الروح في نظر الفلاسفة

 

    والآن نعرض آراء بعض الفلاسفة المشهورين الذين لهم باع في هذا الموضوع :

    إن آراء سقراط(1) في الروح لجديرة بالاهتمام. وهو يعتبر من أشهر فلاسفة العصور الأولى وأكثرهم تأثيراً في نفوس الفلاسفة الذين أتوا من بعده.

    إذ كانت الماهية الإنسانية والنفس البشرية موضع اهتمامه في حل معضلة المسائل الفلسفية. فبنى بذلك نظام فكره الفلسفي واستحق عنوان الفيلسوف الأول الذي مال الى الدائرة الأنفسية.

    ونستطيع تلخيص آراءه حول الروح كما يأتي :

    إن نفس الإنسان يعني ( روحه ) موجودة في زاوية من عالم الموجودات قبل وجود أجسامهم. ومن ثم تتحد مع الجسم. فالجسم كالآلة التي تحركها الروح، وهو بمثابة إناء لها. وتعود الأرواح إلى المنابع التي جاءت منها بعدما تتفسخ وتتحلل الأجسام. وان اتحاد النفس (الروح ) مع الجسد يعود لغايتين مهمتين :

  1. التكامل.
  2. البقاء.

    ويرى سقراط بأن الإنسان قائم بالروح. وليس للجسم أهمية تذكر سوى اعتباره آلة لتطبيق أعمال الروح، ومركزاً يديره سلطان.فالروح رغم أنها لا تُرى في بدنها إلاّ أنها تتصرف فيه وتديره. وان الجسد فانٍ ومؤقت ومعرّض للزوال. ولكن الروح أبدية ودائمية.

    وعندما سُئل سقراط : لِمَ أتى الإنسان إلى هذه الدنيا ؟ وما هي وظيفته ؟ فكان جوابه : إن وظيفة الإنسان هي انسلاله من الأذواق الزائلة للعالم السفلي وسوق روحه بالسياط نحو الأهداف السامية. هذه هي غاية مجيئه إلى الدنيا.

    وقد آمن سقراط بحقيقة الحشر الجسماني والبعث بعد الموت وصدّقها. ونرى عقيدته هذه من خطابه الذي ألقاه أمام القضاة عند محاكمته ؛ قال لهم : « إن الموت الذي هو عبارة عن انتقال الروح من هذه الدنيا، ليس فناءً، بل هو نجاة وتحرر. وفي الحقيقة إن الموت هو رحلة ينتقل الإنسان من خلالها من هذه الدنيا إلى عالم الآخرة. وان جميع الأموات أحياء يعيشون في عالم آخر »

    ونستمع الآن إلى فيلسوف آخر من مشاهير القرون الأولى ؛ وهو أفلاطون(2). وقد قسم أفلاطون الموجودات إلى قسمين اثنين : العلوي والسفلي. وقال إن الروح هي من الموجودات العلوية. وكانت تعيش في أول الأمر في مقامها العالي ( عالم المثال )، وكانت شاكرة من حياتها، وتمتلك علماً ولها جناحين الأول يسمى بـ « الحق » والثاني بـ « الخير ». وبعدما نزلت هذه الروح إلى الأرض فقدت جناحيها. وان غايتها الأساس في هذه الدنيا هي إعادة الجناحين المفقودين من جديد. أي كسب صفاتها الحق والخير مرة أخرى.

    هذا وقد قسم أفلاطون النفس البشرية إلى أقسام ثلاثة :

  1. النفس الشهوانية.
  2. النفس الغضبية.
  3. النفس الناطقة.

     فالنفس الناطقة هي الروح، وهي بداية ومنشأ التفكر، وهي منبع قابلية التفكير في الإنسان. وقد خلقها الله تعالى بدون وسيلة. وليس لها أي شكل ولا يمكن رؤيتها بالعين المجردة. وهي الجوهر والأصل الذي يحرك الجسم. أي أنها تتمتع بقابلية الحركة الذاتية برغبتها ومشيئتها. وهي بسيطة لا تتجزأ ولا تنفصل، وليست مجسمة. وهي مركز جميع أنواع الفعاليات وأنها لاهوتية وأبدية.

