التوجه إلى (وان)

 

1923م (1340 هـ)

التوجه إلى (وان):(1)

توجهت إلى مدينة (وان). وهناك قبل كل شئ ذهبت إلى زيارة مدرستي المسماة بـخورخور فرأيت أن الأرمن قد أحرقوها مثلما احرقوا بقية البيوت الموجودة في (وان) أثناء الاحتلال الروسي.. صعدت إلى القلعة المشهورة في (وان) وهي كتلة من صخرة صلدة تضم تحتها مدرستي الملاصقة بها تماماً، وكانت تمرّ من أمامي أشباح أولئك الأصدقاء الحقيقيين والاخوة المؤنسين من طلابي في مدرستي الذين فارقتهم قبل حوالي سبع سنوات خلت، فعلى إثر هذه الكارثة اصبح قسم من أولئك الأصدقاء الفدائيين شهداء حقيقيين وآخرون شهداء معنويين، فلم أتمالك نفسي من البكاء والنحيب.. صعدت إلى قمة القلعة وارتقيتها وهي بعلو المنارتين ومدرستي تحتها، وجلست عليها أتأمل، فذهب بي الخيال إلى ما يقرب من ثماني سنوات خلَتْ وجال بي في ذلك الزمان، لما للخيال من قوة ولعدم وجود ما يحول بيني وبين ذلك الخيال ويصرفني عن ذلك الزمان، إذ كنت وحيداً منفرداً.

شاهدت تحولاً هائلاً جداً قد جرى خلال ثماني سنوات حتى أنني كلّما كنت افتح عيني أرى كأن عصراً قد ولّى ومضى بأحداثه. رأيت ان مركز المدينة المحيطة بمدرستي -الذي هو بجانب القلعة- قد أحرق من أقصاه إلى أقصاه ودمّر تدميراً كاملاً. فنظرت إلى هذا المنظر نظرة حزن وأسى.. إذ كنت أشعر الفرق الهائل بين ما كنت فيه وبين ما أراه الآن، وكأن مائتي سنة قد مرّت على هذه المدينة.. كان أغلب الذين يعمّرون هذه البيوت المهدّمة أصدقائي، وأحبّة أعزّاء عليّ.. فلقد توفّى قسم منهم بالهجرة من المدينة وذاقوا مضاضتها، تغمدهم الله جميعاً برحمته. حيث دُمّرت بيوت المسلمين في المدينة كليّاً ولم تبق الاّ محلة الأرمن، فتألمت من الأعماق، وحزنت حزناً شديداً ما لو كان لي ألف عين لكانت تسكب الدموع مدراراً.

كنت أظن أنني قد نجوت من الاغتراب حيث رجعت إلى مدينتي، ولكن -ويا للأسف- لقد رأيت أفجع غربة في مدينتي نفسها؛ إذ رأيت مئات من طلابي وأحبتي الذين ارتبط بهم روحياً -كعبد الرحمن المار ذكره ...- رأيتهم قد أهيل عليهم التراب والأنقاض، ورأيت أن منازلهم أصبحت أثراً بعد عين، وأمام هذه اللوحة الحزينة تجسّد معنى هذه الفقرة لأحدهم والتي كانت في ذاكرتي منذ زمن بعيد إلاّ أنني لم اكن افهم معناها تماماً:

لولا مفارقةُ الأحباب ما وجَدَتْ لها المنايا إلى أرواحنا سبُلاً(2)

أي أن اكثر ما يقضي على الإنسان ويهلكه إنما هو مفارقة الأحباب.

نعم، انه لم يؤلمني شئ ولم يبكني مثل هذه الحادثة، فلو لم يأتني مددٌ من القرآن الكريم ومن الإيمان لكان ذلك الغم والحزن والهمّ يؤثر فيّ إلى درجة تكفي لسلب الروح منيّ. لقد كان الشعراء منذ القديم يبكون على منازل أحبتهم عند مرورهم على أطلالها فرأيت بعيني لوحة الفراق الحزينة هذه.. فبكت روحي وقلبي مع عيني بحزن شديد كمن يمّر بعد مائتي سنة على ديار أحبّته وأطلالها..

