حقيقة الروح ؟ ما هي الروح ؟

 

توجد في الإنسان حقيقة، وان ماهية هذه الحقيقة تختلف مع جسم الإنسان وتختلف مع الأفعال التي يقوم بها ذلك الجسم. ولا توجد أية نقطة مشتركة بينها وبين صفات الجسم بحيث يمكن المقارنة بينهما. لذا فان خصائص وصفات هذه الماهية لا تتوفر في بناء الجسم.

    ومن المعلوم، إن أي جسم لا يمكن أن تتحول من شكل إلى آخر ما لم يترك الشكل الأول تماماً. فمثلاً : من المحال أن يكون أي جسم هندسي مثلثاً ومربعاً في آن واحد. فلا يمكن أن يظهر بالشكل الثاني ما لم يفقد الشكل الأول. وكذلك لا يمكن تسجيل تلاوتين من القرآن الكريم في آن واحد على شريط واحد.

    ولكن في الإنسان توجد ماهية تستطيع أن تحتفظ بخطط وبرامج لا تعد ولا تحصى وصوراً وأشكالاً ونقوشاً عديدة وبأدق تفاصيلها ودون أن تختلط مع بعضها البعض، ودون أن تظهر فيها أية أزمة أو ضيق في المكان. وكل شكل فيها يخالف الآخر دون نسيان أو محو أو تغيير. وتستوعب هذه الماهية علوم كثيرة ومتنوعة في شتى المجالات. فتفكر وتدرك العلاقات التي تربط الأسباب بالغايات وتنظم الأفكار، وبذلك تحول المطالب والرغبات الموجودة في القوى إلى الأفعال وآرائها إلى العمل والبديهيات. فلا يمكن اعتبار هذه الصفات من خصائص الجسم ولا من خصائص الدم واللحم والعظم. بل هي صفات الماهية الموجودة في داخل الإنسان. وان هذه الماهية لا تهرأ مع الجسد بل تترقى وتنمو كلما خار الجسد. فمثلما يكون جسد الإنسان في فترة طفولته وشبابه طرياً، فان فكره لم يكتمل في نموه. أما في هرمه فان الفكر يصبح نشيطاً وحيوياً بالعلوم والتجارب مقابل اعتلال الجسد.

    ان في الإنسان شوقاً وحرصاً نحو العلم والمعرفة ولديه رغبة كبيرة في البحث والاستدلال. وهذه الصفات هي من صفات تلك الماهية.

    وعندما يصغي إلى عالمه الداخلي فان يسمع أصداء معنوية كثيرة، فيعلم يقيناً ان هذه الأصداء لم تصدر من الجسد، وإنما هي صادرة من عالم آخر يختلف كلياً عن الجسد. فهذه الأصداء تخبرنا عن عالم الروح.  

    وان للإنسان علاقة مع ماضيه وحاضره ومستقبله. فميدان عمله ليس محصوراً في مكان وزمان معينين، وإنما يتعدى كل الأزمنة والأمكنة. فله علاقة مع أصدقائه وأقاربه وأجداده بل مع دينه ومقدساته وأمته ودينه. فهذه الصفات جميعاً تخبرنا عن تلك الماهية الموجودة في الإنسان.

    وبين حين وآخر يثور الإنسان ويغضب ويهدد ويشمئز وينفّر ويقلق ويهين الآخرين ويحبهم ويحبونه. ويتزين بالعلم ويتعمق في التفكير والتدبر، ويتجاوز مشاكله بالصبر. ويحمل بين جنباته شوقاً واشتياقاً كبيرين، ويدرك بالحدس القطعي الأسرار الموجودة وراء ألف حجاب وحجاب. فيمد يده إلى الأزل ويتعانق مع الأبد. وحتى لو أفترض أن هذا الإنسان عاش حياة أبدية في هذه الحياة الدنيا، فانه لن يطرأ أي تغيير على تلك الصفات جميعاً. لأنه يحمل ماهية واسعة تحيط بجميع تلك الحوادث. وان هذه الصفات هي صفات تلك الماهية أيضاً.

