معجزة حنين الجذع

 

ان الذي يؤيد هذه المعجزات المتعلقة بالشجرة هو معجزة حنين الجذع المنقولة نقلاً متواتراً.

نعم! ان حنين الجذع اليابس الموجود في المسجد النبوي الى رسول الله    صلى الله عليه وسلم لفراقه عنه - راقاً مؤقتاً - أنينَه امام جماعة غفيرة من الصحب الكرام يؤيد الأمثلة التي اوردناها في المعجزات المتعقلة بالاشجار ويقوّيها. لأن الجذع من جنس الاشجار، فالجنس واحد، الاّ

ان هذه المعجزة متواترة بالذات، بينما الاقسام الاخرى متواترة نوعاً، اذ ان اكثر جزئياتها وامثلتها لا يرقى الى مستوى التواتر الصريح.

كان المسجد النبوي مسقوفاً على جذوع نخل فكان النبي صلى الله عليه وسلم اذا خطب يقوم الى جذع منها، فلما صُنِع له المنبر، وكان عليه، سمع لذلك الجذع صوت كصوت العشار(1) وهو يئن ويبكي، حتى جاءه النبي صلى الله عليه وسلم ووضع يده عليه، وتكلم معه وعزّاه وسلاّه، فسكت الجذع.

نُقلت هذه المعجزة بطرق كثيرة جداً نقلاً متواتراً.

نعم! ان معجزة حنين الجذع مشهورة ومنتشرة، والخبر بها من المتواتر الصريح(2) فقد رواها مئات من ائمة التابعين بخمسة عشر طريقاً عن جماعة من الصحابة الكرام رضي الله عنهم، وهكذا نقلوها الى مَن خلفهم. وممن رواها من علماء الصحابة: انس بن مالك ـ خادم النبي ـ وجابر بن عبد الله الانصاري، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن عباس، وسهل بن سعد، وابو سعيد الخدري، وابي بن كعب، وبُريدة، وام المؤمنين أم سلمة رضوان الله عليهم وكلٌ من هؤلاء على رأس طريق من طرق رواة الحديث.

فقد روى البخاري ومسلم وغيرهما من اصحاب الصحاح هذه المعجزة الكبرى المتواترة ونقلوها الينا.

عن جابر رضي الله عنه، يقول: (كان المسجد مسقوفاً على جذوع من نخلٍ فكان النبي صلى الله عليه وسلم اذا خطب يقوم الى جذع منها، فلما صُنع له المنبر وكان عليه فسمعنا لذلك الجذع صوتاً كصوت العشار حتى جاء النبي صلى الله عليه وسلم فوضع يده عليها فسكت)(3) لم يتحمل الجذع فراقه صلى الله عليه وسلم.

وعن انس:(4) (حتى ارتجّ المسجد لخواره).

وعن سهل بن سعد:(5) (وكَثُر بكاء الناس لما رأوا به من بكاء وحنين).

وعن اُبَي بن كعب:(6) (حتى تصدّع وانشق) لشدة بكائه.

زاد غيره: فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ان هذا بكى لما فقد من الذكر)(7) وزاد غيره: (والذي نفسي بيده لو لم ألتزمه لم يزل هكذا الى يوم القيامة) تحزناً على رسول الله صلى الله عليه وسلم (8) وفي حديث بُريدة: لما بكى الجذع وضع الرسول يده الشريفة عليه وقال: (ان شئت اردَّك الى الحائط(9) الذي كنت فيه، ينبت لك عروقك ويكمل خلقُك ويجدّد لك خوص وثمرةٌ. وان شئت اغرسك في الجنة فيأكل اولياء الله من ثمرك. ثم اصغى له النبي صلى الله عليه وسلم يستمع ما يقول، فقال: بل تغرسني في الجنة فيأكل مني اولياء الله واكون في مكان لا ابلى فيه، فسمعه من يليه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: قد فعلتُ. ثم قال: اختار دار البقاء على دار الفناء)(10).

قال الامام ابو اسحاق الاسفرائني ـ وهو من ائمة علماء الكلام ـ ان الرسول الاكرم صلى الله عليه وسلم لم يذهب الى الجذع بل (دعاه الى نفسه فجاءه يخرق الارض فالتزم. ثم امره فعاد الى مكانه)(11).

