رموز تخص التوحيد

 

قطرة نورية من كليات رسائل النورسي

اربعة رموز صغيرة تخصّ التوحيد:

الرمز الاول:

يا من يستمدّ من الاسباب، إنك (تنفخ من غيرِ ضَرم وتستسمن ذا ورم)(1) اذا رأيت قصراً عجيباً يُبنى من جواهر غريبة، لا يوجد وقت البناء بعضُ تلك الجواهر الاّ في الصين، وبعضها الاّ في الاندلس، وبعضها الاّ في اليمن، وبعضها الاّ في سيبريا. واذا شاهدت ان البناء يتم على أحسن ما يكون، وتجلب له تلك الاحجار الكريمة من الشرق والغرب والشمال والجنوب باسرع وقت وبسهولة تامة وفي اليوم نفسه.. فهل يبقى لديك ريب في ان بناء ذلك القصر باسط هيمنته على الكرة الارضية؟.

وهكذا كلُ كائنٍ، بناءٌ، وقصر إلهي، ولاسيما الانسان. فهو من اجمل تلك القصور ومن اعجبها، لأن قسماً من الاحجار الكريمة لهذا القصر البديع من عالم الارواح، وقسم منها من عالم المثال واللوح المحفوظ، وقسم آخر من عالم الهواء، ومن عالم النور، ومن عالم العناصر. كما امتدت حاجاته الى الابد، وانتشرت آماله في اقطار السموات والارض، وشرّعت روابطه وعلاقاته في طبقات الدنيا والآخرة.

فيا هذا الانسان الذي يحسب نفسهُ انساناً، انت قصر عجيب جداً، وعمارة غريبة جداً. فما دامت ماهيتُك هكذا، فلا يكون خالقك اذاً الاّ ذلك الذي يتصرف في الدنيا والآخرة بيسر التصرف في منزلين اثنين، ويتصرف في الارض والسماء كتصرفه في صحيفتين، ويتصرف في الازل والابد كأنهما الامس والغدُ، فلا معبود يليق بك،ولا ملجأ لك، ولا منقذ الاّ ذلك الذي يحكم على الارض والسماء ويملك أزمة الدنيا والعقبى.

الرمز الثاني:

هناك بعضُ الحمقى يتوجهُ بحبه الى المرآة اذا ما رأى الشمس فيها. وذلك لعدم معرفته الشمس نفسها، فيحافظ على المرآة بحرصٍ شديد لاستبقاء الشمس، ولكيلا تضيع! ولكن اذا تفطن أن الشمس لا تموت بموت المرآة، ولا تفنى بإنكسارها توجه بمحبته كلها الى الشمس التي في السماء. وعندئذٍ يُدرك أن الشمس التي تشاهَد في المرآة ليست تابعة للمرآة، ولا يتوقف بقاؤها ببقاء المرآة، بل ان بقاء حيوية المرآة وتلألأها إنما هو ببقاء تجليات الشمس ومقابلتها. فبقاء المرآة تابعٌ لبقاء الشمس.

فيا ايها الانسان! ان قلبك وهويتك وماهيتَك مرآةٌ، وما في فطرتك من حبّ البقاء ليس لأجلها، بل لأجل ما فيها من تجلٍ لأسم الباقي ذي الجلال، الذي يتجلى فيها حسب استعداد كل انسان. ولكن صُرفَ وجهُ تلك المحبة الى جهة اخرى نتيجة البلاهة. فما دام الأمر هكذا فقل: ياباقي انت الباقي. فاذ انت موجود وباقٍ، فليفعل الفناء بنا ما شاء فلا نبالي بما نلاقي.

الرمز الثالث:

ايها الانسان! إن من غرائب ما أودع الفاطر الحكيم في ماهيتك انه: بينما لا تسعك الدنيا احياناً فتقول: أفّ! أفّ! ضجراً كالمسجون المخنوق، وتبحث عن مكان اوسعَ منه، اذ بك تسعك خردلة من عمل، من خاطرة، من دقيقة، حتى تفنى فيها. فقلبك وفكرُك اللذان لا تسَعهما الدنيا الضخمة، تسَعهما الذرة الصغيرة، فتجول بأشد احاسيسك ومشاعرك في تلك الخاطرة الدقيقة الصغيرة.

