هجرة الرسول صلّى الله عليه وسلم
هجرة الرسول صلّى الله عليه وسلم
جاء في صحاح السنة وما رواه علماء السيرة أن أبا بكر رضي الله عنه لما وجد المسلمين قد تتابعوا مهاجرين إلى المدينة، جاء يستأذن رسول الله صلّى الله عليه وسلم هو الآخر في الهجرة. فقال له رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «على رسلك، فإني أرجو أن يؤذن لي» فقال أبو بكر: «وهل ترجو ذلك بأبي أنت وأمي؟» قال: «نعم» . فحبس أبو بكر نفسه على رسول الله صلّى الله عليه وسلم ليصحبه، وعلف راحلتين كانتا عنده، وأخذ يتعهدهما بالرعاية أربعة أشهر «1» .
وفي هذه الأثناء رأت قريش أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قد صارت له شيعة وأصحاب من غيرهم بغير بلدهم، فحذروا خروج رسول الله صلّى الله عليه وسلم إليهم وخافوا أن يكون قد أجمع لحربهم.
فاجتمعوا له في دار الندوة (وهي دار قصي بن كلاب التي كانت قريش لا تقضي أمرا إلا فيها) يتشاورون فيما يصنعون بأمر رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فاجتمع رأيهم أخيرا على أن يأخذوا من كل قبيلة فتى شابا جلدا، ثم يعطى كل منهم سيفا صارما، ثم يعمدوا إليه فيضربوه ضربة رجل واحد فيقتلوه، كي لا يقدر بنو عبد مناف على حربهم جميعا، وضربوا لذلك ميعاد يوم معلوم فأتى جبريل عليه السلام رسول الله صلّى الله عليه وسلم يأمره بالهجرة، وينهاه أن ينام في مضجعه تلك الليلة «2» .
قالت عائشة فيما يروي البخاري: «فبينما نحن يوما جلوس في بيت أبي بكر في حرّ الظهيرة، قال قائل لأبي بكر: «هذا رسول الله صلّى الله عليه وسلم متقنعا، في ساعة لم يكن يأتينا فيها» .
فقال أبو بكر: «فدا له أبي وأمي. والله ما جاء به في هذه الساعة إلا أمر» ، قالت: فجاء رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فاستأذن، فأذن له، فدخل، فقال النبي صلّى الله عليه وسلم لأبي بكر: «أخرج من عندك» ، فقال أبو بكر: «إنما هم أهلك بأبي أنت وأمي يا رسول الله» . قال: «فإني قد أذن لي في الخروج» ، فقال أبو بكر: «فخذ بأبي أنت يا رسول الله إحدى راحلتيّ» ، قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «بالثمن» .
قالت عائشة: فجهزناهما أحثّ الجهاز، وصنعنا لهما سفرة في جراب، فقطعت أسماء بنت أبي بكر قطعة من نطاقها فربطت به على فم الجراب، فبذلك سميت ذات النطاق «3» .
وانطلق رسول الله صلّى الله عليه وسلم إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه فأمره أن يتخلف بعده بمكة ريثما يؤدي عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم الودائع التي كانت عنده للناس، إذ لم يكن أحد من أهل مكة له شيء يخشى عليه إلا استودعه عند رسول الله صلّى الله عليه وسلم لما يعلمون من صدقه وأمانته.
وأمر أبو بكر ابنه عبد الله أن يتسمّع لهما ما يقوله الناس عنهما في بياض النهار، ثم يأتيهما إذا أمسى بما يكون معه من الأخبار. وأمر عامر بن فهيرة (مولاه) أن يرعى غنمه نهاره، ثم يريحها عليهما إذا أمسى، إلى الغار (غار ثور) ليطعما من ألبانها، وأمر أسماء بنته أن تأتيهما من الطعام بما يصلحهما في كل مساء.
وروى ابن إسحاق والإمام أحمد، كلاهما عن يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير، عن أسماء بنت أبي بكر قالت: «لما خرج رسول الله صلّى الله عليه وسلم وخرج معه أبو بكر، احتمل أبو بكر ماله كله معه: خمسة. آلاف درهم أو ستة آلاف درهم، قالت: وانطلق بها معه» .
قالت: «فدخل علينا جدي أبو قحافة وقد ذهب بصره فقال: والله إني لأراه قد فجعكم بماله مع نفسه، قلت: كلا يا أبت، إنه قد ترك لنا خيرا كثيرا، قالت: فأخذت أحجارا فوضعتها في كوة في البيت الذي كان أبي يضع ماله فيها، ثم وضعت عليها ثوبا، ثم أخذت بيده، فقلت: يا أبت ضع يدك على هذا المال. قالت: فوضع يده عليه قال: لا بأس، إذا كان ترك لكم هذا فقد أحسن، وفي هذا بلاغ لكم. ولا والله ما ترك لنا شيئا ولكني أردت أن أسكت الشيخ بذلك»«4» .
