غاية الروح
غاية: هي ما لأجله وجود الشيء(1). أو هي أحد أسباب وجود الشيء. أي إن أحد أسباب وجود الشيء هي الغايات المترتبة والثمار المرجوة من ذلك الشيء.
والغاية هي سبب تقويم الشيء وبقاءه فمثلاً لا تتساوى أهمية وقيمة مصنعين أحدهما ينتج أبر الخياطة والآخر يصنع عقولاً إلكترونية. فقيمة كل مصنع تتناسب مع رفعة غايته. ولكل شيء في الكون غاية، وهي سبب وجود ذلك الشيء. حيث تقاس قيمة كل شئ بغايته. وهذه الحقيقة هي قانون نافذ وشامل في جميع الموجودات.
والإنسان هو اكمل ثمرة لشجرة الكائنات وانفس نتيجة لها. وان إسراع جميع الموجودات لإمداد الإنسان وتمركز فوائدها فيه ترينا أن الغاية من خلق الكائنات هي الإنسان بل الأصح هي روح الإنسان. وحتى الكائنات فإنها تخدم الروح، بل جسد الإنسان أيضاً هو الآخر يخدم الروح. فإذا كانت الكائنات كالقصر فان الإنسان يعتبر كمنزل لها. وإذا كانت الأولى مسكناً لها فان الثاني رداء لها. وان الله تعالى خلق هذه الروح في كيفية أهلتها لتكون محل المعارف ومنبع الفضائل ومركز اتصالات مع العوالم الأخرى، ومُسخِراً لها كل شيء.
وان المسرات التي يشعرها الإنسان في روحه، والأفكار العالية التي تمر في ذهنه، والحقائق السامية المتولدة في قلبه تظهر لنا بان غاية الإنسانية الثمينة من جهة كيفيتها لابد أن تكون اكبر من الكائنات نفسها. فلا يمكن أن تكون الكائنات وما فيها هي الغاية المرجوة لروح الإنسان التي خلقت للبقاء والأبد ومتوجهة إليهما. وان أي افتراض من هذا القبيل يخالف قوانين (( الترقي)) و((التكامل)) لأن كل حقيقة في الكون إنما هي حامل بالتي تليها. فكما أن البذرة تحمل الشجرة في داخلها أو البيضة تحمل الفرخ، والسحاب يحمل المطر. فكذلك الروح فإنها تحمل حقيقة اكبر من نفسها ومن الكائنات وهذه الحقيقة هي الإيمان بالله واتخاذه سبحانه معبوداً حقيقياً والاستمداد منه وحده وذلك بانكشاف أسرار العبودية لروح الإنسان وتلك غاية الروح.
لنوضح ذلك بمثال: لو فرضنا إن للعقل الإلكتروني المصنوع في المعمل قابلية التفكير. فان هذا العقل ينظر- قبل كل شئ- إلى قابليته وكفاءته، فيفكر في الأهمية المعطاة له وفي صناعته الدقيقة وفي المصنع الضخم الذي يعمل لأجله: فيقول لنفسه: ((لابد أن تكون لي من وظيفة تجاه هذه التكاليف التي صرفت لأجلي، ولم أترَك حبلي على غاربي وان وجودي ليست غايتي، أي ان هذا المصنع لم يصنعني كي أكون ((أنا)). بل صنعني لأجل غايات مدونة في فهرستتي.
وكذلك الإنسان- كما في المثال أعلاه- فانه نُسج في مصنع الكائنات بألف نقش ونقش. وألبِسَ في رأسه تاج العقل الذي يستطيع به معرفة وقياس جميع أجزاء الكائنات وزُيِّن صدره بأحاسيس دقيقة وأعضاء لطيفة. وله موقع ووزن يتميز بهما عن الآخرين في نظام الموجودات. فهو سلطان الأرض واشرف الموجودات وثمرة الكائنات.فلو تأمل هذا الآنيان في قابلياته الذاتية وفي أهميته في الكائنات وفي علاقاته مع الموجودات، أدرك حينئذ قائلاً : ((إنني احمل الأمانة التي أبت السماوات والأرض والجبال أن يحملنها. ولي خاصية أتميز بها عن سائر الموجودات. إذ إنني أقدم جميع تسبيحات الموجودات وعباداتها بشعور وإدراك تامين إلى الحضرة الربانية. فلذلك خُلِقتُ.))
وبعد ذلك يتعمق اكثر فاكثر في تأمله مسطراً أفكاره وهو يقول :(( وأكرمني ربي بموائد عظيمة وغنية بقوامها وجمالها ولطافتها وشكلها وطعمها ورائحتها.))
