آراء علماء الإسلام وفلاسفة الغرب في الروح

 

    أعطى علماء الإسلام وفلاسفة الغرب جُلّ اهتمامهم بموضوع الروح. وتناولوها فكراً وتأليفاً. وسنقدم أولاً خلاصة آراء علماء الإسلام حول الروح، ومن ثم نعرض بإيجاز آراء الفلاسفة في نفس الموضوع.

   

    الروح عند علماء الإسلام :

    إذا أمعنا كتب الفلسفة وعلم الكلام، نرى ان حكماء الإسلام أمثال : ( الكندي، والفارابي، وابن رشد.. الخ ) متفقين في وجود الروح. ونكتفي هنا بتقديم زبدة آراء (ابن سينا) لكون أفكاره منتظمة وموزونة.

    ففي نظر ابن سينا(1) يتكون الإنسان من الجسم والروح. وعندما يكون جسم الإنسان مهيأً للعمل تُرسل الروح إليه. فيكون الجسم كمملكة أو كمصنع لتلك الروح.

    وبظهور الجسم إلى الوجود تظهر الروح معه. وتكسب هذه النفس الناطقة (الروح) صفة الأبدية عند دخولها الجسم، فلا تفنى بعد خروجها من الجسم.وان نجاة هذه الروح تكون بالعلم والفضيلة. وتكتسب الروح هذه الفضيلة عند وجودها داخل الجسم. ويسرد ابن سينا هذه الأدلة في هذا الموضوع كما يلي :

    1- توجد في الإنسان آثار وعلامات عديدة لا يمكن إيضاح ماهيتها ما لم نؤمن بوجود الروح. ومن أهم هذه العلامات ؛ هي الحركة والإدراك. ويوجد في طبيعة جسم الإنسان السكون والبطالة. فالحركة هي ضد هذه الطبيعة الجسمانية. إذن فان حركة أي جسم تحتاج إلى ماهية خارجة عن وجود الجسم نفسه.

    وبناءً على هذه القاعدة، ولأجل حركة الجسم والتخلص من العطالة والسكون الموجودين في طبيعة جسم الآنيان، يقتضي وجود ماهية خارجة عن ذلك الجسم. وهذه الماهية هي الروح.

    ونظراً لعدم وجود الإدراك في طبيعة المادة، فيقتضي عدم وجوده أيضاً في طبيعة مادة جسم الإنسان. بينما الإنسان هو صاحب الإدراك ويمتلك إدراكاً قوياً. وبما إن هذا الإدراك هو ليس من خصائص الجسم، فلابد أنه يصدر من ماهية أخرى. وتلك هي الروح.

    2- فكرة الـ ( أنا ) :.. فنحن عندما ننهمك في أمر هام أو نريد شيئاً ننشغل به عن كل شيء من حولنا وعن كل جزء من أجزاء بدننا، فنحصر كل تفكيرنا في ذاتنا التي تريد الشيء أو بتعبير آخر ( الأنا ) الذي أريد، وهذا ( الأنا ) عند ابن سينا النفس وليس الجسم. وهذا الأنا أو الذات مغايرة للبدن.

    3- ان الوحدة الموجودة في أفعال النفس تُظهر وحدة المصدر. يقول ابن سينا : « تأمل أيها العاقل في أنك اليوم في نفسك هو الذي كان موجوداً في جميع أمرك حتى أنك تتذكر كثيراً ما جرى من أحوالك فأنت إذن ثابت مستمر لا شك في ذلك. وبدنك وأجزاؤه ليس ثابتاً مستمراً بل هو أبداً في التحلل والانتقاص …

    4- هب أن شخصاً ولد في كامل قواه العقلية والبدنية، ثم غطى وجهه بحيث لا يرى شيئاً مما حوله وتُرك في الهواء أو بالأحرى في الخلاء كي لا يحس بأي احتكاك أو اصطدام أو مقاومة، ووضعت أعضاؤه وضعاً يحول دون تماسها أو تلاقيها، فانه لا يشك بالرغم من كل هذا في وجوده وإن كان يصعب عليه إثبات وجود أي جزء من أجزاء جسمه. فحاجة الإنسان إلى الأعضاء، هي لإقامة علاقات وارتباطات مع المخلوقات. أما وجوده فانه يعرف نفسه حتى لو لم تكن هذه الأعضاء.إذن إن هذه المعرفة هي من صفات (الروح).

    5- لا شك ان الجسم الحيواني والآلات الحيوانية إذا استوفت سن النمو وسن الوقوف أخذت في الذبول والتنقص وضعف القوة وكلال المنّة. وذلك عن الأناقة على الأربعين سنة. ولو كانت القوة الناطقة العاقلة قوة جسمانية آلية لكان لا يوجد أحد من الناس في هذه السنين إلاّ وقد أخذت قوته هذه تنقص. ولكن الأمر في اكثر الناس على خلاف هذا. بل العادة جرت في الأكثر انهم يستفيدون ذكاء في القوة العاقلة وزيادة بصيرة. فإذن ليس قوام القوة النطقية بالجسم والآلة. فإذن هي جوهر قائم بذاته.

    6- الحياة في نظر ابن سينا، هي قوة مستقلة تخالف الحس والحركة وتقتضيهما في الوقت نفسه. فالأعضاء المشلولة رغم أنها محرومة من الحس والحركة إلاّ انها ليست محرومة من الحياة. إذن هناك شيئاً ما يمسك بهذه الأعضاء ويقيها من التحلل، وهذا الشيء هو الروح.  

