ظهور الافعال الربانية ظهوراً مطلقاً ومحيطاً

باسمه سبحانه  

﴿وأوحى ربُّكَ إلى النَّحلِ أن اتَّخِذي منَ الجبالِ بيوتاً﴾(النحل: 68).

ايها المستخلف المبارك 

نودّ هنا بيان ثلاثة أمثلة عن الأفعال الربانية - من بين الآلاف منها - مما تشير إليها الآيات الثلاث المتصلة بعضها ببعض في سورة النحل، ومع ان كل فعل منها يحتوي على نكات لا حصر لها الاّ أننا نذكر منها هنا ثلاثاً فقط.

الآية الأولى:

﴿وأوحى ربُّكَ إلى النَّحلِ أن اتَّخِذي منَ الجبالِ بيوتاً﴾(النحل: 68).

نعم، ان النحلة معجزة القدرة الربانية فطرةً ووظيفةً، ويا لها من معجزة عظيمة حتى سميت باسمها سورة جليلة في القرآن الكريم؛ ذلك لأن تسجيل البرامج الكاملة لوظيفتها الجسيمة في رأس صغير جداً لماكنة عسل صغيرة.. ووضع أطيب الأطعمة وألذها في جوفها الصغير وطبخها فيه.. واختيار المكان المناسب لوضع سم قاتل مهدم لأعضاء حية في رميحته دون أن يؤثر في الأعضاء الأخرى للجسم.. لا يمكن أن يتم -كل هذا- الاّ بمنتهى الدقة والعلم، وبمنتهى الحكمة والإرادة، وغاية الموازنة والانتظام؛ لذا لن يتدخل مطلقاً ما لا شعور له ولا نظام ولا ميزان من أمثال الطبيعة الصماء او المصادفة العمياء في مثل هذه الأفعال البديعة.

وهكذا نرى ثلاث معجزات في هذه الصنعة الإلهية، ونشاهد ظهور هذا الفعل الرباني ايضاً فيما لا يحد من النحل في أرجاء المعمورة كافة. فبروز هذا الفعل الرباني وإحاطته بالجميع، وبالحكمة نفسها، والدقة نفسها، والميزان نفسه، وفي الوقت عينه، وبالنمط عينه، يدل على الوحدة بداهة ويثبت الوحدانية.

الآية الثانية:

﴿وإنَّ لكم في الأنعام لَعِبرَةً نُسقيكُم مِما في بُطونِهِ من بينِ فَرثٍ ودمٍ لبَناً خالصاً سائغاً للشاربينَ﴾(النحل: 66).

ان هذا الأمر الإلهي ليتقطر عبراً ودروساً. نعم، ان اسقاء اللبن الابيض الخالص، النظيف الصافي، المغذي اللذيذ، من مصانع الحليب المغروزة في أثداء الوالدات. وفي مقدمتها البقرة والناقة والمعزى والنعجة، الذي يتدفق بسخاء من بين فرث ودم دون ان يختلط بهما اويتعكر.. وان غرس ما هو ألذ من اللبن وأحلى منه وأطيب واثمن، في أفئدة تلك الوالدات وهو الحنان والشفقة التي تصل حد الفداء والإيثار.. ليحتاج حتماً إلى مرتبة من الرحمة والحكمة والعلم والقدرة والاختيار والدقة مالا يكون قطعاً من فعل المصادفات العشوائية والعناصر التائهة والقوى العمياء، لذا فان تصرف هذه الصنعة الربانية، واحاطة هذا الفعل الإلهي، وتجليها في الحكمة نفسها، والدقة نفسها، والإعجاز نفسه، وفي آن واحد، وطراز واحد، في أفئدة تلك الآلاف المؤلفة من أضراب الوالدات وفي أثدائها، وعلى وجه الأرض كافة، يثبت الوحدة بداهة ويدل على الوحدانية.

الآية الثالثة:

﴿ومن ثَمراتِ النَّخيلِ والأعنابِ تَتَّخذونَ منهُ سكراً ورزقاً حسناً إنَّ في ذلكَ لآيةً لقومٍ يعقلون﴾(النحل: 67).

تلفت هذه الآية الكريمة النظر والانتباه إلى النخيل والأعناب، فتنبه الإنسان إلى: (أن في هاتين الثمرتين آية عظيمة لأولي الألباب، وحجة باهرة على التوحيد).

نعم، ان الثمرتين المذكورتين تعتبران غذاءً وقوتاً، وثمرة وفاكهة في الوقت نفسه، وهما منشأ كثير من المواد الغذائية اللذيذة، رغم ان شجرة كل منهما تنمو في تراب جامد، وتترعرع في ارض قاحلة. فكل منهما معجزة من معجزات القدرة الإلهية، وخارقة من خوارق الحكمة الربانية. وكل منهما مصانع سكر وحلويات، ومعامل شراب معسّل، وصنائع ذات ميزان دقيق حساس وانتظام كامل، ومهارة حكيمة، وإتقان تام، بحيث ان الذي يملك مقدار ذرة من عقل وبصيرة يضطر إلى القول: (ان الذي خلق هذه الأشياء هكذا، هو الذي أوجد الكائنات قاطبة)؛ لأن ما نراه أمام أعيننا - مثلاً - من تدلي ما يقارب عشرين عنقوداً من العنب، من هذا الغصن الصغير النحيف، كل عنقود منه يحمل ما يقارب المائة من الحبات اللطيفة واللباب المعسلة، وكل حبة من تلك الحبات مغلفة بغلاف رقيق لطيف ملوّن زاهٍ، وتضم في جوفها الناعم نوى صلدة حاملة لتواريخ الحياة ومنهاجها..

نعم، ان خلق كل هذا وغيره في جميع العنب وامثاله - وهي لا تعد ولا تحصى - على وجه البسيطة كافة، بالدقة نفسها، والحكمة عينها، وإيجاد تلك الصنعة الخارقة المعجزة بأعدادها الهائلة

في وقت واحد، وعلى نمط واحد، ليثبت بالبداهة ان الذي يقوم بهذا الفعل ان هو الاّ خالق جميع الكائنات، وان هذا الفعل الذي اقتضى تلك القدرة المطلقة والحكمة البالغة، ليس الاّ من فعل ذلك الخالق الجليل.

نعم ان القوى العمياء والطبيعة الصماء والأسباب التائهة المشتتة، لا يمكن لها ان تمد أيديها وتتدخل في ذلك الميزان الرقيق الحساس، بالمهارة البالغة، والانتظام الحكيم لتلك الصنعة، بل هي تستخدم وتسخّر بأمر رباني في الأفعال الربانية، فهي ذات مفعولية وقبول، بل ليست الاّ ستائر وحجباً مسخرة بيده سبحانه.

وهكذا فكما تشير هذه الآيات الثلاث إلى حقائق ثلاث، وتدل كل منها على التوحيد بثلاث نكات، فهناك ما لايُحد من الأفعال الربانية وما لا يحد من تجليات التصرفات الربانية، تدل متفقة على الواحد الأحد وتشهد شهادة صادقة على ذات الواحد الأحد ذي الجلال والإكرام.(1)(*)

________________

(1) الشعاعات/199-201

(*) كليات رسائل النور- سيرة ذاتية ص:320

 

 

قرئت 29 مرات
لإضافة تعليق يرجى تسجيل الدخول أو إنشاء قيد جديد