في منفى بارلا سلوان من القرآن بوفاة عبد الرحمن
في منفى بارلا
سلوان من القرآن بوفاة عبد الرحمن
بينما كنت وحيداً بلا معين في (بارلا) تلك الناحية التابعة لمحافظة (اسپارطة) أعاني الأسر المعذّب المسمى بالنفي، ممنوعاً من الإختلاط بالناس، بل حتى من المراسلة مع أي كان، فوق ما كنت فيه من المرض والشيخوخة والغربة.. فبينما كنت أضطرب من هذه الحالة وأقاسي الحزن المرير إذا بنور مسلٍّ يشعّ من الأسرار اللطيفة للقرآن الكريم ومن نكاته الدقيقة، يتفضل الحق سبحانه به علىَّ برحمته الكاملة الواسعة، فكنت أعمل جاهداً بذلك النور لتناسي ما أنا فيه من الحالة المؤلمة المحزنة، حتى استطعت نسيان بلدتي وأحبتي واقاربي.. ولكن -يا حسرتاه- لم أتمكن من نسيان واحد منهم أبداً وهو إبن أخي، بل إبني المعنوي، وتلميذي المخلص وصديقي الشجاع (عبدالرحمن) تغمده الله برحمته الذي فارقني قبل حوالي سبع سنوات(1)، ولا أعلم حاله كي أراسله وأتحدث معه ونتشارك في الآلام، ولا هو يعلم مكاني كي يسعى لخدمتيوتسليتي، نعم لقد كنت في أمسّ الحاجة -ولاسيّما في الشيخوخة هذه- إلى من هو مثل (عبدالرحمن).. ذلك الفدائي الصادق.. وذات يوم وفجأة سلمني أحدهم رسالة، ما إن فتحتها حتى تبيّن لي انها رسالة تظهر شخصية (عبدالرحمن) تماماً وقد أدرج قسم من تلك الرسالة ضمن فقرات المكتوب السابع والعشرين بما يظهر ثلاث كرامات واضحة.
لقد أبكتني تلك الرسالة كثيراً ولا تزال تبكيني، حيث يبيّن فيها (عبدالرحمن) بكل صدق وجدّ أنه قد عزف عزوفاً تاماً عن الأذواق الدنيوية وعن لذائذها، وأن أقصى ما يتمناه هو الوصول إلى ليقوم برعايتي في شيخوختي هذه مثلما كنت أرعاه في صغره، وان يساعدني بقلمه السيّال في وظيفتي ومهمّتي الحقيقية في الدنيا، وهي نشر أسرار القرآن الكريم، حتى أنه كان يقول في رسالته: إبعث إلى ما يقرب من ثلاثين رسالة كي أكتب وأستكتب من كل منها ثلاثين نسخة.
لقد شدتني هذه الرسالة إلى الدنيا بأمل قوي شديد، فقلت في نفسي: ها قد وجدت تلميذي المخلص الشجاع، ذا الذكاء الخارق، وذا الوفاء الخالص، والارتباط الوثيق الذي يفوق وفاء الابن الحقيقي وارتباطه بوالده. فسوف يقوم -بإذن الله- برعايتي وخدمتي، بل حتى أنني بهذا الأمل نسيت ما كنت فيه من الأسر المؤلم ومن عدم وجود معين لي، بل نسيت حتى الغربة والشيخوخة! وكأن عبدالرحمن قد كتب تلك الرسالة بإيمان في منتهى القوة وفي غاية اللمعان وهو ينتظر أجله، إذ استطاع ان يحصل على نسخة مطبوعة من الكلمة العاشرة التي كنت قد طبعتها وهي تبحث عن الإيمان بالآخرة. فكانت تلك الرسالة بلسماً شافياً له حيث ضمّدت جميع جراحاته المعنوية التي عاناها عبر سبع سنوات خلت.
وبعد مضي حوالي شهرين وأنا أعيش في ذلك الأمل لنعيش معاً حياة دنيوية سعيدة.. إذا بي أفاجأ بنبأ وفاته، فيا اسفاه.. ويا حسرتاه.. لقد هزّني هذا الخبر هزاً عنيفاً، حتى أنني لا أزال تحت تأثيره منذ خمس سنوات، وأورثني حزناً شديداً وألماً عميقاً للفراق المؤلم يفوق ما كنت أعانيه من ألم الأسر المعذّب وألم الإنفراد والغربة الموحشة وألم الشيخوخة والمرض.
كنت اقول: ان نصف دنياي الخاصة قد إنهدَّ بوفاة أمي، بيد اني رأيت ان النصف الآخر قد توفي ايضاً بوفاة عبد الرحمن، فلم تبق لي إذن علاقة مع الدنيا.. نعم لو كان عبدالرحمن يظل معي في الدنيا لأصبح محوراً تدور حوله وظيفتي الأخروية في الدنيا ولغدا خير خلف لي، ولحلّ مكاني من بعدي، ولكان صديقاً وفياً بل مدار سلوان لي وأنس، ولباتأذكى تلميذ لـ(رسائل النور)، والأمين المخلص المحافظ عليها.. فضياع مثل هذا الضياع -باعتبار الإنسانية- لهو ضياع محرق مؤلم لأمثالي. ورغم أنني كنت ابذل الوسع لأتصبّر وأتحمل ما كنت أعانيه من الآلام الاّ أنه كانت هناك عاصفة قوية جداً تعصف بأقطار روحي، فلولا ذلك السلوان النابع من نور القرآن الكريم يفيض علىّ احياناً لما كان لمثلي ان يتحمل ويثبت.
