احدى نكات اسم الله الفرد

 

بِسْمِ الله الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

﴿قلْ هُوَ اللهُ اَحدٌ﴾

بينما انا نزيل سجن (اسكي شهر) في شهر شوال اذ تراءت لي نكتة دقيقة من النكات اللطيفة لهذه الآية الجليلة، ولاح لي قبس من انوار اسم الله الاعظم: (الفرد) - او هو أحد انواره الستة - الذي يتضمن اسمي (الواحد والأحد) من الاسماء الإلهية الحسنى.

سنبين هنا باختصار شديد التوحيد الحقيقي الذي يُظهره ذلك التجلي الاعظم. وذلك في سبع اشارات موجزة.

الاشارة الاولى:

لقد وضع اسم الله الاعظم: (الفرد) بتجليه الاعظم على الكون كله بصمات التوحيد المميز، واختامَ الوحدانية الواضحة، على مجموع الكون، وعلى كل نوعٍ فيه، وعلى كل فردٍ فيه.

ولما كانت (الكلمة الثانية والعشرون) و(المكتوب الثالث والثلاثون) قد تناولا بيان ذلك التجلي بشئ من التفصيل، نكتفي بالاشارة فقط الى ثلاث بصماتٍ واختام منها دالّة على التوحيد:

الختم الأول

ان التجلي الاعظم للفردية قد طبع على وجه (الكون) كله طابعاً مميزاً للتوحيد، وختماً واضحاً للوحدانية وضوحاً حوّل الكون كلَّه بحكم (الكل) الذي لايقبل التجزئة مطلقاً بحيث:

ان مَن لايقْدِر على أن يتصرف في الكون كله لا يمكن أن يكون مالكاً مُلكاً حقيقياً لأي جزء منه.

ولنوضح هذا الختم المميز:

ان موجودات الكون، بانواعها المختلفة، تتعاون فيما بينها تعاوناً وثيقاً، ويسعى كلٌّ جزء منها لتكملة مهمة الآخر وكأنها تمثل بمجموعها واجزائها تروس معمل بديع ودواليبه - الذي يشاهد فيه هذا التعاون بوضوح - فهذا التساند، وهذا التعاون بين الأجزاء، وهذه الاستجابة في اسعاف كلٍ منها لطلب الآخر، وامداد كلِ جزء للجزء الآخر، بل هذا التعانق والاندماج بين الأجزاء، يجعل من اجزاء الكون كله وحدةً متحدة تتعصَّى على الانقسام والانفكاك. يشبه في هذا وحدةَ أجزاء جسم الانسان الذي لا يمكن فكّ بعضها عن البعض الآخر.

نفهم من هذا ان الذي يمسك زمام عنصر واحد في الوجود، ان لم يكن زمام جميع العناصر بيده لا يستطيع أن يسيطر على ذلك العنصر الواحد أيضاً.

اذاً فـ(التعاون) و(التساند) و(التجاوب) و(التعانق) الواضحة على وجه الكون، انما هي أختام كبرى وبصمات ساطعة للتوحيد.

الختم الثاني:

ان التجلي الباهر لاسم الله (الفرد) يجعلنا نُشاهد - على وجه الارض ولا سيما في الربيع - ختماً لامعاً للأحدية، وآية جلية للوحدانية بحيث:

ان من لايدير جميع الأحياء على وجه الارض كلها بافرادها واحوالها وشؤونها كافة، والذي لايرى ولايخلق ولايعلم جميعها معاً،

لا يمكن أن يكون له تدخل في أي شئ من حيث الايجاد.

فلنوضح هذا الختم:

تأمل في هذه البُسُط المفروشة على الارض التي لحمتُها وسُداها مئتا ألف طائفة ونوع من أنواع الحيوانات وطوائف النباتات بأفرادها المتنوعة التي لا تعد ولا تحصى والتي تضفي الزينة وتنثر البهجة على نسيج الحياة على سطح الارض - وبخاصة في الربيع - تأمّلها جيداً وأدِم النظر فيها، فانها مع اختلاف اشكالها، وتباين وظائفها، واختلاف ارزاقها وتنوع اجهزتها، وامتزاجها بعضها مع البعض الآخر تشاهد: ان رزق كل ذي حياة يأتيه رغداً من كل مكان ومن حيث لا يحتسب، بلاسهو ولا نسيان، بلا انشغال ولا ارتباك، بلا خطأ ولا التباس.. فيعُطى بميزان دقيق حساس كل ما يحتاجه الفرد، في وقته المناسب، من دون تكلف ولا تكليف، مع تمييز لكلٍ منها، وهو يموج في هذا الامتزاج الهائل وفي هذا الخضم من الموجودات المتداخلة، فضلاً عما يُخْبئ باطنُ الارض من آيات التوحيد الرائعة المتلمعة من انتظام المعادن والعناصر الجامدة.

لذا فان هذا (التدبير والادارة) المشاهد في هذا الأمر الدائب على وجه الارض وباطنها انما هو آيةٌ ساطعة للأحدية، وختمٌ واضح للوحدانية، بحيث:

ان مَن لم يكن خالقاً لجميع تلك الموجودات من العدم، ومدبّراً لجميع شؤونها في آن واحد، لا يقدر على التدخل - من حيث الربوبية والايجاد - في شئ منها، لأنه لو تدخل لأفسد تلك الادارة المتوازنة الواسعة. الاّ ما يؤديه الانسان من وظيفة ظاهرية - بإذن إلهي ايضاً - لكشف تلك القوانين الربانية وحُسن سيرها.