    والآن نعرض خلاصة أفكار إمام العلوم العقلية والنقلية حجة الإسلام الإمام الغزالي(2)  (رحمه الله) :

    في نظر الإمام الغزالي (رحمه الله) يوجد في الإنسان كائن ثابت وأصيل إلى جانب جسده وهو الروح. وان الروح هي التي تتصرف في الجسد وليس للجسد أي تصرف في الروح.والإنسان الميت يُرى جسده ولكن روحه لا تُرى. فمثلاً عندما يطبق الإنسان أجفانه فان الموجودات تحجب عن نظره، حتى انه لا يستطيع رؤية نفسه. مع ذلك انه يعلم ان شخصه موجود ولا يساوره في ذلك أي شك. بمعنى ان الإنسان الأساس هو الذي يعرف استقلالية وجوده وان هذا الوجود لا يرتبط بجسده وأطرافه. وهذا الوجود ليس سوى الروح. أما الجسد فهو قالب الروح ومعملها ومدرستها ومعسكرها.

    ويقول الغزالي (رحمه الله) : « الروح هو جوهر وليس بعرَض لأنه يعرف نفسه وخالقه ويدرك المعقولات وهذه علوم، والعلوم أعراض ولو كان موضوعاً والعلم قائم به لكان قيام العرض بالعرض وهذا خلاف المعقول. »(3).

    «.. ولا هو جسم لأن الجسم قابل للقسمة والروح لا ينقسم لأنه لو انقسم لجاز أن يقوم بجزء منه علم بالشيء الواحد وبالجزء الآخر منه جهل بذلك الشيء الواحد بعينه فيكون في حالة واحدة عالِماً بالشيء وجاهلاً به فيتناقض »(4).

    ( وقيل له ) ما حقيقة هذه الحقيقة وما صفة هذا الجوهر وما وجه تعلقه بالبدن أهو داخل فيه أو خارج عنه أو متصل به أو منفصل عنه ؟ قال ( رحمه الله ) : لا هو داخل ولا هو خارج ولا هو منفصل ولا متصل لأن مصحح الاتصاف بالاتصال والانفصال الجسمية والتميز وقد انتفيا عنه فانفك عن الضدين كما ان الجماد لا هو عالِمٌ ولا هو جاهل لأن مصحح العلم والجهل الحياة فإذا انتفت انتفى الضدان »(5).

    ويشبّه الإمام الغزالي البدن بالمملكة فيقول :

    « مثَل نفس الإنسان في بدنه أعني النفس اللطيفة (الروح) كمَثَل مَلِك في مدينته ومملكته فان البدن مملكة النفس وعالمها ومستقرها ومدينتها وجوارحها وقواها بمنزلة الصنّاع والعملة. والقوة العقلية المفكّرة له كالمشير الناصح والوزير العاقل، والشهود له كالعبد السوء يجلب الطعام والميرة إلى المدينة، والغضب والحمية له كصاحب الشرطة والعبد الجالب للميرة كذاب مكّار خداع خبيث يتمثل بصورة الناصح وتحت نصحه الشر الهائل والسم القاتل وديدنه وعادته منازعة الوزير الناصح في آرائه وتدبيراته حتى أنه لا يخلو من منازعته ومعارضته ساعة. كما ان الوالي في مملكته إذا كان مستغنياً في تدبيراته بوزيره ومستشيراً له ومُعرضاً عن إشارة هذا العبد الخبيث مستدلاً بإشارته في آن الصواب في نقيض رأيه وأدبه صاحب شرطته وساسه لوزيره وجعله مؤتمراً له مسلطاً من جهته على هذا العبد الخبيث وأتباعه وأنصاره حتى يكون العبد مسوساً لا سائساً ومأموراً مدبراً لا أميراً مدبراً، استقام أمر بلده وانتظم العدل بسببه. فكذا النفس متى استعانت بالعقل وأدّبت بحمية الغضب وسلطتها على الشهود واستعانت بأحدهما على الأخرى تارة بأن تقلل مرتبة الغضب وغلوائه بمخالفة الشهوة واستدراجها وتارة بقمع الشهوة وقهرها بتسليط الغضب والحمية عليها وتقبيح مقتضياتها اعتدلت قواها وحسنت أخلاقها ومن عَدلَ عن هذه الطريق كان كمَنْ قال الله تعالى فيه { أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ }(الجاثـية: 23) وقوله تعالى { وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أو تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ }(لأعراف: 176)  { وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأوى } (النازعـات:40-41) »(6).

    وفي نظر الإمام الغزالي (رحمه الله) ان الروح جوهر قائم بذاته، وأنها أبدية ودائمية. فكما أنها تعرف نفسها، فهي تعرف صفات خالقها ووجوده. أي أنها تعرف نفسها وخالقها حتى وإن كانت غافلة عن الكائنات.

    وحينما سُئِل (رحمه الله) : « فما الروح ؟ وما حقيقته وهل هو حالٌ في البدن حلول الماء في الإناء أو حلول العرض في الجوهر أم هو جوهر قائم بنفسه ؟ فقال : هذا سؤال عن سر الروح الذي لم يؤذَن رسول الله صلى الله عليه وسلم في كشفه لِمَن ليس له أهلاً له، فإن كنتَ من أهله فاسمع واعلم أن الروح ليس بجسم يحل البدن حلول الماء في الإناء ولا هو عرَض يحل القلب والدماغ حلول السواد في الأسود والعلم في العالِم بل هو جوهر وليس بعرَض لأنه يعرف نفسه وخالقه ويدرك المعقولات. والعرض لا يتصف بهذه الصفات »(7).

