وجوه من اخبار الايات

 

بِسمِ الله الرّحمنِ الرّحيمِ

{ لَقدْ صَدَق الله رَسُولَه الرُؤيا بالحق لَتَدْخُلُنّ المسْجدَ الحرامَ إن شَاء الله آمنينَ مُحَلّقين رؤسَكُم ومُقصّرين لاتخافونَ فَعَلِمَ مَالَم تَعلَموا فَجَعلَ مِنْ دون ذلك فتحاً قريباً _ هو الذي أرسلَ رسولَهُ بالهُدى ودين الحق ليُظهره على الدين كلِّه وكفى بالله شَهيداً _ محمدٌ رَسولُ الله والذينَ مَعَه اشداءُ على الكُفّار رُحماءُ بينَهم تَريــهم رُكّعاً سُجّداً يَبتَغُونَ فَضْلاً منَ الله ورِضواناً سيماهُم في وُجوهِهِم مِن أثَرِ السُّجُودِ ذلك مَثَلُهم في التَوريــة وَمَثلُهم في الانجيلِ كزَرعٍ أخرَجَ شَطْئَهُ فآزَرَهُ فاستَغلَظَ فاستَوى عَلى سُوقِهِ يُعجِبُ الزرّاعَ ليَغيظَ بهمُ الكُفّارَ وَعَدَ الله الذينَ آمنوا وَعملوا الصالحاتِ منهُم مَغفرةً وأجراً عظيماً }

(الفتح:27 - 29)

 

قطرة نورية من كليات رسائل النورسي

هذه الايات الثلاث في سورة الفتح لها وجوه اعجازية كثيرة جداً.

فوجه من الوجوه الكلية العشرة لاعجاز القرآن هو الاخبار عن الغيب الذي يظهر في هذه الآيات الكريمة بسبعة أو ثمانية وجوه:

الوجــه الاول:

قوله تعالى:  { لَقدْ صَدَق الله رَسُولَه الرُؤيا بالحق لَتَدْخُلُنّ المسْجدَ الحرامَ إن شَاء الله آمنينَ...} الخ الآية، تُخبر اخباراً قاطعاً عن فتح مكة قبل وقوعه. وقد فتحت فعلاً بعد سنتين كما اخبرت هذه الآية.

الوجه الثاني:

قوله تعالى:  { فَجَعلَ مِن دُونِ ذلكَ فَتحاً قَريباً }

تنبئ هذه الاية: ان صلح الحديبية وإن بدا ظاهراً انه ليس في صالح المسلمين وان لقريش ظهوراً على المسلمين الى حدٍ ما، الاّ أنه سيكون بمثابة فتح معنوي مبين، ومفتاحاً لبقية الفتوحات. وان السيوف المادية وان دخلت أغمادها في الواقع الاّ أن القرآن الكريم قد سلّ سيفه الالماسي البارق وفتح القلوب والعقول، اذ بسبب الصلح اندمجت القبائل فيما بينها واختلطت فاستولت فضائل الاسلام على العناد فمزّقت انوارُ القرآن حجبَ التعصب القومي الذميم.

فمثل:ان داهية الحرب خالد بن الوليد وداهية السياسة عمرو بن العاص اللذين يأبيان أن يُغلبا، غلبهما سيف القرآن الذي سطع في صلح الحديبية، حتى سارا معاً الى المدينة المنورة وسلّما الاسلام رقابهما، وانقادا اليه انقياد خضوع وطاعة حتى اصبح خالد بن الوليد سيف الله المسلول تفتح به الفتوحات الاسلامية.

الوجه الثالث:

ان الآية الكريمة تخبر بقيد { لاتخافون } بأنكم ستدخلون البيت الحرام وتطوفون حول الكعبة بأمان تام، علماً ان معظم قبائل الجزيرة العربية ومن هم حوالي مكة المكرمة وغالبية قريش كلهم اعداء للمسلمين، فهذا الإخبار يدل على انكم تدخلون في اقرب وقت المسجد وتطوفون دون أن يداخلكم الخوف، وان الجزيرة ستدين لكم بالطاعة، وقريش تكون في حظيرة الاسلام ويعم الامن والامان. فوقع كما اخبرت الآية.

الوجـه الرابع:

قوله تعالى: {هو الذي أرسلَ رسولَهُ بالهُدى ودين الحق ليُظهره على الدين كلِّه}.

هذه الآية تخبر إخباراً قاطعاً: ان الدين الذي جاء به الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم سيظهر على الاديان كلها، علماً ان النصرانية واليهودية والمجوسية التي يعتنقها مئات الملايين من الناس كانت أدياناً رسمية لدول كبرى كالصين وايران وروما، والرسول الكريم صلى الله عليه وسلم  لم يظهر بعدُ ظهوراً تاماً على قبيلته نفسها. فالآية الكريمة تخبر عن ظهور دينه على الاديان كافة وعلى الدول كافة، بل تخبر عن هذا الظهور بكل يقين وجزم اخباراً قاطعاً. ولقد صدّق المستقبل هذا الخبر الغيبي بامتداد سيف الاسلام من بحر المحيط الشرقي الى بحر المحيط الغربي.