ولما كانت عتمة تلك الليلة التي هاجر فيها النبي صلّى الله عليه وسلم اجتمع المشركون على باب رسول الله صلّى الله عليه وسلم يتربصون به ليقتلوه، ولكنه عليه الصلاة والسلام خرج من بينهم وقد ألقى الله عليهم سنة من النوم بعد أن ترك عليا رضي الله عنه في مكانه نائما على فراشه، وطمأنه بأنه لن يصل إليه أي مكروه.
وانطلق رسول الله وصاحبه أبو بكر إلى غار ثورليقيما فيه، وكان ذلك على الراجح في اليوم الثاني من ربيع الأول الموافق ٢٠ أيلول سنة (٦٢٢ م) بعد أن مضى ثلاث عشرة سنة من البعثة، فدخل أبو بكر قبل الرسول صلّى الله عليه وسلم فلمس الغار، لينظر أفيه سبع أو حية، يقي رسول الله صلّى الله عليه وسلم بنفسه، فأقاما فيه ثلاثة أيام، وكان يبيت عندهما عبد الله بن أبي بكر يخبرهما بأخبار مكة، ثم يدلج من عندهما بسحر فيصبح مع قريش بمكة كبائت بها، وكان عامر بن فهيرة يروح عليهما بقطعة من الغنم، فإذا خرج من عندهما عبد الله تبع عامر أثره بالغنم كي لا يظهر لقدميه أثر.
أما المشركون فقد انطلقوا- بعد أن علموا بخروج النبي صلّى الله عليه وسلم- ينتشرون في طريق المدينة ويفتشون عنه في كل المظانّ، حتى وصلوا إلى غار ثور، وسمع الرسول وصاحبه أقدام المشركين تخفق من حولهم فأخذ الروع أبا بكر وهمس يحدث النبي صلّى الله عليه وسلم: «لو نظر أحدهم تحت قدمه لرآنا» . فأجابه عليه الصلاة والسلام: «يا أبا بكر، ما ظنك باثنين الله ثالثهما؟» «5» .
فأعمى الله أبصار المشركين حتى لم يحن لأحد منهم التفاتة إلى ذلك الغار، ولم يخطر ببال واحد منهم أن يتساءل عما يكون بداخله..
ولما انقطع الطلب عنهما خرجا، بعد أن جاءهما عبد الله بن أرقط (وهو من المشركين، كانا قد استأجراه ليدلهما على الطرق الخفية إلى المدينة بعد أن اطمأنّا إليه، وواعداه مع الراحلتين عند الغار) فسارا متبعين طريق الساحل بإرشاد من عبد الله بن أرقط.
وكان قد جعل مشركو مكة لكل من أتى برسول الله صلّى الله عليه وسلم وأبي بكر رضي الله عنه دية كل منهما.
وذات يوم، بينما كان جماعة من بني مدلج في مجلس لهم، وبينهم سراقة بن جعشم، إذ أقبل إليهم رجل منهم فقال: إني قد رأيت آنفا أسودة بالساحل، أراهما محمدا وأصحابه. فعرف سراقة أنهم هم، ولكنه أراه أن يثني عزم غيره عن الطلب، فقال له: إنك قد رأيت فلانا وفلانا، انطلقوا بأعيننا يبتغون ضالّة لهم. ثم لبث في المجلس ساعة، وقام فركب فرسه ثم سار حتى دنا من الرسول فعثرت به فرسه فخرّ عنها، ثم ركبها ثانية وسار حتى صار يسمع قراءة النبي صلّى الله عليه وسلم وهو لا يلتفت، وأبو بكر يكثر الالتفات، فساخت قائمتا فرس سراقة في الأرض حتى بلغتا الركبتين، فخرّ عنها ثم زجرها حتى نهضت، فلم تكد تخرج يديها حتى سطع لأثرهما غبار ارتفع في السماء مثل الدخان، فعلم سراقة أنه ممنوع عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وداخله رعب عظيم، فناداهما بالأمان.
فوقف عليه الصلاة والسلام ومن معه حتى وصل إليهم، فاعتذر إليه وسأله أن يستغفر له، ثم عرض عليهما الزاد والمتاع، فقالا له: لا حاجة لنا، ولكن عم عنا الخبر، فقال: كفيتم «6» .
ثم عاد سراقة أدراجه إلى مكة وهو يصرف أنظار الناس عن الرسول ومن معه بما يراه من القول ... وهكذا انطلق إليهما في الصباح جاهدا في قتلهما، وعاد في المساء يحرسهما ويصرف الناس عنهما.(*)
______________
(1) البخاري: ٤/ ٢٥٥
(2) سيرة ابن هشام: ١/ ١٥٥ وطبقات ابن سعد: ٢١٢
(3) في طبقات ابن سعد: أنها شقت نطاقها فأوكأت بقطعة منه الجراب، وشدت فم الجراب بالباقي فسميت ذات النطاقين.
(4) سيرة ابن هشام: ١/ ٤٨٨ وترتيب مسند الإمام أحمد: ٢٠/ ٢٨٢
(5) متفق عليه.
(6) متفق عليه، والتفصيل للبخاري: ٤/ ٢٢٥- ٢٥٦
(*) فقه السيرة النبوية