    « فان قيل : هل هو في جهة ( فقال ) : هو منزه عن الحلول في المحال والاتصال بالأجسام والاختصاص بالجهات فان كل ذلك صفات الأجسام وأعراضها والروح ليس بجسم ولا عرض في جسم بل هو مقدس عن هذه العوارض »(8)

    « فان قيل : لِمَ مُنِع الرسول r عن إفشاء هذا السر وكشف حقيقة الروح لقوله تعالى {  قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي }(الإسراء: 85). فقال : لأن الأفهام لا تحتمله لأن الناس قسمان عوام وخواص. أما من غلب على طبعه العامية فهذا لا يقبله ولا يصدقه في صفات الله تعالى فكيف يصدقه في حق الروح الإنسانية ؟ »(9).

    ويقول ( رحمه الله ) في صدد توضيحه نفخ الروح لسيدنا آدم عليه السلام :

    « القصد هو : وإن كان معناه انه جزء من الله تعالى فاض على القلب كما يفيض المال على السائل فيقول أفضتُ عليه من مالي فهذه تجزئة لذات الله وقد أبطلتم هذا وذكرتم ان إفاضته ليست بمعنى انفصال جزء منه ( فقال ) هذا كقول الشمس لو نطقت وقالت أفضت على الأرض من نوري فيكون صدقاً ويكون معنى النسبة ان النور الحاصل من جنس نور الشمس بوجه من الوجوه وإن كان في غاية الضعف بالإضافة إلى نور الشمس. وقد عرفت ان الروح منزه عن الجهة والمكان وفي قوته العلم بجميع الأشياء والاطلاع عليها وهذه مضاهاة ومناسبة فلذلك خص بالإضافة وهذه المضاهاة ليست للجسمانيات أصلاً »(10).

    « ( فقيل له ) : ما معنى قوله تعالى { قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي } وما معنى عالم الأمر وعالم الخلق. (فقال) كل ما يقع عليه مساحة وتقدير وهو عالم الأجسام وعوارضها يقال أنه من عالم الخلق. والخلق هنا بمعنى التقدير وليس الإيجاد والإحداث يقال خَلَق الشيء أي قدّره. وما لا كمية له لا تقدير فيقال أنه أمر رباني.

    فعالم الأمر عبارة عن الموجودات الخارجة عن الحس والخيال والجهة والمكان والتحيز وهو ما لا يدخل تحت المساحة والتقدير لانتفاء الكمية عنه »(11).

    « (فقيل له) أتتوهم ان الروح ليس مخلوقاً وإن كان كذلك فهو قديم. (فقال) قد توهم هذا جماعة وهو جهل بل نقول ان الروح غير مخلوق بمعنى انه غير مقدر بكمية ولا مساحة فانه لا ينقسم ولا يتحيز.»(12).

    بعد أن عرضنا خلاصة آراء حجة الإسلام الإمام الغزالي (رحمه الله) عن الروح، نستمع قليلاً إلى الإمام « فخرالدين الرازي »(13) صاحب « التفسير الكبير ». يقول (رحمه الله) ن الروح :

    « ان أساس الإنسان هو الروح. والجسد هو بمثابة معسكر لترقي مرتب الروح. ومما ينبغي معرفته هم : انه رغم تبدل البدن، فان شخصية الإنسان باقية إلى نهاية عمره. والمتغير هو الخلايا التي بحكم أحجار البناء. وان الاختلاف بين المتغير والثابت واضح وبيّن. وهي حقيقة يدركها العقل. إذن ينبغي وجود شيء غير هذا الجسد ».

    وقد كتب الإمام الرازي (رحمه الله) سبعة عشرة حجة عند تفسيره لقوله تعالى { وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الرُّوحِ } وهنا نقدم قسماً من هذه الحجج :

    الحجة الأولى :

    ان الإنسان حال ما يكون مشتغل الفكر متوجه الهمة نحو أمر معين مخصوص فانه في تلك الحالة يكون غافلاً عن جميع أجزاء بدنه وعن أعضائه وأبعاضه مجموعها ومفصلها وهو في تلك الحالة قد يقول غضبتُ واشتهيتُ وسمعتُ كلامك وأبصرتُ وجهك، فتاء الضمير كناية عن نفسه. فهو في تلك الحالة عالِمٌ بنفسه المخصوصة وغافل عن جملة بدنه وعن كل واحد من أعضائه وأبعاضه و [يكون] المعلوم غير معلوم. فالإنسان يجب أن يكون مغايراً لجملة هذا البدن ولكل واحد من أعضائه وأبعاضه.

    الحجة الثانية :

    ان كل أحد يحكم عقله بإضافة واحد من هذه الأعضاء إلى نفسه فيقول رأسي وعيني ويدي ورجلي ولساني وقلبي. والمضاف غير المضاف إليه. فوجب أن يكون الشيء الذي هو الإنسان مغايراً لجملة هذا البدن ولكل واحد من هذه الأعضاء. فإن قالوا قد يقول نفسي وذاتي فيضيف النفس والذات إلى نفسه فيلزم أن يكون الشيء وذاته مغايرة لنفسه وهو محال، قلنا قد يراد به هذا البدن المخصوص وقد يراد بنفس الشيء وذاته الحقيقية المخصوصة التي يشير إليها كل أحد بقوله أنا، فإذا قال نفسي وذاتي فان كان المراد البدن فعندنا انه مغاير لجوهر الإنسان. أما إذا أريد بالنفس والذات المخصوصة المشار إليها بقوله أنا فلا نسلم ان الإنسان يمكنه أن يضيف ذلك الشيء إلى نفسه بقوله إنساني وذلك لأن عين الإنسان ذاته فكيف يضيفه مرة أخرى إلى ذاته. 

