لا تحاولوا تقليد الافرنج

 

قطرة نورية من كليات رسائل النورسي:

حينما سار (سعيد الجديد) في طريق التأمل والتفكر، انقلبت تلك العلوم الاوروبية الفلسفية وفنونها التي كانت مستقرة الى حدٍّ ما في افكار (سعيد القديم) الى أمراض قلبية، نشأت منها مصاعب ومعضلاتٌ كثيرة في تلك السياحة القلبية. فما كان من (سعيد الجديد) الاّ القيام بتمخيض فكره والعمل على نفضه من أدران الفلسفة المزخرفة ولوثات الحضارة السفيهة. فرأى نفسه مضطراً الى اجراء المحاورة الآتية مع الشخصية المعنوية لأوروبا لكبح جماح ما في روحه من احاسيس نفسانية منحازة لصالح اوروبا، فهي محاورة مقتضبة من ناحية ومُسهبةٌ من ناحية اخرى.

ولئلا يُساء الفهمُ لابد أن ننبه: ان اوروبا اثنتان.

احداها: هي اوروبا النافعة للبشرية، بما استفاضت من النصرانية الحقة، وأدّت خدماتٍ لحياة الانسان الاجتماعية، بما توصلت اليه من صناعاتٍ وعلومٍ تخدم العدل والانصاف، فلا أخاطب – في هذه المحاورة – هذا القسم من اوروبا. وانما أخاطب اوروبا الثانية تلك التي تعفنت بظلمات الفلسفة الطبيعية وفسدت بالمادية الجاسية، وحَسبِتْ سيئات الحضارة حسناتٍ لها، وتوهمت مساوءها فضائل. فساقت البشرية الى السفاهة وأردتها الضلالة والتعاسة.

ولقد خاطبتُ في تلك السياحة الروحية الشخصية المعنوية الاوروبية بعد أن استثنيت محاسن الحضارة وفوائد العلوم النافعة، فوجهت خطابى الى تلك الشخصية التي اخذت بيدها الفلسفة المضرّة التافهة والحضارة الفاسدة السفيهة.. وخاطبتها قائلاً:

يا اوروبا الثانية! اعلمي جيداً أنكِ قد اخذتِ بيمينكِ الفلسفة المضلة السقيمة، وبشمالك المدنية المضرّة السفيهة، ثم تدّعين ان سعادة الانسان بهما. ألا شُلت يداكِ، وبئست الهدية هديتكِ، ولتكن وبالاً عليكِ، وستكون.

ايتها الروح الخبيثة التي تنشر الكفر وتبث الجحود! تُرى هل يمكن ان يسعد انسانٌ بمجرد تملكه ثروة طائلة، وترفله في زينة ظاهرة خادعة، وهو المصاب في روحه وفي وجدانه وفي عقله وفي قلبه بمصائب هائلة؟ وهل يمكن ان نطلق عليه أنه سعيد؟! ألا ترين أنّ من يِئس من امرٍ جزئي، وانقطع رجاؤه من أملٍ وهمي، وخاب ظنه من عملٍ تافه، كيف يتحول خياله العذبُ مُراً علقماً، وكيف يتعذّب مما حوله من اوضاع لطيفة، فتضيق عليه الدنيا كالسجن بما رحُبت!. فكيف بمن أُصيب بشؤمك بضربات الضلالة في اعمق اعماق قلبه، وفي أغوار روحه، حتى انقطعت – بتلك الضلالة – جميعُ آماله، فانشقت عنها جميعُ آلامه، فايُّ سعادةٍ يمكنك ان تضمَني لمثل هذا المسكين الشَقي؟ وهل يمكن ان يُطلَق لمن روحه وقلبُه يُعذبان في جهنم، وجسمه فقط في جنةٍ كاذبة زائلة.. أنه سعيد؟..

لقد أفسدتِ – ايتها الروح الخبيثة – البشريةَ حتى طاشت بتعاليمك، فتقاسي منك العذاب المريَر، باذاقتك اِياها عذابَ الجحيم في نعيم جنة كاذبة.

