دعوة اهل الايمان الى الاخوة والمحبة

بِسْمِ الله الرَّحْمنِ الرَّحيمِ

(اِنَّمَا الـمُؤْمِنُونَ اِخْوَةٌ فَاَصْلِحُوا بَيْنَ اَخَوَيْكُم) (الحجرات:10)

(اِدْفَعْ بِالّتـي هِـيَ اَحْسَـنُ فَاِذَا الَّـذي بَيْنَكَ وَبَيْـنَـهُ عَدَاوَةٌ كَاَنَّهُ وَلِيٌّ حَميمٌ)(فصلت: 34)

(وَالْكَاظِمينَ الْـغَــيْظَ وَالْـعَـافِينَ عَـنِ النَّاسِ والله يُحِـبُّ الْـمُحْسِنينَ)(آل عمران: 134)

 

1)عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا تحاسدوا, ولا تباغضوا, ولا تجسسوا, ولا تحسسوا, ولا تناجشوا, وكونوا عباد الله إخوانا ]  (2559) صحيح مسلم  وأخرجه البخاري بألفاظ وروايات متعددة.

2)عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: ‏قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ‏ ‏صَلَّى اللَّهُ ‏ عَلَيْهِ ‏ وَسَلَّمَ ‏  ‏(لَا تَحَاسَدُوا وَلَا ‏ ‏تَنَاجَشُوا ‏ ‏وَلَا تَبَاغَضُوا وَلَا ‏ ‏تَدَابَرُوا ‏ ‏وَلَا يَبِعْ أَحَدُكُمْ ‏‏ عَلَى ‏ بَيْعِ أَخِيهِ وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إِخْوَانًا ‏‏ الْمُسْلِمُ ‏ أَخُو ‏‏ الْمُسْلِمِ ‏ لَا يَظْلِمُهُ وَلَا يَخْذُلُهُ وَلَا يَحْقِرُهُ التَّقْوَى هَاهُنَا وَأَشَارَ بِيَدِهِ إِلَى صَدْرِهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ حَسْبُ امْرِئٍ ‏‏ مُسْلِمٍ ‏ مِنْ الشَّرِّ أَنْ يَحْقِرَ أَخَاهُ ‏‏ الْمُسْلِمَ كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ ‏ دَمُهُ وَمَالُهُ وَعِرْضُهُ) روى الإمام أحمد في باقي مسند المكثرين

 

قطرة نورية من كليات رسائل النورسي

دعوة اهل الايمان الى الاخوة والمحبة

ان ما يسببه التحايز والعناد والحسد من نفاق وشقاق في اوساط المؤمنين، وما يوغر في صدورهم من حقد وغل وعداء، مرفوض اصلاً. ترفضه الحقيقة والحكمة، ويرفضه الاسلام الذي يمثل روح الانسانية الكبرى. فضلاً عن ان العداء ظلم شنيع يفسد حياة البشر: الشخصية والاجتماعية والمعنوية، بل هو سم زعاف لحياة البشرية قاطبة.

سنبين "ستة اوجه" من وجوه كثيرة لهذه الحقيقة.

الوجه الاول:

ان عداء الانسان لاخيه الانسان ظلم في نظر الحقيقة.

فيا من امتلأ صدره غلاً وعداءً لاخيه المؤمن، ويا عديم المروءة! هب انك في سفينة او في دار ومعك تسعة اشخاص ابرياء ومجرم واحد. ورأيت من يحاول اغراق السفينة او هدم الدار عليكم، فلا مراء انك ـ في هذه الحالة ـ ستصرخ بأعلى صوتك محتجاً على ما يرتكبه من ظلم قبيح، اذ ليس هناك قانون يسوغ اغراق سفينة برمتها تضم مجرمين طالما فيها برئ واحد.

فكما ان هذا ظلم شنيع وغدر فاضح، كذلك انطواؤك على عداء وحقد مع المؤمن الذي هو بناء رباني وسفينة إلهية، لمجرد صفة مجرمة فيه، تستاء منها او تتضرر، مع انه يتحلى بتسع صفات بريئة بل بعشرين منها: كالايمان والاسلام والجوار..الخ.فهذا العداء والحقد يسوقك حتماً الى الرغبة ضمناً في اغراق سفينة وجوده، او حرق بناء كيانه. وما هذا الاّ ظلم شنيع وغدر فاضح.

