اثبات التوحيد  الكلمة العاشرة   وهو [ على كل شئ قدير ]

باسمه سبحانه

ايها المستخلف المبارك

(لا إله إلاّ الله، وحده، لا شريك له، له الملك، وله الحمد يحيي، ويميت، وهو حي لا يموت، بيده الخير، وهو على كل شئ قدير، وإليه المصير)

 

بديع الزمان سعيد النورسي يشير باختصار الى اثبات التوحيد من حيث الاسم الاعظم والجملة التي تلخص التوحيد فيتناولها كلمة كلمة

اثبات التوحيد  الكلمة العاشرة   وهو [ على كل شئ قدير ]

اي لايثقل عليه شئ. فما من شئ في دائرة الامكان الاّ وهو قادر على ان يلبسه الوجود بكل سهولة ويسر. فهذا الامر سهل عليه الى حد أنه بمجرد أمره اليه يحصل الشئ بمقتضى قوله تعالى:(انما أمره اذا اراد شيئاً ان يقول له كن فيكون) (يس:82).

اذ كما ان صناعاً ماهراً جداً، ما أن يكاد تمس يده الشئ الاّ ويبدأ بالعمل كالماكينة. ويقال تعبيراً عن تلك السرعة والمهارة: ان ذلك العمل وتلك الصنعة سهل عليه ومسخّر بيده حتى كأن العمل يتم بمجرد أمره ومسّه، فالاعمال تنجز والمصنوعات توجد.

وكذلك الاشياء ازاء قدرة القدير ذي الجلال مسخّرة في منتهى التسخير، ومنقادة انقياداً تاماً، وان تلك القدرة تعمل الاشياء وتنجزها في منتهى السهولة، وبلا معالجة ولا كلفة حتى عبّر القرآن الكريم عن ذلك بقوله تعالى (إنما أمره اذا أراد شيئاً ان يقول له كنْ فيكون) .

سنبيّن خمساً من الاسرار غير المحدودة لهذه الحقيقة العظمى وذلك في خمس نكاتٍ:

اولاها:

ان أعظم شئ سهل ويسير على القدرة الإلهية كأصغر شئ، فايجاد نوع من الاحياء بجميع أفراده سهل كايجاد فرد واحد. وخلق الجنة الواسعة يسير عليها كيسر خلق الربيع. وخلق الربيع سهل كسهولة خلق زهرة واحدة.

ولقد أوضحنا هذا السر في اواخر الكلمة العاشرة، وفي بيان الاساس الثاني من الكلمة التاسعة والعشرين وذلك في ستةٍ من الاسرار التمثيلية، وهي: سر النورانية وسر الشفافية وسر المقابلة وسر الموازنة وسر الانتظام وسر الطاعة وسر التجرد.. واثبتنا

هناك؛ بان النجوم والذرات سيّان في السهولة ازاء القدرة الإلهية وانها تخلق افراداً غير محدودين بسهولة خلق الفرد الواحد بلا تكلف ولامعالجة.

ولما كانت هذه الاسرار الستة قد وضحت في تلكما الكلمتين، نختصر الكلام هنا، ونحيل اليهما.

ثانيتها:

ان الدليل القاطع والبرهان الساطـع على ان كل شـئ سـواء بالنسبة الى القدرة الإلهية، هي اننا نشاهد بأعيننا ان في ايجاد الحيوانات والنباتات منتهى الاتقان وغاية حسن الصنعة ضمن سخاء مطلق وكثرة مطلقة.

ويشاهد فيها ايضاً منتهى الامتياز والتفريق ضمن منتهى الاختلاط والامتزاج.

ويشاهد فيها ايضاً منتهى القيمة الراقية في الصنعة وجمال الخلقة ضمن منتهى الوفرة والوسعة.

وتخلق الاشياء في سهولة وسرعة مطلقتين مع حاجتها الى اجهزة كثيرة وزمان مديد لإبراز الصنعة المتقنة. حتى كأن تلك المعجزات للصنعة البديعة تبرز للوجود دفعة من غير شئ.

فما نراه من فعالية القدرة الإلهية الواسعة على سطح الارض كافة وفي كل موسم تدل دلالة قاطعة على ان أكبر شئ ازاء هذه القدرة التي هي منبع هذه الفعالية سهل ويسير كأصغره، وان ايجاد افراد غير محدودين وادارتها يسير عليها كايجاد فرد واحد وادارته.