ايتها النفس الامارة للبشرية! تأملي في هذا المثال وافهمي منه الى اين تسوقين البشرية:

هب أن امامنا طريقين، فسلكنا احدهما، واذا بنا نرى في كل خطوة نخطوها في الطريق الاول، مساكين عَجَزة يهجم عليهم الظالمون، يغصبون اموالهم ومتاعهم، يخرّبون بيوتهم واكواخهم، بل قد يجرحونهم جرحاً بليغاً تكاد السماء تبكي على حالتهم المفجعة، فاينما يمد النظر تُرى الحالة نفسها فلا يُسمع في هذا الطريق الاّ ضوضاء الظالمين وصَخبَهم، وأنينُ المظلومين ونُواحهم، فكأن مأتماً عاماً قد خيم على الطريق.

ولما كان الانسان – بمقتضى انسانيته – يتألم بألم الآخرين، فلا يستطيع ان يتحمل ما يراه في هذا الطريق من ألم غير محدود، اذ الوجدان لا يطيق ألماً الى هذا الحد، لذا يضطر سالك هذا الطريق الى أحد أمرين: اِما ان يتجرد من انسانيته، ويحمل قلباً قاسياً غارقاً في منتهى الوحشة لا يتألم بهلاك الجميع طالما هو سالم معافىً، او يُبطل ما يقتضيه القلبُ والعقلُ!.

فيا اوروبا التي نأتْ عن النصرانية وابتعدت عنها، وانغمست في السفاهة والضلالة! لقد اهديتِ بدهائك الاعور كالدجال لروح البشر حالة جهنمية، ثم ادركتِ ان هذه الحالة داءٌ عضال لا دواءَ له. إذ يهوي بالانسان من ذروة أعلى عليين الى درك اسفل سافلين، والى أدنى درجات الحيوان وحضيضها، ولا علاج لك امام هذا الداء الوبيل الاّ ملاهيكِ الجذابة التي تدفع الى اِبطال الحسّ وتخدير الشعور مؤقتاً، وكمالياتك المزخرفة واهواؤك المنوِّمة… فتعساً لكِ ولدوائكِ الذي يكون هو القاضي عليك.. نعم، ان ما فتحتيه امام البشرية من طريق، يشبه هذا المثال المذكور.

اما الطريق الثاني فهو ما أهداه القرآن الكريم من هديةٍ الى البشرية، فهداهم الى الصراط السوي، فنحن نرى:

في كل منزل من منازل هذا الطريق، وفي كل موضع من مواضعه، وفي كل مدينة تقع عليه، جنود مطيعون أُمناء لسلطانٍ عادل، يتجولون في كل جهة ينتشرون في كل ناحية، وبين فينة واخرى يأتي قسم من مأموري ذلك الملك العادل وموظفيه فيعفي بعض اولئك الجنود من وظائفهم بأمر السلطان نفسه ويتسلم منهم اسلحتهم ودوابهم ومعدّاتهم الخاصة بالدولة ويسلم اليهم بطاقة الاعفاء. وهؤلاء المعفون يبتهجون ويفرحون – من زاوية الحقيقة – على اعفائهم فرحاً عظيماً لرجوعهم الى السلطان وعودتهم الى دار قرار سلطنته، والمثول بزيارته الكريمة، مع انهم يحزنون في ظاهر الامر على ما أُخذ منهم من دابة ومعدات ألِفوها.. ونرى ايضاً أنه قد يلتقي اولئك المأمورون مَن لا يعرفهم من الجنود، فعندما يخاطبونه: أن سلم سلاحك! يردّ عليهم الجندي: انا جندي لدى السلطان العظيم وتحت امره وفي خدمته، واليه مصيري ومرجعي، فمن انتم حتى تسلبوا مني ما وهبني السلطان العظيم؟ فان كنتم قد جئتم باذنه ورضاه فعلي العين والرأس فأروني أمره الكريم، والاّ تنحوا عني فلأقاتلنكم ولو كنت وحدي وانتم أُلوف، اذ لا اقاتل لنفسي لانها ليست لي، بل اقاتل حفاظاً لأمانة مالكي ومولاي وصيانةً لعزته وعظمته. فانا لا ارضخ لكم!!.

فدونك مثالاً واحداً من ألوف الامثلة على ما في هذا الطريق الثاني من مصدر فرح ومدار سعادة. فانسج على منواله.

