معجزات الرسول صلى الله عليه وسلم في الاشجار

 

ان أحد أنواع معجزات الرسول الاكرم صلى الله عليه وسلم هو امتثال الأشجار لأوامره كامتثال البشر، وانخلاعها من اماكنها ومجيئها اليه. فهذه المعجزة المتعلقة بالاشجار هي متواترةٌ من حيث المعنى كفوران الماء من اصابعه المباركة ولها صور متعددة وقد رُويت بطرق كثيرة.

نعم! يصح ان يقال ان خبر انخلاع الشجرة من موضعها ومجيئها ممتثلة لأمر الرسول الاكرم صلى الله عليه وسلم متواتر تواتراً صريحاً(1)، حيث قد رويت هذه الرواية من قبل صحابة كرام صادقين معروفين، امثال: علي وابن عباس وابن مسعود وابن عمر ويعلى بن مرة وجابر وانس بن مالك، وبُريدة واسامة بن زيد وغيلان بن سلمة، وغيرهم فأخبر كلٌ منهم عن هذه المعجزة المتعلقة بالاشجار إخباراً ثابتاً قاطعاً. ونقلها عنهم مئات من ائمة التابعين بطرق مختلفة، في بداية كل طريق صحابي جليل، اي كأنها نقلت الينا نقلاً متواتراً مضاعفاً؛ لذا فلا يداخل هذه المعجزة ريبٌ ولا شبهة قط، فهي في حكم المتواتر المعنوي المقطوع به.

فهذه المعجزة وإن تكررت مرات عدة، الاّ اننا سنبين عدداً من صورها الصحيحة الكثيرة، ونوردها في بضعة امثلة:

المثال الاول:

- روى ابن ماجة والدارمي والبيهقي عن انس بن مالك وعلي، وروى البزار والبيهقي عن عمر، ان ثلاثة من الصحابة الكرام رضي الله عنهم أجمعين قالوا: كان الرسول الاكرم صلى الله عليه وسلم قد حزن حزناً شديداً من تكذيب الكفار له (قال: اللّهم! أرني آية لا أبالي من كذّبني بعدها). وفي رواية أنس (ان جبريل عليه السلام قال للنبي صلى الله عليه وسلم ورآه حزيناً: أتحب ان أريك آية. قال: نعم! فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم الى شجرةٍ من وراء الوادي، فقال: أدعُ تلك الشجرة، فجاءت تمشي حتى قامت بين يديه، قال: مُرها فلترجع، فعادت الى مكانها)(2).

المثال الثاني:

- روى القاضي عياض ـ علاّمة المغرب ـ في كتابه (الشفاء) بسند عال صحيح عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه قال:

(كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر، فدنا منه اعرابي، فقال: يا اعرابي: اين تريد؟ قال: الى اهلي. قال: هل لك الى خير؟ قال: وما هو؟ قال: تشهد ان لا إله الاّ الله وحده لا شريك له وان محمداً عبدهُ ورسوله. قال: مَن يشهد لك على ما تقول؟ قال: هذه الشجرةُ السَّمُرة(3)، وهي بشاطيء الوادي، فاقبلت تخدّ الارض، حتى قامت بين يديه، فاستشهدها ثلاثاً فَشهِدت أنه كما قال. ثم رجعت الى مكانها)(4).

وعن بُريْدَة عن طريق ابن صاحب الاسلمي بنقل صحيح: (سأل اعرابي النبي صلى الله عليه وسلم آية، فقال له: قل لتلك الشجرة، رسول الله يدعوك. قال:

فمالت الشجرة عن يمينها وشمالها وبين يديها وخلفها، فتقطعت عروقُها، ثم جاءت تَخدّ الارض تَجرُّ عروقها(5) مُغيّرة حتى وقفت بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقالت: السلام عليك يا رسول الله قال الاعرابي: مُرها فلترجع الى منبتها، فَرَجَعَت فدلّت عروقها فاستوت. فقال الاعرابي: ائذن لي أسجُد لك. قال: لو امرتُ احداً أن يسجُدَ لأحدٍ لأمرتُ المرأةَ أن تسجدَ لزوجها، قال: فأذنْ لي أن أقبِّلَ يديك ورجليك، فأذن له)(6).

المثال الثالث:

- روى مسلم واصحاب الكتب الصحاح الاخرى عن جابر رضي الله عنه: أنه قال: كنا في سفر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، (ذهب رسول الله يقضي حاجته، فلم يَرَ شيئاً يستتر به، فاذا بشجرتين بشاطئ الوادي، فانطلق رسولُ الله صلى الله عليه وسلم الى احداهما، فأخذ بغصنٍ من اغصانها، فقال: انقادي عليّ بأذن الله فانقادت معه كالبعير المخشوش الذي يصانع قائده، وذكر انه فعل بالاخرى مثل ذلك حتى اذا كان بالمنصف(7) بينهما، قال: التئما عليّ باذن الله. فالتأمتا)(8) فجلس خلفها، وبعد ان قضى حاجته، أمر أن يعود كل منهما الى مكانها.