    وهنا نلتمس الفكر الموجود لدى سقراط والقائل بـ « وجود الروح قبل وجود الجسد » موجوداً أيضاً عند أفلاطون. ويستمر بقاء الروح بعد تجزأ الجسد. وان الروح حياة محضة، والموت عبارة عن افتراق الروح من الجسد. وتبقى حية بعد مفارقتها الجسد وذلك بمقتضى طبيعتها.   

    وان الانسان يحس ويدرك بوساطة نفسه (روحه). وفي الروح اعتباران : الاول : إنساني والآخر حيواني. ويكون اتصال الروح بالجسد من جهة التدبير والتصرف. وكما لا تتشابه سيماء الانسان بعضها مع بعض، فان ارواحه كذلك لا تتشابه بعضها مع البعض الآخر. حيث تتمايز الارواح فيما بينها. والروح ليست منفعلة بل هي فاعلة.

    ويلتقي أرسطو(3) مع أفلاطون في فكره من ان الروح ليست جسماً بل هي جوهر. وانها في رأيه حادثة أي انها ليست أزلية، بل تخلق مع الجسد. وبعد فناء الجسد تبقى النفس وتعيش الى الأبد.

    [ وفي رأي أرسطو ؛ ان الروح هي مبدأ الحياة. والحياة هي عبارة عن حركة. وكما ان كل حركة تحتاج الى سرعة محركة ومادة متحركة، فان في الانسان الحي كذلك تعتبر الروح هي المحركة والجسم هو المتحرك. وكما ان الروح ليست جزءاً من الجسد، فانها ليست خارجة عنه أيضاً.

    ويختلف أرسطو مع أفلاطون في نقطة واحدة، وهي : ان الروح ليست هي المتحرك بالذات. بل في رأيه انها تتصرف وتحرك دون أن تتحرك هي. وان حركتها لا تشبه حركة رجل يمشي على الأرض، بل انها شبيهة بحركة شخص جالس في القارب وسط البحر ].

    والروح ليست مادية، وهي تظهر جميع حركات الجسد وتديره.. وهي مبدأ الوظائف الحيوية.

    ويعتقد أرسطو في قوله بأن (( الروح هي صورة الجسد )) : بأن الجسد خلق للروح. وان غايته هي خدمة الروح. وهو أيضاً بمثابة آلة للروح وقد خلق في هيئة تساعده للقيام بوظائف وغايات راقية ونظم في أنسب شكل.

    وقد تصور أرسطو في قوله : بأن الحياة تنكشف في ظل الروح بأن الروح خمسة أنواع وهي :

  1. النفس الغذائية.
  2. النفس الحسية.
  3. النفس المحرّكة.
  4. النفس الشهوانية.
  5. النفس العقلية.

    أما ديكارت(4) فهو الآخر أدلى بملاحظاته حول الروح. وهو معروف باهتمامه المفرط بالفكر. يقول : ان الروح هي الفكر. والفكر هو الذي يجعل الروح جوهراً. وفي ظل الروح تستطيع الروح أن تعرف نفسها. وتمتلك الروح قابلية التفكر وهي تقوم بذلك أينما كانت. وتمتلك أيضاً قوة العلم. وكما ان وجود الروح لا يعتمد على وجود الجسد، فانها ليست محاطة به أيضاً. وليس لها أي شكل ولا تقبل التجزئة. وبذلك لا تسري عليها عملية تفسخ الجسد، وانها لا تموت.

    وأما مالبرانش (6) فانه يستند بأفكاره في هذا الموضوع الى الله تعالى والى الإيمان به. ويقول :كما ان جميع الحوادث هي غاية الاسباب والوسائل، فان روح الانسان لا تستطيع الادراك والشعور بدون تأثير من الله تعالى.

