تكامل الروح

 

    تتكامل الروح بالترقي في الخصال الرفيعة التي تمتلكها ؛ كالإيمان والعلم والعبادة والتفكر والتقوى والعمل الصالح. وسنقف بإيجاز على قسم من هذه الخصال:

التفكر:

    هو قوة تفتح البصيرة وتساعد الإدراك على النمو بوساطة العلم والتجربة والفكر والمحاكمة العقلية. والتفكر هو التعمق في الإدراك في المحاكمة العقلية للحقائق الأنفسية والأفاقة، وفي مطالعة الحقائق الربانية المتجلية في الإنسان والكائنات. ويجد الإنسان بهذا التفكر منبع هذه الحقائق وأصلها فيزنها بميزان الإدراك. وان الروح التي اكتسبت خبرة في التفكر عن طريق المطالعة المستمرة تسير نحو عرش الكمالات.

    وبالتفكر ينجو الإنسان من التقليد والسطحية. وبذلك يستطيع دفع كل أنواع الشكوك والوساوس التي تهاجمه.

    وتعتبر المحاكمة العقلية والمنطق والحجج والبراهين بمثابة أركان وأجنحة وقوائم للتفكر. وبوساطة هذه الأركان يستطيع الإنسان الولوج إلى حقائق عديدة من باب حقيقة واحدة. فيستنبط من أساس واحد آلاف النتائج.ويصل من حقائق ثابتة ومعلومة إلى حقائق كانت مجهولة لديه. فتتولد في دمائه أفكاراً جديدة. وتفتح آفاقاً جديدة في عقله.

    ونسوق هنا بعض الأمثلة حول الروح التي ارتقت إلى هذا المقام وكيف ترى الحقائق الثابتة في الكائنات:

    من الحقائق القطعية الثابتة هي: (( لا يمكن وجود أية صنعة بدون صانع)) أي ان الحرف الواحد لابد له من كاتب والإبرة لابد لها من صانع. ولا يمكن الوقوف على أية صنعة دون أن نفكر في صانعها. وتصل الروح إلى هذه الحقيقة بالتفكر. وتعلم يقينا أن كل موجود في الكون يدل بوجوده على الصانع الحكيم. فترى الروح في ضوء هذه الحقيقة الموجِد الحقيقي من فعل إيجاد هذه الكائنات. وتدرك أيضاً من معاني جليلة وشؤون إلهية أمثال الإكرام والإحسان واللطف المتجلية في الكائنات وجود الذات الكريم واللطيف والمحسن والمكرم- جلت صفاته-.

    ويمكن رؤية الأفعال الإلهية الظاهرة على الكائنات أمثال التنظيم والتقدير والتزيين والإحياء والإماتة والذي يشير كل فعل منها إلى اسم من الأسماء الإلهية الحسنى. وذلك من خلال منظار هذا المثال:

    حينما ينظر الإنسان إلى كلمة ما فانه يفهم بوجود كاتب لهذه الكلمة. وإذا ما نظر إلى كتاب ما فانه يدرك بأن كاتبه قد رتبه صحيفة صحيفة وسطراً سطرا. فيرى في كل جملة من جمله علم كاتبه ومهارته وقابليته وغايته ومقصده. ويفهم أيضاً ان هذا الكتاب يُريه علم كاتبه وقدرته وإرادته وشخصيته. ويدرك يقيناً بأن هذا الكتاب ظهر من تلك الصفات وان كاتبه موجود قبل وجود الكتاب. وبنفس النظرة ينظر الإنسان إلى الكائنات. فيعلم يقيناً بأن كتاب الكائنات هذا ظهر من صفات أمثال الإرادة والحياة والقدرة والعلم. وان الذات الأقدس – جل جلاله – الموصوف بهذه الصفات موجود قبل وجود كتاب الكائنات ويدرك بأن هذا العلم يُظهر كمال صانعه ومهارته ومعرفته وصفاته. فيرى معجزات صانعه الغير المحدودة ومهاراته التي لا تعد وينشرح لها.

