الانسان وسر القيومية
قطرة نورية من كليات رسائل النورسي
ان جلوة من تجليات القيومية على الكون، وشعاعاً من نورها مثلما يعمّ الكون بمظاهر "الواحدية والجلال"، فانه يبرز على هذا الانسان -الذي يمثل محور الكون وقطبه وثمرته الشاعرة - مظاهر "الاحدية والجمال". وهذا يعني:
ان الكائنات التي هي قائمة بسر القيومية فهي تقوم ايضاً - من جهة - بالأنسان؛ الذي يمثل اكمل مظهر من مظاهر تجلي اسم (القيوم). أي: ان القيومية تتجلى في الانسان تجلياً يجعل منه عموداً سانداً للكائنات جميعاً، بمعنى ان معظم الحِكَم الظاهرة في الكائنات وأغلب مصالحها وغاياتها تتوجه الى الانسان.
نعم ، يصح ان يقال: ان (الحي القيوم) سبحانه قد أراد وجود الانسان في هذا الكون، فخلق الكون لاجله، وذلك لان الانسان يمكنه ان يدرك جميع الاسماء الالهية الحسنى ويتذوقها بما اودع الله فيه من مزايا وخصائص جامعة. فهو يدرك - مثلاً - كثيراً من معاني تلك الاسماء بما يتذوق من لذائذ الارزاق المنهمرة عليه، بينما لا يبلغ الملائكة الى ادراك تلك الاسماء بتلك الاذواق الرزقية.
فلأجل جامعية الانسان المهمة يُشعِر "الحي القيوم" الانسان بجميع اسمائه الحسنى، ويعرّفه بجميع انواع احسانه، ويذوّقه طعوم آلائه، فمَنحَه معدةً ماديةً يستطيع بها ان يتذوق ما أغدق عليه من نِعمٍ لذيذة قد بسطها في سُفرة واسعة سعة الارض. ثم وهب له حياة، وجعل هذه الحياة كتلك المعدة المادية تستطيع ان تتنعم بأنواع من النعم المُعَدّة على سُفرة واسعة مفروشة أمامها وتتلذذ بها بما زودها -
سبحانه- من مشاعر وحواس لها القدرة ان تمتد - كالايدي - الى كل نعمة من تلك النعم، فتؤدي عند ذلك حقها من انواع الشكر والحمد.
ثم وهب له - فوق معدة الحياة هذه - معدة الانسانية، وهذه المعدة تطلب رزقاً ونعَماً ايضاً. فجعل العقل والفكر والخيال بمثابة أيدي تلك المعدة، لها القدرة على بلوغ آفاق أوسع من ميادين الحياة المشهودة، وعندها تستطيع الحياة الانسانية ان تؤدي ما عليها من شكر وحمد تجاه بارئها حيث تمتد أمامها سُفرةُ النِعَم العامرة التي تسع السماوات والارض.
ثم لأجل ان يمدّ امام الانسان سفرة نعمٍ أخرى عظيمة جعل عقائد الاسلام والايمان بمثابة معدة معنوية تطلب ارزاقاً معنوية كثيرة فمدّ سفرة مليئة بالرزق المعنوي لهذه المعدة الايمانية وبَسَطها خارج الممكنات المشاهدة. فضم الاسماء الالهية في تلك السفرة العظيمة.. ولهذا يستشعر الانسان - بتلك المعدة المعنوية - ويتمتع بأذواق رفيعة لا منتهى لها، نابعة من تجليات اسم "الرحمن" واسم "الحكيم" حتى يردد (الحمد لله على واسع رحمته وجليل حكمته).. وهكذا - مكّن الخالق المنعم الانسان - بهذه المعدة المعنوية العظمى - ليستفيد ويغنم نعماً الهية لا حد لها، ولا سيما أذواق محبته الالهية، في تلك المعدة فان لها آفاقاً لا تحد وميادين لا تحصر.
وهكذا جعل (الحي القيوم) سبحانه الانسان مركزاً للكون، ومحوراً له، بل سخّر الكون له فمدّ أمامه سفرة عظيمة عظم الكون لتتلذذ انواع معداته المادية والمعنوية.