    وتختلف الروح مع الجسد اختلافاً تاماً ؛ ولا توجد أي رابطة بينهما. وانها ليست حرة طليقة، بل أنها مرتبطة في فعالياتها مع الله. وان المعارف الموجودة في روح الانسان هي من لدن العليم الحكيم.

    وفي هذا المجال نذكر آراء الفيلسوف المعاصر برجسون(7) الذي عيّن مساراً جديداً في علم الوجود، وأجرى انقلاباً في عالم الفلسفة ليرتفع بذلك الى موقع متميز.

    وفي نظر برجسون ان لشعورنا قشراً ولباً. فجهة القشر هي طبقة العقل والذكاء والمنطق والعلم. حيث تكون هذه الطبقة ملائمة وموافقة للشروط العملية للحياة المادية والاجتماعية وفي فعاليات هذا القسم تجري قوانين العليّة. فلا حرية في هذه الجهة، بل هناك تحديد وتعيين.

    أما القسم الآخر فهو الشعور الباطني. ونستطيع أن نطلق عليه بـ (( أنا )). ويعرض هذا القسم كيف تحتلف عما كانت لدى القسم الأول من العمل والمنطق والتعيين. فالقسم الأول أصبح كثيفاً ومستقراً بصورة (( أنا )) فهو في اتحاد مستمر وفي ذوبان وحلول دائميين وهذا القسم هو مجال (( أنا )) الحقيقي.

    ويرى برجسون أيضاً أن علاقة الروح مع المادة هي شبيهة بعلاقة الدماغ مع الحافظة. وهناك نوعان من الحافظة :

  1. الحافظة الميكانيكية.
  2. الحافظة الحقيقية.

    فالحافظة الميكانيكية هي لأجل ايجاد روابط مع عالم المادة. أما الحافظة الحقيقة فهي الخيال والخواطر. وقد توصل برجسون نتيجة أبحاثه الى هذه القناعة : ان الدماغ ليس هو الحافظة. وإنما الدماغ هو محل استناد الحافظة وآلة طابعة له. وان منبع التفكر هو الحافظة الميكانيكية.

    ولا يمكن في أي حال من الأحوال اعتبار الدماغ بأنه الحالة الروحية كالتفكر. وفي الحقيقة لم يرد ظهور موجودات روحية كالتفكر والذكاء من المادة. فوظيفة الدماغ هي عبارة عن مساعدة عناصر التفكر والشعور للاتصال مع الواقع، والوسيلة للتلائم مع ضرورات الحال.

    والظاهر ان برجسون يجد مسألة الادراك التي يقوم العلماء الماديون بإيضاحها بواسطة العلوم الطبيعية، هي مسألة روحية بحتة. ويقبل بوجود حقيقة مختلفة تماماً عن هوية الانسان، وبوجود مخلوق معنوي وحقيقي لا يتصف بأية صفة.

    ويرى هذا الفيلسوف المشهور ان الجسم آلة في يد الروح. وان الروح تستفيد من الجسم في توضيح أفكارها. والجسم متوجه نحو العمل باستمرار. فوظيفة الجسم هي العمل : وليست لديه أية قابلية تساعده على اظهار حادثة واحدة من حوادث العقل. وان هذه الحوادث هي أثر قوة مادية وخارجة عما وراء الجسم. وهذه القوة سواء يطلق عليها (( النفس )) أو (( الروح )) فالنتيجة واحدة.

    وقد أثبت برجسون في منهجه الذي وضعه، بأن الانسان مخلوق مكون من اتحاد شيئين أحدهما مادي والآخر معنوي. فحطم بذلك عقائد فريقين الأول يؤمن بوجود المادة وحدها، والآخر لم يقبل حقيقة سوى الروح.