وعلى طول الطريق الثاني، وطوال مدة السفرة كلها نرى سَوقاً الى الجندية، يتم في فرح وابتهاج وسرور.. تلك هي التي تسمى بـ(المواليد). وهناك اعفاءات ورُخَص من الجندية، تتم في فرح وحبور ايضاً، وسط تهليل وتكبير.. تلك هي التي تسمى بـ(الوفيات).

هذا هو الذي اهداه القرآن الكريم للبشرية، فمن اهتدى به فقد سعد في الدارين ويمضي في طريقه – الثاني – على هذه الصورة اللطيفة بلا حزن وكدّرٍ على ما فات منه، وبلا خوف ووجل مما سيأتي عليه، حتى تنطبق عليه الآية الكريمة: ﴿لاخَوفٌ عَليهِم ولا هُمْ يحزَنون﴾(البقرة:262).

يا اوروبا الثانية الفاسدة! انك تستندين الى اسس واهية نخرة، فتزعمين:

أن كلّ كائن حي مالكٌ لنفسه، ابتداءً من اعظم ملَكَ وانتهاء الى اصغر سمك. كلٌ يعمل لذاته فقط، ولأجل نفسه فحسب، ولا يسعى أحدٌ الاّ للذته الخاصة، ولأجل هذا له حق الحياة. فغاية همته وهدف قصده هو ضمان بقائه واستمرار حياته. ثم انك ترين (قانون التعاون) جارياً فيما بين المخلوقات امتثالاً لأمر الخالق الكريم الذي هو واضح جلي في أرجاء الكون كله كامداد النباتات للحيوانات والحيوانات للانسان، ثم تحسبين هذا القانون والسنة الإلهية وتلك التجليات الكريمة الرحيمة المنبعثة من ذلك التعاون العام جدالاً وخصاماً وصراعاً، حتى حكمتِ ببلاهة ان الحياة جدال وصراع!

فيا سبحان الله!! كيف يكون امدادُ ذرات الطعام امداداً بكمال الشوق لتغذية خلايا الجسم جدالاً وخصاماً؟ بل مَا هو الاّ سنة التعاون، ولا يتم الاّ بأمر ربّ حكيم كريم!

وان ما تستندين اليه من (أن كل شيء مالك لنفسه) واضح البطلان. وأوضح دليل عليه هو ان اشرف الاسباب واوسعها ارادة واختياراً هو الانسان. والحال ليس في يد اختياره ولا في دائرة اقتداره من أظهر افعاله الاختيارية كالاكل والكلام والتفكر، الاّ جزءٌ واحد مُبهَمٌ من بين المائة. فالذي لا يملك واحداً من المائة من مثل هذا الفعل الظاهر، كيف يكون مالكاً لنفسه؟! واذا كان الاشرف والاوسع اختياراً مغلولَ الايدي عن التملك الحقيقي والتصرف التام فكيف بسائر الحيوانات والجمادات؟ أليس الذي يطلق هذا الحكم (بأن الحيوان مالك لزمام نفسه) أضلُّ من الانعام وأفقدُ للشعور من الجمادات؟

