شواهد معرفة الله
قطرة نورية من كليات رسائل النورسي
ايها السعيد الغافل المتخبط بسوء حاله! اعلم، ان الوصول الى نور معرفة الحق سبحانه، والى مشاهدة تجلياته في مرايا الآيات والشواهد والنظر اليه من مسامات البراهين والدلائل يقتضي الاّ تتجسّس بأصابع التنقيد على كل نورٍ جرى عليك، وورَد الى قلبك، وتظاهر الى عقلك، والاّ تنقده بيد التردد.
فلا تمدّن يدك لأخذ نورٍ اضاء لك. بل تجرّد من اسباب الغفلة، وتعرّض لذلك النور، وتوجّه اليه،
فاني قد شاهدت أن شواهد معرفة الله وبراهينها ثلاثة اقسام:
قسم منه: كالماء يُرى ويحسّ، ولكن لا يمسك بالاصابع. ففي هذا القسم عليك بالتجرّد عن الخيالات، والانغماس فيه بكليتك، فلا تتجسس باصبع التنقيد، فانه يسيل ويذهب، اذ لا يرضى ماءُ الحياة ذلك بالاصبع محلاً.
القسم الثاني: كالهواء، يحسّ ولكن لا يُرى، ولا يُتخذ ولا يُستمسك، فتوجه لنفحات تلك الرحمة، وتعرّض لها، وقابلها بوجهك وفمك وروحك، فان نظرت الى هذا القسم بيد التردد والريب ومددت اليه يد التنقيد، بدلاً من الانتعاش روحياً، فانه ينطلق، إذ لا يتخذ يدك مسكناً له ولا يرضى بها منزلاً.
القسم الثالث: فهو كالنور، يُرى ولكن لا يحس، ولا يؤخذ ولا يستمسك، فتعرّض له وقابله ببصيرة قلبك ونظر روحك، وتوجه اليه ببصرك، ثم انتظر، فلربما يأتي بذاته ومن نفسه. لان النور لا يؤخذ باليد، ولا يُصاد بالاصابع، بل بنور البصيرة يُصاد. فاذا مددت اليه يداً مادية حريصةً، ووزنته بموازين مادية، فانه يختفي وإن لم ينطفىء، لان نوراً كهذا مثلما انه لا يرضى بالماديّ حبساً، ولا يدخل بالقيد ابداً، فانه لا يرضى بالكثيف مالكاً وسيداً عليه.(*)
____________
(*) كليات رسائل النور – اللمعة السابعة عشرة .. ص:195