    وان لكل عضو في الإنسان وظائف معينة، فمثلاً : ان وظيفة العين هي الرؤية، ووظيفة الأذن هي السمع، إلاّ أن هذه الأعضاء لا تستطيع بذاتها إصدار حكم في تقدير المعلومات التي تكتسبها. أي ان العين لا تستطيع بذاتها أن تحكم على خطأ أو صواب شيء ما، وكذلك الأذن. وقس على ذلك جميع الأعضاء.

    إذن إن هناك ماهية تكتسب هذه الأعضاء قيمتها منها وتحركها وتؤثر فيها وتثبتها على رأي عن طريق التميز. وان هذه الصفات هي تشير إلى وجود تلك الحاجة.

    تأملوا إنساناً خرج إلى سياحة خيالية للمشاهدة والمعرفة. وبعد أن جمع هذا السائح جميع العلوم في الدنيا وجعلها كباقة ورد ووضعها في عقله، وركب مركبة فضائية فصعد إلى  الفضاء وجال بين ألوف النجوم وبين طبقات السماء وشاهد نظام المجرات وانتقل بين مالا تحصى من العوالم، فانه يستطيع احتفاظ جميع الحقائق التي سبق إليها علمه وشاهده بعينه، في فكره وعقله وينقلها إلينا بعينها. فلو انتقل هذا السائح بعدما أحاط بعلمه على ماهية الأشياء في هذه الدنيا إلى ما وراء السماوات حتى ارتقى إلى العرش الأعلى واستمتع بالمناظر الأبدية فان مرآة تلك الماهية لا يمكن أن تقول ((حسبي ما شاهدت فلا طاقة لي أن أشاهد واسجل المزيد)). بل العكس من ذلك، فان تلك القابلية ستزداد عند كل منظر ممتع ومشهد عجيب. وأما جسمه فانه ثابت لا يطرأ عليه أي تغيير. إذن إن هذه الماهية الموجودة في الإنسان تحمل سعة تحيط بالحوادث والوقائع إلى الأبد. فما هي العلاقة بين هذه الماهية وبين الجسد؟. إن هذه الصفات والخصائص التي لها قابلية الوصول إلى الأبدية،  تخبرنا عن تلك الماهية التي تتحكم في أجسامنا.

 ((... نظرت إلى نفسي وتأملت فيها ورأيت أن الذي خلق الحيوانات من قطرة ماء خلقني أيضاً منها، وبرأني معجزة من معجزاته، وشق سمعي وبصري ووضع دماغاً في رأسي وقلباً في صدري ولساناً في فمي بحيث خلق في ذلك الدماغ والقلب واللسان مئات من الموازين الدقيقة والمقاييس الرقيقة التي تتمكن من أن تزن وتعرف جميع هدايا الرحمن المدخرة في خزائن الرحمة الإلهية وعطاياه الكريمة، وادرج في تلك الأعضاء ألوفاً من الآلات التي تتمكن من أن تفتح كنوز تجليات الأسماء الإلهية التي لا نهاية لها، وأمد تلك الآلات والأجهزة معرّفات معينة مساعدة بعدد الروائح والطعوم والألوان))[1] .

    لو أمعن النظر في العبارات البليغة المذكورة آنفا، نرى إنها تشير قبل كل شي إلى ((أنا)). وان منشأ هذه الـ ((أنا)) ليس من قطرة ماء، وإنها ليست هي العين ولا الأذن ولا اللسان. وفي الوقت نفسه ليست هي القلب ولا الرأس ولا الدماغ. وان هذه الـ ((أنا)) هي الروح. أما الجسد فهو بمثابة عش للروح. فكما لا يمكن تصور قصر بلا سلطان كذلك لا يمكن أن يتصور جسد إنسان بدون روح.