ثالثتها:

ان اكبـر كلّ ٍ كأصغر جـزءٍ هيّن ازاء قدرة الصانع القـدير الذي يـهيمن بافعاله وتصريفه الامور في الكون وكما هو مشاهد. فايجاد الكلي بكثرة من حيث الافراد سهل كايجاد جزئي واحد.ويمكن اظهار ابداع الصنعة المتقنة في اصغر جزئي اعتيادي.

وينبع سر الحكمة لهذه الحقيقة من ثلاثة منابع:

الاول: امداد الواحدية.

الثاني: يسر الوحدة.

الثالث: تجلي الاحدية.

المنبع الاول: وهو امداد الواحدية.

اي إن كان كل شئ وكل الاشياء ملكاً لمالك واحد فعندئذ يمكن من حيث الواحدية ان يحشد قوة جميع الاشياء وراء كل شئ، ويدبر امور جميع الاشياء بسهولة ادارة الشئ الواحد.

ولاجل تقريب هذا السر الى الافهام نقول في تمثيل:

بلد يحكمها سلطان واحد يستطيع ان يحشّد قوة معنوية لجيش كامل وراء كل جندي من جنوده وذلك من حيث قانون السلطنة الواحدة. لذا يستطيع ذلك الجندي الفرد ان يأسر القائد الاعظم للعدو بل يمكن ان يسيطر باسم سلطانه على مَن هو فوق ذلك القائد.

ثم ان ذلك السلطان، مثلما يستخدم موظفاً او جندياً، ويدبر امور جميع الموظفين وجميع الجنود ايضاً بسر السلطنة الواحدة، وكأنه يرسل كل شخص وكل شئ بسر سلطنته الواحدة لإمداد اي فرد كان.يمكن ان يستند كل فرد من افراد رعيته الى قوة جميع الافراد، اي يستطيع ان يستمد منها.

ولكن لو حلّت حبال تلك الواحدية للسلطنة، واصبحت السلطنة سائبة وفوضى؛ فان كل جندي عندئذٍ يفقد ـ بالمرة ـ قوة لاتحد، ويهوى من مقام نفوذ رفيع، ويصبح في مستوى انسان اعتيادي. وعندها تنجم مشاكل للادارة والاستخدام بعدد الافراد.

كذلك (ولله المثل الاعلى ) فصانع هذا الكون لكونه واحداً، فانه يحشّد اسماءه المتوجهة الى جميع الاشياء، تجاه كل شئ. فيوجد المصنوع باتقان تام وبصورة رائعة. وان لزم الامر يتوجه بجميع الاشياء الى الشئ الواحد، ويوجهها اليه، ويمدّه بها ويقويه بها.

وانه يخلق جميع الاشياء ايضاً بسر الواحدية، ويتصرف فيها ويدبر امورها كايجاد الشئ الواحد.

ومن هذا السر - سر إمداد الواحدية - تُشاهد في الكائنات نوعيات رفيعة قيمة متقنة جداً ضمن وفرة مطلقة ورخص مطلق.

المنبع الثاني: الذي هو يسر الوحدة:

اي ان الافعال التي تتم باصول الوحدة ومن مركز واحد بتصرفٍ واحد وبقانون واحد، تورث سهولة مطلقة. بينما ان كانت تدار من مراكز متعددة، وبقوانين متعددة، وبأيدٍ متعددة تنجم مشكلات عويصة.

مثلاً: اذا جهز جميع افراد الجيش بالاعتدة والتجهيزات من مركز واحد، وبقانون واحد، وبأمر قائد عظيم واحد، يكون الامر سهلاً سهولة تجهيز جندي واحد. بينما اذا أحيل التجهيز الى معامل متفرقة، ومراكز متعددة يلزم عندئذٍ لتجهيز جندي واحد جميع المعامل العسكرية التي تزود الجيش بالتجهيزات اللازمة.

بمعنى انه اذا اسند الامر الى الوحدة فان تجهيز الجيش كاملاً يكون سهلاً كتجهيز جندي واحد، ولكن ان لم يسند الى الوحدة فان تزويد جندي واحد بالتجهيزات الاساسية يولد مشاكل بعدد افراد الجيش.

