في منفى بارلا تأثير الرسائل القوي

 

في منفى بارلا

تأثير الرسائل القوي

انك يا أخي تسأل: لماذا نجد تأثيراً غير اعتيادي فيما كتبته في (الكلمات) المستقاة من فيض القرآن الكريم، قلّما نجده في كتابات العارفين والمفسرين. فما يفعله سطرٌ واحد منها من التأثير يعادل تأثير صحيفة كاملة من غيرها، وما تحمله صحيفة واحدة من قوة التأثير يعادل تأثير كتاب كامل آخر؟

فالجواب: وهو جواب لطيف جميل، إذ لما كان الفضل في هذا التأثير يعود إلى إعجاز القرآن الكريم وليس إلى شخصي أنا، فسأقول الجواب بلا حرج:

نعم! هو كذلك على الأغلب؛ لأن الكلمات:

تصديق وليست تصوراً.(1)

وايمانٌ وليست تسليماً.(2)

وتحقيق وليست تقليداً.(3)

وشهادة وشهود وليست معرفة.(4)

وإذعان وليست التزاماً.(5)

وحقيقة وليست تصوفاً .

وبرهان ضمن الدعوى وليست ادعاءاً

وحكمة هذا السر هي:

ان الأسس الإيمانية كانت رصينة متينة في العصور السابقة، وكان الانقياد تاماً كاملاً، إذ كانت توضيحات العارفين في الأمور الفرعية مقبولة، وبياناتهم كافية حتى لو لم يكن لديهم دليل.

أما في الوقت الحاضر فقد مدّت الضلالة باسم العلم يدها إلى أسس الإيمان وأركانه، فوهب لي الحكيم الرحيم -الذي يهب لكل صاحب داء دواءه المناسب- وانعم عليّ سبحانه شعلةً من (ضرب الأمثال) التي هي من اسطع معجزات القرآن واوضحها، رحمةً منه جلّ وعلا بعجزي وضعفي وفقري واضطراري، لأُنير بها كتاباتي التي تخص خدمة القرآن الكريم. فله الحمد والمنة:

فبمنظار (ضرب الأمثال) قد أُظهرَتْ الحقائق البعيدة جداً انها قريبة جداً.

وبوحدة الموضوع في (ضرب الأمثال) قد جُمِّعَتْ اكثر المسائل تشتتاً وتفرقاً.

وبسلّم (ضرب الأمثال) قد تُوصِل إلى أسمى الحقائق واعلاها بسهولة ويُسر.

ومن نافذة (ضرب الأمثال) قد حُصّل اليقين الإيماني بحقائق الغيب وأسس الإسلام مما يقرب من الشهود.

فاضطر الخيال إلى الاستسلام وأُرغم الوهم والعقل إلى الرضوخ، بل النفس والهوى. كما اضطر الشيطان إلى إلقاء السلاح.

حاصل الكلام: انه مهما يظهر من قوة التأثير، وبهاء الجمال في أسلوب كتاباتي، فإنها ليست مني، ولا مما مضغه فكري، بل هي من لمعات (ضرب الأمثال) التي تتلألأ في سماء القرآن العظيم، وليس حظي فيه الا الطلب والسؤال منه تعالى، مع شدة الحاجة والفاقة، وليس لي إلاّ التضرع والتوسل إليه سبحانه مع منتهى العجز والضعف.

فالداء مني والدواء من القرآن الكريم.(6)

هل انتهت مهمتي؟

يا أخويّ!

ان ظلمات أنواع الغربة هذه، وان تبددت بنور الإيمان، الاّ انها تركت فيّ شيئاً من بصمات أحكامها، وأوحت بهذه الفكرة:

ما دمت غريباً وأعيش في الغربة وراحلاً إلى الغربة، فهل انتهت مهمتي في هذا المضيف، كي أوكلكم و(الكلمات) عني واقطع حبال العلاقات عن الدنيا قطعاً كلياً؟ وحيث أن هذه الفكرة وردت على البال بهذه الصورة، فكنت أسألكم:

هل (الكلمات) المؤلفة كافية؟ وهل فيها نقص؟ واعني بهذا السؤال: هل انتهت مهمتي كي أنسى الدنيا واُلقي بنفسي في أحضان غربة نورانية لذيذة حقيقية باطمئنان قلب ...(7) [ويجيبه طالبه الأول (خلوصي)(8) بالآتي: ](*)

 

_____________________

(1) التصديق: هو ان تنسب باختيارك الصدق الى المخبر. بينما التصور: هو ادراك المعرفة من غير ان يحكم عليها بنفي أو إثبات. وفي المنطق: التصديق هو ادراك النسبة التامة الخبرية على وجه الاذعان. والتصور: ادراك ما عدا ذلك.

(2) مأخوذة من قوله تعالى: ﴿قل لم تؤمنوا ولكن قولوا:أسلمنا﴾(الحجرات:14).

(3) التحقيق: اثبات المسألة بدليلها بينما التقليد: قبول قول الغير بلا حجة ولادليل.

(4) الشهادة: هي اخبار عن عيان. والشهود: هو معرفة الحق بالحق. اما المعرفة: فهي ادراك الشئ على ما هو عليه، وهي مسبوقة بجهل بخلاف العلم.

(5) الإذعان: عزم القلب، والعزم جزم الارادة.

(6) المكتوبات/486-487

(7) المكتوبات/29-32

(8) وهو خلوصي يحيى كيل من السابقين الذين تتلمذوا على الأستاذ النورسي في "بارلا" وكان حينئذ ضابطاً برتبة نقيب،وأصبح طالباً للاستاذفي 14/ 4/ 1929 كان يبعث الى استاذه اسئلته وما يستفسر منه من امور ايمانية. جمعت هذه الاجوبة بتوجيه الأستاذ نفسه وسميّت بـ(مكتوبات). توفي سنة 1986 عن 91 سنة من العمر، رحمه الله رحمة واسعة.

(*) كليات رسائل النور – سيرة ذاتية ص:242

 

 

قرئت 3 مرات
لإضافة تعليق يرجى تسجيل الدخول أو إنشاء قيد جديد