اما حكمة قيام الكون بسر القيومية على الانسان - من جهة - فهي للوظائف المهمة الثلاث التي انيطت بالانسان:
الاولى:
تنظيم جميع انواع النعم المبثوثة في الكائنات بالانسان وربطها بأواصر المنافع التي تخص الانسان، كما تنظَّم خرز المسبحة بالخيط، فتُربط رؤوس خيوط النعم بالانسان ومصالحه ومنافعه. فيكون الانسان بما يشبه فهرساً لأنواع ما في خزائن الرحمة الالهية ونموذجاً لمحتوياتها.
الوظيفة الثانية:
كون الانسان موضع خطابه سبحانه بما أودع فيه من خصائص جامعة أهّلته ليكون موضع خطابه سبحانه وتعالى، ومقدّراً لبدائع صنائعه ومعجباً بها، ونهوضه بتقديم آلاء الشكر والثناء والحمد الشعوري التام. على ما بُسط أمامه من أنواع النعم والألاء العميمة.
الوظيفة الثالثة:
قيام الانسان بحياته بمهمة مرآة عاكسة لشؤون (الحي القيوم)ولصفاته الجليلة المحيطة، وذلك بثلاثة وجوه:
الوجه الاول:
هو شعور الانسان بقدرة خالقه سبحانه المطلقة ودرجاتها غير المحدودة بما هو عليه من عجز مطلق. فيدرك مراتب تلك القدرة المطلقة بما يحمل من درجات العجز. ويدرك كذلك رحمة خالقه الواسعة ودرجاتها بما لديه من فقر، ويفهم أيضاً قوة خالقه العظيمة بما يكمن فيه من ضعف... وهكذا.
وبذلك يكون الانسان مؤدياً مهمة مرآةٍ قياسية صغيرة لأدراك صفات خالقه الكاملة، وذلك بما يملك من صفات قاصرة ناقصة؛ اذ كما ان الظلام كلما اشتد سطع النور اكثر، فيؤدي هذا الظلام مهمة اراءة المصابيح، فالانسان ايضاً يؤدي مهمة اراءة كمالات صفات بارئه سبحانه بما لديه من صفات ناقصة مظلمة.
الوجه الثاني:
ان ما لدى الانسان من ارادة جزئية وعلمٍ قليل وقدرة ضئيلة وتملّك في ظاهر الحال وقابلية على إعمار بيته بنفسه، يجعله يدرك بهذه الصفات الجزئية خالق الكون العظيم ويفهم مدى مالكيته الواسعة وعظيم اتقانه وسعة ارادته وهيمنة قدرته واحاطة علمه.فيدرك ان كلاً من تلك الصفات انما هي صفات مطلقة وعظيمة لا حدّ لها ولا نهاية.وبهذا يكون الانسان مؤدياً مهمة مرآة صغيرة لأظهار تلك الصفات وادراكها.
أما الوجه الثالث:
من قيام الانسان بمهمة مرآة عاكسة لكمالات الصفات الالهية فله وجهان:
اظهاره بدائع الاسماء الالهية الحسنى المتنوعة وتجلياتها المختلفة في ذاته. لأن الانسان بمثابة فهرس مصغر للكون كله - بما يملك من صفات جامعة - وكأنه مثاله المصغر، لذا فتجليات الاسماء الالهية في الكون عامة نراها تتجلى في الانسان بمقياس مصغر.
الوجه الثاني:
اداؤه مهمة المرآة العاكسة للشؤون الالهية، أي ان الانسان كما يشير بحياته الى حياة (الحي القيوم) فانه بوساطة ما ينكشف في حياته الذاتية من حواس كالسمع والبصر وامثالها يفهم - ويبيّن للآخرين - صفات السمع والبصر وغيرها من الصفات الجليلة المطلقة (للحي القيوم)
ثم ان الانسان الذي يملك مشاعر دقيقة جداً وكثيرة جداً - وقد لا تنكشف ضمن حياته وانما عندما يحفَّز او يُثار - فتظهر تلك المشاعر بأشكال متنوعة وانفعالات مختلفة، فانه بوساطة هذه المشاعر الدقيقة والمعاني العميقة يؤدي مهمة عرض الشؤون الذاتية(للحي القيوم). فمثلاً: الحب والافتخار والرضى والانشراح والسرور وما شابهها من المعاني التي تتفجّر لدى الانسان في ظروف خاصة، يؤدي الانسان بها مهمة الاشارة الى هذه الانواع من الشؤون الالهية بما يناسب قدسية الذات الالهية وغناه المطلق وبما يليق به سبحانه وتعالى.