يقول اُبَي بن كعب: وبعد ظهور هذه المعجزة: (أمر النبي صلى الله عليه وسلم به فدفن تحت المنبر)، (فكان اذا صلى النبي صلى الله عليه وسلم صلى اليه. فلما هدم المسجد لتجديده اخذه اُبَى فكان عنده الى ان اكلته الأرض وعاد رفاتاً)(12).

وحينما كان الحسن البصري يحدّث بهذا الى طلابه يبكي ويقول:

(يا عباد الله! الخشبةُ تحنّ الى رسول الله صلى الله عليه وسلم شوقاً اليه لمكانه فانتم أحق ان تشتاقوا الى لقائه)(13).

ونحن نقول: نعم! ان الاشتياق اليه ومحبته انما هو باتباع سنته السنية وشريعته الغراء.

- نكتة مهمة:

فان قيل: لِمَ لم تشتهر تلك المعجزات التي تخص البركة في الطعام والتي اشبعت الفاً من الناس في غزوة الخندق بصاع من طعام، ولا تلك المعجزات التي تخص الماء التي اروت الفاً من الناس بما فار من الماء من اصابع الرسول المباركة صلى الله عليه وسلم. لِمَ لم تنقلا بطرق كثيرة مثلما اشتهرت معجزة حنين الجذع ونقلت. مع ان كلاً من تلك الجماعتين - لتي وقعت المعجزة امامهما - كثر من جماعة معجزة حنين الجذع؟

الجواب:

ان المعجزات التي ظهرت قسمان:

احدهما: ما يظهر على يد النبي صلى الله عليه وسلم لتصديق دعوى النبوة، ويكون حجة لها، فيزيد ايمان المؤمنين ويسوق اهل النفاق الى الاخلاص والايمان، ويدعو اهل الكفر الى حظيرة الايمان. ومعجزة حنين الجذع من هذا القبيل، لذلك رآها العوام والخواص واعتُني بنشرها اكثر من غيرها.

اما معجزة الطعام ومعجزة الماء، فهي كرامة اكثر من كونها معجزة، بل اكرام إلهي اكثر من الكرامة، بل ضيافة رحمانية ـ حسب ما دعت اليه الحاجة ـ اكثر من إكرام إلهي. فهما وان كانتا دليلين على دعوى النبوة، ومعجزتين لها، الاّ ان الغاية الاساس هي:

ان الجيش الذي يبلغ قوامه زهاء الف رجل، كان في حاجة ماسة الى الطعام والشراب فأمدّهم الله سبحانه وتعالى من خزائن الغيب بأن اشبع من صاع من طعام ألفَ رجلٍ كما يخلق سبحانه من نواةٍ واحدة ألف رطل من التمر، كذلك أروى زهاء الف من المجاهدين في سبيل الله ، حينما اصابهم العطش، ارواهم بماء مبارك كالكوثر، اذ اجراه سبحانه من اصابع قائدهم الاعظم صلوات الله وسلامه عليه. لذلك لم تصل درجة معجزة الطعام والماء الى درجة حنين الجذع. الاّ ان جنس تينك المعجزتين ونوعهما بحسب الكلية متواتر كتواتر حنين الجذع.

ثم ان كل فرد قد لا يرى بركة الطعام وفوران الماء من الاصابع بالذات بل يرى أثره، ولكن كل من كان في المسجد النبوي قد سمع بكاء الجذع، لذا ذاع اكثر..

فان قيل:

ان الصحابة الكرام رضي الله عنهم اهتموا اهتماماً بالغاً بملاحظة جميع احواله صلى الله عليه وسلم وحركاته ونقلوها بأمانة واعتناء، فلِمَ رُويت امثال هذه المعجزة العظيمة بعشرين طريقاً فقط ولم ترو ــ في الاقل ــ بمائة طريق؟ ولِمَ تأتي اكثر الروايات عن أنس وجابر وابي هريرة، ولم يأتِ عن طريق ابي بكر وعمر الاّ القليل منها.

الجواب: الشق الاول من السؤال مضى جوابه في الاساس الثالث من الاشارة الرابعة.