    الحجة الثالثة :

    ان الإنسان يجب أن يكون عالِماً. والعلم لا يحصل إلاّ في القلب فيلزم أن يكون الإنسان عبارة عن الشيء الموجود في القلب. وإذا ثبت هذا بطل القول بأن الإنسان عبارة عن هذا الهيكل، وهذه الجثة. إنما قلنا إن الإنسان يجب أن يكون عالِماً لأنه فاعل مختار، والفاعل المختار هو الذي يفعل بواسطة القلب والاختيار وهما مشروطان بالعلم. لأن ما لا يكون مقصوداً امتنع القصد إلى تكوينه فثبت ان الإنسان يجب أن يكون عالِماً بالأشياء.

    الحجة الرابعة :

    أي إذا تكلمتَ مع زيد وقلتَ له افعل كذا أو لا تفعل كذا فالمخاطب بهذا الخطاب والمأمور والمنهي ليس هو جبهة زيد ولا حدقته ولا أنفه ولا فمه ولا شيئاً من أعضاءه بعينه. فوجب أن يكون المأمور والمنهي والمخاطب شيئاً مغايراً لهذه الأعضاء. وذلك يدل على أن ذلك المأمور والمنهي غير هذا الجسد.

    الحجة الخامسة :

    قوله تعالى } يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ *ارْجِعِي إلى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً { والخطاب بقوله تعالى } ارْجِعِي { إنما هو متوجه عليها حال الموت فدل هذا على ان الشيء الذي يرجع إلى الله بعد موت الجسد يكون حياً راضياً عن الله ويكون راضياً عنه الله. والذي يكون راضياً ليس إلاّ الإنسان فهذا يدل على ان الإنسان بقي حياً بعد موت الجسد، والحي غير الميت.فالإنسان مغاير لهذا الجسد.

    الحجة السادسة :

    ان الإنسان قد يكون حياً حال ما يكون البدن ميتاً. فوجب كون الإنسان مغايراً لهذا البدن. والدليل على صحة ما ذكرناه قوله تعالى { وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ } فهذا النص صريح في أن أولئك المقتولين أحياء والحس يدل على أن هذا الجسد ميت.

    الحجة السابعة :

    ان الإنسان إذا ضاع عضو من أعضائه مثل أن تقطع يداه أو رجلاه أو تقلع عيناه أو تقطع أو رجلاه أو تقلع عيناه أو تقطع أذناه إلى غيرها من الأعضاء، فان ذلك الإنسان يجد من قلبه وعقله انه هو عين ذلك الإنسان الذي كنت موجوداً قبل ذلك إلاّ أنه يقول انهم قطعوا يدي ورجلي وذلك برهان يقيني على أن ذلك الإنسان شيء مغاير لهذه الأعضاء والابعاض وذلك يبطل قول مَن يقول الإنسان عبارة عن هذه البنية المخصوصة(14).  

    والآن نقدم آراء شمس سماء التصوف مولانا جلال الدين الرومي في موضوع الروح وهو يصفها في أبيات تحمل معاني سامية وقيّمة كاللآلئ وعميقة كالبحار.

    والرومي كسائر أعلام التصوف يقسم الإنسان إلى جسد وروح. فالروح عنده هي الأساس والجسد هو القائم بها. والروح عزيزة والجسد حقير. الروح سلطان والجسد قصره. والروح باقية والجسد فان.

 

    وفي المثنوي الشريف يقول الرومي عن الروح :

منزل الأرواح صدق ووفاء

منزل الأجسام لون وطلاء

تسكن الأرواح أجساد الأنام

وهي نور كيف تحيا في الظلام

قال سبّوح إله الملكوت

فاطر الأكوان قدسي النعوت

أسكن الأرواح أوكار الصور

فاستجابت حين ناداها القَدَر

هذه الأرواح أطيار الجنان

فارقت أوطانها للامتحان

هي كالعطر طوته الزهرات

وهي كالفكر حوته الكلمات

إنما الألفاظ نطق ورسوم

والمعاني روح هاتيك الجسوم

هبطت من وقتها من لا زمان

وثوت في أرضها من لا مكان

عالمُ الغيب له السر المصون

أمره في خلقه كن فيكون

كلّم الورد بسر فابتسم

عن أريج علم الطير النغم

وهو أيضاً قال سراً للحجر

فجلا منه عقيقاً للنظر

وهو قد أفضى بسر للسحاب

فالتوت من فيضه حمر الهضاب

عندما أوحى بسر للتراب

صار إنساناً له الكون استجاب

وتجلى سره للانبياء

فتساموا فوق معراج السماء

كم عروس جليت للناظرين

وهي لا تهدى لكل الخاطبين

انزع الأصبع عن سمع اليقين

تستجب روحك للروح الأمين

فيد الجسم با انشق الحجر

ويد الروح لها انشق القمر(15)

 

    والآن نستمع إلى المفسر والمتصوف الكبير « إسماعيل حقي البورسوي »(16) في تفسير قوله تعالى { قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي } من تفسيره القيّم « روح البيان » وهو يقول :

    [قال حضرت شيخي وسندي روّح الله روحه الطاهرة في شرح تفسير سورة الفاتحة للشيخ صدرالدين القنوي (قدس سره) ؛ الخلق : عالم العين والكون والحدوث روحاً وجسماً. والأمر : عالم العلم والإله والوجوب. وعالم الخلق تابع لعالم الأمر، إذ هو أصله ومبدأه { قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي }.

