صلة بديع الزمان النورسي بالصوفية

صلة بديع الزمان النورسي بالصوفية

الدكتور سعيد الغزاوي

كلية الآداب ابن مسيك

الدار البيضاء- المغرب

سيرة حياته: ما بين سعيد القديم  في  المرحلة الأولى من حياته  1293 هـ 1343 هـ  الموافق لـ 1876 م - 1926 م، وسعيد الجديد في المرحلة  الثانية  من حياته 1343 هـ 1379ه-  ينبغي  تتبع حياته  بحثا عما يحقق فرضية التصوف  في حياته سلوكا أو قربا أو تتلمذا.

سعيد القديم / الحياة الأولى:

-  اشتهر سعيد النورسي منذ طفولته بذكاء خارق أهّله لإتقان علوم الرياضيات والفلك والكيمياء والفيزياء والجيولوجيا والفلسفة والتاريخ والجغرافيا وغيرها من العلوم.

- وينقل عنه تلامذته أنه كان ميالا للبيئة الصوفية، إذ كانت الطريقة النقشبندية شائعة في تركيا.

- طلب من السلطان عبد الحميد تأسيس مدرسة دينية علمية (مدرسة الزهراء لخدمة القرآن).

- قاد فرقة الأنصار وكان مرشدأً لها.

- انتقل سنة 1923 م إلى "وان" قرب إحدى خرائب مهجورة قديمة على جبل "أرك"، واستمر في الاعتكاف والانزواء، وكأن الله يهيئه لمواجهة الخطوب الهائلة والأعاصير المدمرة التي أوشكت أن تهب على الإسلام. (1)

- رفض الاشتراك في ثورة الشيخ " سعيد بيران " ضد مصطفى كمال، لعدم رغبته في إهراق دم المسلمين الأبرياء في حركة لا أمل فيها(2).

هذه ملامح  حياة سعيد القديم ذكاء ونبوغا وموسوعية في العلوم، وخدمة للقرآن، وميلا إلى البيئة الصوفية، وميلا إلى الاعتكاف والانزواء،  ورفضا للثورات التي تريق دماء المسلمين، هي ملامح  تمكن من القول بنشوء قيادة  دينية لم تتضح معالمها بعد.

سعيد الجديد / الحياة الثانية:   

- في منفاه بمدينة " بارلا " من أعمال " اسبارطة "  الذي أرادوه منفى تخبو فيه جذوة النورسي ويخمل ذكره، كان ميلاد سعيد الجديد وميلاد رسائل النور التي استغرقت  طوال حياته.

- في منفاه تظهر بعض علامات التصوف:

1-  قلة الطعام، "  كان الأستاذ معتل الصحة دائما، وكان قليل الإقبال على الطعام، بل يمكن القول بأنه قضى عمره كله وهو نصف شبعان ونصف جائع، إذ كان يقضي  يومه الكامل بإناء صغير من الحساء مع كسرات من الخبز، وقضى حياته كلها على ما ادخره سابقا من الليرات الذهبية وعلى الاقتصاد الكامل والبركة الربانية "(3).هذه البركة  الربانية يبحث عنها النورسي في اللمعة التاسعة عشرة قائلا: " ومن الجدير بالملاحظة أن قسما من أولئك الذين عرضوا عليّ زكاتهم قد غلبهم الدين بعد سنتين، لعد التزامهم بالاقتصاد، إلا أن تلك النقود الضئيلة قد كفتني - ولله الحمد - ببركة الاقتصاد إلى ما بعد سبع سنوات، فلم ترق مني ماء الوجه، ولم تدفعني  لعرض حاجتي إلى لناس، ولم تفسد علي ما اتخذته دستورا لحياتي وهو " الاستغناء عن الناس "(4).

2- الخلوة في الجبال وبين الأشجار: " كان يقضي أكثر وقته في البيت أو يخرج في فصلي الربيع و الصيف إلى جبال " جام "، ويختلي هناك بنفسه في قمة الجبل وبين الأشجار متأملا ومتعبدا"(5).

3– العزلة والوحشة: يقول عنها النورسي نفسه " حينما كنت في منفاي ذلك الأسر الأليم بقيت وحدي منفردا منعزلا عن الناس على قمة جبل  ( جام ) المطلة على مراعي ( بارلا ) .. كنت أبحث عن نور في تلك العزلة. وذات ليلة، في تلك الغرفة الصغيرة غير المسقفة، المنصوبة على شجرة صنوبر عالية على قمة ذلك المرتفع، إذا بشيخوختي تشعرني بألوان وأنواع من الغربة المتداخلة - كما جاء ذلك في المكتوب السادس بوضوح - ففي سكون تلك الليلة حيث لا أثر و لا صوت سوى ذلك الصدى الأليم قد أصاب صميم مشاعري، ومس أعماق شيخوختي وغربتي "(6).