    للروح الإنساني جهتان :

     الأولى أنها متأثرة أي إنها تحت التأثير. فالحكيم القدير قد أرسل رسله لترقي وسمو هذه روح، وجعل الأنبياء مرشدين ومعلمين ومربين في تعليم أرواح الإنس. وبوساطة الوحي بيّن سبحانه أسرار الأزل والأبد لتتصفى تلك الأرواح وتترقى في السعادة والكمال. فالأرواح التي تلقت حقائق الوحي الإلهي وحقائق أحاديث نبينا محمد صلى الله عليه وسلم واستسلمت لها وتأثرت بها تكتسب كيفية وقيمة يعجز القلم عن وصفها.

    والجهة الثانية للروح هي أنها مؤثرة. ويكون تأثيرها من جهات عديدة. فهي مؤثرة في جسدها، فتقوم بإدارة وتشغيل جميع الأعضاء وسوقها إلى الهدف المطلوب. وهي مؤثرة في العالم الخارجي والمادي أيضاً. فتقوم بالبناء والإنشاء والتخطيط والترتيب. وتقوم أيضاً بمد يدها إلى ميادين عديدة بقوة العلم والتكنولوجيا مستفيدة من القوانين الموجودة في الكون، سائقة المدنية إلى الترقي.

    وكذا فالروح مؤثرة في نظام العالم، ومؤثرة في الأمن والاستقرار وفي الحياة الاجتماعية والسياسية. فتقوم بالتوجيه والإدارة والتأثير وتعمل على الإثارة وتكوّن المجتمع طبقاً لعقيدتها ورغبتها.

    الخلاصة:

  • إن روح الإنسان في علاقة مستمرة مع عالم الشهادة وعالم الغيب. فتأخذ الفيض من عالم الغيب، وتؤثر بعلمها ومعرفتها في عالم الشهادة.
  • الروح قائمة بذاتها. ولكنها حادثة ومخلوقة وهي اللطيفة الربانية والجوهر الفرد التي تدرك بذاتها وتتصرف في الجسد بوساطة الأعضاء والحواس. وإنها أبدية ولكنها ليست أزلية وان أبديتها ثابتة بالكتاب والسنة. وهي تدرك، وان الدماغ هو أهم المراكز التي تتعلق بعملية الإدراك. وهي ليست عرضاً حلّ في الجسد. بل إنها الجوهر.
  • لا تحتاج الروح إلى استعمال أعضاء الجسم في كل آن لفهم وإحساس الموجودات في الكون المنظور. لأنها لا تستطيع السماع والرؤية في عالم المنام دون أن تستعمل حاستي السمع والبصر.

        من ناحية أخرى هناك فرق بين ماهية الروح وماهية الجسد. فلا يحمل أحدهما حمل الآخر. ومن الحقائق المعلومة: ان الذرات لا تحمل في ماهيتها صفات مثل الحياة والعلم والإرادة. وان جميع الكائنات الحية وغير الحية تكونت من ذرات جامدة لا تمتلك خصائص كالعلم والإرادة. فهذه الذرات لا تستطيع تكوين نفسها أو تكوين جسد كائن آخر. وان هذه الذرات التي هي كجنود مطيعين لأوامر الخالق الحكيم استخدمت في تأليف كتاب الكائنات هذا كاستخدام ذرات الحبر في كتابة أي كتاب. أو إنها استخدمت في إنشاء أجساد ضيوف قصر الكائنات كاستخدام الأحجار في بناء أي قصر. ومن المعلوم انه لا يستوي الحبر والمعنى ولا يستوي القصر والضيف. لأن لضيوف هذا القصر خصائص معينة كالتفكر والشفقة والرحمة والمحبة والخوف، وهي في حكم المعدوم في أحجار القصر. وكذلك صفات وخصائص روح الإنسان، فهي معدومة في الذرات والجزيئات التي تشكل قفص الروح وهو الجسد. بل هي صفات وخصائص معنوية تخص الحياة وليست مادية. وان هذه الحياة المعنوية ليست سوى الروح. فما دام هذه الحياة موجودة فمن البلاهة إنكار الروح. لأن الذرات التي تكوّن مادة جسم الإنسان تحتاج إلى محرّك ومدبّر لحركتها. فالمحرّك الذي يحرك هذه الذرات هو الروح. فلولا هذه الروح لأصبح الجسد كمعمل تعطلت فيه جميع دواليبه ومكائنه.