وكذا اذا زودت ثمرات شجرة ما ـ من حيث الوحدة ـ بالمادة الحياتية من مركز واحد وبقانون واحد واستناداً الى جذر واحد. فان ألوف الثمرات تتزود بها بسهولة كسهولة ثمرة واحدة.بينما اذا ربطت كل ثمرة الى مراكز متعددة، وارسلت الى كل منها موادها الحياتية، عندها تنجم مشكلات بقدر عدد ثمرات الشجرة، لان المواد الحياتية التي تلزم شجرة كاملة تلزم كل ثمرة من الثمرات ايضاً.

وهكذا فبمثل هذين التمثيلين (ولله المثل الاعلى) فان صانع هذا الكون لكونه واحداً أحداً، يفعل مايريد بالوحدة. ولأنه يفعل بالوحدة، تسهل جميع الاشياء كالشئ الواحد. فضلاً عن انه يعمل الشئ الواحد باتقان تام كالاشياء جميعاً. ويخلق أفراداً لاحدّ لها في قيمة رفيعة. فيظهر جُوده المطلق بلسان هذا البذل المشاهد والرخص غير المتناهي، ويظهر بها سخاءه المطلق وخلاقيته المطلقة.

المبع الثلث: وهو تجلي الاحدية؛

أي ان الصانع الجليل منزّه عن الجسم والجسمانية، لذا لا يحصره زمان ولايقيده مكان، ولا يتداخل في حضوره وشهوده الكون والمكان، ولا تحجب الوسائط والاجرام فعله بالحجب. فلا انقسام ولاتجزؤ في توجهه سبحانه ولايمنع شئ شيئاً،

يفعل مالايحد من الافعال كالفعل الواحد، ولهذا فانه يدرج معنىً شجرة ضخمة جداً في بذرة صغيرة، ويدرج العالم في فرد واحد، ويدير امور العالم كله بيد قدرته كادارة فرد واحد.

فكما اوضحنا هذا السر في كلمات اخرى نقول ايضاً:

ان ضوء الشمس الذي لاقيد له الى حدٍ ما، يدخل في كل شئ لمّاع، حيث انه نوراني، فلو واجهتها الوفٌ بل ملايين المرايا، فان صورتها النورانية المثالية تدخل في كل مرآة دون انقسام، كما هي في مرآة واحدة. فلو كانت المرآة ذات قابلية، فان الشمس بعظمتها يمكن أن تُظهر فيها آثارها، فلا يمنع شئ شيئاً. اذ يدخل ـ مثال الشمس ـ في المرآة الواحدة كما في الالوف منها بسهولة تامة، وهي توجد في مكان واحد بسهولة وجودها في الوف الاماكن.وتكون كل مرآة وكل مكان مظهراً لجلوة تلك الشمس كما هي لألوف الاماكن.

(ولله المثل الاعلى) ان لصانع هذا الكون ذي الجلال تجلياً ، بسرّ توجّه الاحدية، بجميع صفاته الجليلة التي هي انوار، وبجميع اسمائه الحسنى التي هي نورانية، فيكون حاضراً ناظراً في كل مكان، ولايحدّه مكان، ولا انقسام في توجهه سبحانه، يفعل مايريد فيما يشاء في كل مكان، في آن واحد ومن دون تكلف ولامعالجة ولامزاحمة.

فبسر امداد الواحدية ويُسر الوحدة وتجلي الاحدية هذه:

اذا اسندت جميع الموجودات الى الصانع الواحد، فالموجودات كلها تسهل كالموجود الواحد ويكون كل موجود ذا قيمة عالية كالموجودات كلها من حيث الاتقان والابداع. كما ان دقائق الصنعة المتقنة الموجودة في كل موجود رغم الوفرة في الموجودات تبين هذه الحقيقة.

بينما ان لم تسند تلك الموجودات الى الصانع الواحد بالذات فان كل موجود عندئذٍ يكون ذا مشاكل بقدر مشاكل الموجودات كلها. وان قيمة الموجودات كلها تسقط الى قيمة موجود واحد. وفي هذه الحالة لايأتي شئ الى الوجود، او اذا وجد فلا قيمة له ولايساوي شيئاً.