(( ان ربي الرحيم قد جعل لي الدنيا مأوىً ومسكناً، وجعل لي الشمس والقمر سراجاً ونوراً، وجعل لي الربيع باقة وردٍ زاهية، وجعل لي الصيف مائدة نعمة، وجعل لي الحيوان خادماً ذليلاً، وأخيراً جعل لي النبات زينةً وأثاثاً وبهجةً لداري ومسكني)) [2].
أما شعوري: فقد خُلِق في كيفية ووسعة بحيث يسع لفهم وإدراك هذه العوالم الضخمة والتجوال في طبقاتها الواسعة ويحمل قابلية بحيث يتجاوز بها الزمان والمكان ويحس بها الحقيقة المطلقة ما وراء هذا الكون الفسيح.
أما قلبي: فقد زُيِّن بألطف الحواس وارقها ورُكِّبَت فيه محبة تحيط بالكائنات، وشفقة تحتضن جميع المخلوقات.
أما حياتي: فـ ((إنها فهرس الغرائب التي تخص الأسماء الإلهية الحسنى..
ومقياس مصغر لمعرفة الشؤون الإلهية وصفاتها الجليلة..
وميزان للعوالم التي في الكون..
ولائحة لمندرجات هذا العالم الكبير..
وخريطة لهذا الكون الواسع..
وفذلكة لكتاب الكون الكبير..
ومجموعة مفاتيح تفتح كنوز القدرة الإلهية الخفية..
وأحسن تقويمٍ للكمالات المبثوثة في الموجودات، والمنشورة على الأوقات والأزمان.)) [3] .
نعم، ان الاستعدادات والخصائص الموجودة لديّ تُظهر بأني مخلوقٌ لأجل معنىً اكبر، ولمقصد أسمى. لذا فان الكائنات برمتها سُخّرَتْ لي. وان المصاريف التي صُرِفَتْ لأجلي والعناية التي شملتني إنما هي لأجل حملي غاية تليق بالإنسانية. فما دامت هذه الكائنات خادمة لي فإني لا اخدم مَن يخدمني. وان الكائنات فتحت حضنها لتحفظ لي حياتي وبقائها، ولِمَنْ افتح قلبي إذن؟ ولما كنت أنا خليفة الأرض. فمَن هو سلطان قلبي؟ وأنا تاج الكائنات فمَن هو تاج قلبي؟ وأنا غاية الكائنات فما هي غايتي أنا ؟.
نعم ان الحكيم المطلق الذي جعل الإلكترون يدور حول النواة لغاية معينة، لا يعقل أن يترك روح الإنسان دون غاية أو ثمرة.
وبمعرفة غاية الروح ينحل طلسم خلق الكائنات، فتتجلى حكمة البارئ سبحانه ورحمته وعنايته بكل لمعانها.
وتدل الآية الكريمة { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلاّ لِيَعْبُدُونِ } (الذريات:56) بأن غاية الروح هي العبادة والشكر وان الكائنات وما فيها هي وسائل وسبل لوصول الروح إلى تلك الغاية السامية فكلمة ((لِيَعْبُدُونِ )) تتضمن التسبيح والتحميد والتكبير. وفيها التعظيم والتوحيد والتهليل والذكر والفكر والشكر. ولكي تؤدي الروح هذه الوظائف جميعاً، فان الحكيم المطلق سبحانه خلقها كميزان حساس ومقياس حقيقي وخريطة مكملة ومرآة جامعة وتقويم جميل. وان الغاية القصوى من خلق هذه الروح في احسن تقويم هي: الفهم الجميل للجميل المطلق الجمال سبحانه والتعرف على كمال صفاته الجميلة. وأن تفنى بإرادتها الجزئية في أمر ومشيئة وإرادة الله الكلية.
لذا فالروح خُلِقت للقيام بهذه الوظائف العلوية بكمال القيام لتصبح مقياساً وميزاناً لشؤون وصفات وأسماء الله تعالى.
وبوسع الإنسان قراءة اسم ( الحكيم) عند مشاهدته الحكمة والانتظام في خلق الأشياء. واسم (الرزاق) في إعاشة المخلوقات. واسمَيْ (العليم) و(القدير) في خلق الأشياء بعلم وقدرة. فيبلغ بجهده وهمته إلى تسعة وتسعون اسماً بل إلى ألف اسم واسم من الأسماء الإلهية الحسنى.
