انواع عبادات المخلوقات 

 

بسم الله الرحمن الرحيم

(أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِّنَ النَّاسِ ۖ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ ۗ وَمَن يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ ۚ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ)( الحج:18)

اعلم!(1)ان القرآن الحكيم يصرّح: بان كل شئ من العرش الى الفرش، ومن النجوم الى الهوام، ومن الأملاك الى الأسماك، ومن السيّارات الى الذرّات يعبد الله ويسجد له ويحمده ويسبّح له اِلاّ ان عباداتها متنوعةٌ. فنشير الى وجهٍ من وجوه التنوع، بنوعِ تمثيل.

مثل:"ولله المثل الاعلى" اِن ملكاً عظيماً اذا بنى مدينة جسيمةً وبنى قصراً محتشماً، فذلك الملك يستعمل فيهما أربعة أنواعٍ من العَمَلة:

الأول:مماليكُه: فليس لهم معاش ولا أجرة. بل لهم ذوقٌ وشوقٌ في كل ما يعملون بأمره، ويقولون في مدحه، ويكتفون بشرف انتسابهم له، ولذة نظرهم بحسابه.

والثاني:خَدَمة عاميون يستعملهم الملك بعلمه بأجرةٍ جزئية تليق بهم. ولا يعرفون ما يترتّب على عملهم من الغايات العالية الكلية. حتى قد يتوهم البعضُ أنْ ليس لعمله غايةٌ الاّ ما يعود الى نفسه من الأجرة والمعاش.

والثالث:حيواناتٌ له يستخدمها، فليس لها الاّ العَلَف، والتلذّذ بالعمل فيما تستعدّ له، اذ في خروج الاستعداد من "القوّة" الى "الفعل" لذة عامة.

والرابع:عَمَلة عالمون بما ولِمَا يعملون وتعمل سائر العَمَلة، وعارفون بمقاصد الملك. فلهم رياسةٌ ونظارةٌ على سائر الخَدَمة، ولهم معاشٌ متفاوتٌ على درجات رُتَبهم.

كذلك اِن مالك السموات والأرض وبانيها، استخدم واستعبَد الملائكة، ثم الحيوانات، ثم الجمادات والنباتات، ثم الأناسي، لا للحاجة؛ اذ هو خالقُهم ومايعملون، بل للعزّة والعظمة وشؤونات الربوبية وغير ذلك.

فاما الملائكة فليس لهم ترقيات بالمجاهدة. بل لكلٍ منهم "مقام معلوم" لكن له ذوقٌ مخصوص في نفس عملهم وفيوضاتٍ بنسبة درجاتهم في نفس عباداتهم. فمكافآت خَدَماتهم مندرجةٌ في عين خدماتهم. فكما يتغذى الانسانُ بالماء والهواء والضياء والغذاء ويتلذذ بها، كذلك االملائكة يتغذَّونَ ويتنعّمون ويتلذذون بأنوار الذكر والتسبيح والحمد والعبادة والمعرفة والمحبة، لأنهم من النور فيكفي لغذائهم النور والنورانيّ، كالروائح الطيّبة، ولهم سعادة عظيمة في فعلهم بأمر معبودهم، وفي عملهم بحسابه، وخدمتهم باسمه، ونظارتهم بنظره، وتشرّفهم بانتسابه، وتنزهّهم بمطالعة مُلكه وملكوته، وتنعّمهم بمشاهدة تجليات جماله وجلاله.

واما الحيوانات فلوجود النفس المشتهية فيها مع اختيارٍ جزئي ليست أعمالها خالصةً بحسابه وحَسْبةً محضةً لوجهه، فلهذا يعطيها مالِكُها الكريم معاشاً في ضمن عملها لأجله.