    وهناك صفات تختلف درجاتها من إنسان إلى آخر كالكرم واللطف والشجاعة. فعندما تكون إحداها في إنسان كالقطرة نرى أنها كالبحر في الآخر. فلوا أسندت هذه الصفات إلى المادة لتساوت مراتبها في جميع بني البشر. لأن صفات المادة ثابتة لا تتغير. لذا فان جميع هذه الصفات تصدر من ماهية معينة، وهذه الماهية هي الروح. بل هي مركز جميع الصفات كالعلم والمعرفة. وبما أن الروح هي لطيفة ربانية وجوهر مجرد من المادة، فان الإنسان لم يستطيع إدراك ماهيتها. ويعلن أهل العلم والحكمة- مع قبولهم بوجود الروح- عجزهم عن معرفة ماهيتها، وان الله تعالى وحده هو العليم بها.

    إن الآية الكريمة } وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلاّ قَلِيلاً { تعتبر نقطة انطلاق جميع العلماء في بحثهم عن الروح. فمهما عملوا من بحوث دقيقة وعميقة في مجال الروح فانهم لن يصلوا إلى حقيقتها.

 وهناك أشياء كثيرة لا نعرف ماهيتها وكنهها رغم علمنا وإقرارنا بوجودها فمثلا : إننا لا نرى قوى الجاذبية والدافعة التي تربط الشمس بالمجرات ولا نرى القوة الحرارية والكهربائية بعيوننا، إلاّ إننا نؤمن بوجودها من نتائجها وآثارها ورغم ذلك لا نستطيع الإحاطة بحقائقها وماهيتها. وكذلك الروح فهي مجهولة بالنسبة إلينا من جهة ماهيتها. إلاّ إنها تُظهر نفسها بآثارها وفعاليتها.

    نعم ان الإنسان يدرك بوجود معامل ومصانع تعمل في جسمه وتتحير منها العقول. ولا يستوي العامل والمعمل. بناءً على ذلك فان القائم على تشغيل معمل الجسد هو كائن في ماهية مختلفة عن الجسد. وكذلك لا يستوي المدبِّر والمدبَّر والمربِّي والمربَّى والمحرِّك والمحرَّك وان ذلك المدبِّر والمربِّي والمحرِّك إنما هو الروح.

    ومن المعلوم انه عندما يشيّد أي قصر فانه لا يشيّد لأجل أحجاره ومواده الإنشائية التي يتكون منها القصر، ولا لأجل زينته وزخرفه وشكله، وإنما يشيّد ويهيأ لأجل سلطان يليق بمقامه. وكذلك جسد الإنسان فانه وجِدَ لأجل سيده الذي يسكن في قصر الجسد وليس  لأجل خلايا الجسد.وكما يحتاج السلطان في تنظيم إدارة مملكته إلى رئيس وزراء ووزراء كالداخلية والخارجية وغيرهم، فان سلطان الروح كذلك يحتاج إلى العقل الذي يعتبر بمثابة رئيس الوزراء وحواس داخلية وخارجية بمثابة وزيرا الداخلية والخارجية. فإذا ما قلنا بأن العقل هو رئيس الوزراء لسلطان الروح، فان القلب يُعد كرسياً لعرش سلطنته. وعندما يتولد أي معنى في القلب كـ ((بسم الله)) فانه بعدما يصدّقه الفكر يظهر ككلمة وبعدها ككتابة. وهذه العلامة هي من آثار وفعاليات الروح. ورغم عدم رؤية الروح فان وجودها يعرف من حركاتها وفعاليتها في مملكة الجسد. فهي حاضرة وناظرة في كل خلية من خلايا الجسد. فمثلا لو أخذنا جسم إنسان ميت فإننا لا نرى أي علامة حيوية في أي جزء من أجزاءه. إذن هناك حقيقة مستقلة ذات شعور فارقت الجسد وهي ليست من جنسه. وهذه الحقيقة ليست سوى الروح. ففي هذه حالة إن وجود الروح حقيقة لا ريب فيها.