- (وفي رواية أخرى، فقال: يا جابر! قل لهذه الشجرة: يقول لك رسول الله إلحقي بصاحبتك حتى أجلس خلفكما. فزحفت حتى لحقت بصاحبتها. فجلس خلفهما، فخرجتُ أحضر، وجلستُ احدّث نفسي، فالتفتُّ فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم مقبلاً، والشجرتان قد أفترقتا، فقامت كل واحدة منهما على ساق، فوقف رسول الله صلى الله عليه وسلم وقفةً فقال برأسه هكذا يميناً وشمالاً)(9).

المثال الرابع:

- روى اسامة بن زيد ـ احد قواد رسول الله صلى الله عليه وسلم وخادمه الايمن ـ : كنا في سفر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولم يكن لقضاء الحاجة مكان خالٍ يستر عن أعين الناس، فقال: (هل ترى من نخلٍ أو حجارة؟ قلت: أرى نخلات متقاربات، قال: انطلق وقل لهُن إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمركن أن تأتين لمخرج(10) رسول الله صلى الله عليه وسلم وقل للحجارة مثل ذلك. فقلت ذلك لهن، فوالذي بعثُه بالحق لقد رأيتُ النخلات يتقاربن حتى اجتمعن والحجارة يتعاقدن حتى صرن ركاماً خلفهن، فلما قضى حاجته، قال لي: قل لهن يفترقن، فوالذي نفسي بيده لرأيتهن والحجارةُ يفترقن حتى عُدن الى مواضعهن)(11).

وقد روى هاتين الحادثتين اللتين رواهما جابر واسامة كل من يعلى بن مرة، وغيلان بن سلمة الثقفي، وابن مسعود في غزوة حنين.

المثال الخامس:

- ذكر علامة عصره الامام ابن فورك ـ الذي كان يسمى بالشافعي الثاني كناية عن اجتهاده الكامل وفضله ـ:(انه صلى الله عليه وسلم سار في غزوة الطائف ليلاً وهو وَسِنٌ، فاعتَرضهُ سدرةٌ(12)، فانفرجت له نصفين حتى جاز بينهما، وبقيت على ساقين الى وقتنا)(13).

المثال السادس:

- ذكر يعلى بن سيابه(14):(أن طلحة أو سَمُرة جاءت فاطافت به ثم رجعت الى منبتها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:انها استأذنت ان تسلّم عليّ). اي استأذنت من رب العالمين.

المثال السابع:

- روى الشيخان عن ابن مسعود رضي الله عنه: أنه قال: (آذنَت(15) النبي صلى الله عليه وسلم بالجن ليلة استمعوا له شجرةٌ) وذلك حينما جاء جن نصيبين في بطن النخل الى النبي صلى الله عليه وسلم للاسلام، فأعلَمَت شجرةٌ خبر مجيئهم النبي.

(وعن مجاهد عن ابن مسعود في هذا الحديث: ان الجن قالوا مَن يَشهَدُ لك؟ قال: هذه الشجرة) فأمر الشجرَة (تعالى يا شجرة! فجاءت تجرُّ عروقَها لها قعاقع)(16).

وهكذا، فقد كفت معجزة واحدة طائفة الجن. أفلا يكون مَن يسمع الف معجزة ومعجزة من امثالها ثم يكابر ولا يؤمن اضلَّ من ذلك الشيطان الذي حدّث القرآن عنه بقول الجن: ﴿يقولُ سَفيهُنا على الله شططاً﴾)(الجن: 4) ؟

المثال الثامن:

- روى الترمذي عن ابن عباس رضي الله عنه (انه صلى الله عليه وسلم قال لاعرابي: أرأيتَ إن دعوتُ هذا العِذق من هذه النخلة أتشهد اني رسول الله؟ قال: نعم! فدعاه فجعل ينقز حتى أتاه. فقال: ارجع، فعاد الى مكانه)(17).

وهكذا، فهناك امثلة غزيرة كالتي ذكرناها روُيت كلها بطرق عديدة، ومن المعلوم انه اذا اتحدت بضعة خيوط رفيعة صارت حبلاً قوياً.. فمثل هذه المعجزة المتعلقة بالشجرة وقد رويت بطرق متعددة، وعن مشاهير الصحابة الكرام لابد انها في قوة التواتر المعنوي، بل انها متواترة تواتراً حقيقياً. ولا ريب أنها حينما انتقلت الى التابعين اخذت طابع التواتر، لا سيما الطرق التي سلكها اصحاب الصحاح كالبخاري ومسلم وابن حبان والترمذي وغيرهم، انما هي طريق صحيحة لا شائبة فيها. بل أن رؤية اي حديث كان في البخاري انما هو كاستماعه من الصحابة الكرام بعينهم.