مثل:اِن العندليب المشهور بالعشق للورد يستخدمه فاطرُه الحكيم لإعلان المناسبة الشديدة بين طوائف النبات وقبائل الحيوان. فالعندليب خطيبٌ رباني من طرف الحيوانات - التي هي ضيوف الرحمن - وموظّفٌ لإعلان السرور بهدايا رازقها. ولاظهاره حُسن الاستقبال للنباتات المرسلة لإمداد أبناء جنسه، ولبيان احتياج نوعه البالغ ذلك الاحتياج الى درجة العشق، على رؤوس جميلات النباتات، ولتقديم ألطف شكرٍ في ألطف شوقٍ في ألطف وجهٍ لجنابِ مالكِ الملك ذي الجلال والجمال والاكرام.. فهذه غايةُ عمله بحسابه سبحانه، فهو يتكلم بلسانه فنفهم هذه المعاني منه، واِن لم يَعرف هو معنى نغماته بتمامها. وعدمُ معرفة البلبل بهذه الغايات بتفصيلها لا يستلزم عدمَها، لا أقل يكون كالساعة تُعلّمكَ الأوقات وهي لاتعلم ماتعمل. وأما معاشُه الجزئي فذوقه بمشاهدة الأزهار المتبسّمة وتلذّذه محاورتها. فليست نغماته الحزينة تألّمات شكايات حيوانية، كلاّ بل هي "تشكرات عطايا رحمانية" وقس عليه النحل والفحل والعنكبوت والنمل وبلابل الهوام وغيرها.فلكلٍ

منها معاشٌ جزئي في ذوق خصوصيّ في ضمن خدمتها لغاياتٍ كليةٍ ولصنعةٍ ربّانية كالنفر المستخدم في سفينة سلطانية.

فالحيوانات بامتثالها للأوامر التكوينية بكمال الاطاعة واظهارها لغايات فطرتها بأحسن وجه بإسمه، وتظاهرات حياتها بوظائف  بابدع طرز بحوله، وهكذا من سائر تسبيحاتها تقدم هدايا عباداتها ومزايا تحياتها لجناب فاطرها.

فالتحيات تظاهرات الحياة بلطائف آثارها المطلوبة لواهب الحياة.

واما النباتات والجمادات فلأجل ان لا إختيار لها، لا معاشَ لها، فأعمالُها خالصةٌ لوجه الله، وحاصلةٌ بمحض إرادة الله وباسمه وبحسابه وبحوله. الاّ انه يتظاهر من حال النباتات أن لها تلذّذات بوظائفها ولا تألماتَ لها، خلافاً للحيوان المختار. فله الألم كاللذّة. ولأجل عدم تداخل الاختيار في أعمال الجماد والنبات تكون آثارها أكمل من اعمالِ ذوي الاِختيار، ثم عمل ذي الاختيار المنوّر بالوحي والالهام كالنحل وامثاله أجملَ من غيره المعتمد على اختياره.

واما الانسان فهو كالمَلَك في كلية العبادة وشمول النظارة واِحاطة المعرفة ودلاّلية الربوبية، بل أجمع منه. الاّ ان له نفساً شريرة مشتهية، فله ترقيات وتدنيات.

وكالحيوان في ادخاله في عمله حظاً لنفسه وحصةً لذاته، فله معاشان معجّل جزئي حيواني، والآخر مؤجل كلي مَلَكي. فتأمل تَنَلْ.

ولقد ذكرنا في دروس رسالة النور كثيراً من اسرار عبودية الانسان ووظيفته وقسماً من عبادة النبات والجماد وتسبيحاتهما فلا حاجة الى التطويل هنا فان شئت فراجع تلك الدّروس لترى سرّ سورة "والتين والزيتون" وسورة "والعصر".(*)

______________________________

(1) هذا المبحث القيم خلاصة جيدة للغصن الرابع من الكلمة الرابعة والعشرين.

 (*) كليات رسائل النور - المثنوي العربي النوري - ص:(477)

قرئت 39 مرات
لإضافة تعليق يرجى تسجيل الدخول أو إنشاء قيد جديد