عند ذلك مرّت الصفحات اللطيفة اللذيذة لحياتي أمام عيني وخيالي واحدة تلو الأخرى بكل حيوية، كمرور مشاهد الفلم السينمائي.. تلك الحياة السارة التي قضيتها في تدريس طلابي النجباء بما يقرب من عشرين سنة، وفي هذه الأماكن نفسها، التي كانت عامرة بهيجة وذات نشوة وسرور، فأصبحت الآن خرائب وأطلالاً. قضيت فترة طويلة أمام هذه اللوحات من حياتي، وعندها بدأت أستغرب من حال أهل الدنيا، كيف أنهم يخدعون أنفسهم، فالوضع هذا يبيّن بداهة ان الدنيا لا محالة فانية، وان الإنسان فيها ليس الاّ عابر سبيل، وضيف راحل. وشاهدت بعينيّ مدى صدق ما يقوله أهل الحقيقة:

 (لا تنخدعوا بالدنيا فإنها غدّارة.. مكّارة.. فانية..).

ورأيت كذلك أن الإنسان ذو علاقة مع مدينته وبلدته بل مع دنياه مثلما له علاقة مع جسمه وبيته، فبينما كنت أريد أن ابكي بعينيّ لشيخوختي -باعتبار وجودي- كنت أريد أن أجهش بالبكاء بعشرة عيون لا لمجرد شيخوخة مدرستي، بل لوفاتها، بل كنت أشعر أنني بحاجة إلى البكاء بمائة عين على مدينتي الحلوة الشبيهة بالميتة.

لقد ورد في الحديث الشريف من أن مَلَكاً ينادي كل صباح: (لِدوا للموت وابنوا للخراب)(3) كنت اسمع هذه الحقيقة، اسمعها بعينيّ لا بأذني، ومثلما أبكاني وضعي في ذلك الوقت، فان خيالي منذ عشرين سنة يذرف الدموع ايضاً كلّما مرّ على ذلك الحال. نعم ان دمار تلك البيوت في قمة القلعة التي عمّرت آلاف السنين، واكتهال المدينة التي تحتها خلال ثماني سنوات، حتى كأنه قد مرّت عليها ثمانمائة سنة، ووفاة مدرستي -اسفل القلعة- التي كانت تنبض بالحياة والتي كانت مجمع الأحباب.. تشير إلى وفاة جميع المدارس الدينية في الدولة العثمانية. وتبين العظمة المعنوية لجنازتها الكبرى، حتى كأن القلعة التي هي صخرة صلدة واحدة، قد أصبحت شاهدة قبرها. ورأيت ان طلابي -رحمهم الله جميعاً- الذين كانوا معي في تلك المدرسة -قبل ثماني سنوات- وهم راقدون في قبورهم، رأيتهم كأنهم يبكون معي، بل تشاركني البكاء والحزن حتى بيوت المدينة المدَمَّرة، بل حتى جدرانها المنهدّة وأحجارها المبعثرة.