الوجه الثاني:

العداء ظلم في نظر الحكمة، اذ العداء والمحبة نقيضان ـ كما لا يخفى ـ فهما كالنور والظلام لا يجتمعان معاً بمعناهما الحقيقي ابداً . فاذا ما اجتمعت دواعي المحبة وترجحت اسبابها فأرست اسسها في القلب، استحالت العداوة الى عداء صوري، بل انقلبت الى صورة العطف والاشفاق، اذ المؤمن يحب اخاه، وعليه ان يوده، فأيما تصّرف مشين يصدر من اخيه يحمله على الاشفاق عليه، وعلى الجد في محاولة اصلاحه باللين والرفق دون اللجوء الى القوة والتحكم. فقد ورد في الحديث الشريف:

(لا يحل لمسلم ان يهجر اخاه فوق ثلاث ليال، يلتقيان فيعرض هذا ويعرض هذا، وخيرهما الذي يبدأ بالسلام)[1]

اما اذا تغلبت اسباب العداوة والبغضاء وتمكنت في القلب، فان المحبة تنقلب عندئذ الى محبة شكلية تلبس لبوس التصنع والتملق.

فأعلم اذن ايها الظالم!ما اشده من ظلم ان يحمل المؤمن عداء وحقداً لاخيه! فكما انك اذا استعظمت حصيات تافهة ووصفتها بأنها اسمى من الكعبة المشرفة واعظم من جبل احد، فانك بلا شك ترتكب حماقة مشينة، كذلك هي حماقة مثلها ان استعظمت زلات صدرت من اخيك المؤمن واستهولت هفواته التي هي تافهة تفاهة الحصيات، وفضلت تلك الامور التافهة على سمو الايمان الذي هو بسمو الكعبة، ورجحتها على عظمة الاسلام الذي هو بعظمة جبل اُحد. فتفضيلك ما بدر من اخيك من أمور بسيطة على ما يتحلى به من صفات الاسلام الحميدة ظلم وأي ظلم! يدركه كل من له مسكة من عقل!

نعم! ان الايمان بعقيدة واحدة، يستدعي حتماً توحيد قلوب المؤمنين بها على قلب واحد، ووحدة العقيدة هذه، تقتضي وحدة المجتمع. فأنت تستشعر بنوع من الرابطة مع من يعيش معك في طابور واحد، وبعلاقة صداقة معه ان كنت تعمل معه تحت امرة قائد واحد، بل تشعر بعلاقة اخوة معه لوجودكما في مدينة واحدة، فما بالك بالايمان الذي يهب لك من النور والشعور ما يريك به من علاقات الوحدة الكثيرة، وروابط الاتفاق العديدة، ووشائج الاخوة الوفيرة ما تبلغ عدد الاسماء الحسنى. فيرشدك مثلاً الى:

ان خالقكما واحد، مالككما واحد، معبودكما واحد، رازقكما واحد.. وهكذا واحد واحد الى ان تبلغ الالف.ثم، ان نبيكما واحد، دينكما واحد، قبلتكما واحدة، وهكذا واحد واحد الى ان تبلغ المائة. ثم، انكما تعيشان معاً في قرية واحدة، تحت ظل دولة واحدة، في بلاد واحدة..وهكذا واحد واحد الى ان تبلغ العشرة.

فلئن كان هناك الى هذا القدر من الروابط التي تستدعي الوحدة والتوحيد والوفاق والاتفاق والمحبة والاخوة، ولها من القوة المعنوية ما يربط اجزاء الكون الهائلة، فما اظلم من يعرض عنها جميعاً ويفضل عليها اسباباً واهية اوهن من بيت العنكبوت، تلك التي تولد الشقاق والنفاق والحقد والعداء. فيوغر صدره عداءً وغلاً حقيقياً مع اخيه المؤمن! أليس هذا اهانة بتلك الروابط التي توحد؟ واستخفافاً بتلك الاسباب التي توجب المحبة؟ واعتسافاً لتلك العلاقات التي تفرض الاخوة؟ فأن لم يكن قلبك ميتاً ولم تنطفئ بعد جذوة عقلك فستدرك هذا جيداً.