    وكما بينا في فصل (( الدلائل النقلية على وجود الروح )) بأن صاحب القول الحق في موضوع الروح هو الذات الأقدس الله جل جلاله الذي خلق هذه الروح. ومن ثم أقوال الأنبياء (عليهم السلام) المستندة الى الوحي الإلهي. ومن بعدهم العلماء الذين هم ورثة الأنبياء. أما الفلاسفة فان آرائهم مقبولة بنسبة تطابقها مع الوحي الإلهي. وبما أن العقل المجرد لا يكفي لاحاطة الحقيقة من كل جوانبها، فان آراء الفلاسفة لا يمكن قبولها بعينها. وان كل واحد منهم استطاع التقرب من الحق بنسبة معينة، واظهار جهة واحدة من أوجه الحقيقة وذلك حسب قابلية وسعة عقله الشخصي. لذا ينبغي أن يوزن كلامهم بميزان الدين الحق، وقبول أفكارهم المستخلصة من هذا الميزان بكل تقدير، وعدم أخذ آرائهم الخاطئة بنظر الاعتبار.(*)

   

  ________________  

(1) سقراط Socrates : ( 468 – 400 ق . م .) فيلسوف يوناني . استعمل منهج التحاور وأصبح يعرف بمنهج ( التهكم ) . قضى عمره في تدريس جماعة دروساً في الأخلاق والفلسفة . ووجه نظر الفلسفة المشتغلة في المادة الى مواضع أخلاقية . ولم يكتب سقراط شيئاً . وكان يعتقد كما ذكر تلميذه ( أفلاطون ) بوجود الله الواحد الأحد ، وبذلك ناقش في هذا الموضوع مع كثير من المتألهين . ومات سقراط الذي كان لا يحتمل الباطل مسموماً من قبل أعداءه في أثينا .

« المترجم »

(2) أفلاطون Plato : (427 – 347 ق.م) فيلسوف يوناني وتلميذ سقراط ، ولد في أثينا واستخدم أفلاطون منهج الجدل وكتب على نطاق واسع تعاليم سقراط بعد وفاته . ووقف أفلاطون في كتابه « شولن » على اختلاف الروح والجسد . وتناول في كتابه « الدولة » شكل الدولة وأصنافها وأداتها .

    « المترجم »

(3) أرسطو Arıstole:  ( 384- 322 ق. م ) فيلسوف يوناني وتلميذ افلاطون . ولد في مقدوزنيا وهو من مؤسسي علم المنطق ودافع عن الوقعية . وأصبح استاذاً للأسكندر . وان (منطق ) أرسطو لا يزال مستمراً في يومنا هذا . وترجمت كتبه الى لغات عديدة منها العربية . (المترجم) .

(4) ديكارت Descarte : (1596-1650م) : فيلسوف فرنسي وعالم رياضي وفيزيائي ، تجول في أوروبا وهو من مؤسسي الهندسة التحليلية . ومن كتبه الرئيسة هي ((مبادئ الفلسفة )) و (( مقال في المنهج )) . (المترجم) .

(5) مالبرانش : نقولا Malebranche ( 1638- 1715م ) فيلسوف فرنسي ديكارتي . تطرف في الثنائية التي تفرق بين العقل والجسم . وأنشأ فيها مذهب (التوفقية) . وله كتاب ((البحث عن الحقيقة)) ترجم الى الانكليزية . (المترجم) .

(6) برجسون : هنري (1859-1941م) فيبسوف فرنسي ، أصبح سنة 1900 أستاذاً بالكوليج دي فرانس . وظفر (1927) بجائزة نوبل في الأدب . وهو ثنائي في فلسفته . ومن مؤلفاته الرئيسة ((الزمن والارادة الحرة)) و (( المادة والذاكرة)) و ((الضحك)) وبعضها ترجم الى العربية . (المترجم) .

(*) ما هي الروح ؟ تأليف الأستاذ محمد قرقنجي - ترجمة سامي سليمان عارف

 

 

قرئت 863 مرات
لإضافة تعليق يرجى تسجيل الدخول أو إنشاء قيد جديد