    مثال آخر: عندما ينظر الإنسان إلى معمل ما، فانه يفهم بأن هذا المعمل صُمم بميزان وتقدير ورتبت أجزاؤه بحكمة ومهارة ومتأملاً في الغايات التي يعمل المعمل لأجلها. وبعد مشاهدته هذا التوازن والانتظام في المعمل ينتقل ذهنه إلى معرفة علم صانعه وكمالاته الفائقة. وانطلاقاً من هذا المثال، ينظر هذا الإنسان إلى هذه الكائنات متأملاً ضخامتها وكمالها المثيرة للدهشة فيرى بإعجاب شديد عملها المنتظم رغم ضخامتها هذه ويشاهد بكل تقدير ان أجزاء المعمل ودواليبه تعمل كيد واحدة وان موقع كل منها ثابت فيقدّس ربه الأعلى قائلا ( سبحان الله) ويشكره ويثني عليه بقوله ( الحمد الله) ويعظمه ويبجله قائلا ( الله اكبر). فيرى الكرامات والألطاف والإحسان الناتج من هذا المعمل ويتأمل رحمة ربه الواسعة وكرمه الواسع وغناه المطلق فيقول : (( ان الخالق الرحيم سبحانه يطلب من البشرية شكراً وحمداً إزاء ما أغدق عليها من النعم والآلاء.))[1] ويصدقه في ذلك وجدانه.

 

العلم والمعرفة :

    ان معرفة الله هي اعظم علم تسمو به روح الإنسان إلى التكامل، وهي أساس كل الحقائق المنتخبة وكالنور الذي ينور العقول والقلوب، والفرقان بين الحق والباطل والفيصل بين الخير والشر، وبهذه المعرفة تتولد في الإنسان رغبةً وشوقاً في طلب الدنيا والآخرة، وتتكامل بها روحه، وان هذه المعرفة هي النور التي تتولد في القلوب وبها تظهر حقائق جميع الأشياء، وان معرفة الله هي من اشرف العلوم ولولا هذه المعرفة لنزلت لطائف الإنسان وحواسه كالعقل والقلب والروح من درجة الألماس إلى دركة قطع زجاجية عادية.

    والفرد الذي لا نصيب له من هذه المعرفة الإلهية تكون كمالاته ناقصة حتى لو استوعب العلوم الأخرى. فكما ان صحة الجسد قائمة بالغذاء، فان صحة الروح والقلوب قائمة بمعرفة الله.

    (( اعلم يقينا ان أسمى غاية للخلق، واعظم نتيجة للفطرة الإنسانية.. هو (( الإيمان بالله))..واعلم ان أعلى مرتبة للإنسانية، وافضل مقام للبشرية.. هو (( معرفة الله)) التي في ذلك الإيمان.. واعلم ان أزهى سعادة للإنس والجن، وأحلى نعمة.. هو (( محبة الله)) النابعة من تلك المعرفة.. واعلم ان أصفى سرور لروح الإنسان وأنقى بهجة لقلبه.. هو (( اللذة الروحية)) المترشحة من تلك المحبة.

أجل: ان جميع أنواع السعادة الحقيقية، والسرور الخالص، والنعمة التي ما بعدها، واللذة التي لا تفوقها لذة، إنما هي في (( معرفة الله)).. في(( محبة الله)). فلا سعادة، ولا مسرة، ولا نعمة حقاً بدونها.

    فكل مَن عرف اللهَ تعالى حق المعرفة، وملأ قلبه من نور محبته سيكون أهلاً لسعادة لا تنتهي ولنعمة لا تنضب، ولأنوار وأسرار ولا تنفد، وسينالها إما فعلاً وواقعاً أو استعداداً وقابليةً. بينما الذي لا يعرف خالقه حق المعرفة ولا يكن له ما يليق من حب وود، يُصاب بشقاء مادي ومعنوي دائميين، ويظل يعاني من الآلام والأوهام ما لا يحصر.

    نعم! هذا الإنسان اليائس الذي يتلوى ألماً من فقده مولاه وحاميه، ويضطرب من تفاهة حياته وعدم جدواها، وهو عاجز وضعيف بين جموع البشرية المنكودة.. ماذا يغنيه عما يعانيه ولو كان سلطان الدنيا كلها!!.

    فما أشد بؤس هذا الإنسان المضطرب في دوامة حياة فانية زائلة وبين جموع سائبة من البشر إن لم يجد مولاه الحق، ولم يعرف مالكه وربه حق المعرفة ! ولكن لو وجد ربه وعرف مولاه ومالكه لالتجأ إلى كنف رحمته الواسعة. واستند إلى جلال قدرته المطلقة.. ولتحولت له الدنيا الموحشة روضة مؤنسة، وسوق تجارة مربحة.))[2].

