على عتبة سعيد الجديد

 

على عتبة سعيد الجديد :

 كنت في استانبول شهر رمضان المبارك، وكان آنئذٍ سعيد القديم -الذي انشغل بالفلسفة- على وشك ان ينقلب إلى سعيد الجديد.. في هذه الفترة بالذات وحينما كنت أتأمل في المسالك الثلاثة المشارة إليها في ختام سورة الفاتحة بـ﴿صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين﴾ رأيت تلك الحادثة الخيالية وهي حادثة أشبه ما تكون بالرؤيا. سجلتها في حينها في كتابي اللوامع(1) على صورة سياحة خيالية وبما يشبه النظم. وقد حان الآن وقت ذكر معناها وشرحها، حيث انها تسلط الأضواء على الحقيقة المذكورة.

كنت أرى نفسي وسط صحراء شاسعة عظيمة، وقد تلبدت السماء بسحب قاتمة مظلمة، الأنفاس تكاد تختنق على الأرض كافة. فلا نسيمولا ضياء ولا ماء. كل ذلك مفقود.

توهمت أن الأرض ملأى بالوحوش والضواري والحيوانات الضارة. فخطر على قلبي ان في الجهة الأخرى من الأرض يوجد نسيم عليل وماء عذب وضياء جميل، فلا مناص اذاً من العبور إلى هناك.. ثم وجدتني وأنا اُساق إلى هناك دون إرادتي.. دخلت كهفاً تحت الأرض، أشبه ما يكون بأنفاق الجبال، سرتُ في جوف الأرض خطوة خطوة وأنا أشاهد أن كثيرين قد سبقوني في المضي من هذا الطريق تحت الأرض، دون أن يكملوا السير إذ ظلوا في أماكنهم مختنقين، فكنت أرى آثار أقدامهم، وأسمع - حيناً - أصوات عددٍ منهم .. ثم تنقطع الأصوات.

فيا صديقي الذي يرافقني بخياله في سياحتي الخيالية هذه!

ان تلك الأرض هي (الطبيعة) و(الفلسفة الطبيعية). أما النفق فهو المسلك الذي شقه أهل الفلسفة بأفكارهم لبلوغ الحقيقة. أما آثار الأقدام التي رأيتها فهي لمشاهير الفلاسفة كأفلاطون وارسطو(2). وما سمعته من أصوات هو أصوات الدهاة كابن سينا و الفارابي.. نعم كنت أجد اقوالاً لإبن سينا وقوانين له في عدد من الأماكن، ولكن كانت الاصوات تنقطع كلياً، بمعنى انه لم يستطع ان يتقدم، أي انه اختنق..

وعلى كل حال فقد بينت لك بعض الحقائق الكامنة تحت الخيال لأخفف عنك تلهفك وتشوقك.. والآن أعود إلى ذكر سياحتي:

استمر بي السير، واذا بشيئين يجعلان بيدي.

الأول: مصباح كهربائي، يبدد ظلمات كثيفة للطبيعة تحت الأرض.

والآخر: آلة عظيمة، تفتت صخوراً ضخمة هائلة أمثال الجبال فينفتح لي الطريق.

وهُمِس في أذني آنذاك: ان هذا المصباح والآلة، قد منحتا لك منخزينة القرآن الكريم.. وهكذا فقد سرت مدة على هذا المنوال، حتى رأيت نفسي قد وصلت إلى الجهة الأخرى، فإذا الشمس مشرقة في سماء صافية جميلة لا سحاب فيها، واليوم يوم ربيع بهيج، والنسيم يهب كأن فيه الروح، والماء السلسبيل العذب يجري. فقد رأيت عالَماً عمّته البهجة ودبّ الفرح في كل مكان، فحمدتُ الله.

ثم نظرت إلى نفسي، فرأيت اني لا املكها ولا أستطيع السيطرة عليها، بل ان احداً يختبرني، وعلى حين غرة رأيت نفسي مرة أخرى في تلك الصحراء الشاسعة، وقد أطبقت السحب القاتمة ايضاً فأظلمت السماء، والأنفاس تكاد تختنق من الضيق.. واحسست سائقاً يسوقني إلى طريق آخر، إذ رأيت أني أسير في هذه المرة على الأرض وليس في جوفها في طريقي إلى الجهة الأخرى.. فرأيت في سيرى هذا اموراً عجيبة ومشاهد غريبة تكاد لا توصف؛ فالبحر غاضب عليّ، والعاصفة تهددني وكل شئ يلقى أمامي العوائق والمصاعب. إلاّ ان تلك المشاكل تُذلّل بفضل ما وُهب لي من القرآن الكريم من وسيلة سياحية. فكنت أتغلب عليها بتلك الوسيلة.. وبدأت اقطع السير خطوة خطوة، شاهدت أشلاء السائحين وجنائزهم ملقاة على طرفي الطريق، هنا وهناك فلم يُنهِ إلاّ واحدٌ من ألف هذه السياحة..

