الرسالة الرابعة

قطرة

من بحر التوحيد

 

 

 

مفتاح حل هذه الرسالة المستفادة من فيض القرآن

إنما يحصلُ بعد مطالعتها بتمامها مرةً بدقة. ([1])

 

إفادة المرام

 

اقرأ بدقة تَقَرَّ عينُك بإذن اللّٰه

اعلم

يا أيها الناظرون!. إنى قد ساقني القدر الإلهي إلى طريق عجيب، صادفتُ في سيري فيه مهالك ومصائب وأعداء هائلةً. فاضطربتُ، فالتجأت بعجزي إلى ربي.. فأخذت العنايةُ الأزلية بيدي، وعلّمني القرآنُ رشدي، وأغاثتني الرحمة فخلصتني من تلك المهالك. فبحمد اللّٰه صرتُ مظفراً في تلك المحاربات مع النفس والشيطان اللذين صارا وكيلين فضوليين لأنواع أهل الضلالات..

فأولاً: ابتدأَت المشاجرةُ بيننا في هذه الكلمات المباركة وهي:

سبحان اللّٰه، والحمد للّٰه، ولا إله إلاّ اللّٰه، واللّٰه أكبر، ولا حول ولا قوة إلا باللّٰه.. فوقع تحت كلٍ من هذه الحصون الحصينة ثلاثون حرباً. فكلُّ جملة، بل كل قيد في هذه الرسالة نتيجة مُظفَّريةٍ لحرب لم يبقَ للعدوّ في شيء منها مطمَعٌ وأدنى ممسكٍ.. فما كتبتُ إلاّ ما شاهدتُ.. بحيث لم يبق لنقيضه عندي إمكانٌ وهمي. فأُشيرُ بعضاً إلى حقيقة طويلة مع دليلها بقيدٍ أو صفة اندمج دليلُ الحُكم فيهما، يُعرف بالدقة. وما صرّحتُ ليُحسَّ بالمرام من احتاج ولا يشتغلَ مَن لم يحتج فيحتاج..

أظن أن جريان هذا الزمان يلقي العقولَ والقلوبَ في المهالك التي أمَرَّني القدرُ عليها. فهذا الأثرُ يمكن أن يكون نافعاً بإذنه تعالى لبعض المصابين. ومن اللّٰه التوفيق..

سعيد النورسي

 

بسم اللّٰه الرحمن الرحيم

الحمد للّٰه والصلاة على نبيه

فهذا الأثر: على أربعة أبواب وخاتمة ومقدمة.

المقدمة

اعلم أنى حصّلتُ في أربعين سنة في سفر العمر، وثلاثين سنة في سير العلم: أربع كلمات، وأربع جمل. سيجيء تفصيلها. أشيرُ هنا إلى الإجمال..

أما الكلمة فهي:

المعنى الحرفي، والمعنى الاسمي،([2]) والنية، والنظر.

أعني: أن النظر إلى ما سواه تعالى، لابد أن يكون بالمعنى الحرفي وبحسابه تعالى، وأن النظر إلى الكائنات بالمعنى الاسمي أي بحساب الأسباب خطأٌ. ففي كل شيء وجهان: وجهٌ إلى الحق، ووجه إلى الكون. فالتوجه إلى الوجه الكوني لابد أن يكون حرفياً وعنواناً للمعنى الاسمي الذي هو جهةُ نسبتِه إليه تعالى؛ مثلا: لابد أن يُرى النعمةُ مرآةً للإنعام، والوسائطُ والأسباب مرايا لتصرف القدرة..

وكذا، إن النظر، والنيّة يغيّران ماهيات الأشياء، فيَقلبان السيئاتِ حسناتٍ. كما يقلب الإكسيرُ الترابَ ذهباً، كذلك تَقْلب النيةُ الحركاتِ العاديةَ عباداتٍ. والنظرُ يقلب علومَ الأكوان معارفَ إلهية.. فإن نُظر بحساب الأسباب والوسائط فجهالات، وإن نُظر بحساب اللّٰه فمعارف إلهية..

وأما الكلام:

فالأول: «إني لست مالكي» وإن مالكي هو مالك الملك ذو الجلال والإكرام... فتَوهَّمْتُني مالكاً،([3]) لأفهم صفات مالكي بالمقايسة. ففهمت بالمتناهي الموهومِ الغيرَ المتناهي. فجاء الصباح وانطفأ المصباح المتخيَّل..

الثاني: «الموت حق» فهذه الحياة وهذا البدن ليسا بقابلين لأن يصيرا عمودَين تُبنى عليهما هذه الدنيا العظيمة؛ إذ ما هما بأبديين ولا من حديد ولا حجر بل من لحم ودم وعظم. ومتخالفات توافقوا في أيام قليلة هم على جناح التفرق في كل آن.. فكيف يُبنى بالآمال قَصْرٌ يسع الدنيا على هذا الأساس الرخو الفاسد والعمود المدَوّد ([4]) الكاسد..

الثالث: «ربي واحد»: كل السعادات لكلِّ واحدٍ هو التسليمُ لرب واحد. وإلاّ لاحتاج إلى الأرباب المتشاكسين من مجموع الكائنات؛ إذ لجامعية الإنسان، له احتياجات إلى كل الأشياء، وعلاقات معها، وتألمات وتأثرات، شعورياً وغير شعوري بكل منها، فهذه حالة جهنميّة. فمعرفة الرب الواحد الذي كل هذه الأرباب الموهومة حجابٌ رقيق على يد قدرته هي حالة فردوسية دنيوية..

الرابع: إن «أنا» نقطة سوداء، وواحد قياسي، التفّ على رأسه خطوط الصنعة الشعورية، تشاهَد فيها أن مالكه أقربُ إليه منه..

سيجيء تفصيل هذه الجمل في خاتمة الباب الأول.

 

الباب الأول

في

لا إله إلاّ اللّٰه

 

بسم اللّٰه الرحمن الرحيم

الحَمدُ للّٰه ربِ العاَلمينَ والصّلاةُ والسّلامُ عَلى سيّد المرسَلين، وعلى آله وصَحبه أجمعين.

أُشهِدُ كلَّ شاهدٍ ومشهود بأنّي أشهَدُ أنْ لا إلهَ إلاّ اللّٰه الذي دلّ على وجوب وجوده، ودلّ على أوصاف كماله، وشهد على أنه واحد أحد فرد صمد:

الشاهدُ الصادق المصدَّق والبرهانُ الناطق المحقَّقُ.. سيدُ الأنبياء والمرسلين.. الحاملُ لسر إجماعهم وتصديقهم.. وإمامُ الأولياء والعلماء المتقين.. الحاوي لسر اتفاقهم وتحقيقهم.. ذو الآيات الباهرة والمعجزات القاطعة المحققة المصدّقة.. والسجايا السامية والأخلاق العالية المكملة المنـزّهة.. مهبط الوحي الرباني.. سيّارُ عالم الغيب والملكوت مُشاهدُ الأرواح ومُصاحبُ الملائكة.. مرشد الجن والإنس.. أنموذج كمال الكائنات بشخصيته المعنوية المشيرة إلى أنه نصبَ عين فاطر الكون.. ذو الشريعة التي هي أنموذج دساتير السعادات، المرمزَة بأنها نظام ناظم الكون سيدنا ومهدينا إلى الإيمان: محمّد بن عبد اللّٰه بن عبدالمطلب عليه أفضل الصلوات وأتم التسليمات.. فإنه يشهد عن الغيب في عالم الشهادة على رؤوس الأشهاد بشيراً ونذيراً ومنادياً لأجيال البشر خلف الأعصار والأقطار بأعلى صوته، وبجميع قوته وكمال جديته، وغاية وثوقه ونهاية اطمئنانه وكمال إيمانه بأنه:

لا إلهَ إلاّ اللّٰه الذي دلَّ على وجوب وجوده، وصرّح بأوصاف جلاله وجماله وكماله، وشهد على وحدانيته:

الفرقانُ الحكيم المتضمن لسرِّ إجماع كلِّ كتبِ الأنبياءِ المختلفةِ الأعصارِ، وكلِّ كتب الأولياء المختلفة المشارب، وكلّ كتب الموحدين المبرهنين المختلفةِ المسالكِ. فقد أجمع الكلُّ -أي العقول والقلوب في هؤلاء- على تصديق حُكم القرآنِ الكريم المنوَّرِ جهاتُه الستُّ: كلام اللّٰه، المحافظ لياقتَه لهذا الاسم على مر الدهور.. محض الوحي بإجماع مهبط الوحي وأهل الكشف والإلهام.. عين الهداية بالبداهة.. معدن الإيمان بالضرورة.. مَجمَع الحقائق باليقين.. موصلٌ إلى السعادة بالعيان.. ذو الثمرات الكاملين بالمشاهدة.. مقبول الملك والإنس والجان بالحدس الصادق المتولدِ من تفاريق الأمارات.. المؤيَّد بالدلائل العقلية باتفاق العقلاء الكاملين.. المصدَّق بشهادة الفطرة السليمة عن الأمراض باطمئنان الوجدان.. المعجزة الأبدية بالمشاهدة.. لسان الغيب يشهد في عالم الشهادة شهادات مكررة جازمة بـ﴿فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ﴾( محمد: 19) الذي دَلَّ على وجوب وجوده ودَلَّ على أوصاف جلاله وجماله وكماله، وشهد على وحدانيته:

العالمُ، أي هذا الكتاب الكبير بجميع أبوابه وفصوله وصُحفه وسطوره وجُمله وحروفه، وهذا الإنسان الكبير بجميع أعضائه وجوارحه وحجيراته وذراته وأوصافه وأحواله. أي هذه الكائنات بجميع أنواع العوالم تقول: لا إله إلاّ اللّٰه.. وبأركان تلك العوالم: لاَ خالِق إلاّ هو.. وبأعضاء تلك الأركان: لا صانع إلاّ هو.. وبأجزاء تلك الأعضاء، لا مدبّر إلاّ هو.. وبجزئيات تلك الأجزاء: لا مُربّيَ إلاّ هو.. وبحجيرات تلك الجزئيات: لا متصرف إلاّ هو.. وبذرات تلك الحجيرات: لا خالِقَ إلاّ هو.. وبأثير تلك الذرات: لا إله إلاّ هو.. فتشهد الكائنات على أنه هو الواجب الوجود الواحد الأحد بجميع أنواعها وأركانها وأعضائها وأجزائها وجزئياتها وحجيراتها وذراتها وأثيرها، إفراداً وتركيباً، متصاعداً بتركيبات منتظمة، رافعاتٍ أعلامَ الشهادة على وجوب وجود الصانع الأزلي.. ومتنازلاً بنقوش غريبة، شاهدات على وجوب وجود النَّقَّاش الأزلي.. والكائناتُ كلُّ واحد من مركباتها وأجزائها تشهد بخمس وخمسين لساناً بأنه واجب الوجود الواحد الأحد..

سيجيء تفصيل تلك الألسنة.

أما إجمالها فهي: تنادي بألسنة إفرادها وتركيباتها المنتظمة.. وفقرها وحاجاتها المقضية.. وأحوالها المنتظمة.. وصورها المكمَّلة العجيبة اللائقة.. ونقوشها المزينة الغريبة الفائقة.. وحِكَمها العالية.. وفوائدها الغالية.. وبتخالفاتها الخارقة المتلاحظة.. وتماثلاتها المنتظمة المتناظرة.. وبألسنة نظامها وموازنتها جزءاً وكلاً.. وبانتظامها واطرادها.. وبإتقان الصنعة الشعورية وكمالها في كل شيء.. وبتجاوب المتخالفات الجامدات بعضٍ لحاجة بعض.. وتساند المتباعدات المتفاوتات.. وبلسان الحكمة العامة.. والعناية التامة.. والرحمة الواسعة.. والرزق العام.. والحياة المنتشرة.. وبلسان الحُسن والتحسين.. والجمال المنعكس الحزين.. والعشق الصادق.. والانجذاب والجذبة.. وظليّة الأكوان.. وبلسان التصرف لمصالح.. والتبديل لفوائد.. والتحويل لحِكَم.. والتغيير لغايات.. والتنظيم لكمالات.. وبألسنة إمكانها وحدوثها.. واحتياجاتها وافتقاراتها.. وفقرها.. وضعفها.. وموتها..وجهلها.. وفنائها.. وتغيرها.. وعباداتها.. وتسبيحاتها.. ودعواتها.. والتجاآتها..

فالكائنات -مركباتها وأجزاؤها- بكل هذه الألسنة شاهدات على وجوب وجود خالقها القديم القدير.. ودالّات على أوصاف كماله -كالدوائر المتداخلة المتحدة المركز- شاهدات على وحدانيته تعالى.. وذاكرات تاليات لأسمائه الحسنى..ومسبّحات بحمده تعالى..ومفسّرات لآيات القرآن الحكيم.. ومصدقات لإخبارات سيد المرسلين..ومولّدات لحدس صادق منظّم([5]) إلى نور الإسلام، المنظم إلى التسليم لطور النبوة، المنظّم لنور الإيمان بواجب الوجود الواحد الأحد. فإجماع الكائنات بكل ألسنتها تحت أمر الكلام القديم، ورياسة سيد الأنام والمرسلين، قائلاتٌ ناطقات: ﴿اللّٰه لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ﴾( البقرة: 255).

فاستمع تفصيل هذه الفقرات المذكورة:([6])

*(1،2) إذ ما يتراءى ويتظاهر في الكائنات مجموعاً وأجزاءاً من نوع «التنظيمات» المتلاحظة والنظامات المتناظرة و«الموازنات» المتساندة، الدالة على وجوبِ وجودِ مَن هذه الكائناتُ في تصرفِ قبضَتَيْ «نظامه وميزانه»، والشاهدة بالتلاحظ والتناظر والتساند على أن المقنِّن والأستاذ والنَظّام واحد.. يفتحان مَنفذاً نَظاراً إلى المطلوب: أي وجوب الوجود والوحدة، تشهد الكائنات فيه بهذا اللسان: اللّٰه لا إله إلاّ هُو..

* (3،4) وإن ما في بيت الكائنات من «الانتظام والاطراد» الدالَّين على عدم تداخل الأيدي المتعددة، وأن الصنعة والنقش والمُلك لواحد.. يفتحان كوةً نظارةً بطرزٍ آخر أيضاً، تشهد الكائنات فيها بهذا اللسان: اللّٰه لا إله إلاّ هو..

* (5، 6) وإن «إتقان الصنعة الشعورية، وكمالَها» في كل شيء بما تسعه لياقةُ قابليته المجعولة بقلم القَدَر من يد الفياض المطلق الدالَّين على اتحاد القلم، وأن كاتبَ صحيفةِ السماء بنجومها وشموسها هو كاتبُ صحيفةِ النحل والنمل بحُجيراتها وذراتها.. يفتحان مشكاة نظّارةً بطور آخر أيضاً، تشهد الكائنات فيها بلسان كل مصنوع مناديةً: اللّٰه لا إله إلاّ هو..

* (7، 8) وإن «تجاوب الأشياء المتخالفة» الجامدة في الطرق الطويلة المعوجة، بعضٍ لحاجة بعض؛ كمادة غذاء الحجيرات والثمرات «وتساندَ الأشياء المتباعدة المتفاوتة» كالسيارات التي هي ثمرات الشمس، الدالَّ ذلك التجاوبُ والتساند على أن الكل خُدّامُ سيدٍ واحد، وتحت أمرِ مدبّرٍ واحدٌ، ومرجعُهم مربٍّ واحدٌ.. يفتحان منفذاً نظاراً أيضاً بمرتبة أخرى، تشهد الكائنات فيه بهذا اللسان: اللّٰه لا إله إلاّ هو..

* (9،10) وإن «تشابُهَ الآثار» المنتظمة المتناظرة، كنجوم السماوات، «وتناسُبَ الآثار المتلاحظة» كأزاهير الأرضين، الدالَّين على أن الكلَّ مالُ مالكٍ واحد، وتحت تصرّفِ متصرف واحد، ومصدرُهم قدرةُ واحدٍ.. يفتحان منفذاً نظاراً أيضاً، تشهد الكائنات فيه بهذا اللسان: اللّٰه لا إله إلاّ هو..

* (11) وإن «مظهرية كل حي لتجليات أسماء كثيرة شعورية» مختلفة الآثار والجمال، المتساندة في التأثير، والمتشابهة المتشاركة حتى في حجيرةٍ واحدة، والمتعاكسة كلٌّ في كلٍّ، والمتمازجة كالألوان السبعة في ضياء الشمس الدالة هذه الأحوال مع وحدة أثرها، على أن مسمّاها واحد، تدل بالضرورة على أن خالقَ الحيّ هو بارئُه، ومصوّره، والمنعم عليه، ورزاقه، وأن رزاقه هو خالقُ منابع الرزق، وخالقها هو الحاكم على الكل.. فتفتح هذه الحقيقة منفذاً نظاراً أيضاً إلى مرتبة الوجوب والوحدة، تشهد الكائنات فيه بلسان كل حي: اللّٰه لا إله إلاّ هو..

* (12،13) وإن «ارتباط» أمثال عين النحل والنمل ومعدتهما بالشمس ومنظومتها، مع «المناسبة» في الجزالة الكيفية والتلاحظ والتناظر، الدال ذلك الارتباطُ والمناسبة على أنهما: كلاهما نَقْشَا نقاشٍ واحد.. فيفتحان منفذاً نظاراً أيضاً، تشهد الكائنات فيه مناديةً: اللّٰه لا إله إلاّ هو..

* (14) وإن «أخوّة الجاذبةِ» المكتوبة المنسوجة المنقوشة بين الذرات والجواهر الفردة «للجاذبة العمومية» المكتوبة المنسوجة الممددة بين النجوم والشموس، الدالة على أنهما: كلاهما كتابةُ قلمٍ واحدٍ ومدادِه ونَسْجَا نسّاجٍ واحدٍ وأسدائه، وشعاعا شمس واحدٍ وفيضِه.. تفتح مرصاداً نظاراً أيضاً إلى الوجوب والوحدة، تشهد الكائنات فيه بهذا اللسان الدقيق والعُلوي: اللّٰه لا إله إلاّ هُو..

* (15) وإن «نِسَب كلّ ذرةٍ في المركبات» المتداخلة المنتظمة الموظفة تلك الذرةُ كالنفر في كل نسبة له وظيفة لفائدة، كذرة العين في مركبات الأعصاب المحركة والحساسة والأوردة والشرايين والباصرة. فتدل بالضرورة على أن خالق عين العين والعين، وعين العالم -أي الشمس- وواضعَها موضعَها اللائق هو خالق كل المركبات.. فتفتح هذه الحقيقة أيضاً مشكاةً نظارةً، تشهد الكائنات فيها بلسان كل ذرة من ذراتها: اللّٰه لا إله إلاّ هُو..

* (16) وإن «وُسعَة تصرف القدرة في النوع الواحد» الذي لا يصدر إلاّ عن الواحد بالبداهة، مع شمول بعض الأنواع أكثر الكائنات -كالحيات والملَك والسمك- يُتحدس منه بأن خالق الفرد هو خالقُ النوع؛ مثلاً: إن القلم الذي رَسَم تشخُّص وجهِ «زيد» لابد بالضرورة أن يكون كلُّ أفراد البشر منظوراً له دفعةً، لمخالفة تعيّنه لكلِّ فرد، وإلاّ لوقَع التوافق بالتصادف، وخالقُ النوع بهذا السرّ هو خالق الأجناس.. فتفتح هذه الحقيقة أيضاً منفذاً نظاراً، تشهد الكائنات فيه: اللّٰه لا إله إلاّ هُو..

(17) وإن «ما يُتوهم -بقصور النظر- من الاستبعاد والاستغراب والحيرة والكلفة» المنجرَّة إلى الاستنكار في إسناد كل شيء إلى الواجب الوجود الواحد الأحد.. فتلك الاستبعاد والاستغراب والحيرة والكلفة والمعالجات تنقلب حقيقيةً عند عدم الإسناد إلى صاحب مرتبة الوجوب والوحدة،([7]) بل تتضاعف تلك الأمور عند إسناد الآثار إلى جانب الإمكان والكثرة والأسباب وأنفسِها، عددَ أجزاء الكائنات.. فما يُتوهم في إسناد الكل إلى الواجب يتحقق في إسناد جزء واحد إلى غيره تعالى. بل الأولُ أسهلُ وأيسر؛ إذ صدور الكثير عن الواحد أقلُّ كلفةً من صدور الواحد عن الكثير المتشاكسين العُمي الذين اجتماعهم يُزيدهم عَمىً؛ إذ النحلة لو لم تخرج من يد قدرة الواجب، لزم اشتراك ما في الأرض والسماوات في وجودها!.. بل تترقى الكلفة والمعالجة في الجزء الواحد من الذرة بالنسبة إلى الوجوب إلى أمثال الجبال، ومن الشعرة إلى أمثال الحبال، لو أُحيل على الأسباب.. إذ الواحد بالفعل الواحد يحصّل وضعيةً ومصلحة للكثير لا يصل إلى عين تلك الوضعية والنتيجة الكثيرُ إلاّ بفعل كثير؛ كالأمير بالنسبة إلى نَفَراته، والفوّارة إلى قطراتها، والمركز إلى نقاط دائرته. فبفعل واحدٍ تصل هذه الثلاثة إلى تحصيل وضعيةٍ للكثير،([8]) ونتيجةٍ لا تصلُ النفرات والقطرات والنقاط لو أحيلت عليها إلاّ بأفعال كثيرة وتكلُّفات عظيمة. بل الاستغراب والاستبعاد الموهومان في طرف الوجوب، ينقلبان هنا إلى محالات متسلسلة.

من بعض المحالات: فرض صفات الواجب في كل ذرة بضرورة اقتضاء النقش الكامل والصنعة المتقنة.. وكذا، توهُّمُ شركاءَ غيرِ متناهية في الوجوب الذي لا يقبل الشركة أصلاً.. وكذا، فرض كل ذرة حاكماً على الكل ومحكوماً لكلٍ من المجموع، وللكلِ معاً، بضرورة اقتضاء النِظام والانتظام.. وكذا، فرض شعورٍ محيط، وعلمٍ تام في كل ذرةٍ، بضرورة اقتضاءِ التساند والموازنة.

فإسناد الأشياء إلى الأسباب في جانب الإمكان والكثرة يستلزم التزامَ هذه المحالات المتسلسلة، والممتنِعات العقلية، والأباطيل التي تمجّها الأوهام.. وأما إذا أُسند إلى صاحبها الحقيقي، وهو صاحب مرتبة الوجوب والوحدة، لا يلزم إلاّ أن تكون الذرة ومركباتها -كقطرات المطر المتشمِّسة المتلمعة بتماثيل الشمس- مظاهرَ للمعاتِ تجليات القدرة النورانية الأزلية الغير المتناهية المتضمنة للعلم والإرادة الأزليين الغير المتناهيين، فلمعتُها المالكة لخاصيتها أجلُّ من شمس الأسباب تأثيراً بسبب التجزؤ والانقسام في جانب الإمكان والكثرة دون الوجوب والوحدة. فالتّماس مع تلك القدرة في أقلَّ من ذرة أكبر تأثيراً من أمثال الجبال في جانب الكثرة، بسبب أن جزء النوراني مالكٌ لخاصية الكل، كأن الكلّ كلي، والجزءَ جزئيٌ ولو كان النور ممكناً، فكيف بنور الأنوار المتنور من جانب الوجوب؟..([9]) وكذا لا كلفة ولا معالجة بالنسبة إلى تلك القدرة؛ إذ هي ذاتية للذات([10]) محالٌ تداخلُ ضدِّها فيها، فتتساوى بالنسبة إلى لمعتها الذراتُ والشموس والجزء والكل والفرد والنوع، بسر الشفافية والمقابلة والموازنة والتجرد والإطاعة والانتظام([11]) بل بالحدس والمشاهدة، إذ تلك القدرة تفعل بأمثال الخيوط الدقيقة الجامدة أمثالَ العناقيد، تلك الخوارق الحيوية.. لو أُحيلت على الأسباب؛ لاحتيج لتصنيع عنقود واحد -لو أمكن- إلى ملايين قنطارٍ من تلك الكلفة والمعالجات!.. وكذا إن تلك القدرة تتجلى بجلوات الوجود المنعكس من ظل الوجوب في سَمِّ الخياط، على صفحات الشفافات بالتماثيل البرزخية.. لو أحيلت على الأسباب لامتنعت أو احتيجت إلى ما لا يحد من المعالجات.