ومن هذا السرّ، تجد السوفسطائيين الموغلين في الفلسفة، السابقين فيها قد نظروا

الى طريق الضلالة والكفرمعرضين عن طريق الحق ورأوا أن طريق الشرك عويصة وعسيرة وغير معقولة قطعاً بالوف المرات من طريق التوحيد، طريق الحق؛ لذا اضطروا الى انكار وجود كل شئ وتخلّوا عن العقل.

النكتة الرابعة:

ان ايجاد الجنة سهل كايجاد الربيع، وايجاد الربيع يسير كايجاد زهرة واحدة بالنسبة الى قدرة رب العالمين الذي يصرّف امور هذا الكون بافعاله الظاهرة المشهودة، ويمكن أن تكون ازاء تلك القدرة قيمة محاسن الصنعة البديعة لزهرة واحدة ولطف خلقتها بقيمة لطافة الربيع الزاهر.

ان سر هذه الحقيقة ثلاثة اشياء:

الاول: الوجوب والتجرد في الصانع الجليل.

الثاني: عدم التقيد مع مباينة ماهيته.

الثالث: عدم التحيز مع عدم التجزء.

السر الاول: ان الوجوب والتجرد يسببان السهولة المطلقة واليسر المطلق.

هذا السر عميق للغاية ودقيق للغاية. وسنقرّبه بتمثيل الى الفهم، وذلك:

ان مراتب الوجود مختلفة، وعوالم الموجودات متباينة، لذا فان ذرة من طبقة وجود ذات رسوخ في الوجود تعدل جبلاً من طبقة وجود اقل منها رسوخاً، وتستوعب ذلك الجبل، فمثلاً:

ان القوة الحافظة الموجودة في الانسان ـ وهي لاتعدل حبة خردل من عالم الشهادة ـ تستوعب وجوداً من عالم المعنى بمقدار مكتبة ضخمة.

وان مرآة صغيرة صغر الاظفر من العالم الخارجي، تضم مدينة عظيمة جداً من طبقة وجود من عالم المثال.

فلو كانت لتلك المرآة ولتلك القوة الحافظة من العالم الخارجي شعور وقوة للايجاد، لأحدثتا تحولات وتصرفات غير محدودة في ذلك الوجود المعنوي والمثالي، رغم ما

فيهما من قوة وجود خارجي صغير ضئيل. وهذا يعني انه كلما ترسّخ الوجود ازداد قوة، فالشئ القليل يأخذ حكم الكثير، ولاسيما إن كان الوجود مجرداً عن المادة ولم يدخل تحت ضوابط القيد وكَسبَ الرسوخ التام، فان جلوة جزئية منه تستطيع أن تدير عوالم كثيرة من سائر الطبقات الخفيفة من عالم الوجود.

(ولله المثل الاعلى) ان الصانع الجليل لهذا الكون العظيم هو واجب الوجود. أي أن وجوده ذاتي ازلي، ابدي، عدمه ممتنع، زواله محال، وان وجوده أرسخ طبقة من طبقات الوجود وارساها واقواها واكملها، بينما سائر طبقات الوجود بالنسبة لوجوده سبحانه بمثابة ظلٍ في منتهى الضعف.

وان هذا الوجود، واجب، راسخ، ذو حقيقة، الى حدٍ عظيم. ووجود الممكنات خفيف وضعيف في منتهى الخفة والضعف، بحيث دفع الشيخ محي الدين بن عربي وامثاله الكثيرين من اهل التحقيق ان يُنزلوا سائر طبقات الوجود منزلة الاوهام والخيالات، فقالوا: لاموجود الاّ هو، وقرروا انه لاينبغي ان يقال لما سوى الوجود الواجب وجوداً، اذ لاتستحق هذه الانواع من الوجود عنوان الوجود.

وهكذا فوجود الموجودات التي هي عرضية وحادثة، و ثبوت الممكنات التي لاقرار ولا قوة لها، يسيرٌ في منتهى اليسر أزاء قدرة واجب الوجود الذاتية الواجبة. فاحياء جميع الارواح في الحشر الاعظم ومحاكمتها سهل ويسير على تلك القدرة كسهولة حشر وإحياء الاوراق والازهار والثمار في الربيع بل في حديقة صغيرة بل في شجرة.

