر.

lالوجه الثاني:

اداؤه مهمة المرآة العاكسة للشؤون الالهية، أي ان الانسان كما يشير بحياته الى حياة ( الحي القيوم) فانه بوساطة ما ينكشف في حياته الذاتية من حواس كالسمع والبصر وامثالها يفهم - ويبيّن للآخرين - صفات السمع والبصر وغيرها من الصفات الجليلة المطلقة (للحي القيوم).

ثم ان الانسان الذي يملك مشاعر دقيقة جداً وكثيرة جداً - وقد لا تنكشف ضمن حياته وانما عندما يحفَّز او يُثار - فتظهر تلك المشاعر بأشكال متنوعة وانفعالات مختلفة، فانه بوساطة هذه المشاعر الدقيقة والمعاني العميقة يؤدي مهمة عرض الشؤون الذاتية (للحي القيوم). فمثلاً: الحب والافتخار والرضى والانشراح والسرور وما شابهها من المعاني التي تتفجّر لدى الانسان في ظروف خاصة، يؤدي الانسان بها مهمة الاشارة الى هذه الانواع من الشؤون الالهية بما يناسب قدسية الذات الالهية وغناه المطلق وبما يليق به سبحانه وتعالى.

وكما ان الانسان وحدة قياس - بما يملك من جامعية حياته - لمعرفة صفات الله الجليلة، وشؤونه الحكيمة، وفهرس لتجلي اسمائه الحسنى، ومرآة ذات شعور بجهات عدة لذات (الحي القيوم).. كذلك - الانسان - هو وحدة قياس ايضاً لمعرفة حقائق الكون هذا، وفهرس له ومقياس وميزان.

فمثلاً: ان الدليل القاطع على وجود اللوح المحفوظ في الكون يتمثل في نموذجه المصغر وهو (القوة الحافظة) لدى الانسان. والدليل القاطع على وجود عالم المثال نلمسه في نموذجه المصغر وهو (قوة الخيال) لدى الانسان(4)،

والدليل القاطع على وجود الروحانيات في الكون ندركه ضمن نموذجها المصغر وهو (لطائف الانسان وقواه).. وهكذا يكون الانسان مقياساً مصغراً يُظهر عياناً الحقائق الايمانية في الكون بدرجة الشهود.

وهناك مهمات ووظائف وخدمات كثيرة اخرى للانسان فضلاً عمّا ذكرناه؛ اذ هو: مرآة لتجلي الجمال الباقي، وداعٍ الى الكمال السرمدي ودالّ عليه. ومحتاجٌ شاكر لأنعم الرحمة الواسعة الابدية.

فما دام الجمال باقياً والكمال سرمدياً والرحمة أبدية، فلا بد ان الانسان الذي هو المرآة المشتاقة لذلك الجمال الباقي والداعي العاشق لذلك الكمال السرمدي والمحتاج الشاكر لتلك الرحمة الابدية سيُبعث الى دار بقاء أبدية ليخلد فيها دائماً، ولابد انه سيذهب الى الابد ليرافق الباقين الخالدين هناك ويرافق ذلك الجمال الباقي وذلك الكمال السرمدي وتلك الرحمة الابدية في ابد الاباد. بل يلزم ذلك قطعاً لأن: الجمال الابدي لا يرضى بمشتاق فانٍ ومحبٍ زائلٍ. اذ الجمال يطلب محبة تجاهه مثلما يحب نفسه. بينما الزوال والفناء يحولان دون تلك المحبة ويبدلانها الى عداء.

فلو لم يرحل الانسان الى الابد، ولم يبق هناك خالداً مخلداً فسيجد في فطرته عداءً شديداً لما يحمل من سر مغروز فيه وهو المحبة العميقة نحو الجمال السرمدي. مثلما بينا ذلك في حاشيةٍ في الكلمة العاشرة (رسالة الحشر): ان حسناء بارعة الجمال عندما طردت - ذات يوم - احد عشاقها من مجلسها، انقلب عشقُ الجمال لدى العاشقالمطرود قبحاً وكرهاً حتى بدأ يسلّى نفسه بقوله: تباً لها ما أقبحها! فانكر الجمال وسخط عليه.

نعم فكما ان الانسان يعادي ما يجهله، فانه يتحرى النقص والقصور فيما تقصر يدُه عنه، ويعجز عن الاحتفاظ به ومسكه.. بل تراه يتحرى فيه عن القصور بشئ من عداء وحقد يضمره، بل يتخذ مايشبه العداء له.

