ترجمة القرآن الكريم
السؤال : هل يمكن ترجمة القرآن الكريم ؟
الجواب :
لايمكن ترجمة القرآن الكريم ترجمة حقيقية، ولايمكن قطعاً ترجمة اسلوبه الرفيع في اعجازه المعنوي. وانه من الصعوبة جداً إفهام الذوق، وبيان الحقيقة النابعين من ذلك الاسلوب الرفيع في اعجازه المعنوي إلاّ اننا نشير للدلالة فحسب الى جهة او جهتين منه. وذلك: بقوله تعالى:
{ومن آياته خلق السّمواتِ والارضِ واختلافُ ألسنتكم وألوانِكم}(الروم:22)
{والسّمواتُ مطوياتٌ بيمينهِ}(الزمر: 67)
{يخلقكم في بطون أُمهاتكم خلقاً من بعدِ خلقٍ في ظلماتٍ ثلاث}(الزمر:6)
{خلق السّموات والارض في ستة ايام} (الاعراف:54)
{يحول بين المرءِ وقلبه} (الانفال:24)
{لايعزبُ عنه مثقالُ ذرة} (سبأ:3)
{يولجُ الليلَ في النهارِ ويولجُ النهارَ في الليلِ وهو عليمٌ بذاتِ الصدورِ} (الحديد: 6)
هذه الآيات الكريمة وأمثالها تضع نصب الخيال تصورحقيقة الخلاّقية، في اسلوب رفيع معجز وفي جمع خارق بديع. اذ يبين:
ان صانع العالم وباني الكون مثلما يمكّن الشمس والقمر في مواقعهما، يمكّن الذرات ايضاً في مواضعها في بؤبؤ عين الأحياء مثلاً، فيمكّن كلاً منها في موضعها بالآلة نفسها، في اللحظة نفسها.. وانه مثلما ينظم السّماوات طباقاً ويفتحها أبواباً وينسقها تنسيقاً، ينظّم طبقات العين ويفتح أغطيتها بالميزان بالاداة نفسها والآلة المعنوية نفسها، في اللحظة نفسها.. وانه مثلما يسمّر النجوم في السماوات، ينقّش مالايحد من نقاط العلامات الفارقة في وجه الانسان ويشق فيه الحواس الظاهرة والباطنة، بآلة القدرة المعنوية نفسها.
بمعنى ان ذلك الصانع الجليل لأجل إراءة أفعاله ملء البصر والسمع واظهار مباشرته أفعاله؛ يطرق بكلمةٍ من آياته القرآنية طرقةً على الذرة فيثبتها في موضعها، ويطرق بكلمةٍ اخرى من الآية نفسها طرقةً على الشمس ويثبتها في مركزها، فيبيّن الوحدانية في عين الأحدية، ومنتهى الجلال في منتهى الجمال، ومنتهى العظمة في منتهى الخفاء، ومنتهى السعة في منتهى الدقة، ومنتهى الهيبة في منتهى الرحمة، ومنتهى البعد في منتهى القرب. أي يظهر أبعد مراتب جمع الأضداد ـ الذي يُعدّ محالاً ـ في صورة درجة الواجب، مثبتاً ذلك بأبلغ أسلوب وأرفعه.
وهذا الاسلوب المعجز هو الذي يُخضع رقاب فطاحل الادباء فيخرون لبلاغته سُجّداً.
ومثلاً ؛ قوله تعالى:
{ ومن آياته ان تقومَ السّماءُ والارض بأمره ثم اذا دعاكم دعوةً من الارضِ اذا أنتم تخرجون} (الروم:25).
تبيّن هذه الآية الكريمة عظمة ربوبيته سبحانه في اسلوب عالٍ رفيع. وذلك:
ان السماوات والارض بمثابة معسكرين في أتم طاعة وانقياد، وفي صورة ثكنة لجيشين عظيمين على أتم نظام وانتظام. وما فيهما من موجودات راقدة تحت غطاء الفناء وستار العدم تمتثل بسرعة تامة وطاعة كاملة أمراً واحداً او اشارة من نفخ في صور، لتخرج الى ميدان الحشر والامتحان.. فانظر كيف عبّرت الآية الكريمة عن
الحشر والقيامة باسلوب معجز رفيع، وكيف أشارت الى دليل اقناعي في ثنايا المدّعى، مثلما تخرج البذور التي تسترت في جوف الارض كالميتة، والقطرات التي انتشرت مستترة في جو السماء وانتشرت في كرة الهواء، وتحشر بانتظام كامل وفي سرعة تامة، فتخرج الى ميـدان التـجـربة والامتحـان في كـل ربـيع، حتى تتـخذ الحبوب في الارض والقطـرات في السماء صورة الحـشر والنشور، كما هو مشاهد. وهكذا الامر في الحشر الاكبر وبالسهولة نفسها. واذ تُشاهد هذا هنا، فلا تقدرون على انكار الحشر.