الختم الثالث: في وجه الانسان

ان شعار التوحيد وختمه واضح وضوحاً بيناً لكل مَن يتأمل وجه أي أنسان كان، وذلك:

ان لكل انسان علامة فارقة في وجهه تُميِّزه عن غيره. فالذي لايستطيع ان يضع تلك العلامات في كل وجه، ولا يكون مطّلعاً على جميع الوجوه السابقة واللاحقة منذ آدم عليه السلام الى يوم القيامة، لا يمكنه ان يمد يده من حيث الخلق والايجاد ليضع تلك الفوارق المميزة الهائلة في ذلك الوجه الصغير لإنسان واحد.

نعم، ان الذي وضع في وجه الانسان ذلك الطابع المميز وتلك الآية الجلية بتلك العلامات الفارقة، لابد أن أفراد البشر كافة هم تحت نظره وشهوده، وضمن دائرة علمه حتى يضع ذلك الختم للتوحيد في ذلك الوجه. بحيث إنه مع التشابه الظاهر بين الاعضاء الاساس - كالعيون والانوف وغيرها من الاعضاء - لا تتشابه تشابهاً تاماً، بسبب علامات فارقة في كلٍ منها.

وكما أن تشابه الأعضاء - من عيون وأنوف - في وجوه البشر كافة دليل قاطع على وحدانية خالق البشر سبحانه وتعالى، كذلك فان العلامات الفارقة الموضوعة على كل وجه - لصيانة حقوق كل فرد في المجتمع، ولمنع الالتباس، وللتمييز، ولحِكَم أخرى كثيرة - هي الأخرى دليل واضح على الارادة المطلقة والمشيئة الكاملة لذلك الخالق الواحد سبحانه وتعالى، وآية بديعة جلية ايضاً للأحدية، بحيث:

ان الذي لا يَقدر على خلق جميع البشر والحيوانات والنباتات بل جميع الكون لا يمكنه ان يضع تلك السمة المميزة في أحد.

الاشارة الثانية:

ان عوالم الكائنات المختلفة وانواعها المتنوعة وعناصرها المتباينة قد اندمجت اندماجاً كلياً وتداخل بعضُها مع البعض الآخر، بحيث:

ان مَن لم يكن مالكاً لجميع الكون لا يمكنه ان يتصرف بنوعٍ منه أو عنصر فيه تصرفاً حقيقياً، لأن تجلي نور التوحيد لاسم الله (الفرد) قد اضاء ارجاء الكون كله، فضمّ اجزاءها كافة في وحدة متحدة،

وجعل كل جزء منه يعلن تلك الوحدانية.

فمثلاً: كما ان كون الشمس مصباحاً واحداً لهذه الكائنات يشير الى أن الكائنات بأجمعها ملكٌ لواحد، فان كون الهواء هواءً واحداً يسعى لخدمة الأحياء كلها.. وكون النار ناراً واحدة توقد بها الحاجات كلها.. وكون السحاب واحداً يسقي الارض.. وكون الامطار واحدة تأتي لأغاثة الاحياء كافة.. وانتشار أغلب الاحياء من نباتات وحيوانات انتشاراً طليقاً في ارجاء الارض كافة مع وحدة نوعيتها، ووحدة مسكنها.. كل ذلك اشارات قاطعة وشهادات صادقة أن: تلك الموجودات ومساكنها ومواضعها انما هي ملكٌ لمالك واحدٍ أحد.

ففي ضوء هذا وقياساً عليه نرى: ان تداخل الأنواع المختلفة للكائنات واندماجها الشديد ببعضها قد جعل مجموعَها بمثابة (كل) واحد لا يقبل التجزئة قطعاً من حيث الايجاد. فالذي لا يستطيع ان يُنفِّذ حكمَه على جميع الكون لا يمكنه - من حيث الخلق والربوبية - أن يُخضِع لربوبيته أي شئ فيه، حتى لو كان ذلك الشئ ذرة أو أصغر منها.

الاشارة الثالثة:

لقد تحول الكون كله - بالتجلي الاعظم لاسم الله (الفرد) - الى ما يشبه رسائل صمدانية ومكاتيب ربانية متداخلة بعضها في البعض الآخر، تزخر كلُ رسالة منها بآيات الوحدانية واختام التوحيد، وتحمل كل رسالة بصمات الأحدية بعدد كلماتها، بل ان كل كلمة فيها تُفصح عن وحدانية كاتبها؛ اذ كما يدل الختمُ أو التوقيع في الرسالة على كاتبها، فان كل زهرة وكل ثمرة، وكل عشب، وكل حيوان، وكل شجر، انما يمثل ختم الأحدية وطغراء الصمدانية وكأنها أختام لمواضعها التي تتخذ هيئة الرسائل فتبين كاتبها.

فزهرة صفراء - مثلاً - في حديقةٍ ما. هذه الزهرة هي بمثابة ختم يدل بوضوح على مصور الحديقة، فمن كان مالكاً لذلك الختم - الزهرة - فهو مالكٌ لجميع أنواع تلك الزهرة ومثيلاتها المبثوثة علىالارض كافة، ويدل ايضاً على ان تلك الحديقة كتابته.

اي ان كل شئ يُسند جميع الاشياء الى خالقها ويشير الى تجلٍ باهر عظيم لوحدانيته سبحانه.

الاشارة الرابعة:

لقد أوضحت رسائل النور في أجزائها الكثيرة ببراهين متعددة أن التجلي الاعظم لاسم الله (الفرد) مع أنه واضح وضوح الشمس، فهو مقبول في الاعماق الى حد السهولة المطلقة، وهو مستساغ عقلاً ومنطقاً الى حد الوجوب والبداهة. وبعكسه (الشرك) المنافي لذلك التجلي، فهو معقد الى أقصى حدود التعقيد، وغير منطقي اطلاقاً، وهو بعيد جداً عن المعقول الى حد المحال والامتناع.