وعلى كل حال فقد نجوت من ظلمات تلك السحب الخانقة، ووصلت إلى الجهة الأخرى من الأرض، وقابلت الشمس الحقيقية الجميلة، وتنفستُ النسيم العليل، وبدأت أجول في ذلك العالم البهيج كالجنة، وأنا اردد: الحمد لله.

ثم رأيت أنني لن اُترَك هنا، فهناك مَن كأنه يريد أن يريني طريقاً آخر، فأرجعَني في الحال إلى ما كنت عليه.. تلك الصحراء الشاسعة.. فنظرت فإذا بأشياء نازلة من الأعلى كنزول المصاعد (الكهربائية) بأشكال متباينة وأنماط مختلفة بعضها يشبه الطائرات وبعضها شبيه بالسيارات، وأخرى كالسلال المتدلية.. وهكذا. فايّما إنسان يمكن أن يتعلق بأحد تلك الأشياء، حسب قابليته وقوته، فانه يُعرج به إلى الأعلى.. فركبت إحداها، واذا أنا في دقيقة واحدة فوق السحب وعلى جبال جميلة مخضوضرة، بل لا تبلغ السحب منتصف تلك الجبال الشاهقة.. وتُشاهد

في كل مكان اجمل ضياء، وأعذب ماء وألطف نسيم.. وحينما سرحت نظري إلى الجهات كلها رأيت أن تلك المنازل النورانية - الشبيهة بالمصاعد - منتشرة في كل مكان. ولقد كنت شاهدت مثلها في الجهة الأخرى من الأرض في تلكما السياحتين السابقتين.. ولكن لم افهم منها شيئاً، بيد اني الآن افهم أن هذه المنازل إنما هي تجليات لآيات القرآن الحكيم.

وهكذا فالطريق الأول: هو طريق الضالين المشار إليه بـ﴿الضالين﴾ وهو مسلك الذين زلّوا إلى مفهوم (الطبيعة) وتبنّوا أفكار الطبيعيين.. وقد شعرتم مدى صعوبة الوصول إلى الحقيقة من خلال هذا السير الملئ بالمشكلات والعوائق.

والطريق الثاني: المشار إليه بـ﴿المغضوب عليهم﴾ فهو مسلك عَبَدة الأسباب والذين يحيلون الخلق والإيجاد إلى الوسائط، ويسندون إليها التأثير، ويريدون بلوغ حقيقة الحقائق، ومعرفة الله جل جلاله عن طريق العقل والفكر وحده، كالحكماء المشائين.

أما الطريق الثالث: المشار إليه بـ﴿الذين أنعمت عليهم﴾ فهو الصراط المستقيم والجادة النورانية لأهل القرآن، وهو أقصر الطرق وأسلمه أيسره، ومفتوح أمام الناس كافة ليسلكوه، وهو مسلك سماوي رحماني نوراني.(3)(*)

___________________

(1) المنشور ملحقاً بمجموعة "الكلمات"

(2) وإن قلت: فما تكون انت حتى تنازل هؤلاء المشاهير؟ فهل اصبحت نظير ذبابة حتى تتدخل في طيران الصقور؟ وانا اقول: لما كان لي أستاذ أزلي وهو القرآن العظيم، فلا أراني مضطراً أن أبالي -ولو بقدر جناح ذبابة- في طريق الحقيقة والمعرفة، باولئك الصقور الذين هم تلاميذ الفلسفة الملوثة بالضلالة والعقل المبتلى بالاوهام. فمهما كنت أدنى منهم درجة إلا ان استاذهم ادنى بدرجات لاحد لها من استاذي، فبفضل استاذي وهمته لم تستطع المادة التي اغرقتهم ان تبلل قدمي. نعم! ان الجندي البسيط الحامل لأوامر سلطان عظيم وقوانينه، يمكنه ان ينجز من الاعمال مالا ينجزه مشير لدى ملك صغير.(المؤلف).

(3) الكلمات/ 647-650

(*) كليات رسائل النور – سيرة ذاتية ص (163)

قرئت 6 مرات
لإضافة تعليق يرجى تسجيل الدخول أو إنشاء قيد جديد