الوجه الخامس:

 {محمدٌ رَسولُ الله والذينَ مَعَه اشداءُ على الكُفّار رُحماءُ بينَهم تَريهم رُكّعاً سُجّداً يَبتَغُونَ فَضْلاً منَ الله ورِضواناً سيماهُم في وُجوهِهِم مِن أثَرِ السُّجُودِ}.

هذه الآية صريحة في معناها من ان الصحابة الكرام هم افضل بني الانسان بعد الانبياء عليهم السلام لما يتحلون به من سجايا سامية ومزايا راقية، وفي الوقت نفسه تبين ما تتصف به طبقات الصحابة في المستقبل من صفات ممتازة مختلفة خاصة بهم،كما تبين بالمعنى الاشاري - لدى اهل التحقيق - الى ترتيب الخلفاء الذين سيخلفون مقام النبي صلى الله عليه وسلم بعد وفاته، فضلاً عن اخبارها عن ابرز صفة خاصة بكل منهم مما اشتهروا به.

وذلـــك:فـان قـوله تعـالـى:  { والذيـن معـه }  يـدل على سيدنا الصـديـق رضي الله عنه المتصف بالمعية المخصوصة والصحبة الخاصة، بل بوفاته اولاً دخل ضمن معيته ايضاً.

كما ان قوله تعالى:  { اشداء على الكفار}  يدل على سيدنا عمر رضي الله عنه الذي سيهز دول العالم ويرعبهم بفتوحاته، وسيشتهر بعدالته على الظالمين كالصاعقة.

وتخبر الآية بلفظ  { رحماء بينهم }  عن سيدنا عثمان رضي الله عنه الذي لم يرض باراقة الدماء بين المسلمين حينما كانت تتهيأ اعظم فتنة في التأريخ، ففضّل بكمال رحمته ورأفته ان يضحي بروحه ويسلّم نفسه للموت، واستشهد مظلوماً وهو يتلو القرآن الكريم.

 كما ان قوله تعالى:  {تَريــهم رُكّعاً سُـجّداً يَبتَغُونَ فَضْلاً منَ الله ورِضواناً } يشير الى اوضاع سـيدنا علي رضي الله عنه الذي باشر مهام الخلافة بكمال الاستحقاق والاهلية وهو في كمال الزهد والعبادة والفقر والاقتصاد واختار الدوام على السجود والركوع كما هو مصدّق عند الناس. فضلاً عن اخبارها أنه لايكون مسؤولاً عن حروبه التي دخلها في تلك الفترة وفي المستقبل، والذي كان يبتغي فيها فضلاً من الله ورضواناً.

الوجه السادس:

 { ذلك مَثلُهُم في التَوريــة }   هذه الجهة فيها اخبار غيبي بجهتين:

الجهة الاولى:

انها تخبر عن اوصاف الصحابة الواردة في التوراة، وهي في حكم الغيب بالنسبة لرسول أمي صلى الله عليه وسلم. اذ قد وضح في المكتوب التاسع عشر ان في التوراة وصفاً لصحابة الرسول الذي سيأتي في آخر الزمان معه الوف الاطهار في يمينه او معه رايات القديسين بمعنى ان اصحابه مطيعون وعبّاد صالحون واولياء لله حتى يوصفون بالقديسين الاطهار.

فعلى الرغم مما طرأ من تحريفات كثيرة على التوراة بسبب ترجماتها العديدة لألسنة متنوعة، فانها مازالت تصدّق بآيات كثيرة منها هذه الآية الكريمة في ختام سورة الفتح.. { مَثلُهم في التَوريــة }

الجهة الثانية من الاخبار الغيبي هي:

ان  { مَثلُهم في التَوريــة...} تخبر عن ان الصحابة الكرام والتابعين سيبلغون مرتبة من العبادة بحيث أن ما في ارواحهم من نور سيشع على وجوههم وستظهر على جباههم علامة ولايتهم وصلاحهم بكثرة السجود لله.

نعم، فلقد صدّق المستقبل هذا بكل يقين ووضوح وجلاء فان زين العابدين رضي الله عنه الذي كان يصلي الف ركعة ليلاً ونهاراً وطاووساً اليماني رضي الله عنه الذي صلى الفجر بوضوء العشاء طوال اربعين سنة، رغم التقلبات السياسية والاوضاع المضطربة، وكثيرين كـثـيريـن امـثـالـهما قـد بينّوا ســراً من اسـرار هـذه الآيـة الــكريمة:  { مثلهم في التَوريــة } .