سنبين هنا (ثلاث نقاط) من تلك الأدلة فقط، ونحيل تفاصيلها الى الرسائل الاخرى.

النقطة الاولى:

لقد أثبتنا ببراهين قاطعة في ختام (الكلمة العاشرة) وفي (الكلمة التاسعة والعشرين) اثباتاً مجملاً، وفي ختام (المكتوب العشرين) مفصلاً أنه:

من السهولة واليسر على قدرة (الأحد الفرد) سبحانه، خلقُ أعظم جِرم، وخلقُ أصغرِ شئ على حدّ سواء، فهو سبحانه يخلق الربيع الشاسع بيُسرِ خلقِ زهرةٍ واحدة، ويُحدِث في كل ربيع بسهولة بالغة آلافاً من نماذج الحشر والنشور - كما هو مشاهَد - ويُراعي شجرة ضخمة باسقة بيُسر مراعاته فاكهة صغيرة.

فلو أسنِد أيٌ من ذلك الى الأسباب المتعددة، لأصبح خلقُ كلِّ زهرةٍ فيه من المشكلات ما للربيع الشاسع، وخلقُ كل ثمرةٍ فيه من الصعوبات ما للشجرة الباسقة.

نعم، ان كان تجهيز الجيش بأكمله بالمؤن والعتاد بأمر صادر من قائد واحد، من مصدر واحد، سهلاً وبسيطاً كتجهيز جندي واحد،

يكون صعباً بل ممتنعاً ان كان كل جندي يتجهز من معامل متفرقة ويتلقى الاوامر من ادارات متعددة كثيرة، اذ عندئذٍ يحتاج كل جندي الى معامل بقدر افراد الجيش باكمله!!

فكما ان الأمر يسهل بالوحدة ويصعب بالكثرة هكذا، كذلك اذا أسنِد الخلقُ والايجادُ الى (الفرد الأحد) جل وعلا، فان خلقَ افرادٍ غير محدودة لنوعٍ واحد يكون سهلاً كخلق فرد واحد، بينما لو اُسنِد الى الأسباب، فان خلقَ كلَّ فردٍ يكون مُعضلاً وصعباً كخلق النوع الواسع الكثير.

اجل! ان الوحدانية والتفرد تجعل كل شئ منتسباً ومستنداً الى الذات الإلهية الواحدة، ويصبح هذا الانتساب والاستناد قوة لاحدّ لها لذلك الشئ، حتى يمكنه ان يُنجز من الاعمال الجسيمة، ويولّد من النتائج العظيمة ما يفوق قوته الذاتية الوفَ المرات معتمداً على سر ذلك الاستناد والانتساب.

أما الذي لا يستند ولا ينتسب الى صاحب تلك القوة العظمى ومالكها (الفرد الأحد) فسينجز من الاعمال ما تتحمله قوتُه الذاتية المحدودة جداً، وتنحسر نتائجُها تبعاً لذلك.

فمثلاً:

ان الذي انتسب الى قائد عظيم واستند اليه بصفة الجندية، يصبح له هذا الانتساب والاستناد بمثابة قوة ممدّة لا تنفد، فلا يضطر الى حمل ذخيرته وعتاده معه، لذا قد يَقْدِم على أسر قائد جيش العدو المغلوب مع آلاف ممن معه، بينما السائب الذي لم ينخرط في الجندية، مضطر الى حمل ذخيرته وعتاده معه، ومهما بلغ من الشجاعة فلا يستطيع ان يقاوم بتلك القوة الاّ بضعة افراد من العدو، وقد لا يثبت امامهم الاّ لفترة قليلة.

ومن هنا نرى أن قوة الاستناد والانتساب - التي في الفردية والوحدانية - تجعل النملة الصغيرة تقدم على اهلاك فرعون عنيد، وتجعل البعوضة الرقيقة تجهز على نمرود طاغية، وتجعل الميكروب البسيط يدمر باغياً اثيماً.. كما تمدّ البذرة الصغيرة لتحمِل على ظهرها شجرة صنوبر باسقة شاهقة.. كل ذلك باسم ذلك الانتساب وبسر ذلك الاستناد.

نعم، ان قائداً عظيماً شهماً يستطيع ان يستنفر جميع جنوده ويحشّدهم لانقاذ جندي واحد وامداده، والجندي بدوره يستشعر كأن جيشاً جراراً يسنده ويمدّه بقوة معنوية عالية حتى تمكّنه من ان ينهض باعمال جسام باسم القائد.

فالله سبحانه وتعالى (وله المثل الاعلى) لانه فرد واحد أحد، فلا حاجة في اية جهة الى أحدٍ غيره، واذا افترضت الحاجة في جهة ما، فانه يستنفر الموجودات كلها لأمداد ذلك الشئ واسناده، فيحشر سبحانه الكون كله لأجله.

وهكذا يستند كلُّ شئ الى قوة عظيمة هائلة تملك مقاليد الكون بأسره.. وهكذا يستمد كل شئ في الوجود قوته من تلك القوة الإلهية العظيمة المطلقة.. من ذلك (الفرد الأحد) جلّ وعلا.

فلولا الفردية.. لفقَد كل شئ هذه القوة الجبارة، ولسقط الى العدم وتلاشت نتائجه.