وهكذا، فلكم ان تقيسوا على هذه الآية ما في الآيات الاخرى من درجة البلاغة.
فهل يمكن ـ ياترى ترجمة أمثال هذه الآيات الكريمة ترجمة حقيقية؟. لاشك انها غير ممكنة.
فان كان ولابد، فإما أن تعطى معاني اجمالية مختصرة للآية الكريمة او يلزم تفسير كل جملة منها في حوالي ستة أسطر.
النكتة الخامسة:
لنأخذ مثلاً، جملة قرآنية واحدة، وهي:"الحمد للّه"، فان أقصر معنى من معانيها كما تقتضيه قواعد علم النحو والبيان، هو:
"كل فرد من افرادالحمد من اي حامد صدر وعلى اي محمود وقع من الازل الى الابد خاصٌ ومستحق للذات الواجب الوجود المسمى بالله
فقولنا:"كل فرد من افراد الحمد" ناشئ من "أل" الاستغراق.
ومن"اي حامدا كان" فقد صدر من كون "الحمد" مصدراً، فيفيد العموم في مثل هذا المقام، لأن فاعله متروك.
"وعلى اي محمود وقع" يفيد العموم والكلية، في مقام الخطاب، لترك المفعول.
أما"من الازل الى الابد"، فيفيده الدوام والثبات، حسب قاعدة انتقال الجملة الفعلية الى جملة اسمية.
وان لام الجر في "للّه" تفيد معنى "خاصاً ومستحق" لأن تلك اللام للاختصاص والاستحقاق.
اما"للذات الواجب الوجود المسمى باللّه" فان لفظ "الله" يدل دلالة التزامية على "الواجب الوجود" لأنه لفظ جامع لسائر الاسماء والصفات، وانه الاسم الاعظم، ولان "واجب الوجود" لازم ضروري للالوهية وهو عنوان لملاحظة الذات الجليلة.
فلئن كان أقصر المعاني الظاهرية لجملة "الحمدلله" على هذه الصورة، كما اتفق عليها علماء اللغة العربية، فكيف بترجمة القرآن الكريم الى لغة أخرى بنفس الاعجاز والقوة نفسها؟
ثم ان هناك لغة فصيحة واحدة فقط من بين ألسنة العالم ولغاته مما سوى اللغة العربية الفصحى، وهي لاتبلغ قطعاً جامعية اللغة العربية وشموليتها.
ان كلمات القرآن التي جاءت بتلك اللغة العربية الفصحى الجامعة الخارقة، وفي صورة معجزة، وصادرة من علم محيط بكل شئ يدير الجهات كلها كيف توفي حقهاكلمات ألسنة اخرى تركيبية وتصريفية في ترجمة مَن هو جزئي الذهن قاصر الشعور مشوش الفكر، مظلم القلب؟ أم كيف تملأ كلمات ترجمة محل تلك الكلمات المقدسة؟ حتى استطيع القول، واثبت ايض:ان كل حرف من حروف القرآن الكريم بمثابة خزينة من خزائن الحقائق، بل قد يحوي حرف واحد فقط من الحقائق ما يملأ صحيفة كاملة.
النكتة السادسة:
لأجل تنوير هذا المعنى سأذكر لكم ما جرى عليَّ من حالة نورانية خاصة ومن خيال ذي حقيقة، توضيحاً لمعنى كلمة "(...نعبد) " وتبياناً لجانب خفي من سرَّها:
تأملت ذات يوم في "ن" المتكلم مع الغير في: {اياك نعبد وإيّاك نستعين} وتحرّى قلبي وبحث عن سبب انتقال صيغة المتكلم الواحد الى صيغة الجمع (نعبد).. فبرزت فجأة فضيلة صلاة الجماعة وحكمتها من تلك "النون"، اذ رأيت انه بسبب مشاركتي للجماعة في الصلاة التي أدَّيتها في جامع "بايزيد" يكون كل فرد منها بمثابة شفيع لي.(*)
________________
(*) كليات رسائل النور - المكتوب التاسع والعشرون - ص:503