    نعم، فكما ان لكل شئ مركزاً. فان للعلوم والمعارف مركزاً أيضاً. وهذا المركز هو معرفة الله. وبهذه المعرفة تحيا العلوم الأخرى وتكسب الأبدية. وكل علم لا يرتبط بهذا المركز ولا موقع له في هذه المعرفة فهو لاشيء ولا يتجاوز الوهم. وان ترقي وكمال العلوم والفنون المدنية بمعناها الحقيقي رهن بمخالفة هذه العلوم للمعرفة الإلهية وبما تظهرها من المعرفة. وإلاّ فان هذه الحقائق الثمينة تبقى بدون نتيجة ومجرد خيال.

    من المعلوم ان كل عزة إن لم تتقوى بالعلم والمعرفة فان نهايتها الحتمية هي الذلة. فكما ان الشمس تساعد في أن تظهر الأرض كحلة خضراء، فان العلم والمعرفة تجعلان القلب والحواس والوجدان ربيعاً اخضر. والعلم الحقيقي هو العلم الذي يهب الحياة لهذه الحواس. وبإحياء هذه الحواس ونموها يصل الإنسان إلى الحقيقة، فتتفتح بصيرته وبذلك يستطيع رؤية الحقائق الثابتة في الكائنات. وبتفكره في هذه الحقائق يتوصل إلى معرفة الله. وهكذا تتفتح أمامه أبواب حقائق عظيمة أمثال الرسالة والنبوة والحشر.

 

العبادة:

    هي تعظيم المعبود بحق الذي هو الله Y وتكبيره وتسبيحه وتحميده. والعبادة هي سجود العبد في الحضرة الإلهية بمحبة وشوق مُظهراً عجزه وفقره إزاء كمال ربوبيته سبحانه. أي رؤية عظمة الله تعالى في إذلال نفسه، وجعل ذلته مرآةً لعزة الربوبية. وهذه الحالة هي اعظم عزة لوجدان البشر. اجل ان العبادة الحقيقية هي التجاء العبد بعجزه المطلق إلى قدرة الله المطلقة. والعبادة هي كسب رضا الله تعالى وذلك بالاجتناب عن اقل حركة تنافي عظمته تعالى، وإظهار ذله أمام عزته. والعبادة هي طاعة ذات شعور يتوجه بها الإنسان بجسده وروحه وظاهره وباطنه. وهي الوثيقة وسند الانتساب إلى الله الملك القدوس.

    وعندما يقوم العبد بأداء وظيفة عبوديته لله تعالى يتجرد من أنانيته تماماً، ويسجد بكل أدب وخشوع لمعبوده Y، والقيام بمثل هذه العبادة تجعل أسمى محبة تتحد مع اكبر خوف في نقطة واحدة في روح الإنسان. وتجعل الإنسان يحمل في ظاهره وفي باطنه معاً تعظيماً مع غاية الذلة. فتطمئن قلبه وتسمو روحه.

    ويكسب الإنسان في ظل العبادة خبرة يستطيع تقييم جميع الحوادث بميزان القرآن الكريم. وبهذه العبادة يحرز الإنسان الاستقامة في حركاته وأحواله الدنيوية والأخروية فهي تعلمه بأن أعماله الدنيوية هي وسيلة لنيل حياة أبدية. وتبعده عن أمور لا تعنيه وتشغله بحقائق سامية.

    والعبادة تجعل الإنسان يميز الحلال من الحرام، وتقوّمه على أسس سليمة وبذلك ينال الإنسان في حياته الشخصية والاجتماعية الأمن والسلامة والطمأنينة.

    والعبادة تعلّم الإنسان محبة الله وتلقي في قلبه محبة رسول الله r، ولا تجعل الوقت يمر سدىً والعمر هباءً منثوراً. والعبادة هي الصراط المستقيم الذي يوصل العبد إلى الله سبحانه لنيل رضاه. وان أسمى كمالات الروح هو الظفر بهذا الرضى، أي ان العبادة هي إحدى الشروط لنيل رضى الله والوصول إلى السعادة الأبدية. وقد بُشّر الإنسان المؤمن الذي يؤدي الصلوات في أوقاتها بأن جميع أعماله الدنيوية الداخلة في نطاق الشريعة هي بحكم عبادة له. وعلاوة على ذلك أن له بشارة أخرى وهي ان بكل كلمة طيبة تنطقه في صلاته أو خارجها مثل ( سبحان الله، الحمد الله، ولا إله إلا الله، والله اكبر..) يُخلق الله له منها ملائكة تستغفر له إلى الأبد.