فما تراه من ظهور نتائج عظيمة هائلة من اشياء بسيطة تافهة، ترشدنا بالبداهة الى (الفردية) و (الأحدية). ولولاها لبقيت نتائج كل شئ وثماره منحصرة في قوته ومادته الضئيلة، وتصغر عندئذٍ النتائج بل تزول. الا ترى الاشياء الثمينة النفيسة كالفواكه والخضر وغيرها مبذولة ومتوافرة امامنا. ما ذلك الاّ بسر الوحدانية والانتساب وحشر جميع القوى، فلولا الفردية لما كنا نحصل بآلاف الدراهم ما نحصله اليوم من بطيخ او رمان بدراهم معدودة. فكل ما نشاهده من بساطة الامور والاشياء وسهولتها ورخصها وتوفرها انما هي من نتائج الوحدانية وتشهد بالفردية.

النقطة الثانية:

ان الموجودات تُخلق وتظهر الى الوجود بوجهين:

الاول: الخلق من العدم، وهو ما يعبَّر عنه بـ(الابداع والاختراع).

الثاني: انشاؤها من عناصر موجودة، وتركيبها ومنح الوجود لها من أشياء حاضرة، أي بـ(التركيب والانشاء).

فاذا نظرنا الى الموجودات من زاوية سر الاحدية وتجلي الفردية، نرى ان خلقها وايجادَها يكون سهلاً وهيّناً الى حد الوجوب والبداهة، بينما ان لم يُفوَّض امرُ الخلق والايجاد الى الفردية والوحدانية، فستتعقد الامور وتتشابك، وتظهر امورٌ غير معقولة وغير منطقية الى حد المحال والامتناع. وحيث اننا نرى الموجودات قاطبة تظهر الى الوجود من دون صعوبة وتكلف، ومن غير عناء، وعلى اتم صورة وكيفية، يثبت لنا بداهة اذاً تجلي الفردية، ويتبين لنا: أن كل شئ في الوجود انما هو من ابداع الاحد الفرد ذي الجلال والاكرام.

نعم، ان اسند أمر الخلق الى (الفرد الواحد الاحد) يخلق كل شئ من العدم في لمح البصر وبكل سهولة ويسر، وبقدرته المطلقة العظيمة بآثارها المشهودة. ويقدّر لكل شئ بعلمه المحيط المطلق ما يشبه قوالب معنوية وتصاميم غيبية.. فكل شئ عنده بمقدار.

فكما ان الجنود المطيعين في الجيش المنظم يساقون لأخذ مواضعهم بامر من القائد وحسب خطته الموضوعة في علمه، كذلك الذرات المطيعة للاوامر الربانية فانها تساق بالقدرة الربانية - بكل سهولة ويسر - لتأخذ مواقعها وتحافظ عليها حسب تصميمٍ موجود، وصورة موجودة، في مرآة العلم الإلهي الازلي. حتى لو لزم جمع الذرات من الانحاء المختلفة، فان جميع الذرات المرتبطة بقانون العلم الإلهي المحيط، والموثوقة الصلة بدساتير القدرة الإلهية، تصبح بمثابة الجنود المنقادين في الجيش المنظم، فتأتي مسرعة بذلك القانون وبسَوق القدرة لأخذ مواقعها في ذلك القالب العلمي والمقدار القدري المحيطين بوجود ذلك الشئ.

بل كما تظهر الصورةُ المثالية المتمثلة في المرآة على الورقة الحساسة في آله التصوير وتلبس وجوداً محسوساً خارجياً، وكما تظهر وتشاهَد الكتابة المخفية السرية بامرار مادة كيمياوية عليها، كذلك الأمر في صورة جميع الموجودات، وماهية جميع الاشياء الموجودة في مرآة العلم الإلهي الفرد الاحد، فان القدرة الإلهية المطلقة تُلبسها - بكل سهولة ويسر - وجوداً خارجياً محسوساً، فتظهر للعيان في عالم الشهادة، بعد ان كانت في عالم المعنى والغيب.

ولكن ان لم يُسند أمرُ الخلق الى (الفرد الاحد) فعندئذٍ يلزم لخلق ذبابة واحدة مسح وتفتيش سطح الارض وغربلة عناصرها جميعاً وذراتها المعينة لوجود معين ثم وزنها بميزان دقيق حساس، لوضع كل ذرة في موضعها المخصص لها، حسب قوالب مادية بعدد اجهزتها واعضائها المتقنة، وذلك لكي يأخذ كل شئ مكانه اللائق به، فضلاً عن جلب المشاعر والاحاسيس الروحية الدقيقة واللطائف المعنوية من العوالم المعنوية والروحية بعد وزنها ايضاً بميزان دقيق حسب حاجة الذبابة!!

ألا يكون - بهذا الاعتبار - خلق ذبابة واحدة صعباً ممتنعاً كايجاد جميع الكائنات؟! أليس فيه الصعوبات تلو الصعوبات والمحالات ضمن المحالات؟!

لذا اتفق جميع اهل الايمان والعلم: انه لا يخلق من العدم الاّ الخالق (الفرد) سبحانه وتعالى.ولهذا لوفوّض الأمر الى الاسباب والطبيعة يستلزم لوجود شئ واحد الجمع من اكثر الاشياء.

النقطة الثالثة:

لقد اوردنا امثلة كثيرة في رسائل شتى تشير الى: ان اسناد الخلق الى الفرد الواحد الاحد يجعل خلق جميع الاشياء سهلاً كالشئ الواحد، وبعكسه اذا اُسنِد الى الطبيعة والاسباب فخلق الشئ الواحد يكون صعباً ممتنعاً كخلق جميع الاشياء..