    في أحد الأيام كان بدوياً يمشي في الصحراء فيصيب بعيره الوهن فجأة ويموت فيتعجب البدوي من موت بعيره فيخاطبه: (( إذن هناك شيء آخر في باطنك يحملني ويحمل عنك أثقالك، تُرى ما هي القوة التي كانت تحملنا جميعا؟))

    كان البدوي محقاً في ذلك لأن ذلك الجسد كان قبل قليل يمشي ويرى ويحمل الأثقال. إذن إن شيئاً ما قد خرج من ذلك الجسد ولم يره البدوي. وذلك الشيء ليس سوى الروح.

    وكما إن الإدارة المنتظمة لمملكة تُرينا وجود سلطان لها، فان الجسد أيضاً يرينا حاكم ومتصرف فيه وهو الروح. فكما انه من الغرابة لقائد يدير مملكة أن ينكر نفسه، كذلك فانه من الغرابة بألف درجة أن تنكر الروح نفسها والتي تدير الجسم بأكمله...

    ويدرك الإنسان المتأمل بأن أي عضو في جسمه لم يُخلق لذاته، أي أن العين لم تُخلق للعين، والأذن لم تُخلق للأذن وهكذا سائر الأعضاء. بل العكس من ذلك فان كل عضو من هذه الأعضاء إنما خلق لأجل خدمة مخلوق آخر.

    وتدل الخصال والمزايا التي يمتاز بها الإنسان كالتصور والتفكر والإرادة، خلافاً لسائر المخلوقات، بأن لها منشأ يختلف تماماً عمّا هو في سائر المخلوقات.

     إن قوانين الجاذبة والدافعة التي تساعد على تكوين الجزيئات في الذرة هي نوع حياة لها. وفي النباتات إضافة إلى الذرات التي تكوّن البناء المادي الخارجي للنبات توجد حياة أخرى وقانوناً خاصاً له تؤمّن نمو النبات. وفي الحيوانات كذلك- خلافاً عمّا هي موجودة في النباتات- توجد الروح المتكونة من مجموعة من الحواس وتمتلك نوعاً من الإرادة. أما في الإنسان فإنها تشاهد حياة مجهزة بحواس متنوعة وبشعور وفكر وإدراك تفوق سائر المخلوقات.

    ورغم ضلال الماديين بإنكارهم الروح عندما قالوا: (( إن الروح ليست موجودة في الحقيقة، وإنما عبارة عن مجرد مفهوم )) إلاّ انهم لم ينجوا من إقرارهم بوجودها بقولهم ((ولكن الروح ماهية لا ندركها نحن.)). وفي الحقيقة إن في إنكارهم للروح تصديق لها. لأن المصدِّق والمنكر لوجودها هو الروح نفسها. إلاّ ان الإنكار يدل على جهلها والتصديق يدل على علمها. لأن الإنكار والتصديق كل منها عبارة عن فعل والفعل يحتاج إلى الفاعل. والفاعل هنا ليس سـوى الروح المعبر عنها بـ (( أنا)) في الجمل ((أنا اصدّق ذلك)) أو ((أنا أنكر ذلك)).

    ولا يمكن لأي منصف أن يكون غافلا عن هذه الحقيقة التي هي أساس الجسم. لأن حقيقة الروح تُعكس من مرآة الوجدان. أي أن الإنسان المنصف يعلم وجداناً بوجود ماهية تقوم بإدارة وسوق هذا الجسم. وان تصديق الوجدان لشيء ما هو حُكمٌ علمي ولا يمكن إنكاره لأن إنكار هذه الحقيقة يولد مشاكل يصعب حلها وبذلك لا يمكن حل سر الخلق ولا يمكن التوصل إلى إدراك غاية الإنسان والكون.