وكما ان الانسان وحدة قياس - بما يملك من جامعية حياته - لمعرفة صفات الله الجليلة، وشؤونه الحكيمة، وفهرس لتجلي اسمائه الحسنى، ومرآة ذات شعور بجهات عدة لذات (الحي القيوم).. كذلك - الانسان - هو وحدة قياس ايضاً لمعرفة حقائق الكون هذا، وفهرس له ومقياس وميزان.
فمثل:ان الدليل القاطع على وجود اللوح المحفوظ في الكون يتمثل في نموذجه المصغر وهو "القوة الحافظة" لدى الانسان. والدليل القاطع على وجود عالم المثال
نلمسه في نموذجه المصغر وهو "قوة الخيال" لدى الانسان،(1) والدليل القاطع على وجود الروحانيات في الكون ندركه ضمن نموذجها المصغر وهو "لطائف الانسان وقواه".. وهكذا يكون الانسان مقياساً مصغراً يُظهر عياناً الحقائق الايمانية في الكون بدرجة الشهود.
وهناك مهمات ووظائف وخدمات كثيرة اخرى للانسان فضلاً عمّا ذكرناه؛ اذ هو: مرآة لتجلي الجمال الباقي، وداعٍ الى الكمال السرمدي ودالّ عليه. ومحتاجٌ شاكر لأنعم الرحمة الواسعة الابدية.
فما دام الجمال باقياً والكمال سرمدياً والرحمة أبدية، فلا بد ان الانسان الذي هو المرآة المشتاقة لذلك الجمال الباقي والداعي العاشق لذلك الكمال السرمدي والمحتاج الشاكر لتلك الرحمة الابدية سيُبعث الى دار بقاء أبدية ليخلد فيها دائماً، ولابد انه سيذهب الى الابد ليرافق الباقين الخالدين هناك ويرافق ذلك الجمال الباقي وذلك الكمال السرمدي وتلك الرحمة الابدية في ابد الاباد. بل يلزم ذلك قطعاً لأن: الجمال الابدي لا يرضى بمشتاق فانٍ ومحبٍ زائلٍ. اذ الجمال يطلب محبة تجاهه مثلما يحب نفسه. بينما الزوال والفناء يحولان دون تلك المحبة ويبدلانها الى عداء.
فلو لم يرحل الانسان الى الابد، ولم يبق هناك خالداً مخلداً فسيجد في فطرته عداءً شديداً لما يحمل من سر مغروز فيه وهو المحبة العميقة نحو الجمال السرمدي. مثلما بينا ذلك في حاشيةٍ في الكلمة العاشرة (رسالة الحشر): ان حسناء بارعة الجمال عندما طردت - ذات يوم - احد عشاقها من مجلسها، انقلب عشقُ الجمال لدى العاشق المطرود قبحاً وكرهاً حتى بدأ يسلّى نفسه بقوله: تباً لها ما أقبحها! فانكر الجمال وسخط عليه.
نعم فكما ان الانسان يعادي ما يجهله، فانه يتحرى النقص والقصور فيما تقصر يدُه عنه، ويعجز عن الاحتفاظ به ومسكه.. بل تراه يتحرى فيه عن القصور بشئ من عداء وحقد يضمره، بل يتخذ مايشبه العداء له.