اعلم أن الحياةَ والوجود والنور -لشفافية وجهَي المُلكِ والملكوتِ فيها- ما استترت القدرةُ عند إيجادها تحت الوسائط الكثيفة. فيترقق السببُ الظاهري فيها بحيث يتراءى تحتَه تصرفُ القدرة. فمن أمعن النظر في أطوار الحياة والأنوار، يشاهِد تصرفاتِ القدرة تحت الأسباب؛ إذ تلك القدرة لا تَصرِفُ لتصنيع عنقودِ العنب إلاّ غصناً دقيقاً جامداً، ولترسيم شُميسة في زجيجة إلاّ إمرارَ النور في سَمِّ الخياط، ولتنوير البيت إلاّ توسيطَ شَعرةٍ في زجاجة.

وكذا إن الأرواحَ والعقول في اضطرابات مزعجة ناشئة من أمراض وضلالات ناشئة من الاستنكارات الناشئة من الاستبعاد والاستغراب والحيرة في إسناد الأشياء إلى أنفسها وأسبابها الإمكانية ([12]). فتُجبر الاضطراباتُ الأرواحَ للخلاص والتشفي([13]) إلى الفرار إلى الواجب الوجود الواحد الأحد الذي بقدرته يحصل إيضاحُ كل مُشكل، وإرادتُه مفتاح كل مغلق، وبذكره تطمئن القلوب. فلا ملجأ ولا منجا ولا مناص ولا مخلص، إلاّ الالتجاء والفرار إلى اللّٰه والتفويض إليه. كما قال اللّٰه تعالى:﴿فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ﴾( الذاريات: 50) ﴿أَلاَ بِذِكْرِ اللّٰه تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾( الرعد: 28) فتفتح هذه الحقيقة أيضاً مشكاةً نظارة إلى الحدس الصادق، المنظّم إلى نور الإسلام، المنظّم إلى التسليم لطور النبوة، المنظّم لنور الإيمان بواجب الوجود الواحد الأحد، فتشهد الكائنات بلسان كل جزء من أجزائها: اللّٰه لا إله إلاّ هو..

* (18) وإن «بساطةَ الأسباب» الظاهرية كالخبز واللبن، ومحدوديتَها وحصرَها وانضباطها وعرَضيةَ بعضها وفقرَها وضعفها وموتَها وجمودها في ذاتها وعدم شعورها وعدم إرادتها بالمشاهدة، واعتبارية القوانين، وموهوميتَها، وعدمَ تعيّنها إلاّ بمقنِّنها، وعدم وجودها الموهوم إلاّ بعد رؤيتها، وعدمَ رؤيتها إلاّ بعد وجود المسبّب «مع خوارق نقش المسبَّبات» وأعجبيةَ صنعتها كتشكيلات نُسُج حجيرات البدن بسببية أكل الخبز، وكتابةِ النقوش الغير المحدودة المنتظمة المكتوبة في خردلة الحافظة، كأن تلك الخردلة سند([14]) استنسختها يدُ القدرة من صحيفة الأعمال، وأعطتها ليد الإنسان ليتذكّر به وقتَ المحاسبة، وليطمئن أن خلْفَ هذا الهَرْجِ والمَرْجِ الوجودي مرايا للبقاء، يرسُم العليمُ فيها الأشياءَ بانتظام بلا اختلاط -ولو كانت الأشياء كثيرة مختلطة- وكان المُرسَم فيه أضيقَ الأشياء بسببية وضعية التلافيف وتشكيلات الحروف والصور الذهنية في التكلم والتفكّر، بسببية قرع اللّها([15]) وحركة الذهن المقتضية هذه المسببات بالضرورة... لقدرةٍ غير متناهية؛ بل علم وإرادة غير متناهيين. فتستلزم هذه الحقيقةُ أنه لا مؤثر في الكون على الحقيقة إلاّ خالقٌ قدير لانهاية لقدرته بوجه من الوجوه. وما الأسباب إلاّ (بهانات)([16]) وما الوسائط إلاّ حجابات ظاهرية، وما الخاصيات والخواص إلاّ أسماء وعنوانات وزُجيجات جامدة لِلَمعاتِ تجلياتِ القدرة الأزلية النورانية الغير المتناهية، المستندة، بل المتضمنة للعلم والإرادة الأزليين الغير المتناهيين. إذ التّماس مع تلك القدرة بأدنى شيء أعظمُ وأجلّ وأكبر من جبال الأسباب. إذ تفعل لمعةُ تلك القدرة بأمثال الخيوط الدقيقة الجامدة اليابسة أمثالَ العناقيد تلك الخوارقَ الحيوية الطرية، لو أُحيلَت على الأسباب واجتمعت الأسباب والوسائط على أن يأتوا بمثله ما فعلوا ولو كانَ بعضُهُم لبعضٍ ظَهيراً. وتستلزم هذه الحقيقة أيضاً أنّ ما يسمى بالقوانين والنواميس إنما هي أسماء وزُجيجات لتجليات مجموع العلم والأمر والإرادة على الأنواع. وما القانون إلاّ أمرٌ ممدود أو أوامر مسرّدة. وما الناموس إلاّ إرادة مطولة أو تعلقات منضّدة.. فتفتح هذه الحقيقةُ مشكاةً نظّارةً في الإمكان إلى مرتبة الوجوب تشهد الكائنات بلسان كلِ مسبَّب من مسبباتها مناديةً: اللّٰه لا إله إلاّ هُو..

* (19) وإن «عدمَ تناهي خوارق نقش صنعة الكائنات وإتقانها» والاهتمام بها، تستلزم قدرةً غير متناهية، بل كل جزء منها أيضاً يستلزم تلك القدرة. فإذن تستلزم وتقتضي وتدل بالضرورة على أن لهذه الكائنات خالقاً قديراً، له قدرة كاملة لانهاية لتجليات تلك القدرة بوجه من الوجوه. فإذن استغنَى عن الشركاء بالقطع فلا حاجة إليها بالضرورة، مع أن الشركاء الموهومة المُستَغنَى عنها بالقطع والضرورة ممتنعةٌ بالذات. لا يمكن أن يوجد فرد منها؛ وإلاّ لزم تحديد القدرة الكاملة الغير المتناهية من كل وجه، وانتهاؤها في وقت عدم التناهي بالمتناهي بلا ضرورة، بل مع الضرورة في عكسه وهو محال بخمس مراتب بالضرورة. فمن هنا يكون الاستقلال والانفراد خاصيتين ذاتيتين للألوهية. مع أنه لا محلَّ ولا موضعَ ولا مكان للشريك إلاَّ في الفرض الوهمي؛ إذ ما نزل سلطانٌ قط ولا احتمالٌ عن دليل، ولا إمكاناً ذاتياً ([17]) ولم يوجد أمارة ما قط على وجود الشريك في جهة من جهات الكائنات. وإلى أي جهة روجع واستُفسر عن الشريك، أُعطى جوابُ ردٍّ بإراءة سكة التوحيد، مع أنه لا مؤثر في الكون على الحقيقة إلاّ واحد أحد؛ بسرّ أنّ أشرف الكائنات وأوسع الأسباب اختياراً الإنسانُ، مع أنه ليس في يد البشر مِن أظهرِ أفعاله الاختيارية كالأكل والكلام من مائة جزء إلاّ جزءٌ واحد مشكوك فيه. فإذا كان الأشرفُ والأوسعُ اختياراً هكذا مغلولَ الأيدي فكيف بالأسباب الجامدة الميتة؟ فكيف يكون المنديل والظرف الذي لَفَّ فيه السلطانُ هديتَه، شريكاً للسلطان أو معيناً له؟.. فتتحدس من هنا قطعاً بأن الأسبابَ حجابُ القدرة فقط؛ ومناطُ الحكمة، ليس إلاّ.. فتفتح هذه الحقيقة أيضاً مرصاداً ناظراً إلى الوجوب والوحدة؛ فتشهد الكائنات فيه بهذا اللسان منادية: اللّٰه لا إله إلاّ هُو..

* (20) وإن «تساند الأسماء المتجلية» في الكائنات، مع شمول بعض الأسماء كلَّ شيء بظهور أثرها فيه كالعليم، وتَشاركَها وتشابُكَها حتى في ذرة واحدة، وتعاكسَها كلاً في كلٍ، وتمازجَها كالألوان السبعة في ضياء الشمس، تدل هذه الأحوال مع وحدة أثرها على أن مسمّاها واحد أحد فرد صمد؛ فتفتح مشكاةً نظارةً إلى الواجب الوجود الواحد الأحد، تشهد الكائنات فيها بهذا اللسان النوراني: اللّٰه لا إله إلاّ هُو..

* (21) وإن ما يتظاهر في مجموع الكائنات كلاً وأجزاء: من «الحكمة العامة» المتضمنة للقصد والشعور والإرادة والاختيار، الدالة على وجوب وجودِ حكيم مطلق؛ لامتناع الفعل بلا فاعل، ولامتناع أن يكون جزء المفعول المنفعل الجامد فاعلاً لهذا الفعل العام الشعوري..

* (22) وما يتلألأ على وجه الكائنات من «العناية التامة» المتضمنة للحكمة واللطف والتحسين، الدالة بالضرورة على وجوبِ وجودِ خلاق كريم؛ لامتناع الإحسان بلا محسن..

* (23) وما انبسط على وجه الكائنات من «الرحمة الواسعة» المتضمنة للحكمة والعناية والإحسان والإنعام والإكرام والتلطيف والتودد والتحبب والتعرف، الدالة على وجوب وجود الرحمن الرحيم؛ لامتناع الصفة بلا موصوف ولامتناع أن يُلبس هذه الحُلّةَ التي تسع السماوات والأرض غيرُه تعالى. إذ أين قامة هذه الأسباب الجامدة الميتة القصيرة الحقيرة، وأين قيمة هذه الحُلة الغير المحدودة؟..

* (24) وما وزع على ذوي الحياة -على تنوّع حاجاتها- من «الرزق العام» المتضمن للحكمة والعناية، والرحمة والحماية، والمحافظة والتعهد، والتعمد والتودد والتعرف الدال بالضرورة على وجوب وجود رزاق رحيم؛ لامتناع الفعل بلا فاعل، وامتناع أن يكون جزء المفعول فاعلاً لهذا الفعل العام..

* (25) وما انتثر وانتشر في الكائنات من «الحي والحياة» المتضمنتين للحكمة والعناية والرحمة والرزق والصنعة الدقيقة والنقش الرقيق والإتقان والاهتمام المترشحة بتجليات قصد وشعور وعلم وإرادة تامة عليها، الدالة تلك الحياة على وجوب وجود قادر قيوم محيٍ مميت واحد؛ ولأن كلَّ شيءٍ واحدٌ فخالقُه واحد؛ إذ «الواحد لا يصدر إلاّ عن الواحد» فخالق الكل واحد خلافاً لقاعدة الفلسفة الكاذبة المشركة القائلة: «الواحد لا يصدر عنه إلا الواحد».

فهذه الحقائق الخمسة الممتزجة كالألوان السبعة في الضياء وكالدوائر المتداخلة المتحدة المركز، تدل بالبداهة على أن لهذه الكائنات رباً، قديراً، عليماً حكيماً، كريماً، رحيماً، رحمانَ، رزاقاً، حيَّاً، قيوماً، متصفاً بأوصاف الكمال.. فتفتح هذه الخمسة الممتزجة بضياء واحد مشكاة نظارة إلى الحدس الصادق المنظم إلى نور الإسلام، المنظّم إلى التسليم لطور النبوة، المنظّم لنور الإيمان بأنه: هو اللّٰه الواجب الوجود الواحد الأحد. فتشهد الكائنات في تلك المشكاة بهذا اللسان ذي النغمات الخمس منادية. اللّٰه لا إله إلاّ هُو..

* (26) وكذا إن ما يتلمع على وجه الكائنات من «الحُسن العَرَضي، والتحسين» المشيرَين إلى وجوب وجود مَن له الحسن الذاتي والإحسان..

* (27) وما يُرى في خد الكائنات من «الجمال الحزين» المنعكس المرمِز إلى وجوب وجود ذي الجمال المجرد..

* (28) وما يُرى في قلبها من «العشق الصادق» المنادي على المحبوب الحقيقي.

* (29) وما يُحَسّ به في صدرها من «الانجذاب والجذبة» الملوِّحين بالحقيقة الجاذبة التي تنجذب إليها الأسرار..

* (30) وما «يُسمع من كل الكُمَّلين من شهادتهم» بمشاهدتهم كونَ كل الأكوان ظلالَ أنوار ذاتٍ واحد..

آيات نيرات.. فهذه الحقائق الخمسة تدل بالضرورة على أن لهذا الكون ربَّاً واجب الوجود، متصفاً بأوصاف الجلال والجمال والكمال. فتفتح كوة نظارة أيضاً تشهد الكائنات فيها بهذا اللسان ذي النغمات الخمس: اللّٰه لا إله إلاّ هُو..

* (31) وكذا إن ما يُرى في جزئيات أنواع الكائنات، من «التصرفات المتناظرة» والتصرف لمصالح الدال بالبداهة على وجوب وجود متصرفٍ حكيم واحد؛ لامتناع الفعل بلا فاعل، وامتناع أن يكون جزء المفعول المنفعل الجامد فاعلاً لهذا الفعل العام الشعوري المتلاحظ..

* (32، 33) وما يُرى في أجزاء الكائنات من أنواع النباتات والحيوانات من «التبديل لفوائد، والتحويل لحِكَم» الدالَّين على وجوب وجود رب مدبر حكيم..

* (34) وما يُرى في أعضاء الكائنات ككرة الأرض بلَيلها ونهارها من «التغيير لغايات» الدال على وجوب وجود فاعل مختار، فعالٍ لما يريد؛ لامتناع الفعل بلا فاعل، ولامتناع أن يكون مصدرُ هذه الأفاعيل المتناظرة، غيرَ قدرة الواجب..

* (35) وما يُرى في العالم من «التنظيم لكمالات» الدال بالبداهة على وجوب وجود القادر القيوم؛ لامتناع التنظيم بلا ناظم، وامتناع أن يكون جزء الكثير الممكن المنفعل فاعلاً لهذا الفعل المحيط الشعوري. وأين يدُ العنكبوت من نسجِ حُلّةٍ قُدّت على مقدار قامة الكائنات؟ بل أين الأعمى الأشل الجامد وأين نسجُ قميص مطرَّز لهذا العالم؟

أيضاً آيات ([18]) على وجوب الوجود والوحدة..

وهذه الحقائق الخمسة في الفعالية كالألوان السبعة في الضياء، وكالدوائر المتداخلة المتحدة المركز، تدل بالبداهة على أن لهذه الكائنات رباً متصرفاً حكيماً مدبراً فاعلاً مختاراً فعّالاً لما يريد قادراً قيّوماً متصفاً بأوصاف الكمال. فتفتح هذه الحقائق الخمسة أيضاً بضياء واحد كوة نظّارة إلى مرتبة الوجوب والوحدة، فتشهد الكائنات بهذا اللسان ذي الأصوات الخمسة منادية: اللّٰه لا إله إلاّ هُو..

* (36) وكذا إن «حدوث الكائنات» كُلاًّ وجزءاً يستلزم مُحدِثاً قديماً.. وإنّ تردد الكائنات مجموعاً وأجزاءاً بين «الإمكانات» الغير المحدودة ذواتٍ وصفاتٍ وكيفياتٍ بمقدار تخصصها تتزايد الإمكانات. ثم أخذَها هذا الشكل المنتظم المتقَن المحكم من بين تلك الطرق العقيمة يستلزم ذلك التردد، ويدل بالضرورة على وجوب وجود رب عليم حكيم قدير.

* (37) وإن «احتياجات الكائنات» كلاًّ وأجزاءً وجوداً وبقاءً مادة ومعنى، حياة وفكراً، مع فقرها وضعفها في ذاتها وقِصَر يدِها عن أدنى حاجاتها، ثم قضاءَ حاجاتها -على تنوعها - من حيث لا يُشعَر في أوقاتها المناسبة؛ تستلزم وتقتضي وتدل على وجوب وجود رب مدبر رزاق كريم رحمان رحيم..

* (38) وإن «افتقارات الكائنات» مجموعاً وأجزاءً وجوداً وبقاء مادة ومعنىً، مع ضعفها في ذاتها وقِصَر يدها عن أدنى مطالبها، ثم إغناءَ مطالبها من حيث لا يُحتَسب في الأوقات اللائقة؛ تستلزم وتقتضي وتدل على وجوب وجود رحيم كريم فياض لطيف ودود.

* (39) وإن «فقرها في ذاتها» كالشجر والأرض اليابسين في الشتاء «مع تظاهر الاقتدار المطلق» في معدن ضعفها كحياتهما في الربيع، يدل على وجوب وجود القدير المطلق الذي تتساوى بالنسبة إليه الذراتُ والشموس.

* (40) وإن فقر الكائنات لذاتها، مع تظاهر آثار «الغناء المطلق» كظهور الأرزاق من التراب اليابس، يدل على وجوب وجود الغني المطلق الذي من حجيرات خزائن رحمته: الشمسُ والشجر، ومن مسيلات حوض رحمته: الماء والضياء.

* (41) وإن «موتَها في ذاتها مع تظاهر أنوار الحياة» يدل على وجوب وجود الحي القيوم المحيي المميت.

* (42) وإن «جمودها وجهلها مع تظاهر آثار الشعور المحيط» وإن ذا ([19]) هذا الشعور سميع بصير، يدلان على وجوب وجود عليم خبير.

* (43) وإن «فناءها وتغيرَها على الدوام بالانتظام» يدلان بالحدس القطعي على وجوب وجود المغير، الغير المتغير الدائم الباقي.

* (44) وإن ما لذوي الأرواح من «العبادات النورانية» المقبولة المثمرة المتضمنة للمشاهدات والمكالمات والفيوضات والمناجاة، تدل على وجوب وجود معبود حقيقي.

* (45) وإن «تسبيحات الكائنات» القاليّة والحالية([20])، تدل على وجوب وجود مَن ﴿يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ﴾( الحشر: 24) إذ دلالة الفطرة صادقة، وشهادتها الفذة لا تُرد.. فكيف بدلالاتٍ غير متناهية وشهادات غير محصورة، قد اتفقت كالدوائر المتداخلةِ المتحدةِ المركز، على وجوب وجود مَن ﴿يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ﴾ بألسنة أقوالها وأحوالها وبنقوش جباهها؟.

* (46) وإن «أدعية ذوي الحاجات» المقبولة والمستجابة، والمؤثرة والمثمرة، تدل بالضرورة على وجوب وجود مَن يجيب المضطر إذا دعاه.

* (47) وإن «التجاآت ذوي البلايا» شعورياً وغير شعوري عند الاضطرار إلى حاميها المجهول، بل خالقها، تدل على وجوب وجود ملجأ الخائفين، وغياث المستغيثين.

* (48) وإن «مشاهدة كل الكُمّلين» العابرين من الظاهر إلى الباطن، واتفاقَهم بالكشف والشهود والذوق والمشاهدة على أن كل الأكوان ظلالٌ لأنوارِ ذاتٍ تدل على وجوب وجود شمس الأزل الذي هذه الأكوانُ ظلالُ أنواره.

* (49) وكذا إن ما يُعلَم بل يُتحدَّس بل يُحَسّ بل كأنه يُرى ويُشاهد مِلءَ الكون والفضاء، قد توضعت على مثل الذرة أمثالُ الجبال من «الأفاعيل المتجلية، وتجليات الأسماء» السيالة الهابطة من مرتبة الوجوب والوحدة، تدل بالضرورة على أن مبدأ هذه الأفاعيل ليس مرتبةَ الإمكان، بل هي أشعة مرتبة الوجوب، وتدل على وجوب وجود ذاتٍ مقدس فاعلٍ لهذه الأفاعيل، ومسمىً لهذه الأسماء.

* (50) وإن «اضطرابات الأرواح» من الاستبعاد والاستغراب والحيرة والكلفة المنجرة إلى الاستنكار ثم إلى محالات متسلسلة في تفويض الأكوان إلى أنفسها وأسبابها تلجئ العقول والأرواح، للخلاص من مرض الاضطراب والتشفي منه إلى امتثال أمر:﴿فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ﴾( الذاريات: 50)..﴿أَلاَ بِذِكْرِ اللّٰه تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾( الرعد: 28)..﴿وَإِلَى اللّٰه تُرْجَعُ الأمُورُ﴾( فاطر: 4) الذي بقدرته يحصل الإيضاح لكل مشكل وبذكره تطمئن القلوب. نعم لا مؤثر في الكون حقيقةً إلا اللّٰه..

* (51) وكذا إن ما يُرى من «القَدر بالضرورة» في المحسوسات، و«بالنظر» في غيرها، يدلان على وجوب وجود مَن خلق كل شيء وقدّره تقديراً؛ إذ عالَم الشهادة مجموعاً وأجزاءً، لكل شيء منه غاياتٌ منتظمة، ونهاياتٌ مثمرة وحدود كأنها آجال منتظمة، التي تسمى بالمقادير التي لا تحصل إلاَّ بقوالب؛ وما هي إلاّ القضاء والقدر، التي هي قوالب القدَر قُدّتْ على مقدارِ قامات الأشياء، تعينت أولاً فبنيت الأشياء على هندستها. فإن شئت مثالاً فانظر إلى بدنك باعوجاجاته ويدك بأصابعها.. فيُنتَقل بالحدس الصادق، من هذا القَدر الضروري إلى القَدَر النظري في المعنويات والأحوال؛ إذ لها أيضاً نهايات وغايات مثمرة وحدود وآجال منتظمة، هي مقاديرها، هي قوالبها ترسّمت بيد القضاء والقدر، فكتبت القدرةُ كتابَ المعاني على مِسطر القَدَر. فالقُدرة مصدرٌ، تنظر إلى مِسطَر القدر([21]) .فهذان القَدران يدلان بالضرورة على وجوب وجود مَن هذه الكائناتُ خطوط قلم قضائه وقدره. آمنّا!..

* (52) وكذا إن «جامعية استعداد الإنسان» تخبرنا بأن البشر ثمرةُ شجرةِ الخلقة، فيكون أكملَ وأبعدَ، فوجههُ الشفاف متوجهٌ إلى الظلمة وفضاءِ العدم الذي هو باطن الدنيا. وما في جامعية الاستعداد من قابلية العبادة، تخبرنا بأن الإنسان ما خُلق هكذا، ليكون منكوس الرأس يخلد إلى الفاني، بل قابلية العبادة لصرف وجهه الشفاف من الظلمة إلى النور، ومن فضاء العدم إلى الوجود، ومن المنتهى إلى المبدأ، ومن الفاني إلى الباقي، ومن الخلق إلى الحق. كأن العبادةَ حلقة اتصال بين المنتهى والمبدأ في دائرة الخلقة. فتشهد الفطرة بهذا اللسان على وجوب وجود مَن خَلق الخلق ليُعْرَف، وخلَق الجنَّ والإنس ليُعْبَد. آمنّا..

* (53) وكذا إن ما يُشاهد في الكون من مرتبة «الإمكان والكثرة والانفعال» يستلزم بالبداهة الأَولَوية مرتبةَ الوجوب والوحدة والفاعلية، فيدل بالضرورة على وجوب وجود الواجب الوجود الواحد الأحد الفعال لما يريد. آمنا..