    ويلخص لنا الأستاذ بديع الزمان سعيد النورسي (رحمه الله) الذي ظل دؤوباً في دعوة الناس إلى التقوى والعمل الصالح بعزم ثابت وإخلاص تام، معنى العبادة وأهميتها بقوله:

   (( ان العبادة هي التي ترسخ العقائد وتصيرها حالاً وملكةً، إذ الأمور الوجدانية والعقلية إن لم تنمّها وتربها العبادة- التي هي امتثال الأوامر واجتناب النواهي –  تكن آثارها وتأثيراتها ضعيفة. والعبادة سبب لسعادة الدارين.. وسبب لتنظيم المعاش والمعاد.. وسبب للكمال الشخصي والنوعي.. وهي النسبة الشريفة العالية بين العبد وخالقه.

    وان العبادة هي لتوجيه الأفكار إلى الصانع الحكيم. والتوجه لتأسيس الانقياد. والانقياد للإيصال إلى الانتظام الأكمل والارتباط به واتباع النظام لتحقيق سر الحكمة. والحكمة يشهد عليها إتقان الصنع في الكائنات.

    ان الإنسان كالشجر الذي علّق على ذروته كثير من خطوط الآلة البرقية، قد التفت على رأسه رؤوس نظامات الخلقة، وامتدت مشرعة إليه قوانين الفطرة، وانعكست متمركزة فيه أشعة النواميس الإلهية في الكائنات. فلا بد للبشر أن يتممها ويربطها وينتسب إليها ويتشبث بأذيالها ليسري بالجريان العمومي حتى لايزلق ولا يطرد ولا يلقى عن ظهر هذه الدواليب المتحركة في الطبقات. وما هي إلاّ بالعبادة التي هي امتثال الأوامر واجتناب النواهي.

    ان الإنسان المسلم له مناسبات ثابتة وارتباط قوي مع كل المسلمين. وهما سببان لاخوة راسخة ومحبة حقيقية بسبب العقائد الإيمانية والملكات الإسلامية. أما سبب ظهور تلك العقائد وتأثيرها وصيرورتها ملكة راسخة فإنما هي العبادة.

    فالعبادة هي السبب لانبساط روحه وجلاء قيمته.. وأيضاً هي العلة لانكشاف استعداده ونموه ليناسب السعادة الأبدية. وكذا هي الذريعة لتهذيب ميوله ونزاهتها.. وهي الوسيلة لتحقيق آماله وجعلها مثمرة ريانة.. وكذلك هي الواسطة لتنظيم أفكاره وربطها.. وأيضاً هي السبب لتحديد قواه والجامها.. وأيضاً هي الصيقل لرَيْن الطبيعة على أعضائه المادية والمعنوية التي كل منها كأنه منفذ إلى عالم مخصوص ونوع إذا شف.. وأيضاً هي الموصل للبشر إلى شرفه اللائق وكماله المقدر.. إذا كانت بالوجدان والعقل والقلب والقالب..

    وكذلك هي النسبة اللطيفة العالية، والمناسبة الشريفة الغالية بين العبد والمعبود. وتلك النسبة هي نهاية مراتب كمال البشر.))[3].

 

محبة الله ومخافة الله:

    ان المحبة والخوف غُرِزا في فطرة الإنسان. وان سر وحكمة منحها للإنسان هو لحب الله والخوف والرجاء منه سبحانه خوفاً يليق بذاته الأقدس.

    ولكي يتحقق النظام في المجموعة الشمسية والحصول على النتيجة المرجوة من هذا النظام، يلزم على القوى الجاذبة والدافعة الارتباط مع مركز واحد. وكذلك روح الإنسان، فانه لا تترقى إلى الكمالات التي تشتاق إليها بانتظام وانسجام إلاّ بارتباط شعور المحبة والخوف لدى هذا الإنسان مع الله سبحانه.

    (( لقد جُبِل هذا الإنسان على محبة غير متناهية لخالق الكون، وذلك لأن الفطرة البشرية تكُنّ حياً للجمال، ووداً للكمال، وافتناناً بالإحسان، وتتزايد تلك المحبة بحسب درجات الجمال والكمال والإحسان حتى تصل إلى أقصى درجات العشق ومنتهاه ))[4].

    (( فما دامت الفطرة  البشرية تملك استعداداً غير محدود للمحبة تجاه الإحسان والجمال والكمال.. وان لخالق الكون جمالاً مقدّساً غير متناهٍ، ثبوته متحقق بداهة بآثاره الظاهرة في الكائنات.. وان له كمالاً قدسياً لا حدود له، ثبوته محقق ضرورة بنقوش صنعته الظاهر في هذه الموجودات.. وان له إحساناً غير محدود ثابت الموجود يقيناً، يمكن لمسه ومشاهدته ضمن إنعامه وآلائه الظاهرة في جميع أنواع الأحياء.. ولابد انه سبحانه يطلب محبة لا حدّ لها من الإنسان الذي هو اجمع ذوي الشعور صفة، وأكثرهم حاجة، وأعظمهم تفكراً، أشدهم شوقاً إليه ))[5].