 

 

الوجه الثالث:

ان الآية الكريمة: (وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ اُخْرى) (الانعام:164) تفيد العدالة المحضة، اي لا يجوز معاقبة انسان بجريرة غيره. فترى القرآن الكريم ومصادر الشريعة الاخرى وآداب اهل الحقيقة والحكمة الاسلامية كلها تنبهك الى:

ان اضمار العداء للمؤمن والحقد عليه ظلم عظيم، لانه ادانة لجميع الصفات البريئة التي يتصف بها المؤمن بجريرة صفة جانية فيه. ولا سيما امتداد العداء الى اقاربه وذويه بسبب صفة تمتعض منها، فهو ظلم اعظم، كما وصفه القرآن الكريم بالصيغة المبالغة:(اِنَّ الاِنْسَانَ لَظَلُومٌ) (ابراهيم:34) أفبعد هذا تجد لنفسك مبررات وتدعي انك على حق؟

فأعلم! ان المفاسد التي هي سبب العداء والبغضاء كثيفة في نظر الحقيقة، كالتراب والشر نفسه، وشأن الكثيف انه لا يسرى ولا ينعكس الى الغير ـ الا ما يتعلمه الانسان من شر من الآخرين ـ بينما البر والاحسان وغيرهما من اسباب المحبة فهي لطيفة كالنور وكالمحبة نفسها، ومن شأن النور الانعكاس والسريان الى الغير. ومن هنا سار في عداد الامثال: "صديق الصديق صديق"وتجد الناس يرددون: "لاجل عين الف عين تكرم".

فيا ايها المجحف! ان كنت تروم الحق، فالحقيقة هي هذه، لذا فأن حملك عداء مع اقارب ذلك الذي تكره صفة فيه، وحقدك على ذويه المحبوبين لديه، خلاف للحقيقة واي خلاف!

الوجه الرابع:

ان عداءك للمؤمـن ظلـم مبين، من حيـث الحيـاة الشخصية. فإن شئت فاستمع الى بضعة دساتير هي اساس هذا الوجه الرابع.

الدستور الاول:

عندما تعلم انك على حق في سلوكك وافكارك يجوز لك ان تقول: "ان مسلكي حق او هو افضل"ولكن لا يجوز لك ان تقول: "ان الحق هو مسلكي انا فحسب".لان نظرك الساخط وفكرك الكليل لن يكونا محكاً ولا حكماً يقضي على بطلان المسالك الاخرى، وقديماً قال الشاعر:

وعين الرضا عن كل عيب كليلة ولكن عين السخط تبدي المساويا(2)

الدستور الثاني:

"عليك أن تقول الحق في كل ما تقول، ولكن ليس لك ان تذيع كل الحقائق. وعليك أن تصدق في كل ما تتكلمه، ولكن ليس صواباً ان تقول كل صدق".

لان من كان على نية غير خالصة ـ مثلك ـ يحتمل ان يثير المقابل بنصائحه فيحصل عكس المراد.

الدستور الثالث:

ان كنت تريد ان تعادي احداً فعاد ما في قلبك من العداوة، واجتهد في اطفاء نارها واستئصال شأفتها. وحاول ان تعادي من هو اعدى عدوك واشد ضرراً عليك، تلك هي نفسك التي بين جنبيك. فقاوم هواها، واسع الى اصلاحها، ولا تعاد المؤمنين لاجلها. وان كنت تريد العداء ايضاً فعاد الكفار والزنادقة، فهم كثيرون. واعلم ان صفة المحبة محبوبة بذاتها جديرة بالمحبة، كما ان خصلة العداوة تستحق العداء قبل أي شئ آخر.