* (54) وكذا يُشاهَد في الكائنات أن «الأشياء تتحرك قبل الوصول إلى نقطة الكمال لها» ثم تسكن بعد الوصول وتستقر. فيتحدس من هنا بأن الوجود يقتضي الكمال؛ والكمال يقتضي الثبات، فوجود الوجود بالكمال، وكمال الكمال بالدوام، فالواجب السرمدي، هو الكامل المطلق. فكل كمالات الممكنات ظلالٌ لتجليات أنوار كماله. فتدل هذه الحقيقة على أن اللّٰه هو الكامل المطلق في ذاته وصفاته وأفعاله. آمنا..

* (55) وكذا إن «ألْطفية باطن الشيء من ظاهره» كما يدل على أن صانعه ليس خارجاً بعيداً منه، كذلك «محافظته لِنِسَب النظام والموازنة» مع سائر الأشياء يدل على أنه ليس داخلاً في الشيء أيضاً. فالنظر إلى المصنوع في ذاته كما يدل على أن صانعه عليم حكيم.. فالنظر إليه مع الغير يدل على أن صانعه سميع بصير، فوق الكل يراه مع الغير يرسم بهما نقشاً لمصلحة. فتدل هذه الحقيقة على وجوب وجود الصانع الذي ليس داخلاً في العالم ولا خارجاً، كما هو في أبطن البطون كذلك فوق الفوق، كما يرى شيئاً يرى معه كل الأشياء. آمنا..

فهذه الحقائق العشرون المتمازجة كألوان القوس القُزح وكالدوائر المتداخلة المتحدةِ المركز، آياتٌ نيّرات تدل بالضرورة على أن لهذه الكائنات ربَّاً، قديماً واجب الوجود، عليماً، حكيماً، مريداً، قديراً، رحمانَ، رحيماً، رزاقاً، كريماً، قادراً، غنياً، حياً، قيوماً، عليماً، خبيراً، دائماً، باقياً، معبوداً ﴿يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ﴾( الحشر: 24)..﴿يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ﴾( النمل: 62) ملجأ الخائفين، غياث المستغيثين، الذي هذه الكائنات ظلال أنواره وتجليات أسمائه وآثار أفعاله.. الذي بذكره تطمئن القلوب.. وإليه ترجع الأمور.. خلق الجن والإنس ليعبدوه.. نظّم الكائنات بقوانين قضائه وقدره.. وهو الواجب الوجود الواحد الأحد.. الكامل المطلق في ذاته وصفاته وأفعاله.. وهو اللطيف الخبير السميع البصير..

فتفتح هذه العشرون من الحقائق المتمازجة، بأنوار مخططة كواتٍ نظارةً بوجوهٍ وجهاتٍ ومراتبَ إلى الحدس الصادق المنظم لنور الإسلام المنظم إلى التسليم لطور النبوة المنظم إلى الإيمان؛ بأنه هو اللّٰه الواجب الوجود الواحد الأحد. فتشهد الكائنات بهذا اللسان ذي النغمات العشرين منادية: اللّٰه لا إله إلاّ هُو.

* واعلم أن «اللّٰهُ لا إله إلا هُو» بكل دلائله المزبورة ([22]) مثبت «لا حولَ ولا قُوّةَ إلا باللّٰه».

وكذا فاعلم أن «لا إله إلا اللّٰه» بكل براهينه المذكورة، يستلزم «محمد رسول اللّٰه». فمحمد رسول اللّٰه كما يتضمن من الإيمان خمسة أركانه، كذلك هو مظهرٌ ومرآةٌ لصفة الربوبية. فبهذا السر صار قريناً موازيا لـ«لا إله إلا اللّٰه» في ميزان الإيمان، فتأمل. ولأن النبوة مظهر لصفة الربوبية تكون جامعةً وكليةً، والولاية خاصة وجزئية، فنسبتها إليها كنسبة صفة «رب العالمين» إلى «ربي»... ونسبة العرش إلى القلب.. ونسبة المعراج الممتد من الأرض إلى ما فوق العرش المار على طوائف المُلك والملكوت إلى معراج المؤمن في سجوده.. بالوجه الخاص..

 

تنبيه

* اعلم أن هاتيك البراهين على هذا المطلب العالي، كالدائرة المحيطة بالمركز، وكلُّ نقطة من المحيط كمنفذ ينظر بلونه المخصوص إلى المركز، وبين النقاط تساندٌ يزيل ضعفَ الأفراد الخصوصية، ويتولد من مجموع البراهين حدسٌ صادقٌ ينظَّم إلى نور الإسلام، ثم يُنَظَّم إلى التسليم لطور النبوة، ثم يُنظَّم لنور الإيمان القيوم للمطلوب. وما البراهين إلا منابع لتحلُّب هذا الحدس، فضعفُ الفرد يزول بسرّ التساند.. ومع فرض عدم زواله لا يسقط الفردُ عن الجزئية وعن الاعتبار، بل عن الاستقلالية والبرهانية.. ومع فرض إبطال الفرد لا تبطل الدائرةُ بل تتصاغر.. وبفرض إبطالها لا يزول الحدسُ الصادق.. وبفرض زواله فلا بأس أيضاً.. إذ نور الإسلام قائم، وبعدَه التسليمُ لطور النبوة لا يتزلزل.. وبعدَه نور الإيمان الموهوب قيومٌ. فطلبُ قوةِ وضوحِ المطلوب المترتب على مجموع البراهين من كل فردٍ على حدة بجزئية الذهن من مرض النفس، الذي يزيد مرضَها ويلقنها ملَكةَ الرد والإنكار.. اللّهم احفظنا!. فالبرهان الواحد أولاً يُنظر به إلى المطلوب، ثم يتشرب أنموذج المجموع فتتساقط عنه الأوهام.

* اعلم أيضاً أن من البراهين ما هو كالماء، ومنها ما هو كالهواء، ومنها ما هو كالضياء، لابد من التوجه بلطفٍ ووُسعة نظرٍ في لينة؛ وإلاّ فبالحرص والتعمق والجسّ بأصابع التحري يسيلُ ويزولُ ويختفي.([23])

* ثم اعلم أن النظر إلى شجرة ذات أغصان وفروع وثمرات لمعرفة حياتها وطعمها ودرجة قوتها على قسمين:

نظرٌ من طرف الأصل والجُرثوم([24])، فهذا نظر سهل وبسيط مستقيم متين.

والثاني: من طرف الثمرات والفروعات، فهذا النظر بدون النظر الأول سقيم موصلٌ إلى الضلالات.

كذلك إن شجرة الإسلامية جُرثومها في السماء، أغصانها منتشرة في آفاق الكثرة، فلمعرفتها نظران؛ وللدخول في دائرتها طريقان:

فالنظر الأول:

هو النظر من جانب الأصل، فإذا نظر الموفَّقُ إلى الجُرثوم يرى فيها حوضاً عظيماً منبعُه الصافي هو الوحي المحض، فتزايدَ الحوضُ بتحلّب الآيات الآفاقية والأنفسية. فمِن ذلك الحوض الممتزج مادةُ حياة الثمرات وغذائها. فإثباتُ حياةِ ثمرة واحدة تكفي لإثبات سائر أخواتها، بل -وكذا- تدل على حياة شجرتها، مع أن إثبات حياة الثمرة سهلٌ سريع يحصل برؤية الاتصال فقط، وإبطالَها وزوالها عسير بطيء، لا يَقتدر على إبطالها مع بقاء الاتصال وعلى منبع([25]) سريان الحياة إليها ما لا يقتدر على قلع الأصل. ولو صادف هذا النظر بين الثمرات ميتةً يابسة حَكَمَ بأنها دخيلةٌ ويُحيل موتَها على الأسباب الخارجية. هذا النظر هو النظر الإيماني والإسلامي والمستقيم السهل والمنقاد لطور النبوة.. اللهم ارزقنا وثبتنا عليه.

والنظر الثاني:

السقيم الذي هو منشأ الضلالات ومعدن الاضطرابات، هو النظر من جانب الثمرات بنظر تنقيدي.. وفي هذا النظر يحتاج في كل ثمرة إلى الإثبات والذوق، لفقد الاتصال هنا، مع أن إثبات ثمرةٍ فردةٍ وإيصالَ مادةِ غذائها عسيرٌ يحتاج إلى ما يحتاج إليه تمامُ الأصل، مع أن زوالها وبطلانَها سريع يحصل بأدنى شيء. ولو صادف بينَها ميتةً يابسة أحالَها على موت الأصل.. أعاذنا اللّٰه من هذا النظر، لكن لو كان هذا النظر تابعاً للنظر الأول كان حَسناً وسبباً لاطمئنان النفس..

 

سعيد النورسي

 

*  *  *

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

خاتمة هذا المبحث

في أربعة أمراض ([26])

* الأول: اليأس..

اعلم أنك إذا تدهّشت من العذاب وما وُفِّقتَ للعمل، تتمنى عدمَ العذاب، فتتحرى ما ينافيه، فترى الأمارات المنافية براهينَ، فتخطفك الشياطين؛ فاستمع بقلب شهيد قوله تعالى: ﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللّٰه إِنَّ اللّٰه يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾( الزمر: 53).

* والثاني: العُجب..

نعم يا نفس!([27]) أيستَ ثم تَحريتَ ما تستند إليه في مقابلة العذاب، فرأيت محاسنك، فوقعت في ضلالةٍ من باب العُجب، مع أنه لاحقَّ لك قطعاً في شيء من الكمالات، فتأمل..

يا نفسي! هذا الوجود الذي سكنته ما هو صنعتُك حتى تُتَملّك، وما هو لقيطةٌ التقطتها حتى يُتَمَلَّك، وما هو نتيجة تصادفٍ أعمى واتفاقيةٍ عوراء وأسبابٍ جامدة حتى يُقتَطف ويُتملك، وليس شيئاً رخيصاً بلا أهمية تافهاً سدىً أعرض عنه مالكُه حتى تأخذَه وتتملَّكه، بل هذا الوجود -بعجائب صنعته وغرائب نقشه- يدل على أنه خرج من يدِ صانعٍ حكيم، مهيمن عليه دائماً..

ألا تَرى أنه ليس في يدك من تصاريف هذا الوجود من ملايين تصرفاتٍ إلاّ تصرفٌ واحد مشكوكٌ هو حجتُه عليك..

وكذا ألا ترى أنك أشرفُ الأسباب وأوسعها اختياراً وأظهرُ أفعالك الاختياريةِ الأكلُ والكلامُ، مع أنه ليس في يدك من مائة جزءٍ منهما إلاّ جزءٌ واحد..

وكذا إن أضيقَ خاصياتك الاختيارُ وأوسَع حواسك الخيالُ، مع أن الخيال لا يحيط بالعقل وثمراته، فكيف تُدخِله تحت دائرة الاختيار فتفتخر به؟.

وكذا تجري فيك وعليك أفاعيلُ لا يلحقها شعورك مع أنها شعورية، فصانعهما ذو شعور سميعٌ بصير، لا أنت ولا الأسباب العُمْي الصُم. فلابد أن تتبرأ من دعوى المالكية وتوهُم مصدرية المحاسن، وتعترفَ بأنه ليس إليك منك إلاّ النقصان والقصور؛ إذ بسوء اختيارك تُغيّر صورةَ فيضِ الكمال المُفاض عليك.. وبأنَّ الجسد الذي هو منـزلك عاريةٌ وأمانة وأنت مسافر، ومحاسنك هذه موهوبةٌ وسيئاتِك مكسوبة لك، فلابد أن تقول: له الملك وله الحمد ولا حول ولا قوة إلاّ باللّٰه..

* والثالث: الغرور..

وكذا من مرضك غرورُك، فبحُكمهِ نظرتَ إلى الأسلاف العظام من بُعدٍ فتصاغروا في عينك، فحُرِمْتَ محاسنَ إرشاداتهم، وابتُليتَ بالأوهام المتطايرة من تحت أقدامهم في سلوكهم مع أوهامك. فانظر إليهم من قُربٍ تَرَهُم أعاظمَ كشفوا في أربعين يوماً ما لم تقتدر على كشفه إلاّ في أربعين سنة.

* والرابع: سوء الظن..

وكذا من مرضك سوء الظن، فبحُكم أن الجائع يتوهم الناسَ جياعاً، أسأتَ الظن بسبب مرضك وريائك بأولئك الأسلاف العظام. فقد رأيت أنك بغمضِ عينك جعلتَ النهارَ ليلاً على نفسك فقط.

اللّهم احفظنا من اليأس وسوء الظن والعجب والغرور، آمين..

*  *  *

ثم قد شاهدت في سياحة تحت الأرض المعنوية وفي بطنها حقائق:

الحقيقة الأولى:

اعلم أن الغفلة عن المالك الحقيقي جلّ جلاله، سببٌ لفرعونية النفس، فتتوهم نفسَها مالكةً لها، فيتشكل في وهمها دائرةٌ لحاكميتها، ثم تقيس الناسَ بل الأسباب على نفسها، فتقسّم مالَ اللّٰه عليها، فتُعارض الأحكامَ الإلهية، وتبارز مع مقدرات خالقها؛ مع أن الحكمة في إعطاء أنانيةٍ لها أن تصير واحداً قياسياً لفهم صفات الألوهية، فأساءت بسوء الاختيار، فصرفَتْها في غير ما وُضِعَت له..

يا أيها الناظر!

إن هذه الحقيقة الدقيقة الرقيقة صارت مشهودةً لي بتمام ظهورها، فرأيت أن ما في النفس من «أنا» المتنبّت بماء الغفلة هو «نقطة سوداء» تصير واحداً قياسياً لِفَهمِ صفات خالقها الذي لا شريكَ له لا في ملكه ولا في ربوبيته ولا في أُلوهيته.

إذ معرفة الناس للأشياء أوّلاً نسبية وقياسية، وتفهّم الصفات المحيطة التي لا حد لها يحصل بتوهم الحد.

فـ«أنا» يتجاوز عن حدِّه.. فيتوهم الحدَّ، فيقيس، فيفهم.. فيرجع إلى حدِّه، فيزول الحد الموهوم.. فيصير أولاً سمكاً، وثانياً حَباباً.

فقد مَرّ: أن النفس ليست مالكة لنفسها ولا لجسمها، إذ ما هو([28]) لقيطةٌ ولا نتيجةُ تصادف، ولا شيء تافه، ولا متشكلٌ بنفسه؛ بل هو ماكينة دقيقة عجيبة إلهية يعمل فيه في كل وقت قلمُ القدرة بيد القضاء والقدر.

فيا أيتها النفس!

تفرّغي من هذه الدعوى الباطلة، وسلّمي المُلكَ إلى مالكه، وكُوني أمينةً على هذه الأمانة. فإذا خنتِ في درهمٍ وأسندتهِ لذاتك، تَشرعين -بسرّ قياس النفس- تعطين من مال اللّٰه لأبناء جنسك، ثم للأسباب قناطيرَ مقنطرةً، كما فعلته الفلاسفة.

أيتها النفس!

لستِ مالكةً لك وإلاَّ لابد أن تكوني صانعةً وموجِدة لهذا البدن، أو صنعَته الأسباب فاغتصبتِه منها.

كيف تكونين صانعةً وأنت أخت الغنم؟

فالغنم كيف يدعي أنه صانع جسمه؛ والغنم أخو الرمان؟

وكيف تكون صبغةُ الرمان صانعةَ حبّاته؟

وكيف تكون الثمرةُ المتوضّعة على رأس الشجرة خالقةً وصانعة لشجرتها؟

فإن صحّت هذه، صحّت لكِ المالكية.

وأما على الشق الثاني:

فالمصنوع ينادي بأعلى صوته بأني صنعةُ عليمٍ حكيم، سميع بصير، بنظام وميزان. مع أن الأسباب عميٌ صمٌ جامدة ميتة؛ كلما اجتمعت واختلطت –ففضلاً عن حصول صنعة بصير– يتزايد العَمى والأصمّية؛ إذ اختلاط العُمي الصُم لا يزيدهم إلاّ عُمياً وأصمية، مع أن الأسباب بالنسبة إلى ذلك البدن كنسبة زجاجات الأدوية في (أجزخانة) ([29]) بالنسبة إلى معجونٍ ذي خاصية عجيبة يؤخذ من كلٍّ مقدارٌ معين بلا زيادة ولا نقصان بميزان مخصوص، إن زاد أو نقص درهمٌ من مئات من الزجاجات، فاتَتْ خاصيةُ المعجون؛ فإن أمكن أن يخرج من كل زجاج مقدارٌ مخصوص بنفسه بلا حكيم مع تفاوت المقادير، ثم يتحصل ذلك المعجون بنفسه، أمكن أن تدّعي: أن هذا البدن اختطتفتِه من أيدي الأسباب، فتملّكتِه.

الحاصل: توهّم المالكية إنما نشأ من حُمقكِ وبلاهتكِ.

الحقيقة الثانية:

اعلمي يا أيتها النفس الأمارة! إن لك دنيا هي قصر، واسعةً مبنيةً بآمالك وتعلقاتك واحتياجاتك إلى الأكوان، فالحجرُ الأساس في ذلك القصر، والأصلُ الأول والعمود الفريد، هو وجودك وحياتك، مع أن هذا العمود مدوّد، وهذا (التمل جوروك) والأساس فاسد ضعيف مهيأ للخراب في كل آن. فليس هذا الجسم بأبديّ ولا من حديد ولا حجر؛ بل من لحم ودم مهيئ لأن يتفرق في كل آن، فبانحلاله تنفلق عنك هذه الدنيا بحذافيرها، فتخرب على رأسك دنياك. فانظري إلى الماضي إذ هو قبر واسع خرب على رأس كل ميتٍ كان مِثلَكِ في دنياه. والمستقبل أيضاً قبر واسع يكون مثله. وأنت الآن بين ضغطة القبرين، كما أن أمس قبرُ أبي، وغداً قبري، وأنا أيضاً بين ضغطة القبرين. فالدنيا مع أنها واحدة؛ تداخلتْ واندمجت فيها -لكل أحد - دُنياً بتمامها، فهي شخصية كلية، مَن مات قامتْ قيامتهُ..

الحقيقة الثالثة:

قد شاهدتُ أن الدنيا بجميع لذائذها حملٌ ثقيل، وقيدٌ لا يرضى بها إلا المريضُ الفاسدُ الروح؛ فبدلاً من التعلقات بالكائنات، والاحتياجات إلى كل الأسباب، والتملق لكل الوسائط، والتذبذب بين الأرباب المتشاكسين الصم العُمي؛ لابد من الالتجاء إلى الرب الواحد السميع البصير الذي إن توكلتَ عليه فهو حسبُك.

الحقيقة الرابعة:

اعلم يا «أنا»، إن ما التفت على رأسك من سلاسل الإيجاد العلمية، واتصلت بأنانيتك من سطور الصنائع الشعورية، وما أخذت بأيدي حوائج ذاتك من وسائل المدد والإجابة، تدل على أن موجِدَك وصانعَك ومغيثَك يسمع أنينات([30]) فاقاتك، فيتحنن لها، ونداءَ حاجاتك ويتودد بقضائها، ويرى اشكال احتياجاتك وآمالك، فيتعرف بتعهّدها؛([31]) إذ ذلك الصانع والموجِد يغيث ويلبي نداءَ حاجة حجيراتك الصغيرة بالمشاهدة؛ فكيف لا يجيب ولا يغيث -وهو السميع البصير- لدعائك.

أيتها الحجيرة الكبرى المعبَّرة بـ«أنا»، المركَّبة من تلك الحجيرات! فقل([32]) يا إلهي، يا ربي، يا خالقي، يا مصوري، يا مالكي، يا سيدي، يا مولاي لك الملك ولك الحمد: أنا مسافر في وديعتك وأمانتك ومملوكك الذي هو هذا الجسم بمشتملاته.

فيا «أنا» لِمَ تتملك ما لا يصير لك مُلكاً؟ فتفرَّغْ من هذه الدعوى الباطلة، إذ توهُّمُ التملّك يوقعك في ألم أليم. فانظر إلى الشفقة التي هي من مزينات الروح ومراوحه([33])، لو بُنيتْ على توهمك هذا لانقلبت نكالاً مزعجاً للروح.

مثلاً: إذا رأيت يتيماً واحداً ضعيفاً فقيراً له بيتٌ صغير ومُلك قليل يتهاجم عليه ألوفٌ من القاسية القلوب، كيف تتألم بألمه؟! ولو تزايد مثلُ هذه الواقعة إلى ما لا حدَّ له تتزايد الآلام المنعكسة إليك بنسبته. وأما إذا رأيت أحدَ نفرِ العسكر للسلطان، قد احترق مسكنُه أو غُصِبَ مَركَبه -بغير قصورك وبإذن السلطان– لا تتوجع على النفر؛ إذ المالُ للسلطان الذي لا يتأثر بمثل هذا النقصان، ولا يتأثر العساكر بضياعه تأثراً عميقاً؛ إذ ليس هو ملكَه، وهو فقير، بل ملكَ غني خُرّب مالُه بواسطة أخرى، بل تترحم بحساب السلطان وبنظر رحمة السلطان. فالشفقة على خلق اللّٰه -من حيث هو خلق اللّٰه- كلما تزايدت تنبسط الروحُ. والشفقة الناشئة من الغفلة والمبنية على توهم المالكية بتزايدها ينقبض الروحُ ويتألم القلب بظلمة الغموم.

 كذلك: إن النظر الإيماني والتوحيدي يرى كلَّ ذي حياة يتصرف في وجوده، كالأمير المستأجَر على السفينة للسلطان الذي يتصرف في ملكه كيف يشاء. فهذا النظر لا يرى النملةَ ولا النحلةَ الصغيرة الفقيرة تُصارع الأسبابَ الظالمة المهاجمة، بل يرى النملة والنحلة تتصرفان في سفينة برية وطيارة هوائية، زمامُهما وناصيتُهما تصل بيد قدرةِ قدير، تتصاغر الأسبابُ الهاجمة في نظر راكبهما. إنما النملة وكذا النحلة تصارع الأسبابَ -ولو عظمت- بالاستناد بمالكه الحقيقي.

وإذا قيل عند المصيبة: ﴿إِنَّا للّٰه وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ﴾( البقرة: 156) فمعناه: المالُ له، وأنا في أمره، وإليه أذهبُ، ما عليّ لو لم أقصّر في حفظه. مثلُه كمثل نفرٍ هجم على ما في يده من مال السلطان بعضُ الناس. يقول النفر: أنا وما معي للسلطان وإليه أذهب، فإن كان بإذنه فلا عليّ.. وأما إذا نظر بنظر توهم التملك انقلبت الشفقةُ ناراً محرقة لمن له قلب؛ إذ يصير كل الحيوانات مثل اليتيم المذكور ويُرى في الكون مأتماً عمومياً..

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

الباب الثاني ([34])

في

سبحـان اللّٰه

 

بسم اللّٰه الرحمن الرحيم

سُبحان اللّٰه القادر المطلق بالقدرة الذاتية، والغني المطلق المتقدس المتنـزّه عن العَجز والاحتياج.

سُبحانَ اللّٰه الكامل المطلق في ذاته وصفاته وأفعاله، المتقدسِ المتنـزّه عن القصور والنقصان؛ إذ كمال آثاره دالٌّ على كمال أفعاله، وهو على كمال أسمائه، وهو على كمال أوصافه، وهو على كمال ذاته جل جلاله. بل مجموع ما في الكائنات والمصنوعات من الكمال والجمال؛ إنما هو ظلٌّ ضعيف بالنسبة لكماله وجماله بالحَدس الصادق، وبالبرهان القاطع، وبإجماع جماعاتٍ عظام متواترين مُتفقين بالكشف والذوق والشهود والمشاهدة: على ظِلية كمال الكائنات بل كلِّ الأكوان لأنوار واجب الوجود.