نعم إنني رأيت كُل شئ وكأنه يبكي، وعندئذٍ علمت أنني لا أستطيع أن اتحمّل هذه الغربة في مدينتي، ففكرت إما أن أذهب إليهم في قبورهم او عليّ أن انسحب إلى مغارة في الجبل منتظراً اجلي، وقلت مادام في الدنيامثل هذه الفراقات والافتراقات التي لا يمكن أن يُصبر عليها، ولا يمكن أن تقاوم، وهي مؤلمة ومحرقة إلى هذه الدرجة، فلا شك أن الموت افضل من هذه الحياة، ويرجح على مثل هذه الأوضاع التي لا تطاق.. لذا ولّيت وجهي سارحاً بنظري إلى الجهات الست.. فما رأيت فيها الاّ الظلام الدامس، فالغفلة الناشئة من ذلك التألم الشديد والتأثر العميق أرتنى الدنيا مخيفة مرعبة، وأنها خالية جرداء وكأنها ستنقض على رأسي. كانت روحي تبحث عن نقطة استناد وركن شديد أمام البلايا والمصائب غير المحدودة التي اتخذت صورة أعداء ألدّاء. وكانت تبحث ايضاً عن نقطة استمداد أمام رغباتها الكامنة غير المحدودة والتي تمتد إلى الأبد. فبينما كانت روحي تبحث عن نقطة استناد، وتفتش عن نقطة استمداد وتنتظر السلوان والتسرّي من الهموم والأحزان المتولدة من الفراقات والإفتراقات غير المحدودة والتخريبات والوفيات الهائلة، إذا بحقيقة آية واحدة من القرآن الكريم المعجز وهي: ﴿سبَّح لله ما في السموات والأرض وهو العزيزُ الحكيم لهُ مُلك السموات والأرض يحيي ويُميت وهو على كلِّ شئٍ قديرٌ﴾(الحديد:1- 2) تتجلى أمامي بوضوح وتنقذني من ذلك الخيال الأليم المرعب، وتنجيني من ألم الفراق والافتراق، فاتحةً عيني وبصيرتي. فالتفتُ إلى الأثمار المعلقة على الأشجار المثمرة وهي تنظر إلى مبتسمة ابتسامة حلوة وتقول لي: (لا تحصرنَّ نظرك في الخرائب وحدها.. فهلاّ نظرت إلينا، وانعمت النظر فينا..).

نعم ان حقيقة هذه الآية الكريمة تنبّه بقوة مذكّرةً وتقول: لِمَ يُحزنك إلى هذا الحدّ سقوط رسالة عامرة شيّدت بيد الإنسان الضيف على صحيفة مفازة وان، حتى اتخذت صورة مدينة مأهولة؟ فلِمَ تحزن على سقوطها في السيل الجارف المخيف المسمّى بالاحتلال الروسي الذي محا آثارها واذهب كتابتها؟ إرفع بصرك إلى الباري المصوّر وهو ربّ كل شئ ومالكه الحقيقي، فناصيته بيده، وان كتاباته سبحانه على صحيفة (وان) تُكتب مجدداً باستمرار بكمال التوهج والبهجة وان ما شاهدته من أوضاع في الغابر والبكاء والنحيب على خلو تلك الأماكن وعلى دمارها وبقائها مقفرة إنما هو من الغفلة عن مالكها الحقيقي، ومن توهم الإنسان -خطأً- انه هو المالك لها، ومن عدم تصوره انه عابر سبيل وضيف ليس الاّ..

فانفتح من ذلك الوضع المحرق، ومن ذلك الخطأ في التصور بابٌ لحقيقة عظيمة، وتهيأت النفسُ لتقبلها - كالحديد الذي يدخل في النار ليلين ويعطى له شكل معين نافع - إذ أصبحت تلك الحالة المحزنة وذلك الوضع المؤلم، ناراً متأججة ألانت النفس. فأظهر القرآن الكريم لها فيض الحقائق الإيمانية بجلاء ووضوح تام من خلال حقيقة تلك الآية المذكورة حتى جعلها تقبل وترضخ.(4) (*)

 

___________________________________

(1) وذلك في مايس سنة 1923م

(2) لأبي طيب المتنبي.

(3) البيهقي في الشعب من حديث عن ابي هريرة والترمذي مرفوعاً، ابو نعيم في الحلية عن ابي ذر مرفوعاً، واحمد في الزهد عن عبدالواحد قال: قال عيسى عليه السلام، فذكره (الدرر المنتثرة) وانظر كشف الخفاء (2041).

(4) اللمعات/ 379

(*) كليات رسائل النور – سيرة ذاتية ص (199)

 

 

قرئت 3 مرات
لإضافة تعليق يرجى تسجيل الدخول أو إنشاء قيد جديد