العلوم تعرّف بالخالق

 

قطرة نورية من كليات رسائل النورسي

جاءني فريق من طلاب الثانوية في (قسطموني)(1) قائلين:

عرّفنا بخالقنا، فإن مدرسينا لا يذكرون الله لنا !.

فقلت لهم:

إن كل علم من العلوم التي تقرأونها يبحث عن الله دوما، ويعرّف بالخالق الكريم بلغته الخاصة. فاصغوا إلى تلك العلوم دون المدرسين..

فمثلا: لو كانت هناك صيدلية ضخمة، في كل قنينة من قنانيها أدوية ومستحضرات حيوية، وضِعت فيها بموازين حساسة، وبمقادير دقيقة؛ فكما أنها ترينا أن وراءها صيدلياً حكيماً وكيميائياً ماهراً،كذلك صيدلية الكرة الأرضية التي تضم اكثر من أربعمائة ألف نوع من الأحياء -نباتا وحيوانا- وكل واحد منها في الحقيقة بمثابة زجاجة مستحضرات كيماوية دقيقة، وقنينة مخاليط حيوية عجيبة فهذه الصيدلية الكبرى تُري حتى للعميان صيدليّها الحكيم ذا الجلال، وتعرّف خالقها الكريم سبحانه بدرجة كمالها، وانتظامها، وعظمتها، قياسا على تلك الصيدلية التي في السوق، على وفق مقاييس علم الطب الذي تقرأونه..

[ثم يستطرد في ذكر الأمثلة إلى ان يقول:]

ومثلاً: لو كان هناك كتاب، كتب في كل سطر منه كتاب بخط دقيق، وكُتب في كل كلمة من كلماته سورة قرآنية، وكانت جميع مسائله ذات مغزى ومعنى عميق، وكلها يؤيد بعضها البعض، فهذا الكتاب العجيب يبين بلا شك مهارة كاتبه الفائقة، وقدرة مؤلفه الكاملة. أي أن مثل هذا الكتاب يعرّف كاتبه ومصنّفه تعريفا يضاهي وضوح النهار، ويبين كماله وقدرتَه، ويثير من الإعجاب والتقدير لدى الناظرين إليه ما لا يملكون معه الا ترديد: تبارك الله سبحان الله ما شاء الله! من كلمات الاستحسان والإعجاب؛ كذلك هذا الكتاب الكبير للكون الذي يُكتب في صحيفة واحدة منه -وهي سطح الأرض- ويُكتب في ملزمة واحدة منه-وهي الربيع- ثلاثمائة ألف نوع من الكتب المختلفة وهي طوائف الحيوانات وأجناس النباتات كل منها بمثابة كتاب.. يُكتب كل ذلك معا ومتداخلة بعضها ببعض دون اختلاط، ولا خطأ، ولا نسيان، وفي منتهى الانتظام والكمال بل يُكتب في كل كلمة منه -كالشجرة- قصيدة كاملة رائعة، وفي كل نقطة منه -كالبذرة- فهرس كتاب كامل. وان هذا مشاهد وماثل أمامنا، ويُرينا بالتأكيد وراءه قلماً سيالاً يسطر. فلكم ان تقدروا مدى دلالة كتاب الكون الكبير العظيم الذي في كل كلمة منه معان جمة وحكم شتى، ومدى دلالة هذا القرآن الأكبر المجسم -وهو العالم- إلى بارئه سبحانه وإلى كاتبه جل وعلا، قياسا إلى ذلك الكتاب المذكور في المثال. وذلك بمقتضى ما تقرأونه من علم حكمة الأشياء او فن القراءة والكتابة، وتناولوه بمقياس اكبر، وبالنظرة الواسعة إلى هذا الكون الكبير وبذلك تفهمون كيف يعرّف الخالق العظيم بـ(الله اكبر) وكيف يعلّم التقديس بـ(سبحان الله) وكيف يحبّب الله سبحانه إلينا بثناء (الحمد لله).

وهكذا فان كل علم من العلوم العديدة جداً، يدل على خالق الكون ذي الجلال - قياسا على ما سبق - ويعرّفه لنا سبحانه بأسمائه الحسنى، ويعلّمه إيانا بصفاته الجليلة وكمالاته. وذلك بما يملك من مقاييس واسعة، ومرايا خاصة، وعيون حادة باصرة، ونظرات ذات عبرة.

فقلت لأولئك الطلبة الشباب: ان حكمة تكرار القرآن الكريم من: ﴿خلقَ السمواتِ والأرض﴾و﴿ربّ السموات والأرض﴾ إنما هي لأجل الإرشاد إلى هذه الحقيقة المذكورة، وتلقين هذا البرهان الباهر للتوحيد، ولأجل تعريفنا بخالقنا العظيم سبحانه. فقالوا: شكراً لربنا الخالق بغير حد، على هذا الدرس الذي هو الحقيقة السامية عينها، فجزاك الله عنا خير جزاء ورضي عنك.(2)(*)

 

_____________________________________

 (1) في تلك السنوات الحالكة مُسح مفهوم (الاله) ومسخت فكرة (الخالق) من الاذهان، وكانت معاول الهدم تهدم الإيمان بالله في نفوس الجيل الجديد، وتثير الحيرة فيها. يتحدث "عبد الله يكن" عن حيرته هذه عندما كان طالباً في المدرسة المتوسطة، فيقول بان مدرسيه لم يكونوا يتحدثون مطلقاً عن (الله) فكان يذهب هو وصديق له يدعى "رفعت" لزيارة بديع الزمان:

"كنا أنا وصديقي رفعت نزوره على الدوام، فكان يتحدث معنا عن اهمية الإيمان، وعن وحدانية الله، وان الانسان لم يخلق للعيش بدون ضوابط، وكنا نحسّ في أعقاب كل زيارة بأننا قد ولدنا من جديد، وكانت نفوسنا تطفح بالسعادة المعنوية وبالبشر والفرح".ش/331

(2) الشعاعات/257

(*) كليات رسائل النور- سيرة ذاتية ص:304

 

قرئت 2 مرات
لإضافة تعليق يرجى تسجيل الدخول أو إنشاء قيد جديد