سبحان اللّٰه الواحد الأحد المتقدس المتنـزّه عن الشركاء، لا شريك له؛ لا في ملكه لواحدانية الأثر الدالة على وحدة المؤثر، ولا في ربوبيته لاتحاد القلم، ولا في ألوهيته المستلزمة للانفراد والاستقلال بالذات.

سبحان اللّٰه القدير الأزلي المتقدس المتنـزّه عن المعين والوزراء؛ لامتناع التحديد والانتهاء في القدرة الكاملة الغير المتناهية بواسطة الممكن المتناهي..

سبحان اللّٰه القديم الأزلي المتقدس المتنـزّه عن مماثلة المحدثات..

سبحان اللّٰه الواجب الوجود المتقدس المتنـزّه عن لوازم ماهيات الممكنات..

سبحان اللّٰه الذي له المثل الأعلى في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم المتقدس المتنـزّه عما تصفه العقائد الباطلة الخاطئة، وعما تتصوره الأوهام الباطلة القاصرة، وعن كل النقائص؛ إذ هي إما من الأعدام([35])، أو إلى الأعدام. فكيف تصل إلى ذيل الوجود الواجب؟! ..

سبحان اللّٰه السرمدي الأبدي المتقدس المتنـزّه عن التغير والتبدل اللازمين للكثرة والإمكان والمنافيين للوجوب والوحدة..

سبحان اللّٰه خالق الكون والمكان، المتقدس المتنـزّه عن التحيّز والتجزي المنافيين للغناء الذاتي.

سبحان اللّٰه القديم الباقي المتقدس المتنـزّه عن الحدوث والزوال.

سبحان اللّٰه الواجب الوجود المتقدس المتنـزّه عما لا يليق بجنابه من الحلول والاتحاد -ما للتراب ولرب الأرباب!- ومن الحصر والتحديد المستلزمين للمحكومية؛ ومن الوالد والولد تعالى اللّٰه عَمَّا يقول الظَّالمون عُلوّاً كبيراً.

سبحان اللّٰه الذي تسبح له الملائكة كلهم ويسبح له ما في السماوات وما في الأرض، بما على جباهها من نقوش قلم القَدَر..

*   *   *

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

الباب الثالث ([36])

في

الحمد للّٰه

 

 

بسم اللّٰه الرحمن الرحيم

الحمد للّٰه الذي تَحمَد له وتُثني عليه بإظهار صفاته الكمالية هذه العوالمُ بجميع ألسنتها الحالية والقالية؛ إذ العوالم بأنواعها، وأركانها، وأعضائها، وأجزائها، وذراتها، وأثيرها؛ بألسنةِ حدوثها وإمكاناتها، واحتياجاتها، وافتقاراتها، وحكمتها، وصنعتها، ونظامها، وموازنتها، وإتقانها، وكمالاتها، وعباداتها، وتسبيحاتها.. ألسناتٌ مسبّحات تاليات لأوصاف جلاله بأنه هو اللّٰه الواجب الوجود القديم السرمدي الأبدي الواحد الأحد الفرد الصمد العزيز الجبار المتكبر القهار.. وكذا حامداتٌ تاليات لأوصاف جماله قائلات بأن خالقَنا رحمن، رحيمٌ، رزاق، كريم، جواد، ودود، فيَّاض، لطيف، محسن، جميل.. وكذا ذاكرات تاليات لأوصاف كماله ناطقات -قالاً وحالاً- بأن خالقنا ومالكنا: حيٌّ، قيوم، عليم، حكيم، قدير، مريد، سميع، بصير، متكلم، شهيد.. وكذا ألسناتٌ تاليات لأسمائه الحسنى المتجلية في الكائنات.

ثم الحمد للّٰه الذي تحمده وتسبح له وتثني عليه بإظهار صفاته الكمالية هذه الكائناتُ بجميع ما فيها؛ إذ هذا الكتاب الكبير بجميع أبوابه وفصوله وصحفه وسطوره وجُمَله وحروفه؛ بحكمتها وصنعتها بصفاتها ونقوشها، كلٌ بقدرِ نسبته مَظاهرُ متفاوتةٌ ومرايا متنوعةٌ لتجليات بوارقِ أوصاف جلاله، وأضواءُ أوصاف جماله وأنوارُ أوصاف كماله وأشعاتُ أسمائه الحسنى..

الحمد للّٰه على نعمة الوجود الذي هو الخير المحض، وعلى نعمة الحياة التي هي كمالُ الوجود، وعلى نعمة الإيمان الذي هو كمال الحياة بل حياة الحياة..

الحمد للّٰه على نور الإيمان المزيلِ عنا ظلمات الجهات الستة، والمنوّرِ للجهات الآفاقية والأنفسية، والنَيِّرِ الذي فيه الأنوار الستة ومنه الأضواء الثلاثة المنعكِس من شمس معرفة سلطان الأزل.

الحمد للّٰه على الإيمان باللّٰه، إذ به يخلص الروح من ظلمات الأعدام ووحشة الأكوان ومن المأتم العمومي، ومِن، ومِن، ومِن، ومِن، ومِن إلى ما لا يحد مِن الأهوال المحرقة للروح..

الحمد للّٰه على نور الإيمان الذي أرانا ملجأ، محسناً، كريماً، ودوداً، رؤوفاً، رحيماً؛ إذ الإيمان هو المنوّر لنا الحياةَ الأبدية، والمبشر المضيء لنا السعادة الأبدية، وهو المحتوي على نقطتَي الاستناد والاستمداد، وهو الدافع لحجاب المأتم العمومي عن وجه الرحمة المرسَلة على وجه الكائنات، وهو المزيل للآلام الفراقية عن اللذائذ المشروعة بإراءة دوران الأمثال، ويديم النِّعمَ معنىً بإراءة شجرة الإنعام..

وكذا يُبدّل نورُ الإيمان ما يُتوهَّم من الكائنات أعداءَ أجانب أمواتاً موحشين؛ ويحولها أودّاءَ إخواناً أحياءً مؤنسين.

وكذا يصور ذلك النورُ كلَّ الكائنات ومجموعَ الدارين مملوءاً من الرحمة هديةً لكل مؤمن حقاً -بلا مزاحم- يستفيد من جميعها بوسائطها وحواسها المتنوعة الكثيرة الموهوبة، فحُقَّ له وعليه أن يقول: «الحمد للّٰه على كل مصنوعاته». ولازمٌ له وواجب عليه أن لا يرضى بمَن ليس كل الكائنات في يده يهديها لمن يشاء، رباً ومعبوداً ومحبوباً ومقصوداً..

الحمد للّٰه رب العالمين على رحمته على العالمين التي هي سيدُنا محمد r، إذ به وبرسالته استثبت واستقر ما انطفأ تحت كثافة الفلسفة ما في سائر الأديان من أنوار فكر الألوهية.. وكذا برسالته تظاهر للبشر مرضيات رب العالمين.. وكذا به اهتدى البشر إلى الإيمان الذي هو نورُ الكون والوجود..

الحمد للّٰه على نعمة الإسلامية التي هي مرضيات رب العالمين؛ إذ الإسلام هو الذي أرانا ما يَرضى به ويريده ويحبه ربُّنا وربُّ العالمين ورب السماوات والأرضين.

الحمد للّٰه على نور الإيمان المستضيء بضياء: بسم اللّٰه الرحمن الرحيم؛ لابد للحامد أن ينظر من النعمة إلى الإنعام، ليرى أن المُنعم أبصرُ به وأقربُ منه إليه؛ يتعرّف بالإنعام، ويتوَدّد بالإحسان، ويتحبب بالإكرام إلى الإنسان. فالإنسان إنما يكون شاكراً إذا استشعر ذلك التعرّفَ والتودّد.

*  *  *

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

الباب الرابع

في

اللّٰه أكبر

 

هذا الباب قسمان: هذا القسم الأول بغاية الإجمال، والقسم الثاني فيه إيضاح تام.

القسم الأول

بسم اللّٰه الرحمن الرحيم

اللّٰه أكبر.. من كل شيء، إذ هو القدير على كل شيء، بقدرة لانهاية لها بوجه من الوجوه، تتساوى بالنسبة إليها الذراتُ والنجومُ والجزءُ والكلُّ والفردُ والنـوعُ بسرّ: ﴿ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلاَّ كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ﴾( لقمان: 28).

نعم، إن الذرة والجزء والفرد ليست بأقلَّ جزالةً من النجم والنوع والكل.

اللّٰه أكبر.. إذ هو العليم بكل شيء بعلمٍ لانهاية له بوجهٍ من الوجوه، لازمٍ ذاتي([37]) للذات، فلا يمكن أن ينفكَّ عنه شيء بسر الحضور.. وما في الكائنات من الحكمة العامة، والعناية التامة، والشعور المحيط، والأقضية المنتظمة، والأقدار المثمرة، والآجال المعينة، والأرزاق المقنّنة، والرحماتِ المتنوعة، والاتقانات المفننة، والاهتمام المزين.. شاهداتٌ على إحاطة علمه تعالى بكل شيء، بسر: ﴿أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ﴾( الملك: 14) جل جلاله.

اللّٰه أكبر.. إذ هو المريد لكل شيء؛ إذ ترددُ الكائنات بين الإمكانات الغير المحدودة، ثم تنظيمُها بهذا النظام وموازنتُها بهذا الميزان، وخلقُ المختلفات المنتظمة -كالشجر بأوراقها وأزهارها وثمراتها مثلاً - من البسيط الجامد.. شاهداتٌ على عموم إرادته تعالى، ومستلزمة لـ:« ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن». جلّ جلاله..

اللّٰه أكبر.. إنْ قلتَ: لِمَ ومَن هو؟ قيل لك: إذ هو الشمس الأزلي الذي هذه الكائنات ظلالُ أنواره وتجلياتُ أسمائه وآثارُ أفعاله باتفاق أهل الشهود.

اللّٰه أكبر.. من كل شيء.. إن قلت: لِمَ ومَن هو؟ قيل لك: إذ هو السلطان الأزلي الذي هذه العوالم بتمامها في تصرف قبضتَي نظامه وميزانه جلّ جلاله..

اللّٰه أكبر.. إنْ قلت: لِمَ ومَن هو؟ قيل لك: إذ هو الحاكم الأزلي الذي نظّم الكائنات بقوانين سنته، ودساتير قضائه وقَدَره، ونواميس مشيئته وحكمته، وجلوات عنايته ورحمته، وتجليات أسمائه وصفاته. وما القوانين والنواميس إلاّ أسماءٌ لتجلي مجموع العلم والأمر والإرادة على الأنواع..

اللّٰه أكبر.. إنْ قلت: لِمَ ومَن هو؟ قيل لك: إذ هو الصانع الأزلي الذي هذا العالمُ الكبير إبداعهُ وإنشاؤه وصنعتُه، وهذا العالمُ الصغير إيجادهُ وبناؤه وصبغته.. وعلى جوانبهما بل على كل جزء من أجزائهما سكتُه..

اللّٰه أكبر.. إنْ قلت: لِمَ ومَن هو؟ قيل لك: إذ هو النقاش الأزلي الذي هذه الكائناتُ خطوطُ قلمِ قضائه وقَدَره، ونقوشُ بركار([38]) حكمته، وثمرات فياض([39]) رحمته، وتزييناتُ يدِ بيضاء عنايته، وأزاهيرُ لطائف كَرَمه، ولمعاتُ تجليات جماله..

تنبيه

أحكام هذه الأبواب الثلاثة ([40]) تشربت براهينُها. تُعرف بالدقة، في قيودها دلائلُ الأحكام.

 

اللّٰه أكبر.. إنْ قلت: مَن هو؟ قيل لك: إذ هو القدير الأزلي الذي هذه الموجودات معجزات قدرته. تشهد تلك المعجزات على أنه على كل شيء قدير. لم يخرج ولن يخرجَ عن حكم قدرته شيءٌ، تتساوى بالنسبة إليه الذراتُ والشموس..

اللّٰه أكبر.. إنْ قلتَ: مَن هو؟ قيل لك: إذ هو الخالق البارئ المصوّر له الأسماء الحسنى. الذي هذه الأجرام العلوية نيّراتُ براهين ألوهيته وعظمته، وشعاعاتُ شواهد ربوبيته وعزته جلّ جلالُه..

اللّٰه أكبر.. إنْ قلت: مَن هو؟ قيل لك: إذ هو الخالق لكل شيء، إذ هو الرزاق لكل حي، وهو المنعم لكل النِعَم، وهو الرحمن في الدارين؛ مِن عظيمِ رحمتهِ سيدنا «محمد» عليه الصلاة والسلام، و«الجنة». وهو الرب لكل شيء، وهو المدبّر لكل شيء وهو المربي لكل شيء..

اللّٰه أكبر.. إنْ قلتَ: مَن هو؟ قيل لك: إذ هو المصور لكل شيء، وهو المتصرف في كل شيء، وهو النظّام لهذا العالم.

اللّٰه أكبر.. وأعظمُ وأجلُّ مِن أن يحيط به الأفكارُ والعقول، وأرفعُ وأعلى وأجلّ وأنزَه من أن يناله العجزُ والقصور..

اللّٰه أكبر من كل شيء؛ أي ما يكون لأجله أكبر، وأعلى، وأحسن، وأولى.. وما يكون به أعظم وأجلّ..

*  *  *

تنبيـه

هذه الكلمات المباركة التي تتكرّر بعد الصلوات؛ شاهَدتُ أنها ليست تكراراً، بل تأسيسٌ -كما أُشير إليه في الأبواب- أو تأكيدٌ في تأسيسٍ، معانيها متساندةً لا متحدةً.

مثلاً: رميتَ حجراً في وسط حوضٍ كبير تقول للدائرة المتشكلة من وقوع الحجر: واسعة.. واسعة.. واسعة.. كلما تتلفظ بـ"واسعة" تتظاهر دائرةٌ أوسع. وكذا تأكيدٌ في المعنى، تأسيسٌ في المقاصد والثمرات.

*  *  *

إن قلت: ما معنى «اللّٰه أكبر» من كل شيء. ما قيمة «الممكن» حتى يقال: «الواجب» أكبرُ منه؟ أين "الخالقين.. والراحمين" غيرُه تعالى حتى يُقال: "أحسنُ الخالقين" و "أرحم الراحمين"؟

قيل لك: أي ما كان منه أكبرُ وأعلى، وما كان له أحسنُ وأولى، وما كان به أعظمُ وأجلُّ. وهو في ذاته أكبرُ من كل ما يتصوره العقول.. وكذا لابد أن يكون أكبرَ في قلوبكم وأهم من كل مقاصدكم ومطالبكم.. وكذا أكبرُ وأعظم من أن يسترَه ويحجبَه حجابُ الكائنات.

وأما «أحسن الخالقين»! أي: هو في ذاته أحسنُ من الخالقين الذين في مرايا العقول بتجلي صفة الخالقية فيها، كالشمس في المرايا. يقال: الشمسُ في ذاتها أنورُ من تماثيلها المنوَّرين في المرايا.. وكذا أحسنُ في مرتبة وجوبه من الخالقين الموهومين في فرض الأوهام.. وأيضاً نظرُنا الوهمي الظاهري لمّا يرى الآثارَ من الأسباب ويتوهم الخالقية، أي هو أحسنُ خالقاً بلا حجابِ الأسباب، فلابد أن يُتَوَجّه إليه بالذات، ولا يُبالى بالأسباب الظاهرية.. وكذا إن نسبة المفاضلة تنظر إلينا وإلى الأشياء التي تتعلق بنا، لا في نفس الأمر، كما يُقال لنفرٍ في وظيفة جزئية: السلطانُ أحسن وأعظم. أي مدخله في وظيفتك هذه أزيد؛ فلابد أن تلاحظه أزيد من سائر أمرائك الظاهرية.

اللّٰه أكبر وأجلّ من أن تحيط به الأفكار والعقول.. وأرفع وأنزه من أن يناله العجز والقصور.. وهو الكامل المطلق في ذاته، وصفاته، وأفعاله، جل جلاله..

 

*  *  *

 

الباب الرابع المفصل

في مراتب

اللّٰه أكبر

 

القسم الثاني

[ سنذكر سبعاً من ثلاث وثلاثين مرتبة لهذا الباب، حيث قد ذُكر قسمٌ مهم من تلك المراتب في المقام الثاني من «المكتوب العشرين»، وفي نهاية الموقف الثاني من «الكلمة الثانية والثلاثين»، وبداية الموقف الثالث منها، فمن شاء أن يطلع على حقيقة هذه المراتب فليراجع تلك الرسائل].

 

المرتبة الأولى

بسم اللّٰه الرحمن الرحيم

﴿وَقُلِ الْحَمْدُ للّٰه الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَم يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُن لَّهُ وَلِيٌّ مِّنَ الذُّلَّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا﴾( الإسراء: 111) . لَبَيكَ وَسَعْدَيكَ.

جلّ جلالُه اللّٰه أكبر مِنْ كُلِّ شيءٍ قُدرَةً وَعِلماً، إذ هُوَ الخَالِقُ البارئُ المُصَوِّرُ الَّذي صَنَعَ الإنسَانَ بقُدرَتهِ كالكَائِنَاتِ، وَكَتَبَ الكَائِنَاتِ بقَلَمِ قَدَرِهِ كَمَا كَتَبَ الإنسَانَ بذَلِكَ القَلَمِ. إذ ذاكَ العَالَمُ الكَبيرُ، كَهَذَا العَالَمِ الصغيرِ مَصنُوعُ قُدرَتِهِ، مَكتُوبُ قَدَرِهِ. إبدَاعُهُ لِذَاكَ صَيَّرَهُ مَسْجداً، إيجَادُهُ لهذا صَيَّرَهُ ساجِداً. إنْشَاؤُهُ لِذَاكَ صَيَّرَ ذاكَ مُلكاً، بِنَاؤُهُ لِهذا صَيَّرَهُ مَملُوكَاً. صَنْعَتُهُ في ذاكَ تَظَاهَرَتْ كِتَابَاً، صِبْغَتُهُ في هَذا تَزَاهَرَتْ خِطابَاً. قُدرَتُهُ في ذاكَ تُظهِرُ حِشمَتَهُ، رَحْمَتُهُ في هَذا تَنظِمُ نِعْمَتَهُ. حِشمَتُهُ في ذاكَ تَشْهَدُ هُوَ الوَاحِدُ. نِعْمَتُهُ في هَذا تُعلِنُ هُوَ الأحَدُ. سِكَّتُهُ في ذَاك في الكُلِّ وَالأَجْزَاءِ سُكونَاً حَرَكَةً. خاتَمُهُ في هَذا في الجِسمِ وَالأَعْضاءِ، حُجَيْرَةً ذَرَّةً..

فَانْظُرْ إلى آثَارهِ المُتَّسِقَةِ كيفَ تَرى -كَالفَلَقِ- سَخَاوَةً مُطْلَقَةً مَعَ انْتِظَامٍ مُطْلَقٍ، في سُرْعَةٍ مُطْلَقَةٍ مَعَ اتِّزَانٍ مُطْلَقٍ، في سُهُولَةٍ مُطْلَقَةٍ مَعَ إتْقَانٍ مُطْلَقٍ، في وُسْعَةٍ مُطْلَقَةٍ مَعَ حُسْنِ صُنْعٍ مُطْلَقٍ، في بُعْدَةٍ مُطْلَقَةٍ مَعَ اتِّفَاقٍ مُطْلَقٍ، في خِلْطَةٍ مُطْلَقَةٍ مَعَ امْتِيَازٍ مُطْلَقٍ، في رُخْصَةٍ مُطْلَقَةٍ مَعَ غُلُوٍّ مُطْلَقٍ. فَهَذهِ الكَيْفِيَّةُ المَشْهُودَةُ شَاهِدَةٌ للعَاقِلِ المُحَقِّقِ، مُجْبِرَةٌ للأَحْمَقِ المُنَافِقِ، عَلى قَبُولِ الصَنْعَةِ وَالوَحْدَةِ للحَقِّ ذي القُدْرَةِ المُطْلَقَةِ وَهُوَ العَليِمُ المُطْلَقُ.

وَفي الوَحْدَةِ سُهُولَةٌ مُطْلَقَةٌ، وَفي الكَثْرَةِ وَالشِّرْكَةِ صُعُوبَةٌ مُنغَلِقَةٌ. إنْ أُسْنِدَ كُلُّ الأَشْيَاءِ للِوَاحِدِ؛ فَالكَائِنَاتُ كَالنَّخْلَةِ وَالنَّخْلَةُ كَالثَّمَرَةِ سُهُولَةً في الابْتِدَاعِ.. وَإنْ أُسْنِدَ للِكَثْرَةِ فَالنَّخْلةُ كَالكَائِنَاتِ وَالثَّمَرَةُ كَالشَّجَرَاتِ صُعُوبَةً في الامْتِنَاعِ؛ إذ الوَاحِدُ بِالفِعْلِ الوَاحِدِ يُحَصِّلُ نَتِيجَةً ووَضْعيِةً للكَثيرِ بِلا كُلْفَةٍ ولا مُبَاشَرَةٍ؛ لَوْ أُحِيلَتْ تِلْكَ الوَضْعيَّةُ وَالنَّتيجَةُ إلى الكَثرَةِ لا يُمْكنُ أنْ تَصِلَ إلَيهَا إلاّ بِتَكَلُّفَاتٍ وَمُبَاشَرَاتٍ وَمُشَاجَرَاتٍ، كَالأَمِيرِ مَعَ النَّفَرَاتِ، وَالبَانِي مَعَ الحَجَراتِ، وَالأرضِ مَعَ السَّيَّارَاتِ، والفَوَّارَةِ مَعَ القَطَرَاتِ، وَنُقطَةِ المَرْكَزِ مَعَ النُّقَطِ في الدَّائِرَةِ:

بِسِرِّ أنَّ في الوَحْدَةِ يَقُومُ الانتسَابُ مَقَامَ قُدْرَةٍ غَيْرِ مَحْدُودَةٍ. وَلا يُضْطَرُ السَّبَبُ لِحَمْلِ مَنَابعِ قُوَّتِهِ، وَيتعَاظَمُ الأثَرُ بالنِّسْبَةِ إلى المُسْنَدِ إلَيهِ. وَفي الشِّرْكَةِ يُضْطَرُّ كُلُّ سَبَبٍ لِحَمْلِ مَنَابعِ قُوَّتِهِ، فَيَتَصاغَرُ الأَثَرُ بِنِسْبَةِ جِرْمِهِ. وَمِنْ هُنَا غَلَبَتِ النَّمْلَةُ وَالذُّبَابَةُ عَلى الجَبابِرَةِ، وَحَمَلَتِ النَّوَاةُ الصَّغِيرَةُ شَجَرَةً عَظِيمة.

وَبِسِرِّ أنَّ في إسْنادِ كُلِّ الأشياءِ إلى الوَاحِدِ لا يَكُونُ الإيجَادُ مِنَ العَدَمِ المُطْلَقِ، بَلْ يَكُونُ الإيجَادُ عَيْنَ نَقلِ المَوجُودِ العِلمِيِّ، إلى الوُجُودِ الخَارِجِيِّ. كَنَقْلِ الصُّورَةِ المُتَمَثِّلَةِ في المِرآةِ، إلى الصَّحيِفَةِ الفُوطُوغْرافِيَّةِ لِتَثْبِيتِ وُجُودٍ خَارِجِيٍّ لَهَا بِكَمالِ السُّهُولَةِ، أوْ إظهارِ الخَطِّ المَكتُوبِ بِمِدَادٍ لا يُرى بِواسِطةِ مَادَةٍ مُظهِرَةٍ للِكِتَابَةِ المَسْتُورَةِ..