    ويلزم على الإنسان أيضاً أن يخاف الله، وذلك كما انه سبحانه رحمن ورحيم، فانه كذلك قهار وجبار وعزيز وجليل فمَن يمس عزة جلاله سبحانه فان مصيره نار جهنم. نعم ان لمالك هذه الكائنات المهيبة لابد من عقاب شديد لمَن يعصيه.

    وان المحبة والخوف في الإنسان تثمران التقوى والعمل الصالح الذين يعتبران من الأسس العظيمة لترقي وسمو هذا الإنسان.

     نعم ان الإنسان ينال مرتبة الرضا بمحبته لله وخوفه منه وطاعته له سبحانه.

    والأستاذ بديع الزمان النورسي (رحمه الله) يفصل لنا تكلما الصفتين ؛ الخوف والمحبة في الإنسان بأسلوب وجيز :

    (( لقد أودع الله سبحانه جهازين في فطرة الإنسان، ليكونا وسيلتين للخوف وللمحبة، وتلك المحبة والخوف إما سيتوجهان إلى الخلق أو إلى الخالق. علماً ان الخوف من الخلق بلية أليمة، والمحبة المتوجهة نحوه أيضاً مصيبة منغصة : إذ انك أيها الإنسان تخاف من لا يرحمك، أو لا يسمع استرحامك. فالخوف إذا في هذه الحالة بلاء اليم..

    بمعنى: ان ما تحبه من أشياء إما إنها لا تعرفك أو يحقّرك أو لا يرافقك بل يفارقك، بل يفارقك وأنفك راغم.

   فما دام الأمر هكذا : فاصرف هذه المحبة والخوف إلى مَن يجعل خوفك تذللاً لذيذاًَ ومحبتك سعادة بلا ذلة.

    نعم! ان الخوف من الخالق الجليل يعني وجدان سبيل إلى رأفته ورحمته تعالى للالتجاء إليه. فالخوف بهذا الاعتبار هو سوط تشويق يدفع الإنسان إلى حضن رحمته تعالى. إذ من المعلوم ان الوالدة تخوّف طفلها لتضمه إلى صدرها. فذلك الخوف لذيذ جداً لذلك الطفل لأنه يجذب ويدفع الطفل إلى صدر الحنان والعطف. علماً أن شفقة الوالدات كلهن ما هي إلاّ لمعة من لمعات الرحمة الإلهية. بمعنى ان في الخوف من الله لذة عظيمة. فلئن كان للخوف من الله لذة إلى هذا الحد، فكيف بمحبة الله سبحانه، ألاَ يفهم كم من اللذائذ غير المتناهية فيها.

    ثم ان الذي يخاف من الله ينجو من الخوف من الآخرين. ذلك الخوف المليء بالقساوة والبلايا.

ثم ان المحبة التي يوليها الإنسان إلى المخلوقات إن كانت في سبيل الله لا تكون مشوبة بألم الفراق.))[6].

    وبقي أن أقول، ان المحبة والخوف هما عنصران مهمان في الحياة الاجتماعية. وتسيران معاً وبانتظام. بل هما أساس الانتظام ومفتاح النظام في إدارة جميع طبقات الحياة الاجتماعية، ابتداءً من إدارة بيت صغير إلى إدارة قرية ومدينة ومملكة. وتتحقق هذه الإدارة في الحياة الاجتماعية بالاحترام والشفقة والإطاعة بين الناس. وبمخافة الله تتقوم الميول تجاه أشياء غير مشروعة.(*)

 

______________________

(1) اللمعات / اللمعة التاسعة عشرة ص 212 .

(2) المكتوبات / المكتوب العشرون ص283 .

(3) إشارات الإعجاز / ص147-149 .

(4) اللمعات / اللمعة الحادية عشرة ص91 .

(5) المصر نفسه / ص91

(6) الكلمات / الكلمة الرابعة والعشرون ص411 .

(*) ما هي الروح ؟ تأليف الأستاذ محمد قرقنجي - ترجمة سامي سليمان عارف

 

 

قرئت 66 مرات
لإضافة تعليق يرجى تسجيل الدخول أو إنشاء قيد جديد