وبما انه لا يوجد اسم بدون مسمى ولا صفة بدون موصوف وبعدما قرأ وشاهد هذا الإنسان تجليات الأسماء الإلهية وصفاته على الكائنات، ازداد شوقاً لرؤية الذات الأقدس وجماله المطلق. فيظهر كل ما في وسعه من جهد ليكون مظهراً لرؤيته الأبدية سبحانه. فيعلم يقيناً بأن العبادة له وحده، وان الشكر يليق بشأنه وحده، والحمد يخص ألوهيته وحده، فيسلّم روحه وقلبه وجميع لطائفة لآمره تعالى في غاية الامتنان وفي حيرة ووجد يهزان العرش والفرش. ولنستمع لهذه الحقيقة من بديع الزمان النورسي (رحمه الله ) وهو يقول:
(( ان ماهية حياتي هي مخزن مفتاح كنوز الأسماء الإلهية.. وخريطة مصغرة لنقوشها البديعة.. وفهرس تجلياتها.. ومقياس دقيق وميزان حساس لوزن حقائق الكون الكبرى.. وكلمة حكيمة مكتوبة تَعرف وتُعرِّف وتَفهم وتُفهِّم الأسماء الجليلة القيمة للحي القيوم.))[4].
نعم،ان الرحيم الكريم الذي خلق الإنسان في فقر مطلق يضع أمام روحه لوحة عظيمة من الحمد والشكر بتربيته إياه في غاية الكرم والشفقة. وان القصد من إنعام الله على الإنسان هو اطلاع الروح على هذه المعاني القدسية ومعرفة الحق سبحانه بأسمائه وصفاته الحسنى أمثال المنعم والمحسن والمجمل والمفضل ومقابلتها بالمحبة لإحسانه سبحانه والشكر لنعمه والتودد لإكرامه.
وكذا فان القدير ذا الجلال بخلقه الإنسان في عجز مطلق قد وضع أمام نظر روحه لوحة تأمل واسعة ابتداء من تدبير خلية واحدة في الجسم إلى تنظيم السماوات والأرض، ودعاه سبحانه إلى تقديره وتحسينه وتكبيره وتبجيله وتعظيمه. حيث تُظهر وتُقرأ حقائق إلهية عديدة على هذه اللوحات أمثال الحكمة والعناية والعدالة والعلم والإرادة. وجُهزّت الروح بآلات وحواس وصفات عديدة تؤهلها لتكون مظهراً ومرآةً لإدراك هذه الحقائق. وان الله الذي خلق هذه الكائنات الجميلة لإظهار تجليات أسماءه الحسنى والذي يعتبر كل اسم منها في غاية الحسن والجمال، قد خلق الإنسان في ماهية تؤهله مقابلة جمال خالقه وجلاله وكماله بالتحسين والتقدير والتبجيل والتعظيم والتحميد.
فالغاية القصوى لهذا الإنسان هي : (( أن يفي بوظائفه المتطلعة إلى مقاصد لانهاية لها، وأن يُعلن عجزه وفقره بجنب الله تعالى بعبوديته، وأن يرى بنظره الواسع تسبيحات الموجودات، فيشهد على ذلك ويطّلع على ما تمده الرحمة الإلهية من أنعام وآلاء فيشكر الله عليها، وأن يعاين معجزات القدرة الربانية في هذه المصنوعات فيتفكر فيها ويتأمل وينظر إليها بنظر العبرة والإعجاب. ))[5].
ونختم بحثنا هذا كذلك مع إيضاح لمؤلف رسائل النور (رحمه الله) وهو يقول: (( لقد علمتُ بجزيئات صفات كالعلم والسمع والبصر والإرادة التي تتصف بها حياتي الخاصة وأفعالي التي أؤديها بشعور، علمتُ بها – بنسبة صغري إلى عِظَم الكون – الصفات الكلية المحيطة لخالقي من علم وإرادة وسمع وبصر وحياة وقدرة وفهمت بها كذلك شؤونه الجليلة أمثال المحبة والغضب والرأفة والشفقة فآمنت بتلك الصفات والشؤون الجليلة وصدّقتُ بها وشهدتُ عليها ووجدت منها طريقاً آخر إلى معرفة الله. ))[6]
إذن فغاية الروح هي الترقي وقطع المراتب في محبة الله، والعروج إلى الكمالات.(*)
____________________
(1) التعريفات للجرجاني (المترجم )
(2) الكلمات / الكلمة الثالثة والعشرون 371
(3) الكلمات / الكلمة الحادية عشرة ص139
(4) الشعاعات / الشعاع الرابع ص82 .
(5) الكلمات / الكلمة الثالثة والعشرون ص 367
(6) الشعاعات / الشعاع الرابع ص83
(*) ما هي الروح ؟ تأليف الأستاذ محمد قرقنجي - ترجمة سامي سليمان عارف