وان اردت أن تغلب خصمك فادفع سيئته بالحسنة، فبه تخمد نار الخصومة. اما اذا قابلت اساءته بمثلها فالخصومة تزداد. حتى لو اصبح مغلوباً ـ ظاهراً ـ فقلبه يمتلئ غيظاً عليك، فالعداء يدوم والشحناء تستمر. بينما مقابلته بالاحسان تسوقه الى الندم، وقد يكون صديقاً حميماً لك، اذ ان من شأن المؤمن ان يكون كريماً، فان اكرمته فقد ملكته وجعلته اخاً لك، حتى لو كان لئيماً ـ ظاهراً ـ الا انه كريم من حيث الايمان، وقد قال الشاعر:

اذا انت اكرمت الكريم ملكته وان انت اكرمت اللئيم تمردا[3]

نعم، ان الواقع يشهد:ان مخاطبة الفاسد بقولك له: "انك صالح، انك فاضل..".ربما يدفعه الى الصلاح وكذا مخاطبة الصالح: "انك طالح، انك فاسد...". ربما يسوقه الى الفساد، لذا استمع بأذن القلب الى قوله تعالى:

(وَاِذَا مَرّوُا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَاماً) (الفرقان: 72)

(وَاِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتغْفِروُا فَاِنَّ الله غَفُورٌ رَحيمٌ) (التغابن: 14)

وامثالها من الدساتير القرآنية المقدسة، ففيها التوفيق والنجاح والسعادة والامان.

الدستور الرابع:

ان الذين يملأ قلوبهم الحقد والعداوة تجاه اخوانهم المؤمنين انما يظلمون انفسهم اولاً، علاوة على ظلمهم لاخوانهم، وفضلاً عن تجاوزهم حدود الرحمة الإلهية، حيث أنه بالحقد والعداوة يوقع نفسه في عذاب أليم، فيقاسي عذاباً كلما رأى نعمة حلّت بخصمه، ويعاني ألماً من خوفه. وان نشأت العداوة من الحسد فدونه العذاب الأليم، لان الحسد اشد ايلاماً للحاسد من المحسود حيث يحرق صاحبه بلهيبه، اما المحسود فلا يمسه من الحسد شئ، او يتضرر طفيفاً.

وعلاج الحسد هو: ان يلاحظ الحاسد عاقبة ما يحسده، ويتأمل فيها، ليدرك ان ما ناله محسوده من اعراض دنيوية ـ من مال وقوة ومنصب ـ انما هو اعراض زائلة فانية. فائدتها قليلة، مشقتها عظيمة.

اما اذا كان الحسد ناشئاً من دوافع اخروية، فلا حسد اصلاً. ولو تحرك عرق الحسد حتى في هذه الامور، فالحاسد اما انه مراء، يحبط حسناته الاخروية في الدنيا. او انه يسئ الظن بمحسوده فيظلمه.

ثم ان الحاسد في حسده يسخط على قدر الله، لانه يحزن من مجئ فضل من الله ورحمته على محسوده، ويرتاح من نزول المصائب عليه، أي كأنه ينتقد القدر الإلهي ويعترض على رحمته الواسعة. ومعلوم ان من ينتقد القدر كمن يناطح الجبل، ومن يعترض على الرحمة الإلهية يُحرم منها.

ترى هل هناك انصاف يرضى ان يمتلئ صدر المؤمن لسنة كاملة غيظاً وحقداً على اخيه لشئ جزئي تافه لا يساوي العداء عليه ليوم واحد؟! علماً انه لا ينبغي ان تنسب السيئة التي اتتك من اخيك المؤمن اليه وحده وتدينه بها لأن:

اولاً: القدر الإلهي له حظه في الامر، فعليك ان تستقبل حظ القدر هذا بالرضى والتسليم.

ثانياً: ان للشيطان والنفس الامارة بالسوء حظهما كذلك. فاذا ما اخرجتَ هاتين الحصتين لا يبقى امامك الا الاشفاق على اخيك بدلاً من عدائه. لانك تراه مغلوباً

على امره امام نفسه وشيطانه. فتنتظر منه بعد ذلك الندم على فعلته وتأمل عودته الى صوابه.

ثالثاً: عليك ان تلاحظ في هذا الامر تقصيرات نفسك، تلك التي لا تراها او لا ترغب ان تراها، فاعزل هذه الحصة ايضاً مع الحصتين السابقتين، تر الباقي حصة ضئيلة جزئية، فاذا استقبلتها بهمة عالية وشهامة رفيعة اي بالعفو والصفح، تنجو من ارتكاب ظلم وتتخلص من ايذاء احد.

بينما اذا قابلت اساءته بحرص شديد على توافه الدنيا ـ كأنك تخلد فيها ـ وبحقد مستديم وعداء لا يفتر، فلا جرم أن تنطبق عليك صفة "ظلوماً جهول"وتكون اشبه بذلك اليهودي الاحمق الذي صرف اموالاً طائلة لقطع زجاجية لا تساوي شيئاً وبلورات ثلجية لا تلبث ان تزول، ظناً منه انها الماس.