    وفي التأويلات النجمية ؛ ان الله تعالى خلق العوالم الكثيرة، ففي بعض الروايات خلق ثلاثمائة وستين ألف عالَم ولكنه جعلها محصورة في عالَمَين اثنين وهما الخلق والأمر كما قال تعالى { أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأمْرُ } (الأعراف :54 )، فعبّر عن عالم الدنيا وما يدرك بالحواس الخمس الظاهرة وهي السمع والبصر والشم والذوق واللمس بالخَلق. وعبّر عن عالم الآخرة وهو ما يدرك بالحواس الخمس الباطنة وهي العقل والقلب والسر والروح والبصيرة بالأمر. فعالم الأمر هو الأوليات العظائم التي خلقها الله تعالى للبقاء من الروح والعقل والعلم واللوح والعرش والكرسي والجنة والنار. وسمي عالم الأمر أمراً لأنه أوجده بأمر كن من لا شيء بلا واسطة شيء كقوله تعالى { وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً }(مريم:9). ولما كان أمره قديماً فما كوّن بالأمر القديم وإن كان حادثاً كان باقياً. وسمي عالم الخلق خلقاً لأنه أوجده بالوسائط من شيء كقوله تعالى { وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ }(لأعراف: 185)، فلما ان الوسائط كانت مخلوقة من شيء مخلوق سماه خلقاً خلقه الله للفناء.

    فتبين ان قوله تعالى { قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي } إنما هو لتعريف الروح معناه انه من عالم الأمر والبقاء لا من عالم الخلق والفناء، وانه ليس للاستبهام كما ظن جماعة ان الله تعالى أبهم علم الروح على الخلق واستأثره لنفسه حتى قالوا ان النبي r لم يكن عالماً به جلّ منصب حبيب الله عن أن يكون جاهلاً بالروح مع أنه عالم بالله وقد مَنّ الله عليه بقوله { وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً }(النساء:113). أحسبوا ان علم الروح مما لم يكن يعلمه ؟ ألم يخبر أن الله علّمه ما لم يكن يعلم ؟. فأما سكوته عن جواب سؤال الروح وتوقفه انتظاراً للوحي حين سألته اليهود فقد كان لغموض يرى في معنى الجواب ودقة لا تفهمها اليهود لبلادة طبعهم وقساوة قلوبهم وفساد عقيدتهم فنه وما يعقلها إلاّ العالِمون وهم أرباب السـلوك والسائرون إلى الله كـ (الإمام الغزالي)](17).

    أما المرشد والمفكر الكبير بديع الزمان سعيد النورسي (رحمه الله) الذي ألفّ موسوعة إيمانية رائعة تسد حاجة هذا العصر وتخاطب مدارك أبنائه تلك هي الرسائل التي استقاها من فيض نور القرآن الكريم وتعالج القضايا والمقاصد الأساسية التي يدور عليها القرآن الكريم : « التوحيد وحقيقة الآخرة، وصدق النبوة، وعدالة الشريعة ». فقد أدى حق هذا الموضوع، وطرح أفكاره بتعابير بليغة ووجيزة في مجال هذه الحقيقة الإنسانية التي أشغلت كثيراً من الأذهان.

    ويأتي كلامه في موضوع الروح في المرتبة الأولى بالنسبة للنظريات التي طرحت لحد الآن. وصاغه بعبارات تليق به، وأنطق ما ينبغي إنطاقه في اجمل شكل.

    والآن نقدم قسماً من أفكاره وملاحظاته الواردة حول هذا الموضوع محيلين تفاصيلها إلى كليات رسائل النور :

    « الروح قانون أمري، حيّ، شاعر، نوراني، وذات حقيقة جامعة، معدّة لاكتساب الكلية والماهية الشاملة وقد ألبِسَت وجوداً خارجياً »(18) .

    « إن الروح قانون ذو وجود خارجي، وناموس ذو شعور، وهو آتٍ من عالَم الأمر وصفةِ الإرادة، كالقوانين الفطرية الثابتة الدائمة. وقد كستْه القدرةُ الوجودَ الحسي، وجعلتْ سيالةً لطيفة صَدَفَةً لذلك الجوهر. إن الروح الموجود أخ للقانون المعقول. كلاهما  دائـمي وكلاهما  آت ٍ من  عالــم  الأمـر. ولو ألبست القدرةُ الأزلية قوانين الأنواع وجوداً خارجياً لأصبحت روحاً، ولو طرح الروحُ الشعورَ، لأصبح قانوناً لا يموت أيضا.»(19)

    « لقد ثبت بالتجربة أن المادة ليست أساساً وأصلاً ليبقى الوجود مسخّراً من أجلها وتابعاً لها، بل هي قائمة بـ« معنى»، وهذا المعنى هو الحياة.. هو الروح..

    وترينا المشاهدة والملاحظة كذلك ان المادة لا تكون مطاعة حتى يُرجّع إليها كل شئ، وإنما هي وسيلة مطيعة خادمة لإكمال حقيقة معينة.. هذه الحقيقة هي الحياة.. وأساسها.. هو الروح.