وَفي إسْنَادِ الأَشْيَاءِ إلى الأَسْبَابِ وَالكَثْرَةِ يَلْزَمُ الإيجَادُ مِنَ العَدَمِ المُطْلَق؛ِ وَهُوَ إنْ لَمْ يَكُنْ مُحَالاً يَكُونُ أصْعَبَ الأشْيَاءِ! فَالسُهُولَةُ في الوَحْدَةِ واصِلَةٌ إلى دَرَجَةِ الوُجوبِ، وَالصُعُوبَةُ في الكَثْرَةِ وَاصِلَةٌ إلى دَرَجَةِ الامتِنَاعِ.. وَبِحِكْمَةِ أنَّ في الوَحدَةِ يُمْكِنُ الإبْدَاعُ وَإيجَادُ «الأَيْس مِنَ اللَّيْس»([41]) يَعْني إبْدَاعَ المَوْجُودِ مِنَ العَدَمِ الصِّرْفِ بِلا مُدَّةٍ وَلا مَادَّةٍ، وَإفراغَ الذَّرَّاتِ في القَالَبِ العِلْمِيِّ بلا كُلْفَةٍ وَلا خِلْطَةٍ.. وَفي الشِّرْكَةِ وَالكَثْرَةِ لا يُمْكِنُ الإبْدَاعُ مِنَ العَدَمِ بِاتِّفَاقِ كُلِّ أهلِ العَقْلِ. فَلا بُدَّ لِوُجودِ ذي حَيَاةٍ جَمْعُ ذَرَّاتٍ مُنْتَشِرَةٍ في الأرضِ وَالعَناصِرِ، وَبِعَدَمِ القَالَبِ العِلْميِّ يَلْزَمُ لِمُحَافَظَةِ الذَّرَاتِ في جِسْمِ ذي الحيَاةِ وُجُودُ عِلْمٍ كُلِّي وَإرادَةٍ مُطْلَقَةٍ في كُلِّ ذَرَّةٍ. وَمَعَ ذلِكَ إنَّ الشُّركاءَ مُسْتَغْنيةٌ عَنْهَا وَممْتَنِعَةٌ بالذَّاتِ بخَمسَة وجوهٍ متداخلة، والشُركاء المُستَغنيةُ عنها والمُمتَنِعَةُ بالذات تَحَكُّمِيَّةٌ مَحْضَةٌ، لا أمارَةَ عَلَيْها وَلا إشَارَةَ إلَيْهَا في شَيءٍ مِنَ المَوْجُودَاتِ، إذ خِلْقَةُ السَّماوَاتِ وَالأرضِ تَسْتَلْزِمُ قُدْرَةً كَامِلَةً غَيْرَ مُتَناهِيَةٍ بالضَّرُورَةِ، فَاسْتُغْني عَنِ الشُّرَكَاءِ.. وَإلاّ لَزِمَ تَحْديدُ وَانْتِهَاءُ قُدْرَةٍ كَامِلَةٍ غَيْرِ مُتَنَاهِيَةٍ في وَقْتِ عَدَمِ التَّناهِي بِقُوَّةٍ مُتَنَاهِيَةٍ، بِلا ضَرَورَةٍ، مَعَ الضَّرُورَةِ في عَكْسِهِ. وَهُوَ مُحَالٌ في خَمْسَةِ أوْجُهٍ: فَامْتَنَعَتِ الشُّرَكَاءُ، مَعَ أنَّ الشُّرَكَاءَ المُمتَنِعَةَ بِتِلكَ الوُجوُهِ لا إشَارَةَ إلى وُجودِها، وَلا أمارَةَ عَلى تَحققهَا في شيءٍ مِنَ المَوجُودَاتِ.

فَقَدِ استَفسَرنا هذِهِ المَسْألَةَ في المَوقِفِ الأَوَّلِ مِنَ الرِّسالَةِ الثَّانِيَةِ وَالثَّلاثِينَ: مِنَ الذَّرَّاتِ إلى السَّيَّارَاتِ، وَفِي المَوْقِفِ الثَّاني: مِنَ السَّمَاواتِ إلى التَّشَخُّصَاتِ الوَجْهِيَّةِ، فَأعْطَتْ جَمِيعُها جَوَابَ رَدِّ الشِّرْكِ بِإراءة سِكَّةِ التَّوْحِيدِ.

فَكَمَا لا شُرَكَاءَ لَهُ. كَذَلِكَ لامُعِينَ وَلا وُزَراءَ لَهُ. وَمَا الأسْبَابُ إلاّ حِجَابٌ رَقِيقٌ عَلى تَصَرُّفِ القُدْرَةِ الأَزَلِيَّةِ لَيْسَ لَهَا تَأثِيرٌ إيجادِيٌ في نَفسِ الأمرِ؛ إذ أشْرَفُ الأسْبَابِ وَأوْسَعُها اختِيَاراً هُوَ الإنسَانُ، مَعَ أنَّهُ لَيسَ في يَدِهِ مِنْ أظْهَرِ أفْعَالهِ الاختِيَاريَةِ -كَالأَكْلِ وَالكَلامِ وَالفِكْرِ - مِنْ مِئَاتِ أجْزاءٍ إلاّ جُزْءٌ وَاحِدٌ مَشْكُوكٌ. فَإذَا كَانَ السَّبَبُ الأَشْرَفُ وَالأَوْسَعُ اختِيَاراً مَغْلُولَ الأَيْدي عَنِ التَّصَرُّفِ الحَقيِقيِّ كَمَا تَرى، فَكَيفَ يُمْكِنُ أنَ تَكُونَ البَهِيماتُ والجَمَاداتُ شَرِيكاً في الإيجَادِ وَالرُّبُوبِيَّةِ لخَالِقِ الأرضِ وَالسَّمَاواتِ؟ فَكَمَا لا يُمْكِنُ أنْ يَكُونَ الظَّرْفُ الَّذي وَضَعَ السُّلطَانُ فيهِ الهَدِيَّةَ، أو المَندِيلُ الَّذي لَفَّ فيهِ العَطيَّةَ، أوِ النَّفَرُ الَّذي أرسَلَ عَلى يَدِهِ النِّعْمَةَ إليكَ؛ شُرَكَاءَ للِسُلْطَانِ في سَلْطَنَتِهِ.. كَذَلِكَ لا يُمْكِنُ أنْ تَكُونَ الأسْبَابُ المُرْسَلَةُ عَلى أيْديِهمُ النِّعَمُ إلينَا، وَالظُرُوفُ الَّتي هِيَ صَنَادِيقُ للِنِّعَمِ المُدَّخَّرَةِ لَنَا، والأسْبَابُ الَّتي التَفَّتْ عَلى عَطَايَا إلَهِيَّةٍ مُهْداةٍ إلَينَا؛ شُرَكَاءَ أعْواناً أو وَسَائِطَ مُؤَثِّرَة.

 

المرتبة الثانية

جلّ جلالُه اللّٰه أكبرُ مِنْ كُلِّ شَيءٍ قُدْرَةً وَعِلْمَاً، إذ هُوَ الخَلاّقُ العَلِيمُ الصَّانِعُ الحَكِيمُ الرَّحمنُ الرَّحِيمُ الَّذي هذِهِ المَوجُودَاتُ الأرضِيَّةُ وَالأجْرَامُ العُلوِيَّةُ في بُسْتَانِ الكَائِنَاتِ مُعجِزَاتُ قُدْرَةِ خَلاّقٍ عَليِمٍ بِالبَدَاهَةِ. وَهَذهِ النَبَاتَاتُ المُتَلَوّنَة المُتَزَيِّنَةُ المَنْثُورةُ، وَهَذِهِ الحَيْوَانَاتُ المُتَنَوِّعَةُ المُتَبَرِّجَةُ المَنْشُورَةُ في حَدِيقَةِ الأرضِ خَوَارِقُ صَنْعَةِ صانِع ٍحَكِيم ٍ بِالضَّرُورَةِ. وَهَذهِ الأَزْهَارُ المُتَبَسِّمَةُ وَالأَثْمَارُ المُتَزَيِّنَةُ في جِنَانِ هذِهِ الحَديقَةِ هَدَايَا رَحْمَةِ رَحْمن رَحيِمٍ بالمُشَاهَدَةِ.. تَشْهَدُ هاتِيكَ، وَتُنَادي تَاكَ، وتُعْلِنُ هذِهِ بِأَنَّ خَلاَّقَ هَاتيكَ، وَمُصَوِّرَ تَاكَ، وَوَاهِبَ هذِهِ عَلى كُلِّ شَىءٍ قَديرٌ، وَبِكُلِّ شَىءٍ عَليمٌ، قَد وَسِعَ كُلَّ شَىءٍ رَحْمَةً وَعِلمَاً، تتَسَاوى بِالنِّسْبَةِ إلى قُدْرَتِهِ الذَّرَّاتُ وَالنُّجُومُ وَالقَليلُ وَالكَثيرُ والصَغيرُ وَالكَبيرُ وَالمُتَنَاهِي وَغَيرُ المُتَنَاهِي، وَكُلُّ الوُقُوعَاتِ المَاضِيَةِ وَغَرَائِبِها مُعْجِزَاتُ صَنْعَةِ صانِعٍ حَكيمٍ، تَشْهَدُ أنَّ ذَلِكَ الصَّانِعَ قَديرٌ عَلى كُلِّ الإمْكَانَاتِ الاسْتِقْبَالِيَّةِ وَعَجائِبِها، إذ هُوَ الخَلاّقُ العَليمُ وَالعَزيزُ الحَكيِمُ.

فَسُبْحانَ مَنْ جَعَلَ حَديقَةَ أرضِهِ مَشْهَرَ صَنْعَتِهِ، مَحْشرَ فِطْرَتِهِ، مَظْهَرَ قُدرَتِهِ، مَدَارَ حِكْمَتِهِ، مَزْهَرَ رَحْمَتِهِ، مَزْرَعَ جَنَّتِهِ، مَمَرَّ المَخْلُوقَاتِ، مَسِيلَ المَوجُودَاتِ، مَكيْلَ المَصْنُوعَاتِ.

فَمُزَيَّنُ الحَيْوانَاتِ، مُنَقَّشُ الطُّيورات، مُثَمَّرُ الشَّجَرات، مُزَهَّرُ النَبَاتات؛ مُعْجِزَاتُ عِلمِهِ، خَوَارِقُ صُنْعِهِ، هَدايَا جُودِهِ، بَراهِينُ لُطْفِهِ.

تَبَسُّمُ الأزهَارِ مِنْ زينَةِ الأثْمَارِ، تَسَجُّعُ الأطيَارِ في نَسْمَةِ الأسْحَارِ، تَهَزُّجُ الأمطارِ عَلى خُدُودِ الأزهَارِ، تَرَحُّمُ الوالِدَاتِ عَلى الأَطفَالِ الصِّغَارِ، تَعَرُّفُ وَدُودٍ، تَوَدُّدُ رَحمنَ، تَرَحُّمُ حَنَّانٍ، تَحَنُّنُ مَنَّانٍ، للِجِنِّ وَالإنسَانِ، وَالرُّوحِ وَالحَيوَانِ وَالمَلَكِ وَالجانِّ. وَالبُذُورُ وَالأثْمَارُ، والحُبُوبُ وَالأزهَارُ مُعجِزَاتُ الحِكمَةِ.. خَوَارِقُ الصَّنْعَةِ.. هَدَايا الرَّحْمَةِ.. بَرَاهينُ الوَحْدَةِ.. شَوَاهِدُ لُطْفِهِ في دارِ الآخِرَةِ... شَوَاهِدُ صَادِقَةٌ بأنَّ خَلاَّقَهَا عَلى كُلِّ شيءٍ قَديرٌ وَبِكُلِّ شيءٍ عَلِيمٌ. قَدْ وَسِعَ كُلَّ شيءٍ بِالرَّحْمَةِ وَالعِلْمِ وَالخَلْقِ وَالتَّدْبيرِ وَالصُّنْعِ وَالتَّصْوِيرِ. فَالشَّمسُ كَالبَذرَةِ، وَالنَّجْمُ كَالزَّهْرَةِ، وَالأَرضُ كَالحَبَّةِ، لا تَثْقُلُ عَلَيهِ بِالخَلْقِ وَالتَّدْبيرِ، وَالصُّنعِ وَالتَّصْويرِ. فَالبُذُورُ وَالأَثْمَارُ مَرَايا الوَحْدَةِ في أَقْطَارِ الكَثْرَةِ، إشَاراتُ القَدَرِ، رُمُوزَاتُ القُدْرَةِ؛ بِأنَّ تِلكَ الكَثْرَةِ مِنْ مَنْبَعِ الوَحْدَةِ، تَصْدُرُ شَاهِدَةً لِوَحْدَةِ الفَاطِرِ في الصُّنْعِ وَالتَصْويرِ. ثُمَّ إلى الوَحْدَةِ تَنْتَهي ذَاكِرَةً لِحِكمَةِ الصَّانِعِ في الخَلْقِ وَالتَّدْبيِرِ.. وَتَلْوِيحاتُ الحِكْمَةِ بأنَّ خَالِقَ الكُلِّ -بِكُلِّيَّةِ النَّظَرِ إلى الجُزْئيِّ- يَنْظُر ثمَّ إلى جُزْئِهِ، إذ إنْ كانَ ثَمراً فَهُو المَقْصُودُ الأظهَرُ مِنْ خَلقِ هَذا الشَّجَرِ. فَالبَشَرُ ثَمَرٌ لِهَذِهِ الكَائِنَاتِ، فَهُوَ المَقْصُودُ الأَظْهَرُ لِخَالِقِ المَوْجُودَاتِ. والقَلبُ كَالنُّوَاةِ، فَهُوَ المِرآةُ الأنْوَرُ لِصَانِعِ المَخْلُوقَاتِ، ومِنْ هذِهِ الحِكْمَةِ فَالإنسَانُ الأَصْغَرُ في هذِهِ الكَائِناتِ هُوَ المَدَارُ الأَظْهَرُ للنَّشْرِ وَالمحَشْرِ في هذِهِ المَوجُوداتِ، وَالتَّخْريبِ والتَّبْديلِ وَالتَّحويلِ وَالتَّجْديدِ لِهَذِهِ الكَائِناتِ.

اللّٰه أكبر: يَا كَبيرُ أنتَ الَّذي لا تَهدِي العُقُولُ لِكُنْهِ عَظَمَتِهِ..

كه (لا اله الاّ هو برابر مي زند هر شيء، دمادم جويد: يا حق، سراسر كويد: يا حى) ([42])

 

المرتبة الثالثة ([43])

إيضاحها في رأس «الموقف الثالث من الرسالة الثانية والثلاثين».

اللّٰه أكبرُ مِنْ كُلِّ شيءٍ قُدْرَةً وَعِلماً، إذ هُوَ القَديرُ المُقَدِّرُ العَلِيمُ الحَكيِمُ المُصَوِّرُ الكَرِيمُ اللَّطِيفُ المُزَيِّنُ المُنْعِمُ الوَدُودُ المُتَعَرِّفُ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ المُتَحَنِّنُ الجَمِيلُ ذُو الجَمَالِ وَالكَمَالِ المُطْلَقِ، النَّقَّاشُ الأزلي الَّذي: ما حَقَائِقُ هَذِهِ الكَائِناتِ كُلاً وَأجزَاءً، وَصَحَائِفَ وَطَبَقاتٍ، وَما حَقائِقُ هذِهِ المَوجُودَاتِ كُلّياً وَجُزئِياً وُجُوداً وَبَقاءً.. إلاّ خُطُوطُ قَلَمِ قَضَائِهِ وَقَدَرِهِ بِتَنْظِيمٍ وَتَقدِيرٍ وَعِلْمٍ وَحِكْمَةٍ.. وَإلاّ نُقُوشُ بَركَارِ عِلْمِهِ وَحِكْمَتِهِ بِصُنْعٍ وَتَصويرٍ.. وَإلاّ تَزْييناتُ يَدِ بَيْضاءِ صُنْعِهِ وَتَصويِرِهِ وَتَزْيينهِ وَتَنْوِيرِهِ بِلُطْفٍ وَكَرَم.. وَإلاّ أزاهيرُ لَطائِفِ لُطْفِهِ وَكَرَمِهِ وتَعرُّفِهِ وَتَوَدُّدِهِ بِرَحْمَةٍ وَنِعْمَةٍ.. وَإلاّ ثَمَرَاتُ فَيَّاضِ عَيْنِ رَحْمَتِهِ وَنِعْمَتِهِ وَتَرَحُّمِهِ وَتَحَنُّنِهِ بِجَمَالٍ وَكَمالٍ.. وَإلاّ لَمَعَاتُ جَمالٍ سَرْمَديٍّ وَكَمالٍ دَيْمُومِيٍّ بِشَهَادَةِ تَفانِيَّةِ المَرايا وَسَيَّالِيَّةِ المَظاهِرِ، مَعَ دوامِ تَجَلي الجَمَالِ عَلى مَرِّ الفُصُولِ وَالعُصُورِ وَالأدْوَارِ، وَمَعَ دَوَامِ الإِنْعَامِ عَلى مَرِّ الأَنَامِ وَالأَيَّامِ وَالأَعْوَامِ.

نعم، تَفَاني المِرْآةِ، زَوَالُ المَوجُودَاتِ مَعَ التَّجَلِّي الدَّائِم ِمَعَ الفَيضِ المُلازِمِ، مِنْ أظْهَرِ الظَّوَاهِرِ مِنْ أبْهَرِ البَوَاهِرِ أنَّ الجَمالَ الظَّاهِرَ، أنَّ الكَمالَ الزَّاهِرَ ليسَا مُلْكَ المَظَاهِرِ، مِنْ أفصَحِ تِبيانٍ مِنْ أوضَحِ بُرْهَانٍ للِجَمَالِ المُجَرَّدِ للإِحسانِ المُجَدَّدِ، للواجِبِ الوُجُودِ للِبَاقي الوَدُودِ.

نعم، فَاْلأَثَرُ المُكَمَّلُ، يَدُلُّ بالبَدَاهَةِ عَلى الفِعْلِ المُكَمَّلِ. ثُمَّ الفِعْلُ المُكَمَّلُ يَدُلُّ بِالضَّرُورَةِ عَلى الاسمِ المُكَمَّلِ، وَالفَاعِلِ المُكَمَّلُ. ثم الاسم المُكَمّلُ يَدُلُّ بِلا رَيبٍ عَلى الوَصفِ المُكَمَّلِ. ثُمَّ الوَصفُ المُكَمَّلُ يَدُلُّ بِلا شَكٍ عَلى الشَّأنِ المُكَمَّلِ. ثُمَّ الشَّأنُ المُكمَّلُ يَدُلُّ بِاليَقينِ عَلى كَمالِ الذَّاتِ بِمَا يَليقُ بِالذَاتِ، وَهُوَ الحَقُّ اليَقينُ...

 

المرتبة الرابعة

جَلَّ جَلالُهُ اللّٰه أكبرُ؛ إذ هُوَ العَدلُ العَادِلُ الحَكَمُ الحَاكِمُ الحَكِيمُ الأزلي الَّذي أسَّسَ بُنْيَانَ شَجَرَةِ هذِهِ الكَائِنَاتِ في سِتَةِ أيَّامٍ بِأُصُولِ مَشِيئَتِهِ وَحِكْمَتِهِ، وَفَصَّلَها بِدَساتِيرِ قَضائِهِ وَقَدَرِهِ، وَنَظَّمَها بِقَوَانين عادَتِهِ وَسُنَّتِهِ، وَزَيَّنَها بِنَواميسِ عِنَايَتِهِ وَرَحْمَتِهِ، وَنَوَّرَهَا بِجَلَواتِ أسْمائِهِ وَصِفَاتِهِ: بِشَهَادَاتِ انْتِظامَاتِ مَصنُوعَاتِهِ، وَتَزَيُّنَاتِ مَوجُودَاتِهِ وَتَشابُهِها وَتنَاسُبِها وَتَجَاوُبها وَتَعاوُنِها وَتَعانُقِها، وَإتْقانِ الصَّنعَةِ الشُّعُوريَّةِ في كُلِّ شَيءٍ، عَلى مِقْدَارِ قَامَةِ قابِليَّتِهِ المُقَدَّرَةِ بِتَقْدِيرِ القَدَرِ.

فَالحِكمَةُ العَامَّةُ في تَنْظيماتِها، وَالعِنَايَةُ التَّامَّةُ في تَزيِيِنَاتِها، وَالرَّحمَةُ الوَاسِعَةُ في تَلطيفاتِها، وَالأَرزَاقُ وَالإعَاشَةُ الشَّامِلَةُ في تَربِيَتِها، والحَيَاةُ العَجيبَةُ الصَّنعَةِ بِمَظْهَرِيَّتِها للِشُؤونِ الذَّاتِيَّةِ لِفَاطِرِها، وَالمَحَاسِنُ القَصْدِيَّةُ في تَحْسينَاتِهَا، وَدَوَامُ تَجَلِّي الجَمَالِ المُنْعَكِسِ مَعَ زَوالِهَا، وَالعِشْقُ الصَّادِقُ في قَلْبِها لِمَعبُودِهَا، وَالاِنْجِذَابُ الظَّاهِرُ في جَذبَتِها، وَاتِّفاقُ كُلِّ كُمَّلِهَا عَلى وَحْدَةِ فاطِرها، وَالتَصَرُّفُ لِمَصالِحَ في أجزائِها، وَالتَّدْبيرُ الحَكيمُ لِنَباتاتِها، وَالتَّربِيَةُ الكَريمَةُ لِحَيواناتِهَا، والانتِظامُ المُكَمَّلُ في تَغيُّراتِ أركَانِها، وَالغاياتُ الجَسيمةُ في انتِظامِ كُلِّيتِها، وَالحُدُوثُ دَفْعَةً مَعَ غايَةِ كَمَالِ حُسنِ صَنْعَتِها، بِلا احتِياج ٍ إلى مُدَّةٍ ومَادَّةٍ، وَالتَّشَخُّصاتُ الحَكِيمَةُ مَعَ عَدَم ِتَحْديدِ تَرَدُّدِ إمْكاناتِها، وَقَضاءُ حاجاتِها عَلى غَايَةِ كَثْرَتِها وَتَنَوُّعِها في أوقَاتِها اللاَّئِقةِ المُنَاسِبَةِ -مِنْ حَيثُ لا يَحتَسِبُ وَمِنْ حَيثُ لا يَشْعُرُ - مَعَ قصرِ أَيْدِيها مِنْ أصغَرِ مَطالِبِها، وَالقُوَّةُ المُطلَقَةُ في مَعْدَنِ ضَعْفِهَا، وَالقُدْرَةُ المُطلَقَةُ في مَنبَعِ عَجزِها، وَالحَياةُ الظَاهِرَةُ في جُمُودِها، وَالشعُورُ المُحيطُ في جَهْلِها، وَالانتِظامُ المُكَمَّلُ في تَغَيُّراتِها المُسْتَلزِمُ لِوُجُودِ المُغَيِّرِ الغَيرِ المُتَغَيِّر. وَالاتِّفاقُ في تَسْبِيحَاتِها -كَالدَوّائِرِ المُتَدَاخِلَةِ المُتَّحِدَةِ المَرْكَزِ - وَالمَقْبُولِيَّةُ في دَعَوَاتِها الثَّلاثِ: بِلسانِ استِعدادها وبِلسانِ احتِيَاجَاتِها الفِطريَّةِ وبِلسانِ اضطِرارِها، وَالمُناجاتُ وَالشُّهوداتُ وَالفُيُوضاتُ في عِباداتِهَا،وَالانتِظامُ في قَدَرَيها، وَالاطْمِئنَانُ بِذِكرِ فاطِرِها، وَكَونُ العِبادَةِ فيها خَيْطَ الوُصْلَةِ بَينَ مُنْتَهاها وَمَبْدَئها، وسَببَ ظُهُورِ كَمَالِها، وَلِتَحَقُّقِ مَقَاصِدِ صانِعِها وَهكَذا. بِسائِرِ شُؤُوناتِها وَأحْوَالِها وَكَيفِيَّاتِها.. شاهِداتٌ بِأَنَّها كُلَّها بِتَدبيِرِ مُدَبِّرٍ حَكيم واحِدٍ، وَفي تَربِيَةِ مُرَبٍ كَريم اَحَدٍ صَمَدٍ، وَكُلُّهَا خُدَّامُ سَيِّدٍ واحدٍ، وتَحتَ تَصَرُّفٍ متصرِّف واحدٍ وَمَصدَرُهُمْ قُدْرَةُ واحِدٍ، الَّذي تَظاهَرتْ وَتَكاثَرَتْ خَواتِيمُ وَحْدَتِهِ عَلى كُلِّ مَكتُوبٍ مِنْ مَكتُوبَاتِهِ في كُلِّ صَفحَةٍ مِنْ صَفَحَاتِ مَوجُودَاتِهِ.