السـر الثاني: ان مباينة الماهية مع عدم التقيد يسببان السهولة المطلقة، وذلك: ان صانع الكون جل جلاله ليس من جنس الكون بلاشك، فلا تشبه ماهيته اية ماهية كانت، لذا فان الموانع والقيود التي هي ضمن دائرة الكائنات لاتتمكن قطعاً ان تعترض اجراءاته وتقيّدها، فهو القادر على ادارة الكون كله في آن واحد ويتصرف فيه تصرفاً مباشراً.

فلو احيل تصريف الامور وافعاله الظاهرة في الكون الى الكائنات انفسها، لنجمت من المشكلات والاختلاطات الكثيرة بحيث لايبقى اي انتظام اصلاً ولا أي شئ في الوجود بل لايأتي أصلاً الى الوجود.

فمثلاً: لو احيلت المهارة في بناء القبة الى احجارها، وفوّض ما يخص الضابط في ادارة الفوج الى الجنود انفسهم، فإما لا تحصل تلك النتيجة ولاتأتي الى الوجود أصلاً او يحدث فوضى من عدم الانتظام ومشكلات واختلاط الامور.بينما اذا اسندت المهارة في بناء القبب الى صناع ليس من نوع الحجر، وفوضت ادارة الجنود في الفوج الى ضابط حاز ماهية الضابط ـ من حيث الرتبة ـ فان الصنعة تسهّل والادارة تتيسر، حيث أن الاحجار وكذا الجنود يمنع احدها الآخر. بينما البنّاء والضابط ينظران ويتوجهان ويديران كل نقطة من نقاط البناء او الجنود دون مانع او عائق. (ولله المثل الاعلى) ان الماهية المقدسة لواجب الوجود ليست من جنس ماهية الممكنات. بل جميع حقائق الكائنات ليست الاّ أشعة لإسم "الحق" الذي هو اسم من الاسماء الحسنى لتلك الماهية.

ولما كانت ماهيته المقدسة، واجبة الوجود، ومجرّدة عن المادة، ومخالفة للماهيات كافة، اذ لامثل ولامثال ولامثيل لها، فان ادارة الكون اذاً وتربيته بالنسبة الى قدرة ذلك الرب الجليل الازلية، سهل كادارة الربيع بل كادارة شجرة واحدة، وايجاد الحشر الاعظم والدار الآخرة والجنة وجهنم سهل كاحياء الاشجار مجدداً في الربيع بعد موتها في الخريف.

السر الثالث: ان عدم التحيز وعدم التجزؤ سبب للسهولة المطلقة وذلك:

ان الصانع القدير لما كان منزهاً عن المكان فهو حاضر إذاً بقدرته في كل مكان قطعاً. وحيث لاتجزؤ ولاإنقسام، فيمكن اذاً أن يتوجه الى كل شئ بجميع اسمائه الحسنى.

وحيث أنه حاضر في كل مكان ومتوجه الى كل شئ فان الموجودات والوسائط والاجرام لاتعيق افعاله ولاتمانعها.بل لو افترضت الحاجة الى الاشياء ـ ولا حاجة اليها اصلاً ـ فانها تصبح وسائل تسهيل ووسائط وصول الحياة واسباباً للسرعة في انجاز الافعال كاسلاك الكهرباء واغصان الشجرة واعصاب الانسان. فلاتعويق اذاً ولاتقييد ولاتمانع ولامداخلة قطعاً، اذ كل شئ بمثابة وسيلة تسهيل ووساطة سرعة واداة ايصال، اي لا حاجة الى شئ من حيث الطاعة والانقياد تجاه تصاريف قدرة القدير الجليل، وحتى لو افترضت الحاجة ـ ولاحاجة اصلاً ـ فان الاشياء تكون وسائل تسهيل ووسائط تيسير.

حاصل الكلام: ان الصانع القدير يخلق كل شئ بما يليق به بلا كلفة ولامعالجة ولامباشرة، وفي منتهى السهولة والسرعة، فهو سبحانه يوجد الكليات بسهولة ايجاد الجزئيات ويخلق الجزئيات باتقان الكليات.