    ومن البديهي ان المادة ليست هي الحاكمة حتى يُستجدى على بابها وتطلب أو تنتظر منها الكمالات والـمُثُل. بل هي  محكومة تسير وفق أساس معيّن وتتحرك بإشارته.. هذا الأساس هو الحياة.. هو الروح، هو الشعور..

    وتقتضي الضرورة كذلك ان لا ترتبط بالمادة الأعمال والـمُثُل ولا تُبنى على ضوئها، إذ انها ليست لبّاً ولا أصلاً ولا أساساً ولا ثابتاً مستقراً، وإنما هي قشرة وغلاف وزَبَد وصورة مهيأة للتشقّق والذوبان والتمزق.

    ألا يُشاهَد كيف أن الحيوانات الدقيقة التي لا يمكن رؤيتها بالعين المجردة تملك احساسات حادة وقوية حتى أنها تسمع همسات بنى جنسها وترى مواد رزقهم!!.

    ان هذا يبيّن لنا بوضوح: ان المادة كلّما صغرت ودقت ازداد انطباع ملامح الحياة وآثارها عليها، واشتدّ نور الروح فيها، أي ان المادة كلما دقت وابتعدت عن مادّيتنا كأنها تقترب اكثر من عالم الروح، وعالم الحياة، وعالم الشعور، فيتجلّى نور الحياة وحرارة الروح بشدّة اكثر..

    فهل من الممكن ان يترشح كل ما نرى من ترشحات الحياة والمشاعر والروح وتنساب رقراقة من أغطية المادّة، ولا يكون العالم الباطن الكائن تحت ستار المادة مملوءاً بذوي المشاعر وبذوي الأرواح؟ وهل من الممكن ان يرجع إلى المادة ويسند إليها وإلى حركتها كل ما في عالم الشهادة من ترشحات غير محدودة للمعاني والروح والحقيقة ومنابع لمعاتها وثمراتها، وتتوضح بها وحدها!؟.. كلاّ ثم كلاّ.. بل ان هذه المظاهر غير المحدودة المترشحة، ولمعاتها تظهر لنا ان عالم الشهادة المادي هذا إنما هو ستار منقش مزركش ملقىً على عالم الملكوت والأرواح.»(20)

    وقد وضع بديع الزمان النورسي (رحمه الله) نهجاً في إثبات وجود الروح وبقائها يجلب الأنظار إليه، ففي البداية يطمئن عقل الإنسان ووجدانه بالدلائل الأنفسية، ومن ثم يقوّي ويحكم العلم والمعرفة الذي يكتسبها الإنسان بالدلائل الآفاقية.

    وعن الدلائل الأنفسية يقول ( رحمه الله ) :

    «  أن كل من يدقق النظر في حياته ويفكر مليّاً في نفسه يدرك أن هناك روحاً باقيةً.

نعم. انه بديهي أن كل روح رغم التبدل والتغير الجاري على الجسم عبر سني العمر تظل باقية بعينها دون أن تتأثر، لذا فما  دام الجسد يزول ويستحدث - مع ثبات الروح - فلابدّ ان الروح حتى عند انسلاخها بالموت إنسلاخاً تاماً، وزوال الجسد كلّه، لا يتأثر بقاؤها ولا تتغير ماهيتها.. أي أنها باقية ثابتة رغم هذه التغيرات الجسدية، وكل ما هنالك ان الجسد يبدّل أزياءه تدريجياً طوال حياته مع بقاء الروح، أما عند الموت فيجرد نهائياً وتثبت الروح. فبالحدس القطعي بل بالمشاهدة نرى ان الجسد قائم بالروح، أي ليست الروح قائمة بالجسد، وإنما الروح قائمة ومسيطرة بنفسها. ومن ثم فتفرّق الجسد وتبعثره بأي شكل من الأشكال وتجمّعه لا يضر باستقلالية الروح ولا يخـل بها أصلاً. فالجسد عــشّ الــروح ومســكنها وليــس بردائـها. وإنما رداء الــروح غــلاف لطــيف وبــدن مثــالي ثــابت إلى حــدٍّ ما ومتناسب بلطافته معها. لذا لا تتعرّى الروح تماماً حتى في حالة الموت بل تخرج من عشّها لابسة بدنها المثالي وأرديتها الخاصة بها.»(21).

 

    وبعد اثبات وجود الروح، يوجه النورسي الأنظار إلى بقائها، وهو يقول :

    « وكذلك يمكن الإحساس وجداناً بالحدس القطعي، بأن ركناً أساساً في كيان الإنسان يظل باقياً بعد موته. وهذا الركن الأساس هو الروح، حيث أن الروح ليست معرضة للانحلال والخراب؛ لأنها بسيطة ولها صفة الوحدة. اذ الانحلال والفساد هما من شأن الكثرة والأشياء المركبة. وكما بيّنا سابقاً فان الحياة تؤمّن طرزاً من الوحدة في الكثرة، فتكون سبباً  لنوع من البقاء أي أن الوحدة والبقاء هما أساسا الروح حيث تسري منهما إلى الكثرة. لذلك فإن فناء الروح إما أن يكون بالهدم والتحلّل أو بالإعدام؛ فأما الهدم والتحلّل فلا تسمح لهما الوحدة والتفرد بالولوج، ولا تتركهما البساطة للإفساد، وأما الإعدام فلا تسمح به الرحمة الواسعة للجواد المطلق، ويأبى جُوده غير المحدود أن يستردّ ما أعطى من نعمة الوجود إلى روح الإنسان اللائقة والمشتاقة إلى ذلك الوجود.»(22).