نقتصر منها هنا على ثلاثة أمثلة فقط:

المثال الاول:

اذا اُحيلت ادارة الف جندي الى ضابط واحد، واُحيلت ادارةُ جندي واحد الى عشرة ضباط، فان ادارة هذا الجندي تكون ذات مشكلات وصعوبات بمقدار عشرة اضعاف ادارة تلك الفرقة من الجنود وذلك:

لأن الأمراء العديدين سيعادي بعضُهم بعضاً، وستتعارض اوامرُهم حتماً، فلا يجد ذلك الجندي راحة بين منازعة امرائه. بعكسه تماماً ذلك الضابط الذي يدير باوامره فرقة كاملة من الجنود وكأنه يدير جندياً واحداً، وينفّذ خطته وما يريده من الفرقة بتدبيره كل شئ بسهولة ويسر، علماً انه يتعذر الوصول الى هذه النتيجة اذا ترك الامر الى جنود سائبين.

المثال الثاني:

اذا سُلّم أمر بناء قبة جامع (أيا صوفيا) الى بنّاء ماهر، فانه يقوم به بكل سهولة ويسر، بينما اذا سُلم بناؤها الى احجارها، للزم ان يكون كل حجرٍ حاكماً مطلقاً على سائر الاحجار، ومحكوماً لها في الوقت نفسه كي تأخذ القبة المعلقة الشامخة شكلها! فبينما كان البنّاء الماهر يصرف جهداً قليلاً - لسهولة الأمر لديه - تصرف الآن مئات من البنّائين - الاحجار - اضعاف اضعاف ذلك الجهد من دون الحصول على نتيجة!!.

المثال الثالث:

ان الكرة الارضية مأمورة وموظفة من لدن (الفرد الواحد) سبحانه، وهي كالجندي المطيع لله الواحد الأحد، فحينما تستلم الأمر الواحد، الصادر من آمرها الأحد، تهبّ منتشية بأمر مولاها وتنغمر في جذبات وظيفتها في شوق عارم، وتدور كالمريد المولوي العاشق - عند قيامه للسماع - فتكون وسيلة لحصول المواسم الاربعة، واختلاف الليل والنهار وظهور الحركات الرفيعة العظيمة، والكشف عن مناظر خلابة لقبة السماء المهيبة وتبديلها باستمرار كتبدل المشاهد السينمائية.. ويكون سبباً لحصول امثال هذه النتائج الجليلة، حتى لكأن الارض هي القائد لتلك المناورة العسكرية المهيبة بين نجوم الكون.

ولكن ان لم يُسند الأمر الى (الفرد الأحد) الذي احاط بحاكمية ألوهيته وسلطان ربوبيته الكون كله، والذي ينفذ حكمه وأمره في كل صغيرة وكبيرة في الوجود، فعندئذٍ يلزم وجود ملايين النجوم التي تكبر الارض بالوف المرات، ولابد من ان تسير هذه النجوم في مدار اكبر واوسع بملايين المرات من مدار الارض كي تظهر تلك المناورة السماوية والارضية وتلك النتائج نفسها التي تتولد من حركتي الارض السنوية واليومية بكل سهولة ويسر.

وهكذا فان حصول هذه النتائج الجليلة الناشئة من حركتي الارض حول محورها ومدارها - حركة تشبه حركات المولوي العاشق - يظهر لنا مدى السهولة والفطرية والبساطة في الأحدية والفردية، ويبين لنا في الوقت نفسه كم هي مملوءة طريق الشرك والكفر بالمحالات التي لا حد لها وبالامور الباطلة غير المعقولة.

وبعد..

فلاحظ الآن بمنظار هذا المثال الآتي جهل المتشدقين بالطبيعة وعبّاد الاسباب، لتعلم في أي دَرَك من وحل الحماقة يتمرغون وفي اي بيداء وهمٍ يتيهون، وقس عليه مدى بُعدهم كل البعد عن ميدان المنطق والعقل السليم:

معمل عظيم.. كتاب رائع.. قصر مشيد.. ساعة دقيقة.. لاشك ان الذي صنع كلاً من هذه قد نظمه ونسقه بدقة وعناية، ويجيد ادارته ويرعاه، ولاشك انه أراد في صنع كل منها اظهار محاسن صنعته وابراز بدائع عمله.

فان احال احدُهم ادارة المعمل العظيم الى دواليب المعمل نفسه، وفوّض بناء القصر المنيف الى احجار القصر نفسه، واسند معاني الكتاب الجميلة الى الحروف نفسها، فكأنه قد جعل كل جزء من أجزاء المعمل ذا قدرة عظيمة لتنظيم نفسه وغيره! وجعل كل حرف من حروف الكتاب بل الورق والقلم شيئاً خارقاً يبدع الكتاب نفسه! اي انه يحيل روعة الانتظام في المعمل الى دواليب المعمل، ويسند جمال المعنى في الكتاب الى توافق الحروف من تلقاء نفسها!!

ايّ هذرٍ هذا! وايّ وَهْم! أليس الذي يتفوه به بعيداً كل البعد عن سلامة العقل؟ فالذين يحيلون أمر الخلق والايجاد في هذا الكون البديع الى الاسباب والى الطبيعة يهوون في جهل مركب سحيق كهذا. وذلك لأن مظاهر الابداع واضحة على الاسباب والطبيعة نفسها، فهي مخلوقة كسائر المخلوقات. فالذي خلقها – على هذه الصورة البديعة – هو الذي يخلق آثارها ونتائجها ايضاً، ويظهرها معاً.. فالذي خلق البذرة هو الذي أنشأ عليها شجرتها، وهو الذي يخرج اثمارها وازهارها من اكمامها..