أما جواب الشق الثاني فهو: ان الانسان اذا احتاج الى الدواء يراجع الطبيب، واذا احتاج الى بناء يراجع المهندس واذا احتاج الى تعلم الشريعة يأتي المفتى ويستفتيه.. وهكذا فقد كانت مهمة بعض علماء الصحابة منحصرة في حمل الحديث ونشره ونقله الى العصور الأخرى. فكانوا يسعون بكل ما آتاهم الله من قوة في هذه الغاية. فابو هريرة رضي الله عنه كرّس جميع حياته لحفظ الحديث النبوي في الوقت الذي كان عمر رضي الله عنه منهمكاً في حمل اعباء الخلافة وسياسة الدولة. لذا اعتمد على هؤلاء الصحابة: ابي هريرة وانس وجابر وامثالهم في نقل الحديث الشريف الى الامة، فندرت الرواية عنه. ثم ان الراوي الصادق المصدَّق من قبل الجميع يُكتفى بروايته ولا داعي الى رواية غيره، ولذلك ينقل بعض الحوادث المهمة بطريقين او ثلاث.

___________________________________

(1) (العشار): النوق الحوامل.

(2) انظر النظم المتناثر في الحديث المتواتر 134 - 135.

(3) صحيح البخاري (4/ 237 - 238)، والنسائي (3/ 102) كلهم من حديث جابر وبالفاظ مختلفة.

(4) صحيح: كما رواه الترمذي (3631 - تحقيق احمد شاكر) وقال الترمذي: هذا حديث حسن غريب قال: وفي الباب عن اُبّي وجابر وابن عمر وسهل بن سعد وابن عباس وام سلمة اهـ. انظر جامع الاصول (8899).

(5) كما رواه الشيخان (الخفاجي 3/ 62).

(6) صحيح: كما رواه الشافعي في مسنده وابن ماجه والدارمي والبيهقي (الخفاجي 3/ 62) ورواه عبدالله من زياداته في المسند، وفيه رجل لم يسّم وعبدالله بن عقيل وفيه كلام وقد وثق (تحفة الاحوذي 3/ 22). والحديث تشهد له احاديث الباب السابقة وهي صحيحة كما مرّ.

(7) صحيح البخاري (4/ 237) واحمد (الفتح الرباني 22/ 49 - 50).

(8) في رواية ابن عباس وفيه: (فأتاه فاحتضنه فسكن، قال: ولو لم احتضنه لحنّ الى يوم القيامة) قال العلامة احمد شاكر في تحقيق المسند: اسناده صحيح. ثم قال: ذكر الحافظ ابن كثير في التاريخ (6/ 125) حنين الجذع بالاسانيد الكثيرة الصحاح من رواية ثمانية من الصحابة، ثم ختم الباب بما روى ابو حاتم الرازي عن عمرو بن سواد قال: (قال لي الشافعي: ما اعطي الله نبياً ما اعطى الله محمداً صلى الله عليه وسلم، فقلت له: اعطي عيسى احياء الموتى! فقال: اعطي محمداً الجذع الذي كان يخطب الى جنبه حتى هئ له المنبر، فلما هيء له المنبر حنّ الجذع حتى سُمع صوته فهذا اكبر من ذلك) (2236) تحقيق المسند. وقد اورد ايضاً احاديث باسانيد صحيحة في حنين الجذع نذكر ارقامها وعلى سبيل المثال: (2237) عن انس (2400) عن ابن عباس، وعن انس (2401) عن ابن عباس وعن انس (3430) عن ابن عباس (3431) عن انس (3432) عن انس.

(9) (الحائط): البستان.

(10) في حديث طويل رواه احمد والشافعي وابن ماجه وفي اسناده عند الجميع عبد الله بن محمد بن عقيل، قال النسائي: ضعيف، وقال ابو حاتم لين، وقال الترمذي: صدوق سمعت محمداً (يعني البخاري) يقول: كان احمد واسحاق والحميد، يحتجون بحديث ابن عقيل (ملخصاً من الفتح الرباني 22/ 49).

(11) الشفا (1/ 304).

(12) الشفا (1/ 304) رواه عبد الله بن الامام احمد في زوائده وتخريجه في الهامش (8).

(13) الشفا (1/305) ولله درّ القائل من أهل الفضائل.

والقى حتى في الجمادات حبه فكانت لأهداء السلام له تهدى

وفارق جذعاً كان يخطب عنده فأنّ انين الأم اذ تجد الفقدا

يحنّ اليه الجذع يا قوم هكذا اما نحن اولى أن نحنّ له وجدا

اذا كان جذعٌ لم يطق بُعد ساعة فليس وفاء أن نطيق له بعداً

(علي القاري 1/ 626).

(*)الاشارة العاشرة  - المكتوب التاسع عشر ص(171)

 

قرئت 1.155 مرات
لإضافة تعليق يرجى تسجيل الدخول أو إنشاء قيد جديد