    « ورأيت فيه ( القلب ) ايضاً قابلية تمثل مجموع العالم كالخريطة والفهرستة والأنموذج والتمثال.. وان المركز فيه لا يقبل إلاّ الواحد الأحد.. ولا يرضى إلاّ بالأبد والسرمد.. فهذه النواة وهي حبة القلب - ماؤه الإسلام وضياؤه الإيمان - فان اطمأنتْ تحت تراب العبودية والإخلاص، وسُقيت بالإسلام، وانتبهتْ بالإيمان، انبتت شجرةً نورانيةً مثاليةً من عالم الأمر هي روحٌُ لعالمه الجسماني. وإن لم تُسق بقيت نواةً يابسةً منكمشة لائقة للإحراق بالنار إلى ان تنقلب إلى النور.»(23).

    « انه كما لا تزاحم ولا تصادم بين عالم الضياء وعالم الحرارة وعالم الهواء وعالم الكهرباء (والالكتريقية) وعالم الجاذبة إلى عالم الأثير والمثال والبرزخ. تجتمع الكلُّ  بلا اختلاط معك في مكانك بلا تشكّ من أحدٍ منكم، من مزاحمةِ أخيه.. فهكذا يمكن ان يجتمع كثيرٌ من انواع العوالم الغيبية الواسعة في عالم أرضنا الضيقة. وكما لا يعوقنا الهواء من السير ولا يمنعنا الماءُ من الذهاب ولا يمنع الزجاجُ مرورَ الضياء ولا يعوقُ الكثيف أيضاً نفوذَ شعاع (رونتكن) ونورِ العقل وروح المَلَك، ولا يمنع الحديدُ سيلانَ الحرارة وجريان (الالكتريق) ولا يعوق شئ سريانَ الجاذبة وجولان الروح وخدّامه وسيران نور العقل وآلاته.. كذلك هذا العالمُ الكثيف لا يمنع ولا يعوق الروحانيات من الدوران، والجن من الجولان، والشيطان من الجريان، والمَلَك من السيران..»(24).

    «  ان المعنى يبقى واللفظ يتبدل، واللب يبقى والقشر يتمزق، والجسد يبقى واللباس يتخرّق، والروح يبقى والجسد يتفرق، و "أنا" يشب والجسد يشيب، والواحد يبقى والكثير يبلى، والوحدة تديم والكثرة تتمزق، والنور يبقى والمادة تتحلل. 

    "فالمعنى " الذي يبقى من أول العمر إلى الآخر، مع تبديله لأجسادٍ، وانتقاله في أطوار، وتدحرجه على أدوار مع محافظة وحدانيته، يدل على انَّه يتخطى على الموت أيضاً وينسل من كلاليبه، متشقق الجسد، عريان الروح، سالماً في طريق الأبد. »(25).

    « ان قلت: ان الإنسان ذرة بالنسبة إلى أرضه، وأرضه ذرة بالنسبة إلى الكائنات. وكذا فرده ذرة إلى نوعه ونوعه ذرة بالنسبة إلى شركائه في الاستفادة في هذا البيت العالي. وكذا جهة استفادة البشر بالنسبة إلى فوائد وغايات هذا البيت ذرة، والغايات التي تحس بها العقول ذرة بالنسبة إلى فوائده في الحكمة الأزلية والعلم الإلهي فكيف جعل العالم مخلوقاً لأجل البشر واستفادته علة غائية؟.

    قيل لك: نعم! ولكن مع كل ما مرّ لأجل وُسعة روح الإنسان وتبسط عقله وانبساط استعداده وكثرة وانتشار استفادته من الكائنات.. وأيضاً لأجل عدم المزاحمة والتجزي والمدافعة في جهة الاستفادة كنسبة الكلي إلى جزئياته - إذ الكلي بتمامه موجود في كل من جزئياته لا مزاحمة ولا تجزء - جعل القرآن الكريم جهة استفادة البشر التي هي غاية فذة من ألوف ألوف غايات السماء والأرض في منزلة العلة الغائية كأنها هي العلة بالنظر إلى الإنسان. أي ان الإنسان يستفيد من الأرض عرصةً لبيته والسماء سقفا له والنجوم قناديل والنباتات ذخائر، فحقّ لكل فرد أن يقول: شمسي وسمائي وأرضي. »(26).

    « يمكن القول بأن وجود الملائكة والعالم الروحاني ثابت كثبوت وجود الإنسان والحيوان، فكما بَيّنا في المرتبة الأولى من  " الكلمة الخامسة عشرة " : ان الحقيقة تقتضي قطعاً، والحكمة تستدعي يقيناً: ان تكون للسماوات - كما هي للأرض - من ساكنين، ولا بدّ أنهم ذوو شعور، وهم متلائمون معها كل التلاؤم. وفي مصطلح الدين يسمّى أولئك الساكنون من ذوي الأجناس المختلفة بـ  " الملائكة "  و " الروحانيات ".

    نعم، ان الحقيقة تقتضي هكذا.. فرغم ضآلة كرتنا الأرضية وصغرها قياساً إلى السماء فان ملأها بمخلوقات ذوات مشاعر - بين حين وآخر - وإخلاءها منهم وتزيينها بآخرين جُدد يشير، بل يصرح:

ان السماوات ذات البروج المشيدة - وكأنها قصور مزيّنة - لابد أنها ملأى أيضاً: بذوي حياة مدركين واعين  الذين هم نور الوجود، ومن ذوي الشعور الذين هم ضياء الأحياء، وان تلك المخلوقات - كالأنس والجن - هم كذلك: مشاهدو قصر هذا العالم الفخم.. ومطالعو كتاب الكون هذا.. والداعون الأدلاّء إلى سلطان الربوبية.. ويمثلون بعبوديتهم الكلية الشاملة: تسابيح الكائنات، وأوراد الموجودات الضخمة...»(27)

    «... القيام بالشكر الكلي، ووزن النِعم المدخرة في خزائن الرحمة الإلهية بموازين الحواس المغروزة في جسمك.