4- الحزن طريق الإيمان  بالله" ومن خلال هذا الحزن الذي يمازجه الحزن، بدأت  أبحث عن نور، وعن قبس أمل، وعن باب رجاء، وسرعان ما جاء " الإيمان بالله " لنجدتي ولشد أزري، ومنحني أنسا عظيما بحيث لو تضاعفت آلامي ووحشتي أضعافا مضاعفة لكان ذلك الأنس كافيا لإزالتها "(7).

-  ورغم صدور كلمات  منه تنبئ عن علامات  فارقة لرؤيته للتصوف، لكونه تصوف النورسي المبدع والعبقري، نذكر من هذه العلامات الفارقة براءته من أن يكون شيخ طريقة :

-  " لقد سألتم: هل أنا ممن يشتغل بالطرق الصوفية ؟ وإنني أقول لكم: إن عصرنا هذا هو عصر حفظ الإيمان لا حفظ الطريقة. إن كثيرين يدخلون الجنة بغير الانتماء إلى طريقة صوفية، ولكن لا يدخل أحد الجنة بغير إيمان "(8).

- " إنني لست بشيخ طريقة، فالوقت الآن ليس وقت طرق صوفية بل وقت إنقاذ الإيمان "(9).

- " إن كل علم من العلوم التي تقرأونها يبحث عن الله دوما، ويعرّف بالخالق الكريم بلغته الخاصة. فأصغوا إلى تلك العلوم دون المدرسين "(10).

-  " أعوذ بالله من الشيطان والسياسة " شعار رفعه النورسي بعد انسحابه من ميدان السياسة، وانتقاله إلى سعيد الجديد.

-  "  الطريق الصحيح الوحيد هو طريق الإسلام من دون أن يدخل بنفسه إلى ساحة السياسة بل بقي أيضا بعيدا عنها يصرف كل جهده لتربية النفوس وتقوية الإيمان وتذكير الناس بالله واليوم الآخر، مع تنبيه مستمر إلى طلبته أن يتخذوا العمل الإيجابي البناء شعارا لهم دون الخوض في الدفاع عن حقوقهم بالقوة المادية أو الالتفات إلى التيارات المعادية والانشغال بها(11).

ما بين تصريح النورسي بأنه ليس شيخ طريقة، وأن الإيمان طريق الجنة  دون انتساب لطريقة، وبين بناء مدرسة نورانية مستمدة من الإسلام وعلومه، والدعوة إلى العمل الإيجابي البناء،  تتضح المعادلة التي تحقق منهجا بديعا لتصوف النورسي: طريقا إلى الإيمان  وعملا إيجابيا دون انتساب لشيخ أو طريقة. تلك بداية التحقق من فرضية  " النورسي صوفي " بإطلالة على حياة النورسي القديم والجديد، الميال إلى العزلة، والمبتعد عن شيطان السياسة، وداعي السلطان عبد الحميد إلى تأسيس مدرسة دينية علمية في شرقي الأناضول ( مدرسة الزهراء)، ثم إبداع رسائل النور التي راجت  رواجا كبيرا، وأصبحت آلاف النسخ اليدوية تنتشر في القرى والنواحي والمدن، فتكسب آلاف الأنصار وتشعل جذوة الإيمان في آلاف القلوب، وهي الرسائل التي "فرضت (حركة ا لنور) على واقع المجتمع التركي، فلم يعد بوسع أحد أن يتجاهلها، فهذه المحاكم المتلاحقة للأستاذ بديع الزمان ولطلابه لم تستطع أبدا أن تكون سدا مانعا أمام هذه الحركة، بل شاءت حكمة الله أن تكون هذه المحاكم نفسها وسيلة فعالة في نشر رسائل النور "(12).

____________________________

(1) بديع الزمان النورسي  إحسان قاسم الصالحي ص 57.

(2) نفسه ص 58.

(3) نفسه ص 68.

(4) اللمعات  ص 215.

(5) نفسه ص 68.

(6) نفسه ص 69.

(7) اللمعات ص  349.

(8) نفسه  ص 83.

(9) نفسه ص 73.

(10) نفسه ص 89.

(11) نفسه ص 109.

(12) نفسه ص 110.

قرئت 119 مرات
لإضافة تعليق يرجى تسجيل الدخول أو إنشاء قيد جديد