بينما ان لم يُسند خلق الاسباب والطبيعة مع اثارهما الى الواحد الأحد، يلزم لوجود انواع الاسباب وانماط الطبيعة المختلفة، انواع من الاسباب والطبيعة المنتظمة المنسقة المختلفة . وهكذا تستمر سلسلة موهومة ممتنعة لا معنى لها ولا نهاية!

وهذا من أعجب عجائب الجهل واتعسه!!

الاشارة الخامسة:

لقد أثبتنا في مواضع متعددة من الرسائل وببراهين دامغة: ان الاستقلال والانفراد من أخص خصائص الحاكمية، حتى ان هذا الانسان الذي هو عاجز عجزاً شديداً، ولا يملك من الحاكمية سوى ظل باهت، نراه يردّ بكل قوة اي فضول كان من الآخرين، ويرفض بكل شدة اي تدخل كان منهم في شؤونه، صوناً منه لاستقلاله وانفراده في الأمر. بل ذُكِر في التاريخ ان كثيراً من السلاطين قد سفكوا دماءً زكية لأبنائهم الأبرياء واخوانهم الطيبين حينما شعروا بتدخل منهم في شؤونهم.

اذن فالاستقلال والانفراد ورفض مداخلة الآخرين هو من أخصّ خصائص الحاكمية الحقة، لا فكاك لها عنه. بل هو لازمها ومقتضاها الدائم.

فالحاكمية الإلهية التي هي في ربوبية مطلقة تردّ بكل شدة الشرك والاشتراك مهما كان نوعه، ولا تقبل تدخلاً ما من سواها قط، ومن هنا نرى القرآن الكريم يفيض في بيان التوحيد الخالص ويردّ الشرك والمشاركة باسلوب شديد وبتهديد مروّع..

فكما اقتضت الحاكمية الإلهية - التي هي في الربوبية المطلقة - التوحيد والوحدانية بقطعية تامة، واظهرت مقتضى شديداً وداعياً قوياً لها، كذلك النظام المتقن والانسجام البديع المشاهدان في الكون - ابتداء من النجوم والنباتات والحيوانات والأرض والمعادن وانتهاء بالجزئيات والافراد والذرات - كل منهما شاهدُ عدلٍ، وبرهان باهر على تلك الوحدانية والفردية، فلا يسمح قط لريبة أو لشبهة، إذ لو كان هناك تدخل مما سوى الواحد الأحد، لفسد هذا النظام البديع الرصين، واختل هذا التوزان المحكم المشاهَد في جميع اجزاء الكون، فصدق الله العظيم الذي قال: ﴿لو كانَ فيهما آلِهةٌ إلاّ الله لَفَسَدتا ﴾(الانبياء: 22)

نعم، لو كان هناك اي تدخل مهما كان لظهرت آثارُه باديةً، الاّ أن الدعوة الصريحة في الاية الكريمة: ﴿فارجِعِ البَصَرَ هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ﴾(الملك:3) تريك هذا النظام البديع بكل وضوح وجلاء حتى لا ترى ثغرة ولا لبساً ولا نقصاً في جهة من الجهات ابتداءً من الذرات الى المجرات.

اذاً فالنظام الرصين في الكون، والانتظام الرائع في المخلوقات كافة، والموازنة الدقيقة بين الموجودات.. يظهر لنا التجلي الاعظم لاسم (الفرد) ويشهد شهادة واضحة على الوحدانية.

ثم ان اي مخلوق مهما كان صغيراً، انما هو مثال مصغر للكون كله ونموذجه، وفهرسه المختصر، بمقتضى تجلي الأحدية. فلا يكون مالكاً لذلك المخلوق الحي الصغير الاّ مَن كان بيده زمام الكون كله وله الأمر جميعاً. وحيث ان كل بذرة متناهية في الصغر ليست بأقل ابداعاً في الخلق من شجرة ضخمة، وأن كل شجرة باسقة تضاهي في خلقها خلق الكائنات، وكل كائن حي صغير انما هو بحكم عالم مصغّر، وكون صغير فان تجلي الأحدية هذا يجعل الشرك والاشتراك محالاً ممتنعاً.

ثم ان في هذا الكون في ضوء هذا السر - سر الأحدية - ليس كلاً يستعصي على التجزئة وحدها بل ايضاً هو كلّي من حيث الماهية، لا يقبل الانقسام والاشتراك والتجزئة وتدخل الايدي المتعددة قط، فإن كل جزء فيه بحكم جزئي وفرد منه وكل الكون هو بحكم الكلي، فليس فيه موضع للاشتراك في أية جهة كانت.

فهذا التجلي الاعظم لأسم (الفرد) يثبت حقيقة التوحيد بهذا السر للأحدية، بدرجة البداهة.

نعم، ان اندماج انواع الكائنات واندغامها فيما بينها، وتوجه وظيفة كل منها الى عموم الكائنات مثلما يجعل الكون كلاً واحداً يستعصي على التجزئة قطعاً – من حيث الخلق والربوبية - كذلك الافعال العمومية المحيطة بالكائنات والتي تظهر أثارها وفعالياتها في الكائنات عموماً تجعل الكون ايضاً كلاً واحداً - من حيث تداخلها ببعضها - حتى يرفض التجزئة ويردّها ردّاً قوياً. ولتوضيح ذلك

نسوق المثال الآتي:

حالما توهب الحياة للكائن يظهر فعل الاعاشة والإرزاق فيه مباشرة. وضمن افعال الاعاشة والإحياء هذه، يشاهَد مباشرةً فعلُ تنظيمِ جسد ذلك الكائن وتنسيق اعضائه، وتجهيزه بما يحتاج ويلزم. وحينما تظهر افعالُ الاعاشة والإحياء والتنظيم والتجهيز يفعل التصويرُ والتربية والتدبير فعلَه في الوقت نفسه.. وهكذا.