وهكذا فقد بسطنا امامك ما يسببه العداء من اضرار لحياة الانسان الشخصية. فان كنت حقاً تحب نفسك فلا تفسح له مجالاً ليدخل قلبك، وان كان قد دخل فعلاً واستقر فلا تصغ اليه، بل استمع الى حافظ الشيرازي[4]ذي البصيرة النافذة الى الحقيقة. انه يقول:

دنيا نه متاعيستى كه ارزد بنزاعى

أي: "ان الدنيا كلها لا تساوي متاعاً يستحق النزاع عليه".

فلئن كانت الدنيا العظيمة وبما فيها تافهة هكذا، فما بالك بجزء صغير منها. واستمع اليه ايضاً حيث يقول:

آسايش دوكيتى تفسير اين دو حرفست

بادوستان مروت با دشمنان مدارا

أي: "نيل الراحة والسلامة في كلا العالمين توضحه كلمتان:

معاشرة الاصدقاء بالمروءة والانصاف. ومعاملة الاعداء بالصفح والصفاء".

اذا قلت: ان الامر ليس في طوقي، فالعداء مغروز في كياني، مغمور في فطرتي، فليس لي خيار، فضلاً عن انهم قد جرحوا مشاعري وآذوني، فلا استطيع التجاوز عنهم.

فالجواب: ان الخلق السئ ان لم يجر اثره وحُكمه، وان لم يُعمل بمقتضاه كالغيبة مثلاً، وعَرف صاحبه تقصيره، فلا ضير، ولا ينجم منه ضرر. فما دمت لا تملك الخيار من امرك، ولا تستطيع ان تتخلص من العداء، فان شعورك بأنك مقصر في هذه الخصلة، وادراكك انك لست على حق فيها، ينجيانك ــ باذن الله ــ من شرور العداء الكامن فيك، لان ذلك يعد ندماً معنوياً، وتوبة خفية، واستغفاراً ضمنياً. ونحن ما كتبنا هذا المبحث الا ليضمن هذا الاستغفار المعنوي، فلا يلتبس على المؤمن الحق والباطل، ولا يوصم خصمه المحق بالظلم.

وقد مرت عليَّ حادثة جديرة بالملاحظة:

رأيت ذات يوم رجلاً عليه سيماء العلم يقدح بعالم فاضل، بانحياز مغرض حتى بلغ به الامر الى حد تكفيره، وذلك لخلاف بينهما حول امور سياسية، بينما رأيته قد اثنى ـ في الوقت نفسه ـ على منافق يوافقه في الرأي السياسي!. فاصابتني من هذه الحادثة رعدة شديدة، واستعذت بالله مما آلت اليه السياسة وقلت: "اعوذ بالله من الشيطان والسياسة".

ومنذئذٍ انسحبت من ميدان الحياة السياسية.

الوجه الخامس:

هذا الوجه يبين مدى الضرر البالغ الذي يصيب الحياة الاجتماعية من جراء العناد والتنافر والتفرقة.

فاذا قيل:

لقد ورد في حديث شريف:(اِخْتِلافُ اُمَّتي رَحْمَةٌّ)[5]والاختلاف يقتضى التفرق والتحزب والاعتداد بالرأي.

 

 

ولكن داء التفرق والاختلاف هذا فيه وجه من الرحمة لضعفاء الناس من العوام، اذ ينقذهم من تسلط الخواص الظلمة الذين اذا حصل بينهم اتفاق في قرية او قصبة اضطهدوا هؤلاء الضعفاء ولكن اذا كانت ثمة تفرقة بينهم فسيجد المظلوم ملجأ في جهة، فينقذ نفسه.

ثم ان الحقيقة تتظاهر جلية من تصادم الافكار ومناقشة الاراء وتخالف العقول.