نَعَمْ، فَكُلُّ زَهرَةٍ وَثَمَرٍ، وَكُلُّ نَبَاتٍ وَشَجَرٍ، بَل كُلُّ حَيوانٍ وَحَجَرٍ، بَل كُلُّ ذَرّ ٍ وَمَدَرٍ، في كُلِّ وادٍ وَجَبَلٍ، وكُلِّ بادٍ َوقَفَرٍ.. خاتَمٌ بَيِّنُ النَّقشِ وَالأثَر، يُظْهِرُ لِدِقَّةِ النَّظرِ بِأنَّ ذا ذاكَ الأثر هُوَ كاتِبُ ذاكَ المَكانِ بِالعِبَرِ، فَهُوَ كاتِبُ ظَهْرِ البَرِّ وَبَطْنِ البَحْرِ، فَهُوَ نَقَّاشُ الشَّمْسِ وَالقَمَرِ في صَحيفةِ السَّماوَاتِ ذاتِ العِبَرِ جَلَّ جَلالُ نَقَّاشِها اللّٰه أكبرُ .

كه لا إله الاّ هو برابر مى زند عالم ([44])

 

المرتبة الخامسة ([45])

اللّٰه أكبرُ؛ إذ هُوَ الخَلاّقُ القَديرُ المُصَوِّرُ البَصيرُ الَّذي هذِهِ الأجرَامُ العُلويَّةُ والكَواكِبُ الدُّرِّيَّةُ نَيِّراتُ بَراهينِ اُلُوهيَّتِهِ وَعَظَمَتِهِ، وَشُعاعاتُ شَوَاهِدِ رُبُوبِيَّتِهِ وَعِزَّتِهِ، تَشْهَدُ وَتُنادي عَلى شَعْشَعَةِ سَلْطَنةِ رُبُوبِيَّتِهِ، وَتُنَادي عَلى وُسْعَةِ حُكْمِهِ وَحِكْمَتِهِ، وعَلى حِشمَةِ عَظَمَةِ قُدْرَتِهِ.

فَاسْتَمِعْ إلى آيةِ:﴿أَفَلَمْ يَنظُرُوا إِلَى السَّمَاء فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا ...﴾( سورة ق : 6) الخ.. ثُمَّ انظُرْ إلى وَجْهِ السَّماءِ: كيفَ تَرى سُكُوتاً في سُكُونَة، حَرَكَةً في حِكْمَةٍ، تَلألُؤاً في حِشمَةٍ، تَبَسُّماً في زِينَةٍ؛ مَعَ انتَظامِ الخِلقَةِ مَعَ اتِّزَانِ الصَّنْعَةِ.. تَشَعْشُعُ سِراجِها لِتَبديلِ المَوَاسِمِ، تَهَلهُلُ مِصْباحِها لِتَنويِرِ المعَالم، تَلألُؤُ نُجُومِها لِتَزيينِ العَوَالِم.. تُعْلِنُ لأَهلِ النُهى سَلْطَنَةً بلا انتِهَاءٍ لِتَدبيرِ هذَا العَالَمِ.

فَذَلِكَ الخَلاّقُ القَديرُ عَليمٌ بِكُلِّ شَيءٍ، وَمُريدٌ بِإرادَةٍ شَامِلَةٍ «ما شاءَ كانَ وَمَا لَم يَشأ لَمْ يَكُنْ». وَهُوَ قَدِيرٌ عَلى كُلِّ شَيءٍ بِقُدْرَةٍ مُطْلَقَةٍ مُحيطةٍ ذاتِيَّةٍ. وَكَما لا يُمكِنُ ولا يُتَصوَّرُ وُجُودُ هذِه الشَّمسِ في هذا اليَومِ بِلا ِضِياءٍ ولا حَرارةٍ، كذَلِكَ لا يُمْكِنُ ولا يُتَصوَّرُ وُجودُ إلهٍ خالِقٍ للِسَّماواتِ بِلا عِلم مُحيطٍ وبِلا قُدرَةٍ مُطلَقَةٍ.. فَهُوَ بِالضَرورَةِ عَليمٌ بِكُلِّ شَيءٍ بِعلم مُحيطٍ لازِم ذَاتيٍّ لِلذاتِ يَلزَمُ تَعَلُّقُ ذلِكَ العِلمِ بِكُلِّ الأَشيَاءِ، لا يُمكِنُ أنْ يَنْفَكَّ عَنْهُ شَيءٌ؛ بِسِرِّ الحُضُورِ وَالشُّهُودِ وَالنُّفُوذِ وَالإحَاطَةِ النُّورانِيَّةِ

فَما يُشَاهَدُ في جَميعِ المَوجُودَاتِ: مِنَ الانْتِظامَاتِ المَوزُونَةِ، وَالاتِّزَاناتِ المَنْظُومَةِ، وَالحِكَمِ العَامَّةِ، وَالعِنَايَاتِ التَّامَّةِ، وَالأَقْدَارِ المُنْتَظَمَةِ، وَالأَقْضِيَةِ المُثْمِرَةِ، وَالآجالِ المُعَيَّنَةِ، وَالأَرزَاقِ المُقَنَّنَةِ، وَالاتْقَانَاتِ المُفَنَّنَةِ، وَالاهْتِمَامَاتِ المُزَيَّنَةِ، وَغَايَةِ كَمَالِ الاِمتِيازِ، وَالاتِّزانِ، وَالانْتِظَامِ، وَالإِتْقَانِ، وَالسُّهُولَةِ المُطلَقَةِ.. شَاهِدَاتٌ عَلى إحَاطَةِ عِلمِ عَلاّمِ الْغُيُوبِ بِكُلِّ شَيءٍ، وَإنَّ آيَةَ: ﴿أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ﴾( المُلك: 14). تَدُلُّ عَلى أنَّ الوُجودَ في الشَيءِ يَسْتَلزِمُ العِلمَ بِهِ، وَنُورَ الوُجودِ في الأَشيَاءِ يَستَلزِمُ نُورَ العِلمِ فيها. فَنِسبَةُ دَلالَةِ حُسنِ صَنْعَةِ الإِنسانِ عَلى شُعُورِهِ، إلى نِسبَةِ دَلالَةِ خِلقَةِ الإنسانِ عَلى عِلمِ خالِقِهِ، كَنِسبَةِ لُمَيعَةِ نُجَيْمَةِ الذُّبَيْبَةِ في اللَّيلَةِ الدَّهمَاءِ إلى شَعشَعةِ الشَمْسِ في نِصفِ النَّهارِ عَلى وَجهِ الغَبْراءِ.

وَكَما أنَّهُ عَليمٌ بِكُلِّ شَيءٍ فهو مريدٌ لكُلِّ شَيءٍ، لا يُمْكِنُ أنْ يَتَحَقَّقَ شَيءٌ بِدُونِ مَشِيئَتِهِ.

وَكمَا أنَّ القُدْرَةَ تُؤَثِّرُ وَأنَّ العِلمَ يُمَيِّزُ، كَذَلكَ إنَّ الإرادةَ تُخَصِّصُ ثُمَّ يَتَحَقَّقُ وُجودُ الأَشيَاءِ، فَالشَوَاهِدُ عَلى وُجودِ إرادَتِهِ تَعالى وَاختِيَارِهِ سُبحانَهُ بِعَدَدِ كَيفِيَّاتِ الأَشيَاءِ وَأحْوالِهَا وَشُؤُوناتِها.

نعم، فَتَنْظيمُ المَوجودَاتِ وَتَخْصيصُها بِصِفاتِها مِنْ بِينِ الإِمْكَانَاتِ الغَيْرِ المَحْدُودَةِ، وَمِنْ بَينِ الطُّرُقِ العَقيمَةِ، وَمِنْ بَينِ الاحتِمَالاتِ المُشَوَّشَةِ، وَتَحتَ أيدي السُّيُولِ المُتَشاكِسَةِ بِهذا النِّظَامِ الأَدَقِّ الأَرَقِّ، وَتَوْزِينُهَا بِهذا المِيزانِ الحَسَّاسِ الجَسَّاسِ المَشْهُودَينِ.. وَأنَّ خَلقَ المَوجُوداتِ المُختَلِفَاتِ المُنتَظَماتِ الحَيَويَّةِ مِنَ البَسائِطِ الجَامِدَةِ -كَالإنسانِ بِجِهَازاتِهِ مِنَ النُّطفَةِ، وَالطَّيْرِ بِجوارِحِهِ مِنَ البَيضَةِ، وَالشَّجَرِ بأعْضَائِهِ المُتَنَوعَةِ مِنَ النَّوَاةِ- تَدُلُّ عَلى أنَّ تَخَصُّصَ كُلِّ شَيءٍ وَتَعَيُّنَهُ بإرادَتِهِ واختِيَارِهِ وَمَشِيئَتِهِ سُبْحَانَهُ.

فَكَما أنَّ تَوافُقَ الأشيَاءِ مِنْ جِنْسِ وَالأفرَادِ مِنْ نَوع، في أسَاساتِ الأَعْضاءِ، يَدُلُّ بالضَّروُرَةِ عَلى أنَّ صانِعَها واحِدٌ أحدٌ.. كَذلكَ إنَّ تَمايُزَها في التَّشَخُّصاتِ الحَكيمَةِ المُشتَمِلَةِ عَلى عَلاماتِ فارِقَةٍ مُنْتَظَمَةٍ، تدُلُّ عَلى أنَّ ذلكَ الصَّانعَ الواحِدَ الأَحدَ هُوَ فاعِلٌ مُختَارٌ مُرِيدٌ.. يَفعَلُ ما يَشاءُ وَيَحكُمُ ما يُريدُ. جَلَّ جَلالُهُ.

وَكَما أنَّ ذلِكَ الخَلاّقَ العَليمَ المُريدَ؛ عَليمٌ بِكُلِّ شَيءٍ وَمُرِيدٌ لِكُلِّ شَيءٍ، لَهُ عِلمٌ مُحيطٌ وَإرادةٌ شَامِلَةٌ وَاختيَارٌ تَامٌّ، كَذلكَ لَهُ قُدرَةٌ كاملَةٌ ضَرُوريَّةٌ ذَاتِيَّةٌ ناشِئَةٌ مِنَ الذَّاتِ وَلازِمَةٌ للِذَّاتِ. فَمُحَالٌ تَداخُلُ ضِدِّها، وَإلاَّ لَزِمَ جَمْعُ الضِّدَّيْنِ المُحالُ بالاتِفَاقِ، فَلا مرَاتِبَ في تِلكَ القُدرةِ، فَتَتَساوى بِالنِّسبَةِ إلَيها الذَّرَّاتُ وَالنجُومُ، وَالقَليلُ وَالكثيرُ، وَالصَغيرُ والكبير، وَالجُزئيُّ وَالكُلِّيُّ، وَالجُزءُ وَالكُلُّ، وَالإنسانُ وَالعالَمُ، والنَّوَاةُ والشَّجَرُ؛ بِسِرِّ النُّورَانيَّةِ، وَالشَّفافِيَّةِ، وَالمُقابَلَةِ، وَالمُوَازَنَةِ، وَالانتِظامِ، وَالامتِثالِ؛ بِشَهادَةِ الانتِظامِ المُطلَقِ، وَالاتِّزَانِ المُطلَقِ، وَالامتِيَازِ المُطلَقِ، في السُّرعَةِ وَالسُّهُولَةِ وَالكَثرَةِ المُطلَقَاتِ. بِسِرِّ إمدادِ الوَاحِديَّةِ، ويُسرِ الوَحدَةِ، وتجَلِّي الأَحَديَّةِ؛ بِحِكمَةِ الوُجوبِ، وَالتَجَرُّدِ، وَمُبَايَنَةِ الماهيَّةِ. بِسرِّ عَدَمِ التَّقَيُّدِ، وَعدَمِ التَّحَيُّزِ، وَعَدَمِ التَّجَزُّؤِ. بِحِكمَةِ انقِلابِ العَوَائِقِ وَالمَوَانِعِ إلى الوَسَائِلِ في التَسهيل إن احتيجَ إلَيهِ. وَالحَالُ أنَّهُ لا احتِيَاجَ كأعصابِ الإنسانِ وَالخُطُوطِ الحَديديَّةِ لنَقلِ السَيَّالاتِ اللَّطيفَةِ؛ بِحكمةِ أنَّ الذرَّةَ وَالجُزءَ وَالجُزئيَّ وَالقَليل وَالصَغير والإنسانَ والنَّواةَ ليسَت بِأقَلَّ جَزَالَةً مِنَ النَّجْمِ وَالنَّوعِ وَالكُلِّ وَالكُلِّيِّ وَالكَثيرِ وَالكَبيرِ وَالعَالَمِ وَالشَّجَرِ. فَمَنْ خَلَقَ هؤُلاءِ لا يُسْتَبعَدُ مِنْهُ خَلقُ هذِهِ؛ إذ المُحاطاتُ كالأمثِلَةِ المَكتُوبَةِ المُصَغَّرَةِ أو كالنُّقَطِ المَحلُوبَةِ المُعَصَّرَةِ؛ فَلابُدَّ بالضَرُورَةِ أنْ يَكونَ المُحيطُ في قَبضَةِ تَصَرُّفِ خالِقِ المُحَاطِ، لِيُدْرِجَ مِثالَ المُحيطِ في المُحَاطَاتِ بِدَسَاتيرِ عِلمِهِ، وَأنْ يَعْصِرَها مِنْهُ بِمَوازينِ حِكمَتِهِ. فَالقُدرَةُ الَّتي أبرَزَتْ هَاتيكَ الجُزئيَّاتِ لا يَتَعسَّرُ عَليها إبرَازُ تَاكَ الكُلِّيَّاتِ.

فَكَما أنَّ نُسخَةَ قُرآنِ الحِكمَةِ المَكتُوبَةِ عَلى الجَوهَرِ الفَردِ بِذَرَّاتِ الأَثيرِ؛ لَيسَتْ بِأقَلَّ جَزَالَةً مِنْ نُسْخَةِ قُرآنِ العَظَمَةِ المَكتُوبَةِ عَلى صَحَائِفِ السَّماواتِ بِمِدادِ النُّجُومِ وَالشُّموسِ.. كذَلِكَ لَيسَتْ خِلقَةُ نَحلَةٍ وَنَمْلَةٍ بِأقَلَّ جَزَالَةً مِنْ خِلقَةِ النَّخلَةِ والفيلِ، وَلا صَنْعَةُ وَردِ الزَّهْرَةِ بِأقَلَّ جَزَالَةً مِنْ صَنْعَةِ دُرِّيِّ نَجمِ الزُّهْرَةِ. وَهكَذا فَقِسْ. فَكمَا أنَّ غايَةَ كَمالِ السُّهُولَةِ في إيجَادِ الأَشيَاءِ أوقَعَتْ أهلَ الضَّلالَةِ في التِبَاسِ التَّشكيلِ بالتَّشَكُّلِ، المُستَلزِمِ للِمُحَالاتِ الخُرَافيَّةِ الَّتي تَمُجُّها العُقُولُ، بَل تَتَنَفَّرُ عَنها الأَوهَامُ.. كذلِكَ أثْبَتَتْ بِالقَطعِ وَالضَرُورَةِ لأَهلِ الحَقِّ وَالحَقيقَةِ تَساويَ السَّيَّاراتِ مَعَ الذَّرَّاتِ بالنِسبَةِ إلى قُدْرَةِ خالِقِ الكائِناتِ. جَلَّ جَلالُهُ وَعَظُمَ شأنُهُ وَلا إلهَ إلاّ هُوَ.

 

المرتبة السادسة ([46])

جَلَّ جَلالُهُ وَعَظُمَ شَأنُهُ اللّٰه أكبرُ مِنْ كُلِّ شَيءِ قُدْرَةً وَعلمَاً؛ إذ هُوَ العَادِلُ الحَكيمُ القَادِرُ العَليمُ الوَاحِدُ الأَحَدُ السُّلطَانُ الأزلي الَّذي هذِهِ العَوَالِمُ كُلُّهَا في تَصَرُّفِ قَبْضَتَيْ نِظامِهِ وَميزَانِهِ، وَتَنْظيمِهِ وَتَوزيِنِهِ وَعَدلِهِ وَحِكمَتِهِ وَعِلمِهِ وَقُدرَتِهِ، وَمَظهَرُ سِرِّ وَاحِدِيَّتِهِ وَأحَديَّتِهِ بِالحَدْسِ الشُّهُوديِّ، بَل بِالمُشَاهَدَةِ؛ إذ لا خَارِجَ في الكَونِ مِنْ دَائِرَةِ النِّظَامِ وَالميزَانِ، وَالتَّنظيمِ وَالتَّوزينِ. وَهُمَا بابانِ مِن«الإمامِ المُبينِ وَالكِتَابِ المُبينِ»، وَهُما عُنوَانانِ لِعِلمِ العَليمِ الحَكيمِ وَأمْرِهِ، وَقُدْرَةِ العَزيزِ الرَّحيمِ وَإرادَتِهِ. فَذلكَ النِّظامُ مَعَ ذلكَ المِيزَانِ في ذلكَ الكِتَابِ مَعَ ذلكَ الإِمامِ بُرهَانانِ نَيِّرانِ؛ لِمَنْ لَهُ في رَأسِهِ إذعَانٌ وفي وَجهِهِ العَينَانِ: أنْ لا شَيءَ مِنَ الأَشياءِ في الكَونِ وَالزَّمانِ، يَخْرُجُ منْ قَبضَةِ تَصَرُّفِ رَحمن، وَتَنْظيمِ حَنَّانٍ وَتَزييِنِ مَنَّانٍ وَتَوزينِ دَيَّانٍ.

الحَاصِلُ.. أنَّ تَجَلِّيَ الاِسمِ «الأَوَّلِ وَالآخِر» في الخَلاّقِيَّةِ ، النَّاظِرَينِ إلى المَبدَإِ وَالمُنتَهى، وَالأَصلِ وَالنَسلِ، وَالمَاضي وَالمُستَقبلِ، وَالأَمرِ وَالعِلمِ، مُشيرانِ إلى«الإِمامِ المُبينِ». وَتَجَلِّيَ الاِسمِ «الظَّاهِرِ وَالباطِنِ» عَلى الأَشيَاءِ في ضِمنِ الخَلاّقِيَّةِ، يُشيرانِ إلى «الكِتابِ المُبينِ».

فَالكَائِناتُ كَشَجَرَةٍ عَظيمَةٍ، وَكُلُّ عالَمٍ مِنها أيضاً كَالشَّجَرةِ. فَنُمَثِّلُ شَجَرَةً جُزئِيَّةً لِخِلقَةِ الكائِناتِ وَأَنواعِها وَعَوالِمِها. وهَذِهِ الشَّجَرَة الجُزئِيَّةُ لها أصلٌ وَمَبدَأٌ، وَهُوَ النَّواةُ الَّتي تَنبُتُ عَليهَا. وَكَذا نَسلٌ يُديمُ وَظيفَتَها بَعدَ مَوتِها؛ وَهُوَ النَّواةُ في ثَمَراتِها. فَالمَبدَأُ وَالمُنتَهى مَظهَرانِ لِتَجَلِّي الاسمِ «الأَوَّلِ وَالآخِرِ» فَكأنَّ المَبدأ وَالنَّواةَ الأَصليَّةَ بِالانتِظامِ وَالحِكمَةِ فِهرِستَةٌ، وَتَعرِفَةٌ مُرَكَّبَةٌ مِنْ مَجمُوعِ دَساتيرِ تَشكُّلِ الشَّجَرةِ، وَالنَّواتَاتُ في ثَمَراتِها الَّتي في نِهاياتِها مَظهَرٌ لِتَجَلِّي الإِسمِ «الآخِر».

فَتِلكَ النَّواتاتُ في الثَّمَراتِ بِكمَالِ الحِكمَةِ كَأنَها صُنَيدِيقَاتٌ صَغيرَةٌ أُودِعَتْ فيها فِهرِستَةٌ وَتَعرِفَةٌ لتَشَكُّلِ ما يُشابِهُ تِلكَ الشَجَرةَ وَكأنَّها كُتِبَ فيها بِقَلَمِ القَدَرِ دَساتيرُ تَشكُّلِ شَجَراتٍ آتِيَةٍ. وَظاهِرُ الشَّجَرَةِ مَظهَرٌ لِتَجَلِّي الاِسمِ «الظَّاهِرِ». فَظَاهِرُها بِكَمالِ الانتِظامِ وَالتَّزيينِ وَالحِكمَةِ كَأنَها حُلَّةٌ مُنتَظَمَةٌ مُزَيَّنَةٌ مُرَصَّعَةٌ، قَد قُدَّتْ عَلى مِقدارِ قَامَتِها بِكَمالِ الحِكمَةِ وَالعِنَايَةِ. وَبَاطِنُ تِلكَ الشَّجَرَةِ مَظهَرٌ لِتَجَلِّي الاسمِ «البَاطِنِ» فَبكَمالِ الانتِظامِ وَالتَّدبيرِ المُحَيِّرِ للِعُقُولِ، وَتَوزيعِ مَوَادِّ الحَياةِ إلى الأَعَضاءِ المُختَلِفَةِ بِكَمالِ الانتِظامِ، كأنَّ باطِنَ تِلكَ الشَّجَرَةِ ماكِينَةٌ خَارِقَةٌ في غَايَةِ الانتَظامِ وَالاتِّزَانِ. فَكَما أنَّ أوَّلَها تَعرِفَةٌ عَجيبَةٌ، وآخِرَها فِهرِستَةٌ خارِقَةٌ يشيرانِ إلى «الإِمامِ المُبينِ».. كَذَلكَ إنَّ ظَاهِرَها كحُلَّةٍ عَجيبَةِ الصَنْعَةِ، وَباطِنَها كَمَاكينَةٍ في غَايَةِ الانتِظامِ، يشيرَانِ إلى «الكِتَابِ المُبينِ». فَكما أنَّ القُوَّاتِ الحَافِظاتِ في الإِنسانِ تُشيرُ إلى«اللَّوحِ المَحفُوظِ» وَتَدُلُّ عَلَيهِ، كَذلِكَ إنَّ النَّوَاتاتِ الأَصليَّةَ وَالثَّمَراتِ تُشيرَانِ في كُلِّ شَجَرةٍ إلى «الإِمامِ المُبينِ» وَالظَّاهِرُ وَالبَاطِنُ يَرمُزَانِ إلى«الكِتَابِ المُبينِ». فَقِسْ عَلى هذِهِ الشَّجَرَةِ الجُزئِيَّةِ شَجَرَةَ الأَرضِ بِمَاضِيها وَمُستَقبَلِها، وَشَجَرةَ الكَائِناتِ بِأَوائِلِها وَآتِيها، وَشَجَرةَ الإِنسانِ بِأجْدَادِها وَأنسَالِها. وَهَكذا جَلَّ جَلالُ خالِقِها وَلا إلَهَ إلاّ هُوَ.. يا كَبيرُ أنتَ الَّذي لا تَهدِي العُقُولُ لِوَصفِ عَظَمَتِهِ، وَلا تَصِلُ الأَفْكَارُ إلى كُنْهِ جَبَرُوتِهِ..