الوجه السابع:

  { وَمَثلُهم في الانجيلِ كزَرعٍ أخرَجَ شَطْئَهُ فآزَرَهُ فاستَغلَظَ فاستَوى عَلى سُوقِهِ يُعجِبُ الزرّاعَ ليَغيظَ بهمُ الكُفّارَ}  

هذه الفقرة ايضاً فيها اخبار غيبي بجهتين:

اولاهـا:

ان اخبار مافي الانجيل من اوصاف الصحابة الكرام اخبار هي في حكم الغيب بالنسبة لرسول امي صلى الله عليه وسلم.

نعم! لقد وردت آيات في الانجيل تصف الرسول الذي سيأتي في آخر الزمان مثل: ومعه قضيب من حديد وامته كذلك بمعنى انه صاحب سيف ويأمر بالجهاد واصحابه كذلك اصحاب السيوف ومأمورون بالجهاد وليس كسيدنا عيسى عليه السلام الذي لم يك صاحب سيف. فضلاً عن أن ذلك الموصوف معه قضيب من حديد سيصبح سيد العالم، لأن آية في الانجيل تقول: سأذهب كي يجئ سيد العالم.

فنفهم من هاتين الفقرتين من الانجيل: ان الصحابة الكرام وإن بدا عليهم في بادئ الامر ضعف وقلة الاّ انهم سينمون نمو البذرة النابتة وسيعلون كالنبات النامي الناشئ

ويقوون حتى يغتاظ منهم الكفار، بل يرُضخون العالم بسيوفهم فيثبتون ان سيدهم الرسول الكريم هو سيد العالم. وهذا المعنى الذي تفيده آية الانجيل هي معنى الاية في ختام سورة الفتح.

الوجـه الثاني:

تفيد هذه الفقرة: ان الصحابة الكرام وان كانوا قد قبلوا بصلح الحديبية، لقلتهم وضعفهم آنذاك فانهم بعد فترة وجيزة يكسبون بسرعة قوة رهيبة بحيث ان البشرية التي انبتتها يد القدرة الإلهية في مزرعة الارض تكون سنابلها قصيرة وناقصة وممحوقة بسبب غفلتهم ازاء سنابلهم العالية الشامخة القوية المثمرة المباركة، حتى انهم يكونون من القوة والكثرة بحيث يتركون دولاً كبرى تتلظى بنار غيظها وحسدها.

نعم ان المستقبل قد بين هذا الاخبار الغيبي باسطع صورة. وفي هذا الاخبار الغيبي ايماء خفي ايضاً وهو:

انه لما اثنى على الصحابة الكرام لما يتحلون به من خصال فاضلة مهمة كان المقام يلزم وعد ثواب عظيم ومكافأة جليلة لهم، الاّ انه يشير بكلمة مغفرة الى انه ستقع اخطاء وهفوات مهمة من جراء فتن تحدث بين الصحابة، اذ المغفرة تدل على وجود تقصير في شئ وحينذاك سيكون اعظم مطلوب لهم وافضل احسان عليهم هو المغفرة. لان اعظم إثابة هو:العفو، وعدم العقاب.

فكما أن كلمة (مغفرة) تدل على هذا الايماء اللطيف كذلك فهي ذات علاقة مع مافي بداية السورة: {ليغفرَ لكَ الله مَا تَقدّم مِن ذَنبكَ ومَا تأخّر} (الفتح:2) فالمغفرة هنا ليست مغفرة ذنوب حقيقية لأن في النبوة العصمة، فلا  ثمة ذنب. وانما هي بشرى المغفرة بما يناسب مقام النبوة. وما في ختام السورة من تبشير الصحابة الكرام بالمغفرة يضم لطافة اخرى الى ذلك الايماء.

وهكذا فوجوه الاعجاز العشرة للايات الكريمة الثلاث في ختام سورة الفتح، لم نبحث فيها الاّ عن وجه الاعجاز في إخبارها الغيبي بل لم نبحث الا في سبع وجوه من الوجوه الكثيرة جداً عن هذا النوع من الإخبار.

وقد اشير الى لمعة اعجاز مهمة في اوضاع حروف هذه الآية الاخيرة في ختام الكلمة السادسة والعشرين الخاصة بالقدر والجزء الاختياري. فهذه الآية موجهة بجملها الى الصحابة الكرام كما تشمل بقيودها احوالهم ايضاً، ومثلما تفيد بالفاظها اوصاف الصحابة فهي تشير بحروفها وتكرار اعدادها الى اصحاب بدر وأحد وحنين واصحاب الصفة وبيعة الرضوان وامثالهم من طبقات الصحابة الكرام. كما تفيد اسراراً كثيرة بحساب الحروف الابجدية والتوافق الذي يمثل نوعاً من علم الجفر ومفتاحه. (*)      

__________________________

(*) كليات رسائل النور – اللمعات ص:40 

 

قرئت 14 مرات
لإضافة تعليق يرجى تسجيل الدخول أو إنشاء قيد جديد