فما دام الكون يشهد بان المحبوب الحقيقي والجميل المطلق سبحانه يحبّب نفسَه الى الانسان بجميع اسمائه الحسنى، ويطلب منه مقابل ذلك حباً عظيماً له، فلابد انه سبحانه لايدع هذا الانسان الذي هو محبوبه وحبيبه يسخط عليه، فلا يودع في فطرته ما يثير عداءً نحوه - أي بعدم احداث الاخرة - ولا يغرز في فطرة هذا المخلوق المكرم الممتاز، المحبوب لدى الرب الرحيم والمخلوق اصلاً للقيام بعبادته، ما هو منافٍ كلياً لفطرته من عداء خفي، ولا يمكن ان يحمّل روحه سخطاً عليه سبحانه قط؛ لأن الانسان لا يمكنه ان يداوى جرحه الغائر الناشئ من فراقه الابدي عن جمال مطلق يحبّه ويقدّره الا بالعداء نحوه، أو السخط عليه، أو انكاره؛ وكون الكفار اعداء الله نابع من هذه الزاوية.. لأجل هذا فسيجعل ذلك الجمال الازلي حتماً هذا الانسان الذي هو مرآة مشتاقة اليه مبعوثاً الى طريق أبد الآباد، ليرافق ذلك الجمال المطلق والبقاء والخلود، ولا ريب ان سيجعله ينال حياة باقية في دار باقية خالدة.

وما دام الانسان مشتاقاً فطرةً لجمال باقٍ وقد خُلقَ محباً لذلك الجمال.. وان الجمال الباقي لا يرضى بمشتاق زائل.. وان الانسان يسكّن آلامه وأحزانه الناجمة عما لا تصل اليه يدُه او يعجز عن الاحتفاظ به او يجهله، بتحري القصور فيه بل يسكّنها بعداء خفي نحوه، مسلياً نفسه بهذا العداء.. وما دام الكون قد خُلق لاجل هذاالانسان، والانسان مخلوق للمعرفة الالهية ولمحبته سبحانه وتعالى.. وخالق الكون سرمديٌ باسمائه الحسنى وتجلياته باقية دائمة.. فلا بد ان هذا الانسان سيُبعث الى دار البقاء والخلود، ولا بد ان ينال حياة باقية دائمة.

هذا وان الرسول الاكرم صلى الله عليه وسلم وهو الانسان الاكمل والدليل الاعظم على الله قد أظهر جميع ما بيّناه من كمالات الانسان وقيمته ومهمته ومثله، فأظهر تلك الكمالات في نفسه، وفي دينه، بأوضح صورة وأكملها، مما يدلنا على: ان الكائنات مثلما خُلقت لأجل الانسان، أي انه المقصود الاعظم من خلقها والمنتخب منها، فان اجلّ مقصود من خلق الانسان ايضاً وافضل مصطفى منه، بل أروع واسطع مرآة للأحد الصمد انما هو محمد عليه وعلى آله وأصحابه الصلاة والسلام بعدد حسنات أمته...

فيا الله يارحمن يارحيم يا فرد يا حيُّ با قيوم يا حكم ياعدل ياقدوس.

نسألك بحق فرقانك الحكيم وبحُرمة حبيبك الاكرم صلى الله عليه وسلم

وبحق اسمائك الحسنى وبحرمة إسمك الاعظم

ان تحفظنا من شر النفس والشيطان ومن شر الجن والانسان. آمين

﴿سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا اِلاّ ما عَلَّمْتَنا اِنَّكَ اَنْتَ الْعَليمُ الْحَكيم﴾(*)

____________________________

(1) إن لم يكن قارئ هذه الرسالة على اطلاع واسع على العلوم، فعليه الأ يقرأ هذا الشعاع، او يقرأه في الختام، وليشرع من الشعاع الثاني.- المؤلف.

(2) الهيولي: لفظ يوناني معناه عند الفلاسفة: المادة الاولى المجردة عن الصورة من حجم وامتداد ولون ومااشبه ذلك. - المترجم.

(3) هذه الخلاصة هي الاساس الذي تستند اليها الرسائل الصغيرة للّمعة الثلاثين، وهي زبدة موضوعاتها التي تحمل أسرار الأسماء الستة الحسنى للاسم الأعظم.-المؤلف.

(4) نعم! ان عناصر الانسان مثلما تشير الى عناصر الكون وعظامه تنبئ عن أحجاره وصخوره، وأشعاره توحي الى نباتاته واشجاره، والدم الجاري في جسمه والسوائل المختلفة المترشحة من عيونه وانفه وفمه تخبر عن عيون الارض وينابيعها ومياهها المعدنية، كذلك تخبر روحُ الانسان عن عالم الارواح وحافظته عن اللوح المحفوظ وقوة خياله عن عالم المثال. وهكذا يخبر عن كلُ جهاز عن عالم ويشهد على وجوده شهادة قاطعة. - المؤلف.

(*) كليات رسائل النور - اللمعات - ص: 573

 

قرئت 295 مرات
لإضافة تعليق يرجى تسجيل الدخول أو إنشاء قيد جديد