فتداخل امثال هذه الافعال المحيطة العامة بعضها بالبعض الآخر، واتحادها ببعضها، وامتزاجها كامتزاج الالوان السبعة في الطيف الشمسي، ثم احاطة كل فعل من تلك الافعال وشموله - مع وحدته من حيث الماهية - للموجودات كلها في وحدة واحدة، وكون كل فعلٍ منها فعلاً وحدانياً.. يدل دلالة واضحة على أن فاعلَه واحدٌ أحد فرد..

وكما أن استيلاء كل فعل - من تلك الافعال - وهيمنته على الكائنات قاطبة، واتحاده مع سائر الافعال في تعاون وثيق، يجعل الكون كلاً غير قابل للتجزئة.. كذلك فان كل مخلوق حي من حيث كونه بمثابة بذرة الكون وفهرسه ونموذجه يجعل الكون كلياً غير قابل للانقسام والتجزئة - من حيث الربوبية - بل يجعل انقسامه محالاً وخارجاً عن الامكان، أي أن الكون بهذا هو كلٌّ لا يتجزأ، فلا يكون اذاً ربُّ الجزء الاّ من كان رباً للكل. وهو كلي ايضاً بحيث يكون كل جزء منه بحكم فرد، فلا يكون رباً للفرد الواحد الاّ من كان زمام ذلك الكلي بيده.

الاشارة السادسة:

كما ان انفراد الله سبحانه وتعالى بالربوبية،وتوحيده بالالوهية هو اساس جميع الكمالات(1) ومنشأ المقاصد السامية، ومنبع الحِكَم

المودَعة في خلق الكون، كذلك هو الغاية القصوى، والبلسم الشافي، لتطمين رغبات كل ذي شعور وذي عقل ولاسيما الانسان، فلولا الفردية لانطفأت شعلةُ رغباته ومطالبه كلها وتنمحي جميعُ الحِكَم المودَعة في خلق الكون، وتتلاشى اكثرُ الكمالات الموجودة والثابتة وتنعدم.

فمثلا: ان رغبة (حب البقاء) بل عشقه، عميقة في الانسان.. هذه الرغبة العريقة لايحققها ولا يسكّنها ويُطمئنُها الاّ مَن هو مالك لمقاليد الكون، الذي يفتح باب البقاء السرمدي أمام الانسان بالآخرة، بعد أن يُنهي هذه الدنيا الفانية ويغلق ابوابها كسهولة غلق غرفة وفتح اخرى.

وهناك رغبات اخرى كثيرة جدا ًللانسان امثال هذه الرغبة، كلها ممتدة الى غير نهاية معلومة ومتشعبة في ثنايا الكائنات جميعاً.. فهذه الرغبات جميعها مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بحقيقة التوحيد، ومشدودة مع سر الفردية. فلولا ذلك السرّ لبقيت هذه الرغبات عقيمة دون نتائج، قاصرة عن بلوغ مداها، مبتورة منكمشة. ولولا تصرف الواحد الأحد في الكون كله لما اطمأنت ولا حصلت تلك الرغبات ولو حصلت حصلت مبتورة.

فالايمان بالوحدانية، وبقدرة (الفرد الواحد الأحد) المطلقة اذاً هو وحده الكفيل باحلال الطمأنينة والسكون في تلك الرغبات المتأججة لدى الانسان.

من اجل هذا السر العظيم نرى القرآن الكريم يذكر التوحيد والوحدانية بكل حرارة وشوق، ويكررها بكل حلاوة وذوق، وان الانبياء - عليهم السلام - والاصفياء والعلماء والاولياء الصالحين يجدون بغيتهم وذوقهم السامي، بل منتهى سعادتهم في افضل ما قالوه: (لا إله إلاّ هو).

الاشارة السابعة:

ان هذا التوحيد الحقيقي، بجميع مراتبه، وبأتم صورته الكاملة، قد أثبته واعلنه وفهّمه وبلّغه محمد صلى الله عليه وسلم ، فلابد ان رسالته ثابتة وقاطعة كقطعية ثبوت التوحيد نفسه؛ لانه: لما كان التوحيد هو اعظم حقيقة في عالم الوجود، وان الرسول الاعظم صلى الله عليه وسلم هو الذي تولى تبليغه وتعليمه بجميع حقائقه، فلابد ان جميع البراهين التي تثبت التوحيد، تكون بدورها براهين لاثبات رسالته وادلة على صدق نبوته واحقية دعوته صلى الله عليه وسلم ، فرسالة كهذه الرسالة العظمى التي تضم الوفاً من امثال هذه الحقائق السامية وتكشف عن حقيقة التوحيد وترشد اليه وتلقنه، لا شك انها رسالة يقتضيها ذلك التوحيد وتلك الفردية.

فمَن ذا غير محمد صلى الله عليه وسلم الذي أدىّ الأمانة على افضل وجه وبلّغ الرسالة على اجمل صورة؟.

سنذكر ثلاثة نماذج، مثالاً لتلك الادلة الكثيرة والاسباب العديدة التي تشهد بعظمة الشخصية المعنوية لهذا النبي الكريم صلى الله عليه وسلم وتدل على علو منزلته الرفيعة، وتبيّن انه السراج المنير لهذه الكائنات وشمسها الساطعة.