كنت أذهب واسرح في وديان (بارلا) وأجول في جبالها وحيداً منفرداً واجلس في أماكن خالية منعزلة، حاملاً تلك الهموم والآلام المحزنة، فكانت تمر من أمامي لوحات الحياة السعيدة ومناظرها اللطيفة التي كنت قد قضيتها مع طلابي –أمثال عبدالرحمن- كالفلم السينمائي. فكلما مرّت تلك اللوحات أمام خيالي، سلبت من شدة مقاومتي وفتّت في عضدي، سرعة التأثر النابعة من الشيخوخة والغربة.
ولكن على حين غرّة انكشف سرّ الآية الكريمة ﴿كلُ شئٍ هالكٌ إلاّ وجههُ لهُ الحُكمُ واليه تُرجعون﴾(القصص:88). انكشافاً بيّناً بحيث جعلني أردّد: ياباقي أنت الباقي، ياباقي أنت الباقي.. وبه أخذت السلوان الحقيقي.
اجل!. رأيت نفسي بسرّ هذه الآية الكريمة، وعبر تلك الوديان الخالية، ومع تلك الحالة المؤلمة، رأيتها على رأس ثلاث جنائز كبرى كما أشرت إليها في رسالة (مرقاة السنّة):
الأولى: رأيت نفسي كشاهد قبر يضم خمسةً وخمسين سعيداً ماتوا ودفنوا في حياتي، وضمن عمري الذي يناهز الخامسة والخمسين سنة.
الثانية: رأيت نفسي كالكائن الحي الصغير جداً - كالنملة - يدب على وجه هذا العصر الذي هو بمثابة شاهد قبر للجنازة العظمى لمن هم بنو جنسي ونوعي، والذين دفنوا في قبر الماضي منذ زمن آدم عليه السلام.
أما الثالثة: فقد تجسّمت أمام خيالي - بسرّ هذه الآية الكريمة - موت هذه الدنيا الضخمة، مثلما تموت دنيا سيارة من على وجه الدنيا كل سنة كما يموت الإنسان.. وهكذا فقد أغاثني المعنى الإشاري للآية الكريمة ﴿فإنْ تَوَلوا فَقُل حَسبيَ الله لا إلهَ إلاّ هو عليهِ توكلتُ وهو ربُّ العرش العظيم﴾(التوبة:129) وأمدني بنور لا يخبو، فبدد ما كنت أعانيه من الحزن النابع من وفاة عبد الرحمن واهباً لي التسريَ والتسلي الحقيقي.
نعم لقد علمتني هذه الآية الكريمة أنه مادام الله سبحانه وتعالى موجوداً فهو البديل عن كل شئ، وما دام باقياً فهو كافٍ عبده، حيث أن تجلياً واحداً من تجليات عنايته سبحانه يعدل العالم كله، وان تجلياً منتجليات نوره العميم يمنح تلك الجنائز الثلاث حياة معنوية أيما حياة، بحيث تظهر انها ليست جنائز، بل ممن أنهوا مهامهم ووظائفهم على هذه الأرض فارتحلوا إلى عالم آخر.
ولما كنا قد أوضحنا هذا السرّ والحكمة في (اللمعة الثالثة) أراني هنا في غير حاجة إلى مزيدٍ من التوضيح، الاّ أنني اقول:
ان الذي نجّاني من تلك الحالة المحزنة المؤلمة، تكراري لـ(ياباقي أنت الباقي.. ياباقي أنت الباقي) مرتين والذي هو معنى الآية الكريمة﴿كُلُّ شئٍ هالكٌ إلاّ وجهه﴾ وتوضيح ذلك:
إنني عندما قلت: (ياباقي أنت الباقي) للمرة الأولى، بدأ التداوي والضماد بما يشبه العمليات الجراحية على تلك الجروح المعنوية غير المحدودة الناشئة من زوال الدنيا وزوال مَنْ فيها من الأحبّة -من أمثال عبدالرحمن- والمتولدة من انفراط عقد الروابط التي ارتبط بها معهم.
أما في المرة الثانية فقد أصبحت جملة (ياباقي أنت الباقي) مرهماً لجميع تلك الجروح المعنوية، بلسماً شافياً لها، وذلك بالتأمل في المعنى الآتي:
ليرحل مَن يرحل يا إلهي فأنت الباقي وأنت الكافي، وما دمتَ باقياً فَلَتجلٍّ من تجليات رحمتك كافٍ لكل شئ يزول، وما دمتَ موجوداً فكل شئ اذاً موجود لمن يدرك معنى انتسابه إليك بالإيمان بوجودك ويتحرك على وفق ذلك الانتساب بسر الإسلام، فليس الفناء والزوال ولا الموت والعدم الاّ ستائر للتجديد، وإلاّ وسيلة للتجول في منازل مختلفة والسير فيها.. فانقلبتْ بهذا التفكير تلك الحالة الروحية المحرقة الحزينة، وتلك الحالة المظلمة المرعبة إلى حالة مسرّة بهيجة ولذيذة، وإلى حالة منورة محبوبة مؤنسة. فاصبح لساني وقلبي بل كل ذرّة من ذرات جسمي، يردد بلسان الحال قائلاً: الحمد لله.(2)(*)
___________________________
(1) وذلك في سنة 1922
(2) اللمعات/373
(*) كليات رسائل النور – سيرة ذاتية ص:225