نعم! ان خالق الكليات والسموات والارض هو خالق الجزئيات وافراد ذوي الحياة من الجزئيات التي تضمها السموات والارض، وليس غيره. لأن تلك الجزئيات الصغيرة انما هي مثال مصغر لتلك الكليات وثمراتها ونواها.

وان من كان خالقاً لتلك الجزئيات لاشك أنه هو الخالق لما يحيط بها من العناصر والسموات والارض، لاننا نشاهد ان الجزئيات في حكم نوى بالنسبة للكليات ونسخة مصغرة منها، لذا لابد أن تكون العناصر الكلية والسموات والارض في يد خالق تلك الجزئيات كي يمكن أن يدرج خلاصة تلك الموجودات الكلية والمحيطة ومعانيها ونماذجها في تلك الجزئيات التي هي نماذجها المصغرة على وفق دساتير حكمته وموازين علمه.

نعم! ان الجزئيات ليست قاصرة عن الكليات من حيث عجائب الصنعة وغرائب الخلق. فالازهار ليست ادنى جمالاً عن النجوم الزاهرة ولا البذور أحط قيمة من الاشجار اليافعة. بل الشجرة المعنوية المدرجة بنقش القدر في البذرة الصغيرة اعجب من الشجرة المجسمة بنسج القدرة في البستان. وان خلق الانسان اعجب من خلق العالم.

فكما لو كتب قرآن الحكمة بذرات الاثير على جوهر فرد يمكن أن يكون اعظم قيمة من قرآن العظمة المكتوبة على السموات بالنجوم، كذلك هناك كثير جداً من الجزئيات هي ارقى من الكليات من حيث الصنعة.

النكتة الخامسة:

لقد بينا آنفاً شيئاً من اسرار وحكم ما يُشاهد في ايجاد الاشياء والمخلوقات من منتهى اليسر والسهولة ومنتهى السرعة في انجاز الافعال.

فوجود الاشياء بهذه السهولة غير المحدودة والسرعة المتناهية، يورث قناعة قاطعة لدى اهل الايمان؛ أن ايجاد الجنة ازاء قدرة خالق المخلوقات سهل كايجاد الربيع، والربيع كالبستان والبستان كالزهرة. وان حشر البشر قاطبة وبعثهم سهل كسهولة اماتة

رد وبعثه وذلك مضمون الآية الكريمة :

(ماخلقُكم ولابعثُكم الاّ كنفسٍ واحدة) (لقمان:28).

وكذلك فإن احياء جميع الناس يوم الحشر الاعظم يسير كيسر جمع الجنود المتفرقين في الاستراحة بصوت من بوق، وهو مضمون صراحة الآية الكريمة:

(إنْ كانت الاّ صيحةً واحدة فاذا هُم جميعٌ لدينا مُحـضَرون) (يس:53).

فهذه السرعة غير المتناهية والسهولة غير المحدودة، مع أنها ـ بالبداهة ـ دليل قاطع وبرهان يقيني على كمال قدرة الصانع جل جلاله، وسهولة كل شئ بالنسبة له، الاّ انها اصبحت سبباً للالتباس على اهل الضلالة. فالتبس في نظرهم تشكيل الاشياء وايجادها بقدرة الصانع الجليل الذي هو سهل بدرجة الوجوب ، وتشكّل الاشياء بنفسها والذي هو محال بالف محال.

اذ لأنهم يرون مجئ بعض الاشياء المعتادة الى الوجود في غاية السهولة فيتوهمون انها لاتخلق بل تتشكل بنفسها.

فتأمل في درك الحماقة السحيق حيث يجعلون دليل القدرة المطلقة دليلاً على عدمها، ويفتحون ابواباً لانهاية لها من المحالات.اذ يلزم عندئذٍ أن تعطى كل ذرة من ذرات كل مخلوق اوصاف الكمال التي هي لازمة ذاتية للصانع الجليل كالقدرة المطلقة والعلم المحيط وامثالها حتى تتمكن من تشكيل نفسها بنفسها.(*)

__________________

(*) المكتوب العشرون - ص: 318

 

قرئت 33 مرات
لإضافة تعليق يرجى تسجيل الدخول أو إنشاء قيد جديد