 

المرتبة السابعة

جَلَّ جَلالُهُ اللّٰه أكبرُ مِنْ كُلِّ شَيءٍ قُدرَةً وَعِلماً إذ هُوَ الخَلاّقُ الفَتَّاحُ الفَعَّالُ العَلاّمُ الوَهَّابُ الفَيَّاضُ،([47]) شَمسُ الأَزَلِ الَّذي: هذِهِ الكَائِناتُ بِأنواعِها وَمَوجُودَاتِها ظِلالُ أنوَارهِ، وَآثارُ أفعَالِهِ، وَألوانُ نُقوشِ أنواعِ تَجَلِّياتِ أسمائِهِ، وخُطُوطُ قَلَمِ قَضائِهِ وَقَدَرِهِ، وَمَرَايَا تَجَلِّياتِ صِفَاتِهِ وَجَمَالِهِ وَجَلالِهِ وَكَمالِهِ؛ بِإجمَاعِ الشَّاهِدِ الأزلي بِجَميعِ كُتُبِهِ وَصُحُفِهِ وآياتِهِ التَكْويِنيَّةِ والقُرآنيَّةِ، وبإجمَاعِ الأَرضِ مَعَ العَالَمِ بِافتِقَاراتِها وَاحتِيَاجاتِها في ذاتِها وَذَرَّاتِها مَعَ تَظاهُرِ الغَناءِ المُطلَقِ وَالثَّروَةِ المُطلَقَةِ عَلَيها؛ وبإجمَاعِ كُلِّ أهلِ الشُّهُودِ مِنْ ذَوي الأَرواحِ النَّيِّرَةِ، وَالقُلوبِ المُنَوَّرَةِ، وَالعُقُولِ النُّورانيَّةِ مِنَ الأَنبِيَاءِ وَالأَولِيَاءِ والأَصفِيَاءِ بِجَميعِ تَحقيقَاتِهِمْ وَكُشُوفَاتِهِمْ وَفُيُوضاتِهِمْ وَمُنَاجَاتِهِم. قَدْ اتَّفَقَ الكُلُّ مِنهُم، وَمِنَ الأَرضِ وَالأَجرَامِ العُلويَّةِ وَالسُّفليَّةِ بِما لا يُحَدُّ مِنْ شَهادَاتِهِمُ القَطعيَّةِ وَتَصدِيقاتِهِمُ اليَقينيَّةِ بِقُبولِ شَهَادَاتِ الآيَاتِ التَّكْوينيَّةِ والقُرآنيَّةِ وَشَهَادَاتِ الصُّحُفِ والكُتُبِ السَّماويَّةِ الَّتي هيَ شَهَادَةُ الوَاجِبِ الوُجُودِ عَلى أنَّ هذِهِ المَوجُودَاتِ: آثارُ قُدرَتِهِ ومكتوبات قَدَرِهِ وَمَرايا أسمائِهِ وَتَمَثُّلاتِ أنوَارِهِ.

جَلَّ جَلالُهُ وَلا إلَهَ إلاّ هُوَ..

 

*  *  *

خاتمة

في مسائل مشهودة متفرقة

 

المسألة الأولى:

اعلم أني أقول مادمتُ حياً، كما قال مولانا جلال الدين الرومي (قُدس سرّه):

من بندهء  قرآنم  أكر جان دارم    من خاك راه محمد مختاره م ([48])

لأني أرى القرآن منبع كلّ الفيوض، وما في آثاري من محاسن الحقائق ما هو إلاّ من فيض القرآن. فلهذا لا يرضى قلبي أن يخلو أثرٌ من آثاري من ذِكرِ نُبَذٍ من مزايا إعجاز القرآن. ولقد ذكرتُ في [اللوامع] أنواع إعجاز القرآن البالغة إلى نيف وأربعين نوعاً. أذكرُ هنا تبركاً مسألةً فقط؛ هي هذه:

انظر إلى مَن قال؟ ولمَن قال؟ ولِمَ قال؟ وفيمَ قال؟

نعم، إن مَنابع علو طبقة الكلام؛ وقوّتِه وحسنِه وجماله أربعةٌ: المتكلم، والمخَاطَبُ، والمقصدُ، والمقامُ. لا المقام فقط.. كما ضلّ فيه الأُدباء. وكذا إن الكلام لفظُه ليس جسداً بل لباسٌ له، ومعناه ليس روحاً بل بدنٌ له. وما حياتُه إلاّ مِن نية المتكلم وحسّه. وما روحُه إلاّ معنىً منفوخٌ من طرف المتكلم. فالكلام إنْ كان أمراً أو نهياً فقد يتضمن الإرادةَ والقدرةَ بحسب درجة المتكلم، فتتضاعف علويةُ الكلام وقوته.

نعم؛ أين صورة أمر فضولي ناشئ من أماني التمني وهو غير مسموع، وأين الأمر الحقيقي النافذُ المتضمن للإرادة والقدرة؟ فانظر أين:﴿يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءكِ وَيَا سَمَاء أَقْلِعِي﴾( هود: 44) وأين خطاب البشر للجمادات كهذيانات المُبَرسَمين: «اسكني يا أرض وانشقي يا سماء وقومي يا أيتها القيامة».. وكذا أين أمرُ أميرٍ مُطاعٍ لجيش عظيم مطيع بـ«آرش!...» واهجموا على أعداء اللّٰه، فهجموا وغلَبوا، ثم أين هذا الأمر إذا صدر من حقير لا يُبالَى به وبأمره.. وكذا أين تصويرُ مالكٍ حقيقي، وآمرٍ مؤثر أمرُه، نافذٍ حكمُه، وصانع وهو يصنع، ومُنعمٍ وهو يُحسن قد شرع يصوّر أفاعيلَه، يقول: فعلتُ كذا وكذا.. فعل هذا وذاك.. صيّرتُ لبيتكم الأرضَ فرشاً والسماء سقفاً، ثم أين تصويرُ فضولي وبحثُه عن أفاعيلَ لا تماسَّ له بها.. وكذا أين أعيانُ النجومِ ثم أين تماثيلها الصغيرة السيالة -التي لا هي موجودة ولا معدومة- المرئيةُ في الزُجيجات؟ نعم، أين ملائكةُ كلماتِ كلام خالقِ الشمس والقمر، ثم أين زنابيرُ مزاميرِ مزوَّرات البشر؟.. وكذا أين ألفاظُ القرآن التي هي أصدافُ الهدى والحقائق الإيمانية والأساسات المنبثة من عرش الرحمن مع تضمن اللفظ للخطاب الأزلي وللعلم والقدرة والإرادة، ثم أين ألفاظ الإنسان الهوائيةُ الواهية الهَوسية؟([49]).. وكذا أين شجرةٌ تفرعت وأورقت وأزهرت وأثمرت، ثم أين المعجونُ الذي اتخذه أحدٌ من بعض ثمراتها بتغيير صورة الثمرات وإزالة العقدة الحياتية منها مع مزجها بمادة أخرى؟

نعم، إن القرآن أنبتَ شجرةً هكذا فانقلبت كلُّ نوَياته دساتيرَ عملية وأشجاراً مثمرةً، تَشكَّل وتركّب منها هذا العالمُ الإسلامي بمعنوياته وأعماله، فأخذ منها كلَّ الأفكار فتَصرّفَ فيها إلى الآن حتى صارت حقائقهُ العلوية العالية علوماً متعارفة ومُسَلّماتٍ، فيقوم أحدٌ ويأخذ من تلك الحقائق ويتصرف فيها بتغيير الصورة، فتزيل منها العقدةُ الحياتية. ثم على زعمه يزيّنها بتهوسه، فيوازن ذوقُه الفاسد بينه وبين الآيات. فكيف يمكن الموازنة بين الصورة العَرضَية التابعة المنحوتة بهوس الصبيان في جواهر منتظمة ودرر منثورة، وبين تلك الجواهر والدرر نفسها؟

ولقد شاهدتُ أن مشاهدة جمال القرآن تابعةٌ لدرجةِ سلامة القلب وصحته. فمريضُ القلب لا يشاهد إلاّ ما يشوّه له مرضه. فأسلوب القرآن والقلبُ كلاهما مرآتان ينعكس كلُّ واحدٍ في الآخر.

نكتة ([50])......... ([51])

نكتة:

ولأن الإيمان يؤسس الأخوّة بين كل شيء، لا يشتد الحرصُ والعداوةُ والحقد والوحشة في روح المؤمن؛ إذ بالدقة يرى أعدى عدوِّه نوعَ أخٍ له.. ولأن الكفر يؤسس أجنبيةً وافتراقاً –لا إلى اتصال– بين كل الأشياء، يشتد في الكافر الحرصُ والعداوةُ والتزام النفس والاعتمادُ عليها. ومن هذا السر صاروا غالبين في الحياة الدنيا. ولأن الكافر يرى في الدنيا مكافأةَ حسناتِه في الجملة، والمؤمن يرى جزاءَ بعضِ سيئاته في الدنيا؛ صارت: (سجن المؤمن وجنة الكافر).([52])

واعلم: أن إكسير الإيمان إذا دخل في القلب يصيّر الإنسان جوهراً لائقاً للأبدية والجنة، وبالكفر يصير خزفاً خالياً فانياً. إذ الإيمانُ يُري تحت القشر الفاني لباً لطيفاً رصيناً، ويُري ما يُتوهم حَباباً مُشمساً زائلاً، ألماساً متنوراً. والكفر يُري القشر لباً فيتصلب فيه فقط، فتنـزل درجة الإنسان من الألماس إلى الزجاجة بل إلى الجمد بل إلى الحباب، هكذا شاهدتُ..

 

| نقطـة |

قد شاهدتُ ازدياد العلم الفلسفي في ازديادِ المرض، كما رأيت ازدياد المرض في ازدياد العلم العقلي. فالأمراض المعنوية توصِلُ إلى علوم عقلية، كما أن العلوم العقلية تولّد أمراضاً قلبية.

وكذا شاهدت الدنيا ذات وجهين:

وجه: ظاهرهُ مأنوس في الجملة مؤقتاً، باطنهُ موحشٌ إلى ما لا يحد.

ووجه: ظاهره موحِش في الجملة، وباطنهُ مؤنس إلى ما لا نهاية.

فالقرآن يوجّه الأنظار إلى الوجه الثاني، الذي يتصل بالآخرة. والوجه الأول الذي يتصل بالعدم ضدُّ الآخرة، وضرّتُها ومعكوستُها حسَنُه قبيحُها، قبيحُه حسَنُها.

وكذا شاهدتُ أن ما في الممكن من وجه الوجود؛ بالأنانية يوصِل إلى العدم وينقلبُ إليه، وما فيه من وجه العدم بتركِ الأنانية ينظرُ إلى الوجود الواجب. فإن أحببتَ الوجودَ فانعدمْ لِتَجِدَ الوجود..

 

نكتة

اعلم أن النيةَ إحدى الكلمات الأربعة التي ذكرتُ في المقدمة أنها محصولةُ أربعين سنة من عمري!

نعم، إن النية إكسيرٌ عجيب تَقلب بخاصيتها العادات الترابية والحركات الرملية ([53]) إلى جوهر العبادة.. وكذا هي روح نافذة تحيا بها الحالات الميتة، فتصير عباداتٍ حيويةً.. وكذا فيها خاصيةٌ تقلبُ السيئات حسنات.

فالنية روح، وروحُها «الإخلاص» فلا خلاص إلاّ بالإخلاص. ويمكن بالنية -بسبب هذه الخاصية - عملٌ كثير في زمانٍ قليل، فيمكن اشتراءُ الجنة بما يُعمل في هذا العمر القليل بهمّة تلك الخاصية.

وبالنية يصيرُ المرءُ شاكراً دائماً؛ لأن ما في الدنيا من اللذائذ والنِعَم يُقتطف بوجهين:

الوجه الأول: يقول المرءُ بسبب النية: هذه النعمة مَدَّتْها إليّ يدُ رحيمٍ محسن، فينتقل نظرُه من النِعمة إلى الإِنعام، فيتلذذُ به أزيدَ من نفس النعمة.

والوجه الثاني: يتحرى اللذةَ بتهوّس النفس، فلا يتخطر الإنعام، إنما ينحصر نظرُه على النعمةِ واللذة فيتلقى اللذةَ غنيمةً فيقتطفها بلا مِنّة، بل يغتصبها.

ففي الوجه الأول: تموت اللذةُ بالزوال ويبقى روحُها، أي إن رحمةَ المُنعم تَخَطّرتني، فلا تنساني. فهذا التخطُر رابطةٌ ومناسبةٌ في الخاطر!

وفي الوجه الثاني: لا تموت اللذة الموقتة ليبقى روحُها، بل تنطفئ ويبقى دخانُها. والمصيبة يخمد دخانُها ويبقى نورها، ودخانُ اللذة زوالها وإثمها.

وإذا نُظرَ بنور الإيمان إلى اللذائذ المشروعة في الدنيا والنِعَم في الآخرة، يُرى فيها حركةٌ دورية ووضعية تتعاقب فيها الأمثالُ، فلا تنطفئ الماهية، وإنما يحصل الفراقُ والافتراق عن التشخصات الجزئية. فلهذا لا ينغَّص -بألم الزوال والفراق - اللذائذُ الإيمانية بخلاف الوجه الثاني. فإن لكلّ لذةٍ زوالاً، وزوالُها ألَمٌ، بل تَصوُّرُ الزوالِ أيضاً ألمٌ؛ إذ في الوجه الثاني، ليست الحركة دوريةً بل حركةٌ مستقيمة، ففيها اللذة محكومة بالموت الأبدي..

 

| نقطـة |

اعلم أن التعلقَ بالأسباب سببُ الذلّة والإهانة. ألا ترى أن الكلب قد اشتهر بعَشرِ صفاتٍ حسنة، حتى صارت صداقتُه ووفاؤه تُضربُ بهما الأمثال؟! .. فمن شأنه أن يكون بين الناس مباركاً. ففضلاً من المباركية ينـزل على رأس المسكين من طرف الإنسان ضربةُ الإهانة بالتنجيس؛ مع أن الدجاجة والبقر حتى السنّور، الذين ليس فيهم حسّ شكرانٍ وصداقةٍ في مقابلة إحسانِ البشر، يُشرَّفون بين الناس بالمباركية. أقول -بشرط أن لا ينكسر قلبُ الكلب ولا يصير غيبةً- إن سببه: أن الكلب بسبب مرض الحرص اهتم بالسبب الظاهري، بدرجةٍ أغفَلته -بجهةٍ- عن المُنعمِ الحقيقي، فتوهَّم الواسطةَ مؤثرةً. فذاق جزاءَ غفلته بالتنجيس، فَتَطهّر.. وأكَلَ ضربَ الإهانة كفارةً للغفلة، فانتَبِه!. أما سائر الحيوانات المباركة فلا يَعرفون الوسائط ولا يقيمون لها وزناً، أو يقيمون لها وزناً خفيفاً. مثلاً: إن السنّور يتضرع حتى يأخذ الإحسان، فإذا أخذ فكأنه لا يعرفك ولا تعرفه. ولا يحس في نفسه شكراناً لك. بل إنما يشكر المنعمَ الحقيقي بـ: يا رحيم.. يا رحيم.. يا رحيم.. فقط([54])؛ إذ الفطرة تعرف صانعَها وتعبدُه شعورياً وغيرَ شعوري..

 

نكتة:

ولقد شاهدتُ: أنه لو لم يُسند كلُّ شيء إليه تعالى لَزِمَ إثبات آلهة -كلٌّ منها ضدٌ للكل، ومِثلٌ في آن واحدٍ- غير متناهية.. يزيد عددُها على عدد ذرات العالم ومركباتها، بوجهٍ يكون كلُّ إلهٍ يَمُدُّ يَدَه إلى مجموع العالم ويتصرف فيه.

مثلاً: إن القدرة الخالقة لفردِ نحلةٍ أو حبةِ عنب، لابد أن ينفُذ ويَجري حكمُها في عناصر الكائنات؛ إذ هما أُنموذجان أُخذَت أجزاؤهما من جميع الكون، مع أنه لا محل في الوجود إلاّ للواجب الأحد، وأما لو أُحيلت الأشياءُ على أنفسها لزِمَ إثباتُ الألوهية لكلِّ ذرةٍ؛ ألا ترى أن الأحجار التي في قبة «آيا صوفيا» ([55]) إذا انتفى الباني، لزِمَ أن يكون كلُّ حجرٍ منها مثلَ «معمار سنان»(*). فدلالةُ الكائنات على خالقها الواحد أظهرُ وأنورُ وأجلى وأولى وأفصحُ وأوضحُ من دلالتها على وجود نفسها بمراتب. فيمكن إنكارُ الكون ولا يمكن إنكار الواحد الأحد القدير على كل شيء..

 

| نقطـة |

ما أعجب شأنَ الضلالة بسبب الغفلة! كيف استخرجت العلّيةَ من المقارنة الساذجة والدوران الطردية بين المصنوعات! مع ارتكاب محالاتٍ متسلسلة، مع أنه لم يتبين ولم يتحقق قط في شيء من الأشياء أمارةٌ صادقة على وجود شريكِ صانعٍ لذلك الشيء، بل تحت صنعةِ كلِّ شيء مجهوليةٌ تتكشف عن قدرةٍ غير متناهية لقدير واجب الوجود. فيا خسارةَ الإنسان ويا جهالتَه!.. كيف أخذ الشركُ لنفسه موقعاً في نفسه وفي عقله!.

 

نكتة:

وما في نون (نعبُدُ) من سر الجماعة، يصوِّر للمصلي المتنبه سطحَ الأرض مسجداً، اصطفّ فيه -مع المصلي- جميعُ المؤمنين، ويرى نفسَه في تلك الجماعة العظمى. وبما في إجماع الأنبياء والأولياء على ذكر «لا إله إلاّ اللّٰه» مِن تَوافق الأصوات يتيسرُ للذاكرِ أن يرى الزمانَ «حلقةَ ذكرٍ» تحت رياسة «إمام الأنبياء».. في يمين الماضي «الأنبياءُ» قاعدون.. في يسار الاستقبال «الأولياء» جالسون.. يذكرون اللّٰه بصوتٍ يسمعه مَن ألقى السمعَ وهو شهيد. فإن كان حديدَ السمع والبصيرة استمعَ الذِّكرَ من مجموع المصنوعات أيضاً ورأى نفسَه في حلقة ذِكرها..

 

| نقطـة |

اعلم أن محبةَ ما سواه تعالى على وجهين:

وجهٍ يَنـزل من علوٍ، أي يحبُّ اللّٰه فبحبّهِ يُحب من يُحبُّه اللّٰه، فهذه المحبة لا تُنقصُ من محبة اللّٰه بل تزيدها.

والوجه الثاني: يَعرُج من سُفلٍ، أي يحب الوسائل، فيتدرج في محبتها ليتوسل إلى محبة اللّٰه، فهذه المحبة تتفرق، وقد تصادف وسيلةً قوية فتقطع عليها الطريق فتهلكها، وإن وصلتْ.. وصلتْ بنقصان.

نكتة

اعلم أن الرزاق جل شأنه تعهَّد بآيةِ: ﴿وَمَا مِن دَآبَةٍ في الأرضِ إلاّ عَلى اللّٰه رزقُهَا﴾( هود: 6) رزقَ كل دابة، إلاّ أن الرزق قسمان:

حقيقي ومجازي، فالمتكفَّل بالآية هو الحقيقي. وأما المجازي الصُنعي اللازم بالتزام ما لا يلزم وبالاختيارات السيئة والاعتيادات المضرة، حتى صارت الحاجات الغيرُ الضرورية ضروريةً، فَلَبست الحاجاتُ الكاذبةُ صورةَ الرزق. فهذا الرزق غير متكفَّل بالآية. ومَن تأمل في الباذنجانات التي هي أسماكُ البر وفي الأسماك التي هي باذنجانات البحر كيف أسَمَنتها القدرة الفاطرة؛ إذ كلها سمينة -ما فيها هزيلة- يأتيها رزقُها رغداً من حيث لا تحتسب.. عَلِم أن الوسوسة في الرزق واتهامَ الرزاق من البلاهة.

 

نكتة

اعلم أن المصائب التي تصيب المعصومَ من الحيوان والإنسان، يجوز أن يكون لها أسبابٌ تدقّ عن فهم البشر؛ مثلاً: إن الشريعة الفطرية التي هي دساتير المشيئة، لا تنظر إلى العقل حتى يَسقط التكليفُ بها عند عدم العقل، بل تنظرُ إلى القلب والحس، بل والاستعداد أيضاً، فتجازي على أفاعيلها.. وقد نشاهد الحيوان كاملاً في حس النفس، والصبي بالغاً في حس القلب، بل حسُّ طفلك، أكملُ من عقلك وأشد تيقظاً؛ إذ تظلِمُ يتيماً بالضرب ولا يمنعك عقلُك، وصبيُك الناظر إليك يُبكيه حسُّ شفقته.. لو كان هو لانزجر.

فإذ كان هذا هكذا؛ فالصبي الذي يمزّق للتهوس والتلهّي نحلةً مسكينة، ولم يسمعْ نهيَ حسِّ شفقته الحساسة، فأصيب بأن انكسر رأسُه.. استحقَّ.

مثلا: إن النمرة تحس في نفسها على شِبلها شفقةً شديدة ومع رفيقها حسَّ حمايةٍ، فلا يمنعها هذان الحسّان من تمزيق الظبية المسكينة.. فمزّقتها، ثم أصيبت هي ببندقة([56]) الصياد مثلا، أفلا تكون مستحقةً؟ إذ رزقُها الحلال أمواتُ الحيوانات لا أحياؤها! على أن هذا مبنيّ على توهم مالكية الحيوانات لأنفسها، والحق أن هذا باطل كما مرّ سابقاً. وأن المالك الحقيقي هو مالك الملك ذو الجلال والإكرام يتصرف في مُلكه كيف يشاء، وهو الفاعل المختار الفعال لما يريدُ ﴿لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ﴾( الأنبياء: 23).

*  *  *

 

ذيل القطرة

 

بسم اللّٰه الرحمن الرحيم

 

 

الحَمْدُ للّٰه رَبّ العَالمين،

والصَلاةُ والسّلامُ على سيدنا مُحمّدٍ وعلى آله وصَحبهِ أجمَعين.

 

رمـز

اعلم أن الصلاة في أول الوقت، والنظر إلى الكعبة خيالاً مندوبٌ إليهما، ليرى المصلي حول بيت اللّٰه صفوفاً كالدوائر المتداخلة المتّحدة المركز، فكما أحاط الصفُ الأقربُ بالبيت، أحاط الأبعدُ بعالم الإسلام، فيشتاق إلى الانسلاك في سلكهم. وبعد الانسلاك يصير له إجماعُ تلك الجماعة العظمى وتواترُهم حجةً وبرهاناً قاطعاً على كل حُكمٍ ودعوى تتضمنّها الصلاة.

مثلا: إذا قال المصلّي «الحمد للّٰه» كأنه يقول كلُّ المؤمنين المأمومين في مسجد الأرض: نعم صَدَقتَ ([57]). فيتضاءل ويضمحل تكذيبُ الأوهام ووسوسة الشياطين. وكذا يستفيض كلٌّ من الحواس واللطائف حصةً وذوقاً وإيماناً، ولا يعوقها لِمَ؟ وكيف؟ ففي أول الوقت تنعقد الجماعةُ العظمى «للمتقين»، ولاتفاق الصلوات الخمس في الأقوال والأركان لا يخلّ اختلافُ المطالع بخيال المصلي.. ولينظر المصلي وهو في مكانه إلى الكعبة وهي في مكانها لا يجذبها إليه ولا يذهب إليها ليتظاهر الصفوف، لا يشتغل بها قصداً، بل يكفي شعورٌ تَبَعي. وما يُدريك لعل القَدر الذي لا يُهملُ شيئاً من الأشياء يكتب بأشكال هذه الصفوف المباركة المنتظمة في حركاتها سطوراً على صحائف عالَم المثال الذي من شأنه حفظ ما فيه دائماً..