الجواب: نقول اجابة عن السؤال الاول:

ان الاختلاف الوارد في الحديث هو الاختلاف الايجابي البنّاء المثبت. ومعناه: ان يسعى كل واحد لترويج مسلكه واظهار صحة وجهته وصواب نظرته، دون أن يحاول هدم مسالك الاخرين او الطعن في وجهة نظرهم وابطال مسلكهم، بل يكون سعيه لإكمال النقص ورأب الصدع والاصلاح ما استطاع اليه سبيلاً. اما الاختلاف السلبي فهو محاولة كل واحد تخريب مسلك الاخرين وهدمه، ومبعثه الحقد والضغينة والعداوة، وهذا النوع من الاختلاف مردود اصلاً في نظر الحديث، حيث المتنازعون والمختلفون يعجزون عن القيام بأي عمل ايجابي بناء.

وجواباً عن السؤال الثاني نقول:

ان كان التفرق والتحزب لاجل الحق وبأسمه، فلربما يكون ملاذ اهل الحق، ولكن الذي نشاهده من التفرق انما هو لاغراض شخصية ولهوى النفس الامارة بالسوء. فهو ملجأ ذوي النيات السيئة بل متكأ الظلمة ومرتكزهم، فالظلم واضح في تصرفاتهم، فلو اتى شيطان الى احدهم معاوناً له موافقاً لرأيه تراه يثني عليه ويترحم عليه، بينما اذا كان في الصف المقابل انسان كالملَك تراه يلعنه ويقذفه.

اما عن السؤال الثالث فنقول:

ان تصادم الآراء ومناقشة الافكار لاجل الحق وفي سبيل الوصول الى الحقيقة انما يكون عند اختلاف الوسائل مع ا لاتفاق في الاسس والغايات، فهذا النوع من الاختلاف يستطيع ان يقدم خدمة جليلة في الكشف عن الحقيقة واظهار كل زاوية من زواياها بأجلى صور الوضوح.ولكن ان كانت المناقشة والبحث عن الحقيقة لاجل اغراض شخصية وللتسلط والاستعلاء واشباع شهوات نفوس فرعونية ونيل الشهرة وحب الظهور، فلا تتلمع بارقة الحقيقة في هذا النوع من بسط الافكار، بل تتولد

شرارة الفتن. فلا تجد بين امثال هؤلاء اتفاقاً في المقصد والغاية، بل ليس على الكرة الارضية نقطة تلاق لافكارهم، ذلك لانه ليس لاجل الحق، فترى فيه الافراط البالغ دون حدود، مما يفضي الى انشقاقات غير قابلة للالتئام. وحاضر العالم شاهد على هذا..

وصفوة القول:

ان لم تكن تصرفات المؤمن وحركاته وفق الدساتير السامية التي وضعها الحديث الشريف: "الحب في الله والبغض في الله"[6] والاحتكام الى امر الله في الامور كلها، فالنفاق والشقاق يسودان.. نعم، ان الذي لا يستهدي بتلك الدساتير يكون مقترفاً ظلماً في الوقت الذي يروم العدالة.

حادثة ذات عبرة:

في احدى الغزوات الاسلامية، كان الامام علي رضى الله عنه يبارز احد فرسان المشركين فتغلب عليه الامام وصرعه. فلما اراد الامام ان يجهز عليه تفل على وجه الامام. فما كان من الامام الا ان اخلى سبيله وانصرف عنه، فاستغرب المشرك من هذا العمل.

فقال: الى اين؟

قال الامام: كنت اقاتلك في سبيل الله، فلما فعلت ما فعلت خشيت ان يكون قتلي اياك فيه ثأر لنفسي فأطلقتك لله.

فأجابه الكافر: كان الاولى ان تثيرك فعلتي اكثر فتسرع في قتلي! وما دمتم تدينون بدين هو في منتهى السماحة فهو بلا شك دين حق.[7]

وحادثة اخرى:

عزل حاكم مسلم قاضيه،لما رأى منه شيئاً من الحدة والغضب اثناء قطعه يد السارق. فما ينبغي لمن ينفذ امر الله ان يحمل شيئاً من حظ نفسه على المحكوم، بل عليه ان يشفق ـ من حيث النفس ـ على حاله دون ان تأخذه رأفة في تنفيذ حكم الله. وحيث ان شيئاً من حظ النفس قد اختلط في الامر وهو مما ينافي العدالة الخالصة فقد عُزل القاضي.