    نعم كما أن ماهية الروح عالية إلى درجة بحيث لا يمكن لإدراك الإنسان استيعابها. كذلك فان وجودها لاشك فيه ولا شبهة. وان إنكار سلطان الروح الذي يحكم جسد الإنسان وإعطاء خصائصها للمادة الصماء العمياء الجامدة التي لا حياة لها، يسوق البشرية إلى وحشة قاتمة.

     لنوضح ذلك بحكاية تمثيلية:

رجلان شاهدا سفينة تتحرك، ولم يكونا قد رأيا سفينة من قبل فسأل أحدهما الآخر:

  • مَن الذي يدير هذا الجسم؟. أجابه الثاني:
  • لا أحد ؛ انه يدير نفسه بنفسه فلو كان له مدبراً غيره لرأيناه بأعيننا.

وكان الأول عاقلاً ذا بصيرة، فقال لصاحبه:

  • يا صديقي انك على خطأ. لابد أن لهذا المركب البحري من مدبر. ولا يمكننا إنكار وجوده لعدم رؤيتنا له لأنه لا يمكن الحكم بنفي شيء لعدم رؤيتنا لذلك الشيء. انظر أننا لم نكن نرى هذا المركب قبل قليل. ولكنه كان موجوداً فلو أنكرنا ذلك لكان خطأ. وينبغي لك أن تقر بأن هذا الجسم يتحرك ويدار بعلم وإرادة وحكمة. لذا فان أحداً ما يأمر بحركته ويعين اتجاهه ويوقفه أينما شاء. الحاصل انه لابد لهذا المركب من قائد. 

وأبدى الثاني برأي آخر:

  • ألا تستطيع أجزاء هذا المركب أن تدير نفسها دون وجود قائد له؟.
  • لا يمكن ذلك لأن تلك الأجزاء لا تمتلك عقلاً ولا فكراً ولا علماً. وأنها عاجزة عن معرفة نفسها ووظائفها ناهيك عن إدارة المركب.

    ولكن الرجل الثاني عاندا وأصر قائلاً :

  • ربما ان وقود المركب هو الذي يسيره.

فأجابه صاحبه:

  • وهذا لا يمكن أيضاً. لأن الوقود الذي تقول عنه هو كأجزاء المركب لا يمتلك عقلاً ولا شعوراً ولا علماً فكيف يقوم بأعمال ذات علم وشعور.
  • إذن ففي هذه الحالة فان الجسم يدبّر نفسه بنفسه.
  • لقد أخطأت لأن هذا الجسم يتكون من الأجزاء التي ذكرناها آنفاً. بناء عليه فان هذا الجسم كأجزائه لا يمتلك عقلاً ولا شعوراً فهو أعمى واصم وجاهل. لا يعرف نفسه ولا يعرف البحر. وان قيل بأن هذا الجسم يدير نفسه ويعين اتجاهه بنفسه فهي خرافة بعيدة عن العقل كمَن يقول ان القلم يكتب بنفسه.

    فبهت الرجل الثاني أمام هذا البرهان دون أن ينطق بشيء.

     ان المركب المذكور في المثال هو جسد الإنسان وأما القائد فهو الروح. أما القصد من أجزاء المركب فهو أعضاء الجسم. والوقود هي الدم والسوائل والطاقة الموجودة في جسم الإنسان، وأما الرجلان فالأول هو المؤمن الذي يصدق بوجود الروح والثاني هو الإنسان المادي الذي ينكر وجود الروح . (*)

 

_________________________________

(1) (الشعاعات / الشعاع الرابع ص76-77)   
(*) ما هي الروح ؟ تأليف الأستاذ محمد قرقنجي - ترجمة سامي سليمان عارف

 

قرئت 342 مرات
لإضافة تعليق يرجى تسجيل الدخول أو إنشاء قيد جديد