 

رمـز

اعلم أنّي شاهدتُ في سيري في الظلمات السُّنَن السَّنية نجوماً ومصابيح، كلُّ سُنَّةٍ، وكلُّ حَدٍ شرعي يتلمّع بين ما لا يُحصر من الطرق المظلمة المضلّة. وبالانحراف عن السُّنة يصير المرء لعبةَ الشياطين، ومركَبَ الأوهام، ومَعرضَ الأهوال، ومطيةَ الأثقال -أمثالِ الجبال- التي تحملها السُّنةُ عنه لو اتّبعها.

وشاهدتُ السُننَ كالحبالِ المتدلّية من السماء، من استمسك ولو بجزئي استَصعد واستسعد. ورأيتُ مَن خالَفَها واعتمدَ على العقل الدائر بين الناس، كمَن يريد أن يبلُغَ أسباب السماوات بالوسائل الأرضية فيتحمّق كما تَحمّقَ فرعونُ بـ﴿يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا﴾(غَافِر: 36).

رمـز

اعلم أن في النفس عقدة مغلقةً مدهشةً تُصيّرُ الضدَّ مولِّدَ الضّدِ، وترى ما عليها كأنه لها.

مثلاً: إن الشمس تصل يدُها إليك تمسحُ أو تضربُ وجهكَ، ولا تصل يدُك إليها ولا يؤثر (كيفُك)([58]) فيها. فهي قريبةٌ إليك، بعيدة منك!.. فكما أنّ جعلَ وجهِ البُعديّة دليلاً على عدم تأثيرها فيك، ووجه القُربية دليلاً على تأثّرها منك، جهلٌ.. كذلك نظرُ النفس -بعين الهوى والأنانية - إلى خالقها القريب إليها، البعيدِ منها سببُ ضلالتها.

وكذا ترى النفسُ عظمةَ المكافأة، فمن شدة الحرص تقول: ليت، وأنّى، وهيهات. وتسمع دهشة المجازاة، فمن شدة الخوف تتسلى بالتعامي والإنكار.

فيا أيتها النقطة السوداء الحمقاء([59]) إن أفعالَه تعالى إنما تليق به وتنظر إليه تعالى، لا بكَ ولا إلى حَوصلتِكَ الضيقة، ولا بنَى هندسةَ الكائنات على هَوَسِك، ولا أشهَدَك خَلقها. ولقد صدقَ الإمام الرباني في قوله: «لا يحمل عطايا المَلِك إلاّ مطاياه».([60])

رمـز

اعلم أن مَن يُزَيِّن رأسكَ ويُحسنه، ويعلّق به زينةَ البصر أبصرُ بك منك. فالصانعُ الذي زيّن رأسك بفصّي العينين، وصَدَفي الأُذنين، وعلّق مرجانَ اللسان في مغارة وجهك -يتلقلق- لهو أبصرُ بك منك، وأقربُ إليك منك، وأشفَقُ عليك منك، وأسمعُ لك منك..

 

رمـز

اعلم أنَّ الدعاء لاسيما من المضطرين، له تأثيرٌ عظيم، يسخَّر بسببه أقوى الأشياء وأعظمُها لأضعفِ الأشياء وأصغرِها، كسكوتِ غضب البحر لأجل معصومٍ على لوحٍ منكسر دعا بقلبٍ منكسر؛ فيدلّ على أن المجيبَ يحكم على الكلِّ فهو ربُّ الكل.

 

رمـز

اعلم أن من أهم مرض ضلالة النفس؛ طلبُ شوكةِ الكلِّ من الجزء، وحِشمةِ السلطان من نَفَر، فإذا لم تجدْه فيه تَردُّه. مثلاً: تطلب تمامَ تجليات الشمس في تمثالها المرتسِم في حَباب، فإذا لم تجد بالتمام تُنكرُ أنه منها.

أيتها النفس!. وحدةُ الشمس لا تستلزم وحدة التجليات، وإن الدلالة لا تستلزم التضمن، وإن ما يصفُ لا يلزم أن يتَّصف؛ فالذرةُ الشفافة تصفُ الشمسَ، والنحلة تصف الصانعَ الحكيم.

 

رمـز

اعلم أن الذهاب في طريق الكفر كالذهاب في الجَمَد بل تحت التراب بل الحديد، مع دفع الدافعة، مشكلٌ عسير على مَن توجَّه إليه قصداً وبالذات. وهذا الإشكال يستتر تحت النظر التَبعي.

وفي سبيل الإيمان كالذهاب في الماء بل الهواء بل الضياء، مع جذبة الجاذبة، سهلٌ يسير للمُوفَّق.

مثلا: تريد أن تقابل الشمسُ جهاتك الستة، فإما أن تتحول أنت بلا كُلفة فيحصل المقصود، وإما أن تكلِّفَ الشمسَ قطع مسافةٍ مدهشةٍ لمقصد جزئي. فالأول: مثال التوحيد سهولةً. والثاني: مثال الشرك إشكالاً. هكذا شاهدتُ. وبرهان هذا الرمز في «قطرة».

فإن قلت: فكيف يُقبَل الكفرُ مع هذا الإشكال ويُترَك الإيمانُ مع هذه السهولة؟..

قيل لك: إن الكفر لا يُقبَل قصداً، بل يُزلَق بسوء الهوى ويُسقَط فيه ويُتلوث به. وأما الإيمان فيُقصَد فيقبَل ويُوضع في القلب.

 

رمـز

اعلم أنه كما أن الكلمة الفردةَ مسموعةٌ لألوفٍ من المخاطَبين كواحدٍ لا فرقَ بين الواحد والملايين، كذلك نسبةُ الأشياء إلى القدرة الأزلية، لا فرق بين الفرد والنوع..

 

رمـز

اعلم أن جامعيةَ القرآن ووسعته، ومراعاته لحسيات طبقات المخاطَبين، لاسيما: تَنزّلاته لتأنيس العوام-الذين هم الأكثر المطلق والمخاطَبون أولاً وبالذات - مع أنها سببٌ لكماله. فالنفس المريضة تضلّ بها؛ إذ تتحرى في أدنى طرزِ تفهيمِه المناسبِ للمقام أعلى وأزينَ صور الإفادة، وتصيّر الأسلوبَ -الذي هو ميزانٌ ومَعكِسٌ لحسّ المخاطب وفهمهِ- ميزاناً ومرصاداً تنظُرُ منه إلى المتكلم، فتضل ضلالاً بعيداً!..

 

رمـز

كيف السكون إلى الدنيا بالوجه الثالث والفرح بها؟.. إن الدنيا لها وجوه ثلاثة:

وجه: ينظر إلى أسماء اللّٰه.

ووجه: هو مزرعة الآخرة.. فهذان الوجهان حَسَنان.

والوجه الثالث: الدنيا في ذاتها بالمعنى الاسمي، مدار للهوسات الإنسانية ومطالب الحياة الفانية.

أنا رُكِّبتُ نقطةً ميتة، وتركَبُني جيفةٌ ميتة. ويومي تابوتي، بين أمسِ وغدٍ قبرَي أبي وابنه. فأنا بين تضييق ميتتين وضغطة القبرين. إلاّ أن الدنيا من جهة أنها مزرعة الآخرة والنظر إليها بنور الإيمان تصير كجنةٍ معنوية.

 

رمـز

اعلم أن وجودك كالبندقة الميرية([61]) أو الفرس الميري في يد عسكر. كما أن العسكر مكلّف بتعهد بندقته وفرسِه السلطانيَين، كذلك أنت مكلّف بحفظ أمانتك وتعهدها..

اعلم أن السائق لهذا القول، أنى رأيت نفسي مغرورةً بمحاسنها. فقلتُ: لا تملكين شيئاً!. فقالت: فإذن لا أهتم بما ليس لي من البدن.. فقلت: لابد أن لا تكوني أقلَّ من الذباب.. فإن شئتِ شاهداً فانظري إلى هذا الذباب، كيفَ ينظِّفُ جناحَيهِ برجليهِ ويمسحُ عينيه ورأسَه بيديه! سبحان من ألهَمَه هذا، وصيّره أستاذاً لي وأفحمَ به نفسي!.

 

رمـز

اعلم أن من المزالق للأقدام: خلطَ أحكام الاسم «الباطن» بأحكام الاسم «الظاهر» وسؤالها منه.. ولوازم «القدرة» بلوازم «الحكمة» وطلبَ رؤيتها فيها..ومقتضيات دائرة «الأسباب» بمقتضيات دائرة «الاعتقاد والتوحيد» وطلبَها منها.. وتعلّقاتِ «القدرة» بجلوات «الوجود» أو تجليات سائر الصفات، وملاحظة نواميسها وحِكمها فيها.. مثلاً: وجودُك هنا تدريجي، ووجودك في المرايا البرزخية دفعيّ آني؛ لتمايز الصفات الإلهية في التعلقات.. وللفرق بين الإيجاد والتجلي.

 

رمـز

اعلم أن الإسلامية رحمةٌ عامة، حتى إن الكفار سعادةُ حياتهم الدنيوية وعدمُ انقلاب لذائذهم إلى الآلام الأليمة، سببُها الإسلامية!.. إذ الإسلاميةُ قَلَبت الجحودَ والكفر المطلق، والإنكار المحض المتضمنين لليأس الأليم والألم الشديد إلى الشك والتردد. فالكافر بسبب تولُّد احتمال الحياة الأبدية في ذهنه بصيحةِ القرآن يستريحُ من الألم المنغِّص، وبعدم اليقين يستريح من الكلفة اللازمة للديانة. فهو كالنعامة (إبل الطير) إذا قيل له: طِرْ يقول: أنا إبل.. إذا قيل له: احمل الحمل. يقول: أنا طير! فهذه الدسيسة الشيطانية هي التي صيَّرت الكافر والفاسقَ مسعودَين ظاهراً في الحياة الدنيوية بالنسبة إلى الكافر المطلق والمؤمن الخالص..

 

 

رمـز

اعلم أن النفسَ لا تريد أن تعترفَ وتتصور صدور ما هو أصغر أو أقلُ قيمةً منها من يدِ قدرةِ الخالق، لتحافظ على دائرة ربوبية نفسها، فتعطي للخالق ما فوقَها، وتتغافل عما تحتها. فما دامت لم تر نفسَها أصغرَ الأشياء أو لا شيء، لا تخلص من ميل نوعِ تعطيلٍ([62]) أو شرك خفي.

 

رمـز

اعلم أن النفس بسبب تكاسلها في وظيفتها، تريد أن لا يكون عليها رقيب، فتحبُّ التستر. فتلاحظ عدمَ المالك مكرراً، فتعتقد حريتَها؛ فأولاً تتمنى، ثم تترجى، ثم تلاحظ، ثم تتصور، ثم تعتقد العدَم. ثم تمرُق من الدين!.. ولو استشعَرتْ بما تحت الحرية والراحة وعدم المسؤولية من الأهوال المدهشة المحرقة واليُتم الحزين الأليم؛ لما مالتْ أدنى ميلٍ، بل لفرّتْ وتبرأت وتابت أو ماتت.

رمـز

اعلم أن الأشياء تتفاوت بتفاوت مدار الاستناد؛ مثلاً: إن النفر المستند بسلطانٍ عظيم يفعل ما لا يقتدر عليه (شاه)([63]) عظيم، فالنفر يزيد بسبعِ مراتب على من زاد عليه بسبعين مراتب. فالبعوضة المأمورة من طرف القدرة الأزلية تغلب نمرودَ النماريد المتمرّدة. فالنواة المأذونة من طرف فالق الحَبّ والنوى، تتضمن وتَسَعُ كلَّ ما تحتاج إليه النخلةُ الباسقة، ولا تسعُهُ (فابريقات) تسَع قريةً..

اعلم أن الفرق بين طريقي في «قطرة» المستفادة من القرآن؛ وطريق أهل النظر والفلاسفة، هو أني أحفر أينما كنتُ، فيخرج الماءُ، وهم تشبثوا بوضعِ ميازيبَ وأنابيب لمجيء الماء من طرفِ العالَم ويُسلسِلونَ سلاسلَ وسلالمَ إلى ما فوق العَرش لجلب ماء الحياة، فيلزم عليهم بسبب قبول السبب وضع ملايين من حفظة البراهين في تلك الطريق الطويلة لحفظها من تخريب شياطين الأوهام. وأما ما علَّمَنا القرآنُ فما هو إلاّ أن أُعطينا مثلَ «عصا موسى» أينما كنتُ -ولو على الصخرة - أَضربُ عصاي فينفجر ماءُ الحياة، ولا أحتاج إلى السفر الطويل إلى خارج العالم، وتعهّد الأنابيب الطويلة من الانثلام والانكسار..

رمـز

(أي واه) وا اسفاً!. إن وجودَ النفس عمىً في عينها، بل عينُ عَماها، ولو بقي من الوجود مقدارُ جناحِ الذباب يصيرُ حجاباً يمنع رؤيتَها شمسَ الحقيقة. فقد شاهدتُ أن النفسَ بسبب الوجود تَرى على صخرةٍ صغيرةٍ في قلعة عظيمةٍ مرصوصةٍ من البراهين القاطعة ضعفاً ورخاوةً، فتنكر وجودَ القلعة بتمامها. فقس من هنا درجةَ جهلها الناشئ من رؤيتها لوجودها..

 

رمـز

اعلم يا «أنا» قد علمتَ أنه ما في يدك منك من الأُلوف، إلاّ جزءٌ مشكوك. فابنِ على ذلك الجزء الاختياري الضعيف ما يطيق حملَه، ولا تحمل على الشعرة الشعورية الصخورَ العظيمة، ولا تحمل على ما ليس إليك، إلاّ بإذن مالِكهِ. فإذا تكلمتَ بحسابكَ -بالغفلة - فلا تتجاوز عن حدِّك، وميدان جولانك شعرة فقط.

وإذا تكلمتَ بحساب مالك الملك فاحمل ما ترى كيفما أمر، وكيفما يشاء لا كيفما تشاء وإذنُ المالكِ ومشيئتُه تُعرَف من شريعته.

 

رمـز

يا من يطلب الشهرة المسماة في العرف بـ(شان وشرف)! اسمع مني. فقد شاهدتُ الشهرةَ عينَ الرياء وموتَ القلب، فلا تطلبها لئلا تصير عبدَ الناس، فإن أُعطيتَها فقل: ﴿إنَّا للّٰه وإنَّا إلَيهِ رَاجِعُونَ﴾(البقرة: 156).

 

*  *   *

تقريظ

الشيخ صفوت أفندي(*)

رئيس مجلس تدقيق المصاحف الشريفة والمؤلفات الشرعية

 

بسم اللّٰه الرحمن الرحيم

وبه ثقتي

أحمد اللّٰه سبحانه وأُصلي وأُسلم على نبيه الذي أَنزل عليه قرآنه وعلى آله وأصحابه الذين شيّدوا معالمَ الدين ومهّدوا بنيانه.. وبعد:

فقد تجلى لعيني هذه «القطرة من بحر التوحيد» فرأيت لا فرقَ بينها وبينه، لأنها أظهرت وأفاضت في دين الإسلام عينه، وفي الحقيقة منه بدت وإليه تعود، فشَكَر اللّٰه تعالى سعيَ أخينا في رضاعة ثدي الإسلام المغترف من بحار التوحيد «بديع الزمان العلاّمة سعيد» والغريب في هذه الأيام.. فطوبى للغرباء..([64]) كما قال عليه الصلاة والسلام وعلى آله وصحبه أجمعين. والحمد للّٰه رب العالمين.

الفقير إليه سبحانه

تراب أقدام العلماء

صفوت  

*  *  *

 

 

 

([1])  طبعت هذه الرسالة لأول مرة بمطبعة «نجم إستقبال» بإستانبول سنة 1340 هـ (1922م)

([2])  سيرد شرح هذين المصطلحين في ثنايا الكتاب. فالحرف يعرَّف في النحو بأنه ما دلّ على معنى في غيره، أما الاسم فيعرَّف بأنه ما دلّ على معنى في نفسه غير مقترن بزمان. والمقصود أن النظرة القرآنية إلى الموجودات تجعلها بمثابة حروفٍ تدل على معانٍ في غيرها، فهي تعبّر عن معاني تجليات الأسماء الحسنى والصفات الجليلة للخالق العظيم سبحانه ، فكأنها مكتوباتٌ ربانية تالياتٌ للأسماء الحسنى.

([3])  أي: توهمت أني مالك .

([4])  المنخور.

([5])  نظّم الشيء إلى الشيء: ضمه وألّفه.

([6])  وضعنا أرقاماً أمام الفقرات تسهيلاً للقارئ الكريم.

([7])  تفصيله في «حباب».

([8])  سيرد شرح هذا المثال في «ذيل الحباب».

([9])  أي: لو كان النور من جانب الإمكان هذا فعله فكيف بنور الأنوار...

([10])  للذات الإلهية.

([11])  هذه الأسرار الستة مذكورة بالتفصيل في «ذيل الكلمة العاشرة» وفي «الكلمة التاسعة والعشرين». وفي «السانحات» من مجلد «صيقل الإسلام».

([12])  انظر «حباب».

([13])  أي الاستشفاء، مشتقة من الشفاء .

([14])  أي المستند والدليل والحجة .

([15])  اللهاة: اللحمة المشرفة على الحلق في أقصى سقف الفم والتي تساعد على التصويت والتحكم في مخارج الكلام.

([16])  حجج واهية.

([17])  أي: ولا حتى إمكاناً ذاتياً.

([18])  أي ما ذكر من التصرف والتبديل والتحويل والتغيير والتنظيم.

([19])  صاحب هذا الشعور.

([20])  بلسان الحال والمقال.

([21])  أي إن تجليات القدرة المطلقة تنضبط وفق مقادير القدر كما هو في علم اللّٰه.

([22])  أي المكتوبة.

([23])  تفصيل هذه البراهين في «زهرة من رياض القرآن»، وفي «المذكرة العاشرة من اللمعة السابعة عشرة».

([24])  بمعنى الأصل.

([25]) وفي نسخة: ومنع سريان الحياة.

([26])  في (ط1) أربعة أمراض مضلة.

([27])  ذكّر النفس لأن المقصود منه الإنسان وفي (ت 59) يا أخي.

([28])  أي: الجسم

([29])  الصيدلية

([30])  الأنين: صوت توجع وألم .. ج: أنات . والمقصود هنا أنين كل فاقة.

([31])  أي: بتعهده وتفضله سبحانه لتلك الحاجات يتعرف إليه الإنسان.

([32])  فقل يا أنا..

([33])  مروّح: مطّيب .

([34]) [إيضاح هذا الباب الثاني الذي يخص «سبحان اللّٰه» في اللمعة العربية «التاسعة والعشرين» وفي مواضع عدة من «رسائل النور»، لذا جاء هنا مختصراً] المؤلف.

([35]) جمع العدم.

([36])  [ لقد كتب هذا الباب المهم في «الحمد للّٰه» كتابةً مفصلة في الرسالة العربية «التفكر الإيماني الرفيع» (اللمعة التاسعة والعشرين) لذا جاء هنا مختصراً] . المؤلف.

([37])  كلزوم الضياء المحيط للشمس، وللّٰه المثل الأعلى.

([38])  بركار: آلة هندسية معروفة لرسم الدوائر.

([39])  الفيّاض: الكثير الماء.

([40])  أي: «سبحان اللّٰه والحمد للّٰه واللّٰه اكبر».

([41])  الأيس: الموجود. والليس: المعدوم.

([42])  [[الذي لا إله إلاّ هُو يقابل كلّ شئ.. دائماً يطلبونَ الحق، وابداً يقولون: ياحيّ]].

([43])  [ هذه المرتبة الثالثة تأخذ بعين الاعتبار زهرة جزئية وحسناء جميلة ، فالربيع الزاهر كتلك الزهرة والجنة العظيمة مثلها؛ إذ هما مظهران من مظاهر تلك المرتبة ، كما أن العالم إنسان جميل وعظيم، وكذا الحور العين والروحانيات وجنس الحيوان وصنف الإنسان.. كل منها كأنه في هيئة إنسان جميل يعكس صفحاته هذه الأسماء التي تعكسها هذه المرتبة ] . المؤلف.

 

([44])  [[حيث إن (لا إله إلاّ هو) اعظم من العالم ]].

([45])  [ لقد وضحت هذه المرتبة في ذيل الموقف الأول من «الكلمة الثانية والثلاثين» وفي المقام الثاني من «المكتوب العشرين» ] المؤلف.

([46])  [ لو كتبت هذه المرتبة السادسة كسائر المراتب لطالت جداً، لأن «الإمام المبين والكتاب المبين» لا يمكن بيانهما باختصار، وحيث إننا ذكرنا نبذة منهما في «الكلمة الثلاثين» فقد أجملنا هنا ، إلاّ أننا سردنا بعض الإيضاحات أثناء الدرس] . المؤلف.

 

([47])  [يمكن الانتقال إلى المسمى ذي الجلال والإكرام بالنظر بمنظار هذه الأسماء المباركة إلى مظاهر الأفعال والآثار الإلهية وراء هذه الموجودات ] . المؤلف

([48])  [[مَادمتُ حياً فأنا خادم القرآن.. وأنا تراب سبيل محمد المصطفى]].

([49])  الهوس: مصدر هاس: وهو طرف من الجنون وخفة العقل.

([50])  النكتة: هي مسألة لطيفة أخرجت بدقة نظر وإمعان فكر ، وسميت المسألة الدقيقة نكتة لتأثير الخواطر في استنباطها (التعريفات للجرجاني).

([51])  في (ط1): نكتة: (اعلم) أن ما يُرى على كل شئ من أثر الشعور والعلم والبصر فيه إطلاق يشير إلي عدم التناهي، لا يتيسر للمقيّد المتناهي -من الشعور والعلم والبصر- ذلك التأثير. وأن ذرة الإطلاق وعدم التناهي أجلّ وأعظم بلا حدّ من المحدود المقيد.. فإن شئت تقريب هذه الحقيقة إلى الفهم فانظر إلى «عالم المثال» الذي هو أقرب إلى الإطلاق من عالم الشهادة المقيد، ترَ ذرة من جرم شفاف -الذي هو منفذ من هنا إلى عالم المثال- يمكن أن تسع تلك الذرة  من الصور المثالية ما لا تسع الأرض من أعيانها.

([52])  مسلم، الزهد 1؛ الترمذي، الزهد 16؛ ابن ماجه، الزهد 3؛ أحمد بن حنبل، المسند 2/197، 323، 389، 485.

([53])  أي العادات الأرضية.

([54]) للأستاذ المؤلف خاطرة لطيفة حول هذا، في "الكلمة الرابعة والعشرين من مجلد الكلمات".

([55])  كنيسة قديمة حوّلها السلطان محمد الفاتح إلى جامع، وظل هكذا طوال قرون عدة حتى حوّل إلى متحف سنة 1934 .

([56])  البندق: كل ما يرمي به رصاص كروي وغيره ، ومنه البندقية المعروفة .

([57])  حيث يقولون جميعاً: الحمد للّٰه ، مثله.

([58])  الكيف: المزاح والسرور، والمقصود هنا: ما تشتهيه وترغبه.

([59])  أي «أنا».

([60])  الإمام الرباني، المكتوبات في مواضع عدة منها: ج/1 المكتوب 18، 113، 221، 277، 287.

([61])  أي التي تملكها الدولة.

([62])  أي إنكار صفات الخالق.

([63])  رتبة عظيمة قريبة من السلطان.

([64])  مسلم، الإيمان 232؛ الترمذي، الإيمان 13؛ ابن ماجه، الفتن 15؛ الدارمي، الرقاق 42؛ المسند 1/398، 2/177، 222، 389.

« Önceki Sayfa  | | Sonraki Sayfa »
Ekranı Genişlet