تُرى اذا عَرفت الاشجار رسول الله صلى الله عليه وسلم وعرَّفَته وصدَّقَتْ رسالته وسلّمت عليه، وزارته، وامتثلت أمره ـ كما رأينا في الامثلة المذكورة آنفاً ـ فكيف لا يَعرف ولا يؤمن به ذلك البليد الجماد الذي يسمي نفسَه إنساناً؟ أليس هو عارٍ عن العقل والقلب؟ أفلا يكون أدنى من الشجر اليابس وأتفه من الحطب الذي لا يستحق الاّ إلقاءه في النار؟.(*)

 

___________________________________

(1) انظر النظم المتناثر من الحديث المتواتر ص 137.

(2) حسـن : الشفا (1/ 302) اورده الهـيثمي في المجـمــع (9/ 10) وقـال: رواه البزار وابو يعـلى واسـناد ابي يعلى حسن. وفي كنزالعمال (2/ 354) زاد نسبته الى البيهقي في الدلائل وحسن اسناده.

(3) (السَمُرة): شجرة عظيمة ذات شوكة من الطلح ــ( تخد)ّ: تشق. - (مغيّرة): مسرعة.

(4) صحيح: الشفا (1/ 298). وفي مجمع الزوائد (8/ 292) قال الهيثمي: رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح، ورواه ابو يعلى والبزار. واورده ابن كثير في البداية (6/ 125) وعزاه للحاكم . وقال الحافظ: وهذا اسناد جيد ولم يخرجوه ولا رواه أحمد. وذكره الحافظ ابن حجر في المطالب (4/ 16 رقم 3836) قال المحقق: قال البوصيري: رواه ابو يعلى بسند صحيح والبزار والطبراني وابن حبان في صحيحه. وعزاه في المشكاة (5925) الى الدارمي في سننه، وصححه المحقق.

(5) (دلت عروقها): ادخلتها الارض. (المخشوش): البعير يجعل في انفه عود عليه حبل لينقاد.

(6) الشفا (1/299). اورده الهيثمي في المجمع (9/10) وليس فيه ذكر السجود، وقال: رواه البزار وفيه صالح بن حيان وهو ضعيف. وقال الخفاجي: رواه البزار مسنداً (3/49).

(7) (المنصف): نصف الطريق. (أحضر): اسرع في العدو.

(8) جزء من حديث طويل رواه مسلم (3006 - 3014) في الزهد: باب حديث جابر الطويل وقصة ابي اليسر.

(9) الشفا (1/ 299) من غير طريق مسلم (الخفاجي 3/ 51).

(10) (مخرج): مكان خرج اليه لقضاء حاجته فيه - (ركاماً): بعضها فوق بعض. (الوسن): قريب من النعاس.

(11) حسن: الشفا (1/ 300)، وذكره الحافظ في المطالب (4/ 8 - 10 رقم 3830) قال الحافظ (لأبي يعلى) : اسناده حسن وفيه ضعف ولكن له شاهد من طريق يعلى عند أحمد، قال المحقق: في المسندة (هذا اسناده حسن، معاوية بن يحيى الصدفي ضعيف، ولكن لحديثه شاهد من طريق يعلى بن مرة، اخرجه احمد وغيره) وقال البوصيري: رواه ابو يعلى باسناد حسن وتقدم وله شواهد في الباب.

قلت: وحديث يعلى بن مرة اورده الهيثمي في المجمع (9/ 5ــ 6) وقال: رواه احمد باسنادين والطبراني بنحوه واحد اسنادي احمد رجاله رجال الصحيح.

(12) (سدرة): من اسماء الاشجار.

(13) الشفا (1/ 301) الخفاجي (3/ 57).

(14) صحيح: الشفا (1/ 301). في حديث صحيح رواه احمد والبيهقي والطبراني (الخفاجي 3/ 53). واورده الهيثمي في المجمع (9/6 ــ7) وقال: رواه الطبراني بنحوه الاّ انه قال: ثم أتى على قبرين، واسناده حسن.

(15) (آذنت): اَعْلَمَتْ. (قعاقع): صوت السلاح. (العذق): العرجون من النخلة. (ينقز): يثبّ صعداً.

(16) رواه البخاري في فضائل اصحاب النبي صلى الله عليه وسلم باب ذكر الجن ومسلم (450).

(17) صحيح: رواه الترمذي (3632 تحقيق أحمد شاكر) وقال: هذا حديث حسن صحيح. وفي تحفة الاحوذي (3707): هذا حديث حسن غريب صحيح. وفي تصحيح الترمذي نظر، فالحديث في سنده شريك القاضي وفيه كلام، ولـكـن للحـديـث شواهد يـتـقـوى بها وردت بعدة سـياقات وبالـفاظ مختلفة، ففي المجــمع (9/ 10): رواه ابو يعلى ورجاله رجال الصحيح غير ابراهيم بن الحجاج الشامي وهو ثقة. ورواه ايضاً ابو نعيم في الدلائل بنحو ما في المجمع والحديث بغير سياق عند أحمد، وصححه العلامة أحمد شاكر في تحقيقه المسند (3/ 293).

(*)الاشارة التاسعة – المكتوب التاسع عشر ص (166)

قرئت 11.151 مرات
لإضافة تعليق يرجى تسجيل الدخول أو إنشاء قيد جديد