 

وقد اودع الباريء سبحانه في ماهيتك أجهزةً ولطائف معنوية دقيقة، اذا ابتلع بعضها الدنيا فلا يشبع، ويضيق بعضها ذرعاً عن ذرة ولا يتحمل شُعيرة – كالعين التي لا تتحمل شعرة والرأس الذي يتحملاثقالاً هائلة. فتلك اللطيفة لا تتحمل ثقلاً كالشعرة الدقيقة، أي لا تتحمل حالة هينة جداً نشأت من الضلالة ونجمت من الغفلة. بل قد تنظفىء جذوتها وتموت.

فاحذر! وخفف الوطء، وخِفْ من الغَرق، فيغرق معك ألطف لطائفك التي تبتلع الدنيا في أكلة، او كلمة، او لمعةَ، او شارة، او بقلة، او قبلة. فهناك اشياء صغيرة جداً تتمكن – في جهة – ان تستوعب ما هو ضخم جداً. فانظر ان شئت كيف تغرق السماء بنجومها في مرآة صغيرة، وكيف كتب الحق سبحانه في خردلة حافظتك اكثر ما في صحيفة اعمالك واغلب ما في صحائف اعمارك. فسبحانه من قادر قيوم!.

الرمز الرابع:

يا عابد الدنيا! ان دنياك التي تتصورها واسعةً فسيحةً ما هي الاّ كالقبر الضيق، ولكن جدرانه من مرآةٍ تتعاكس فيها الصور، فتراه فسيحاً رحباً واسعاً مدّ البصر، فينما منزلك هذا هو كالقبر تراه كالمدينة الشاسعة، ذلك لأن الجدار الأيمن والايسر لتلك الدنيا واللذين يمثلان الماضي والمستقبل – رغم انهما معدومان وغير موجودين – فانهما كالمرآة تعكسان الصور في بعضهما البعض الآخر فتوسّعان وتبسطان اجنحة زمان الحال الحاضرة الذي هو قصيرة جداً وضيق جداً. فتختلط الحقيقة بالخيال، فترى الدنيا المعدومة موجودةً. فكما ان خطاً مستقيماً وهو في حقيقته رفيعٌ جداً، إذا ما تحرك بسرعة يظهر واسعاً كأنه سطح كبير، كذلك دنياك انت، هي في حقيقتها ضيقة جداً، جدرانها قد توسعت ومدّت بغفلتك وتوهم خيالك، حتى اذا ما تحرك رأسك من جراء مصيبة اصابتك، تراه يصدم ذلك الجدار الذي كنت تتصوره بعيداً جداً. فيطير ما تحمله من خيال، ويطرد نومك. وعندئذ تجد دنياك الواسعة أضيقَ من القبر، وترى زمانك وعمرك يمضي اسرع من البرق، وتنظر الى حياتك تراها تسيل اسرع من النهر.

فما دامت الحياة الدنيا والعيش المادي والحياة الحيوانية هكذا، فانسلْ اذن من الحيوانية، ودع المادية، وادخل مدارج حياة القلب.. تجد ميدان حياةٍ أرحب، وعالم نورٍ اوسع مما كنت تتوهمه من تلك الدنيا الواسعة.

وما مفتاح ذلك العالم الأرحب الاّ معرفةُ الله، وانطاقُ اللسان وتحريك القلب، وتشغيل الروح بما تفيده الكلمة المقدسة (لا إله الاّ الله) من معانٍ واسرار.(*)

 

____________________________

(1) نفخت في غير ضرم… مثل يضرب لمن يصنع الشيء في غير موضعه. والضرم: النار أو الحطب السريع الالتهاب، ونفخ في غير ضرم أي في مكان لا نار فيه. – المترجم.

(*) كليات رسائل النور – اللمعة السابعة عشرة .. ص:205

قرئت 57 مرات
لإضافة تعليق يرجى تسجيل الدخول أو إنشاء قيد جديد