مرض اجتماعي خطر وحالة اجتماعية مؤسفة اصابت الامة الاسلامية يدمي لها القلب:

ان اشد القبائل تأخراً يدركون معنى الخطر الداهم عليهم، فتراهم ينبذون الخلافات الداخلية، وينسون العداوات الجانبية عند اغارة العدو الخارجي عليهم.

واذا تقدّر تلك القبائل المتأخرة مصلحتهم الاجتماعية حق قدرها، فما للذين يتولون خدمة الاسلام ويدعون اليه لا ينسون عداوتهم الجزئية الطفيفة فيمهدون بها سبل اغارة الاعداء الذين لا يحصرهم العد عليهم؟! فلقد تراصف الاعداء حولهم واطبقوا عليهم من كل مكان.. ان هذا الوضع تدهور مخيف، وانحطاط مفجع، وخيانة بحق الاسلام والمسلمين.

واذكر للمناسبة حكاية ذات عبرة: كانت هناك قبيلتان من عشيرة "حسنان" و كانت بينهما ثارات دموية، حتى ذهب ضحيتها اكثر من خمسين رجلاً، ولكن ما ان يداهمهما خطر خارجي من قبيلة "سبكان" او "حيدران" الا تتكاتفان وتتعاونان وتنسيان كلياً الخلافات لحين صد العدوان. فيا معشر المؤمنين، اتدرون كم يبلغ عدد عشائر الاعداء المتأهبين للاغارة على عشيرة الايمان؟ انهم يزيدون على المائة وهم يحيطون بالاسلام والمسلمين كالحلقات المتداخلة. فبينما ينبغي ان يتكاتف المسلمون لصد عدوان واحد من اولئك، يعاند كل واحد وينحاز جانباً سائراً وفق اغراضه الشخصية كأنه يمهد السبيل لفتح الابواب امام اولئك الاعداء ليدخلوا حرم الاسلام الآمن.. فهل يليق هذا بأمة الاسلام؟

وان شئت ان تعدد دوائر الاعداء المحيطة بالاسلام، فهم ابتداء من اهل الضلالة والالحاد وانتهاء الى عالم الكفر ومصائب الدنيا واحوالها المضطربة جميعها، فهي دوائر متداخلة تبلغ السبعين دائرة، كلها تريد ان تصيبكم بسوء، وجميعها حانقة عليكم وحريصة على الانتقام منكم، فليس لكم أمام جميع اولئك الاعداء الالداء إلا ذلك السلاح البتار والخندق الامين والقلعة الحصينة، الا وهي الاخوة الاسلامية. فأفق ايها المسلم! واعلم ان زعزعة قلعة الاسلام الحصينة بحجج تافهة واسباب واهية خلاف للوجدان الحي وأي خلاف ومناف لمصلحة الاسلام كلياً.. فانتبه! ولقد ورد في الاحاديث الشريفة ما مضمونه: ان الدجال والسفياني وامثالهما من الاشخاص الذين يتولون المنافقين ويظهرون في آخر الزمان، يستغلون الشقاق بين الناس

والمسلمين ويستفيدون من تكالبهم على حطام الدنيا، فيهلكون البشرية بقوة ضئيلة، وينشرون الهرج والمرج بينها ويسيطرون على امة الاسلام ويأسرونها.[8]

ايها المؤمنون!

ان كنتم تريدون حقاً الحياة العزيزة، وترفضون الرضوخ لاغلال الذل والهوان، فأفيقوا من رقدتكم، وعودوا الى رشدكم، وادخلوا القلعة الحصينة المقدسة: (اِنَّمَا الْـمُؤْمِنُونَ اِخْوَةٌ) (الحجرات: 10) وحصنوا انفسكم بها من ايدي اولئك الظلمة الذين يستغلون خلافاتكم الداخلية.. والا تعجزون عن الدفاع عن حقوقكم بل حتى عن الحفاظ على حياتكم، اذ لا يخفى ان طفلاً صغيراً يستطيع ان يضرب بطلين يتصارعان، وان حصاة صغيرة تلعب دوراً في رفع كفة ميزان وخفض الاخرى ولو كان فيهما جبلان متوازنان.