فما دام الكون يشهد بان المحبوب الحقيقي والجميل المطلق سبحانه يحبّب نفسَه الى الانسان بجميع اسمائه الحسنى، ويطلب منه مقابل ذلك حباً عظيماً له، فلابد انه سبحانه لايدع هذا الانسان الذي هو محبوبه وحبيبه يسخط عليه، فلا يودع في فطرته ما يثير عداءً نحوه - أي بعدم احداث الاخرة - ولا يغرز في فطرة هذا المخلوق المكرم الممتاز، المحبوب لدى الرب الرحيم والمخلوق اصلاً للقيام بعبادته، ما هو منافٍ كلياً لفطرته من عداء خفي، ولا يمكن ان يحمّل روحه سخطاً عليه سبحانه قط؛ لأن الانسان لا يمكنه ان يداوى جرحه الغائر الناشئ من فراقه الابدي عن جمال مطلق يحبّه ويقدّره الا بالعداء نحوه، أو السخط عليه، أو انكاره؛ وكون الكفار اعداء الله نابع من هذه الزاوية.. لأجل هذا فسيجعل ذلك الجمال الازلي حتماً هذا الانسان الذي هو مرآة مشتاقة اليه مبعوثاً الى طريق أبد الآباد، ليرافق ذلك الجمال المطلق والبقاء والخلود، ولا ريب ان سيجعله ينال حياة باقية في دار باقية خالدة.
وما دام الانسان مشتاقاً فطرةً لجمال باقٍ وقد خُلقَ محباً لذلك الجمال.. وان الجمال الباقي لا يرضى بمشتاق زائل.. وان الانسان يسكّن آلامه وأحزانه الناجمة عما لا تصل اليه يدُه او يعجز عن الاحتفاظ به او يجهله، بتحري القصور فيه بل يسكّنها بعداء خفي نحوه، مسلياً نفسه بهذا العداء.. وما دام الكون قد خُلق لاجل هذا الانسان، والانسان مخلوق للمعرفة الالهية ولمحبته سبحانه وتعالى.. وخالق الكون سرمديٌ باسمائه الحسنى وتجلياته باقية دائمة.. فلا بد ان هذا الانسان سيُبعث الى دار البقاء والخلود، ولا بد ان ينال حياة باقية دائمة.
هذا وان الرسول الاكرم صلى الله عليه وسلم وهو الانسان الاكمل والدليل الاعظم على الله قد أظهر جميع ما بيّناه من كمالات الانسان وقيمته ومهمته ومثله، فأظهر تلك الكمالات
في نفسه، وفي دينه، بأوضح صورة وأكملها، مما يدلنا على: ان الكائنات مثلما خُلقت لأجل الانسان، أي انه المقصود الاعظم من خلقها والمنتخب منها، فان اجلّ مقصود من خلق الانسان ايضاً وافضل مصطفى منه، بل أروع واسطع مرآة للأحد الصمد انما هو محمد عليه وعلى آله وأصحابه الصلاة والسلام بعدد حسنات أمته...
فيا الله يارحمن يارحيم يا فرد يا حيُّ با قيوم يا حكم ياعدل ياقدوس.
نسألك بحق فرقانك الحكيم وبحُرمة حبيبك الاكرم صلى الله عليه وسلم
وبحق اسمائك الحسنى وبحرمة إسمك الاعظم
ان تحفظنا من شر النفس والشيطان ومن شر الجن والانسان.آمين
(سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا اِلاّ ما عَلَّمْتَنا اِنَّكَ اَنْتَ الْعَليمُ الْحَكيم) (*)
__________________
(1) نعم! ان عناصر الانسان مثلما تشير الى عناصر الكون وعظامه تنبئ عن أحجاره وصخوره، وأشعاره توحي الى نباتاته واشجاره، والدم الجاري في جسمه والسوائل المختلفة المترشحة من عيونه وانفه وفمه تخبر عن عيون الارض وينابيعها ومياهها المعدنية، كذلك تخبر روحُ الانسان عن عالم الارواح وحافظته عن اللوح المحفوظ وقوة خياله عن عالم المثال.وهكذا يخبر عن كلُ جهاز عن عالم ويشهد على وجوده شهادة قاطعة. - المؤلف.
(*) كليات رسائل النور - اللمعة الثلاثون - ص: 593