الدليل الاول:

ان ثواب جميع الحسنات التي ينالها جميع افراد الامة، وعلى مدى جميع العصور مكتوبٌ مثلُه في صحيفة حسناته صلى الله عليه وسلم ، اذ هو السبب في نيل كل ثواب تناله امتُه الى يوم القيامة، حيث (السبب كالفاعل)..

تأمل في هذا ثم فكّر في المقام المعظم اللائق الذي يقتضيه مجموع الادعية غير المحدودة من الصلوات المقبولة المرفوعة يومياً من الأمة كافة.. تدرك عندئذٍ، درجته العالية الرفيعة وتفهم ان شخصيته المعنوية شمس الكائنات والسراج المنير للخلق اجمعين.

الدليل الثاني:

ان بذرة الشجرة الوارفة للاسلام، ومنشأها، وحياتها، ومنبعها انما هي حقيقة الماهية المحمدية، بما تملك من فطرة سامية، وخلقة كاملة. فتذكّر هذا ثم فكّر في الرقي الروحي لهذا الرسول الحبيب صلى الله عليه وسلم النابع من استشعاره الكامل الأتم لجميع معاني ومراتب عبادته، واذكاره، وكلماته الشريفة، والذي يمثل بمجموعه روح الاسلام وحقيقته. لتعلم مدى علو مرتبة ولاية عبوديته صلى الله عليه وسلم الى الدرجة الرفيعة، درجة الحبيبية. وافهم مبلغ سموّها.

ولقد فتح الله عليّ يوماً في سجدةٍ في صلاةٍ، بعض المعاني والانوار المشعة من كلمة (سبحان ربي الاعلى) بما يقرب من فهم الصحابة رضوان الله عليهم اجمعين من هذه الكلمة المقدسة. فتبين لي يقيناً انها خير من عبادة شهر، فادركتُ بها المنزلة العظيمة والدرجة العالية التي يحظى بها الصحابة الكرام رضوان الله عليهم اجمعين.

نعم، ان الانوار التي تشعها الكلمات المقدسة، وفيوضاتها في بدء الاسلام لها مزايا خاصة، وذلك لجدّتها، ولها من اللطافة والطراوة واللذة ما تتناقص بمرور الزمن وتتستر تحت ستار الغفلة.

والآن، وفي ضوء ما سبق تأمل مكانة الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم الذي تناول الكلام المقدس، ورَشَفَه من المنبع الأقدس، واستوعب انواره بالوحي الإلهي بكامل جدّته وطراوته ولطافته. مع ما فُطر عليه من استعداد كامل.. فالانوار والفيوضات الكامنة في تسبيحةٍ واحدة منه صلى الله عليه وسلم هي خيرٌ وأعم من جميع الانوار التي تملأ ارجاء عبادة سنة كاملة عند غيره.!.

قس على هذا المنوال، كي تعلم كم بلغ رسولنا الحبيب صلى الله عليه وسلم من درجات الكمال التي لا حد لها ولا نهاية.

الدليل الثالث:

ان الانسان يمثل اعظم مقصد من المقاصد الإلهية في الكون، وهو المؤهَّل لإدراك الخطاب الرباني. وقد اختاره سبحانه من بين مخلوقاته، واصطفى من بين الانسان المكرّم مَن هو اكمل وأفضل واعظم انسان بأعماله وآثاره الكاملة، ليكون موضع خطابه الجليل باسم النوع الانساني كافة، بل باسم الكائنات جميعاً.

فلا ريب ان الله سبحانه الفرد الجليل الذي هيأ رسوله الحبيب صلى الله عليه وسلم لهذه المرتبة اللائقة به قد منحه من الانوار والكمالات ما لا يحد بحدود.

وهكذا وبمثل هذه الدلائل الثلاثة ودلائل اخرى كثيرة يَثبت لدينا يقيناً:

ان الشخصية المعنوية للرسول الكريم صلى الله عليه وسلم ، شمس معنوية ساطعة للكائنات. وسراج منير لامع لها، كما انها الآية العظمى من قرآن الكون، والاسم الاعظم للفرقان الاعظم، ومرآة صافية للتجلي الاعظم لانوار اسم (الفرد) عزّوجل.

فاللّهم يا أحدُ، يا فردُ، ياصمدُ، أنزِل من بركات خزينة رحمتك التي لا تنفد صلواتٍ وسلاماً على تلك الذات النبوية الشريفة، بعدد ذرات الكون مضروباً بعدد عاشرات جميع ازمنة الكون.

﴿سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا اِلاّ مَا عَلّمْتَنَا اِنَّكَ اَنْتَ الْعَليمُ الْحَكيمُ﴾ (*)

_____________________________

(1) حتى ان التوحيد هو نفسه أوضح برهان، وأسطع دليل على الكمال والجمال الإلهي، لأنه: اذا عُرف ان صانع الكون واحد أحد، فسيُعرف جميع انواع الكمال والجمال المشاهدة في الوجود، بأنها: ظلال وتجليات وعلامات لانواع الكمال المقدس وانماط الجمال المنزّه لذلك الصانع الواحد الأحد لذلك الكمال المقدس والجمال المنزه، بينما اذا لم يُعرف الصانعُ الواحد، فستحال تلك الكمالات وانواع الجمال الى الاسباب التي لاشعور لها والى مخلوقات عاجزة، وعندها يحار العقل البشري امام خزائن الكمال والجمال السرمديين، لانه فقد مفتاح تلك الكنوز الخالدة. المولف.

 (*) كليات رسائل النور - اللمعات - ص: 539

 

قرئت 304 مرات
لإضافة تعليق يرجى تسجيل الدخول أو إنشاء قيد جديد