فيا معشر أهل الايمان!ان قوتكم تذهب ادراج الرياح من جراء اغراضكم الشخصية وانانيتكم وتحزبكم، فقوة قليلة جداً تتمكن من ان تذيقكم الذل والهلاك. فان كنتم حقاً مرتبطين بملة الاسلام فاستهدوا بالدستور النبوي العظيم:

(الـمُؤْمِنُ لِلْـمُؤْمِنِ كَالْبُنيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضَاً)[9]وعندها فقط تسلمون من ذل الدنيا وتنجون من شقاء الآخرة.

الوجه السادس:

ان الاخلاص واسطة الخلاص ووسيلة النجاة من العذاب، فالعداء والعناد يزعزعان حياة المؤمن المعنوية فتتأذى سلامة عبوديته لله، اذ يضيع الاخلاص!. ذلك لان المعاند الذي ينحاز الى رأيه وجماعته يروم التفوق على خصمه حتى في اعمال البر التي يزاولها. فلا يوفق توفيقاً كاملاً الى عمل خالص لوجه الله. ثم انه لا يوفق ايضاً الى العدالة، اذ يرجح الموالين لرأيه الموافقين له في احكامه ومعاملاته على غيرهم.. وهكذا يضيع اساسان مهمان لبناء البر"الاخلاص والعدالة"بالخصام والعداء.ان بحث هذا الوجه يطول،فلا يتسع هذا المقام اكثر من هذا القدر،

فنكتفي به. (*)

 

_______________________________

[1] اخرجه البخاري، كتاب الأدب 57 ومسلم 2560عن ابي ايوب الانصاري رضي الله عنه.

[2] لعبدالله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر بن ابي طالب (ادب الدنيا والدين ص37) والبيت منسوب للامام الشافعي ايضاً. (ديوان الشافعي ص91) طبعة دار النور - بيروت. وفيه: كما ان عين السخط.. -المترجم.

[3] البيت للمتنبي. انظر العرف الطيب في شرح ديوان ابي الطيب. ص 387ــ دار القلم، بيروت. - المترجم

[4] حافظ الشيرازي: (1320- 1389م). هو شمس الدين محمد الشهير بحافظ الشيرازي اشهر شعراء فارس على الاطلاق، لايعرف إلاّ القليل عن نشأته. له (ديوان) شعر ملئ بالقصائد التي عرضت لمعظم الفنون الشائعة في عصره. انظر: كشف الظنون 1/783. - المترجم.

[5] قال السخاوي في المقاصد: رواه البيهقي في المدخل بسند منقطع.. واخرجه الطبراني والديلمي ايضاً وفيه ضعيف، وعزاه الزركشي وابن حجر لنصر المقدسي مرفوعاً من غير بيان لسنده، وعزاه العراقي لآدم بن ابي اياس بغير بيان لسنده ايضاً. وفي الموضوعات للقارى ان السيوطي قال: اخرجه نصر المقدسي في الحجة والبيهقي في الرسالة الاشعرية بغير سند ورواه الحليمي والقاضي حسين وامام الحرمين وغيرهم، ولعله خرّج في بعض كتب الحفاظ التي لم تصل الينا. (باختصار عن كشف الخفاء 1/64) . وانظر تمييز الطيب ص11.والفتح الكبير للسيوطي 568ــ المترجم

[6] رواه مسلم والبخاري في كتاب الايمان.وابوداود في السنة 2، وفي المسند 5/ 146 المترجم.

[7] الشيخ شمس الدين السيواسي (مناقب جهار يار كوزين ) بالعثمانية/ 294

[8] المسند 3/367 ،المستدرك 4/ 529 ،530،مصنف عبد الرزاق 11/394، ابن حبان 8/ 286 ، الديلمي مسند الفردوس 5/510

[9] اخرجه البخاري برقم (481) و (3446) و(6027) ومسلم برقم (2585) و (2627) والترمذي (1993 تحفة) وقال: حديث صحيح ورواه احمد في المسند 4/404 والنسائي 5/79 والبغوي في شرح السنة برقم (3461) وابو الشيخ برقم (300) وابن ابي شيبة في المصنف برقم (11/21) وفي الايمان برقم (90) كلهم من حديث ابي موسى الاشعري

(*)   المكتوب الثاني والعشرون - ص: (339)

قرئت 114 مرات
لإضافة تعليق يرجى تسجيل الدخول أو إنشاء قيد جديد