    فتح الكنوز المخفية للأسماء الإلهية الحسنى بمفاتيح الأجهزة المودعة في فطرتك، ومعرفة الله جلّ وعلا بتلك الأسماء الحسنى.

     إدراك درجات القدرة الإلهية والثروة الربانية المطلقتين، بموازين العجز والضعف والفقر والحاجة المنـطـوية في نفـسك، إذ كما تُدرك أنـواع الأطعمة ودرجاتها ولذاتها، بدرجات الجوع وبمقدار الاحتياج إليها، كذلك عليك فهم درجات القدرة الإلهية وثروتها المطلقتين بعجزك وفقرك غير المتناهيين. فهذه الأمور وأمثالها هي مجمل "غايات حياتك". »(28) (*).

 

_____________________

(1) ابن سينا (980-1037م ) أبو علي الحسين بن عبدالله بن سينا ؛ فيلسوف مصري وطبيب مسلم . لقب بالشيخ الرئيس ، ولد في أفشنه ، قرب بخارى ، ودرس العلوم الشرعية والعقلية ، تجاوزت مصنفاته المئتين بين كتب ورسائل تدل على سعة ثقافته وبراعته في العلوم الفلسفية وغير الفلسفية منها (الشفاء) و (القانون) و (النجاة) . توفي ودفن في همذان . (المترجم)

(2) الإمام الغزالي : أبو حامد محمد بن محمد بن أحمد الغزالي ولد في طوس من أعمال خراسان عام (1085م) وتوفي فيها عام (1111م) . فقيه ومتكلم وفيلسوف وصوفي ومصلح ديني واجتماعي ، صاحب رسالة روحية ، كان لها أثرها في الحياة الإسلامية . درس علوم الفقهاء وعلم الكلام على إمام الحرمين ، وعلوم الفلاسفة وبخاصة الفارابي وابن سينا وعلوم الباطنية . اشتغل بالتدريس في المدرسة النظامية وارتحل إلى بلاد كثيرة منها دمشق وبيت المقدس والقاهرة والإسكندرية والمكة المكرمة والمدينة المنورة . (المترجم)

(3) المضنون الصغير على هامش كتاب الإنسان الكامل ص91-93 .

(4) المصدر السابق .

(5) المصدر السابق .

(6) إحياء علوم الدين ج1 ص6 .

(7) المضنون الصغير ص91.

(8) نفس المصدر السابق ص93

(9) المضنون الصغير ص 95 .

(10) المصدر السابق ص95

(11) المصدر السابق ص95

(12) المصدر السابق ص95

(13) فخر الدين الرازي (1149-1206م) : هو فخرالدين ابو عبدالله محمد . متكلم وفيلسوف ، ومفسر للقرآن ، كان أبوه خطيباً ، ولهذا سمى ابنه « ابن خطيب الري » درس في الري والمراغة على كبار العلماء . كان شافعياً أشعرياً . ناظر المعتزلة ، واشتغل بالتدريس في الحيرة . لقّب بشيخ الإسلام وانقطع في أواخر أيامه للوعظ وتلاوة القرآن ، متصرفاً عن المجادلات الكلامية . له مصنفات كثيرة منها « أصول الشافعية والمحصول ومناقب الإمام الشافعي » وهي في الفقه . (المترجم)

(14) التفسير الكبير – المجلد / 11 ص41

(15) من كتاب الأعلام الخمسة للشعر الإسلامي . ترجمة محمد حسن الأعظمي والصاوي علي شعلان « المترجم »

(16) اسماعيل حقي ( 1654 – 1725 م ) : من أشهر علماء العثمانيين وشعرائهم وواحد من كتّاب التصوف ، اطلع في أدرنة على فروع المعارف والطريق الجلوتية . بدأ التأليف في العشرين من عمره بمدينة (بورصة) ، أدى فريضة الحج ووصل إلى عدة بلاد ، استقر في بورصة حيث شيّد مسجداً ورباطاً (1724-1725) . ألّف على ما يربي مائة مصنف ما بين رسائل في التصوف وكتُب في الدين طبع بعضها . ومن أهمها ( روح البيان ) وهو تفسير للقرآن و( روح المثنوي ) وهو شرح لمثنوي مولانا جلال الدين الرومي ، و( فرح الروح ) وقد طبع ببولاق والقسطنطينية .

« المترجم » 

(17) تفسير روح البيان 5/ ص198 .

(18) الكلمات ص611 .

(19) المكتوبات ص602 .

(20) الكلمات ص 600 -601

(21) الكلمات ص 610 – 611

(22) الكلمات ص 611

(23) المثنوي العربي النوري ص220

(24) المثنوي العربي النوري ص244

(25) المثنوي العربي النوري ص69

(26) إشارات الإعجاز ص 203-204

(27) الكلمات ص594

(28) الكلمات ص138

(*) ما هي الروح ؟ تأليف الأستاذ محمد قرقنجي - ترجمة سامي سليمان عارف

قرئت 428 مرات
لإضافة تعليق يرجى تسجيل الدخول أو إنشاء قيد جديد