فيا اوروبا! ما ورطكِ في هذا الخطأ المشين الاّ دهاءك الأعور، أي ذكاؤك المنحوس الخارق، فلقد نسيت بذكائك هذا ربَّ كل شيء وخالقه، اذ أسندتِ آثاره البديعة الى الاسباب والطبيعة الموهومة! وقسمتِ مُلك ذلك الخالق الكريم على الطواغيت التي تُعبَد من دون الله .. فانطلاقاً من هذه الزاوية التي ينظر منها دهاؤك الاعور يضطر كلُّ ذي حياة وكل انسان يصارع وحده ما لا يعد من الاعداء، ويحصل بنفسه على ما لا يحد من الحاجات، بما يملك من اقتدارٍ كذرة، واختيارٍ كشعرة، وشعورٍ كلمعة تزول، وحياة كشعلة تنطفي، وعمرٍ كدقيقة تنقضي، مع أنه لا يكفي كلُ ما في يده لواحدٍ من مطالبه. فعندما يصاب – مثلاٍ – بمصيبة لا يرجو الدواء لدائه الاّ من اسباب صم، حتى يكون مصداق الآية الكريمة: ﴿وما دُعاءُ الكافرين إلاّ في ضلالٍ﴾(الرعد:14). ان دهاءك المظلم قد قَلب نهارَ البشرية ليلاً، ذلك الليل البهيم بالجور والمظالم، ثم تريدين ان تنوري ذلك الظلام المخيف بمصابيح كاذبة مؤقتة!.. هذه المصابيح لا تبتسم لوجه الانسان، بل تستهزى به، وتستخف من ضحكاته التي يطلقها ببلاهة وهو متمرغ في اوحال اوضاع مؤلمة مُبكية! فكل ذي حياة في نظر تلاميذك، مسكينٌ مبتلىً بمصائب ناجمة من هجوم الظلمة. والدنيا مأتم عمومي، والاصوات التي تنطلق منها نعيات الموت، وأناتُ الآلام، ونياحات اليتامى.

ان الذي يتلقى الدرس منك ويسترشد بهدْيك يصبح (فرعوناً) طاغية.. ولكنه فرعون ذليل، إذ يعبد أخس الاشياء، ويتخذ كل شيء ينتفع منه رباً له.

وتلميذك هذا (متمردٌ) ايضاً.. ولكنه متمرد مسكين، إذ لأجل لذةٍ تافهة يقبل قدَمَ الشيطان، ولأجل منفعة خسيسة يرضى بمنتهى الذل والهوان.

وهو (جبار) ولكنه جبار عاجز في ذاته لأنه لا يجد مرتكزاً في قلبه يأوي اليه.

ان غاية ما يصبو اليه تلميذك وذروة همته: تطمينُ رغبات النفس واشباعُ هواها، حتى انه دسّاس يبحث تحت ستار الحمية والتضحية والفداء عن منافعه الذاتية، فيطمئن بدسيسته وخبثه حرصَه ويُشبع نَهمَ غروره، إذ لا يحب حقاً الاّ نفسه، بل يضحي بكل شيء في سبيلها.

اما التلميذ المخلص الخالص للقرآن الكريم فهو (عبدٌ) ولكنه لا يتنزل لعبادةِ اعظم مخلوق، فهو (عبدٌ عزيزٌ) لا يرضى حتى بالجنة، تلك النعمة العظمى غاية لعبوديته لله.

وهو (لين هين) ولكنه لا يتذلل لغير فاطره الجليل، ولغير أمره وإذنه، فهو صاحب همة عليا وعزيمة صادقة.

وهو (فقير) ولكنه مستغن عن كل شيء بما ادّخر له مالكُه الكريم من الثواب الجزيل.

وهو (ضعيف) ولكنه يستند الى قوة سيده المطلقة. فلا يرضى تلميذ القرآن الكريم الخالص حتى بالجنة الخالدة مقصداً وغاية له، فكيف به بهذه الدنيا الزائلة؟ فافهم من هذا مدى التفاوت الكبير والبونَ الشاسع بين همة هذين التلميذين!.

وكذلك يمكنكم ان تقيسوا مدى الفرق الهائل بين تلاميذ الفلسفة السقيمة وتلاميذ القرآن الحكيم من حيث مدى التضحية والفداء في كل منهما بما يأتي:

إن تلميذ الفلسفة يفر من أخيه أثرَة لنفسه، ويقيم عليه الدعوى. اما تلميذ القرآن فانه يرى جميع عباد الله الصالحين في الارض والسموات اخواناً له، ويشعر من اعماق روحه باواصر شوق تشدّه نحوهم، فيدعو لهم دعاءً خالصاً نابعاً من صميم قلبه (اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات) فهو يسعد بسعادتهم. حتى انه يرى ما هو اعظم الاشياء كالعرش الاعظم والشمس الضخمة مأموراً مسخراً مثله.

ثم يمكنك قياس سموّ الروح وانبساطها لدى التلميذين بما يأتي:

ان القرآن الكريم يمنح تلاميذه نماءاً سامياً للروح وانبساطاً واسعاً لها، اذ يسلم الى ايديهم بدلاً من تسع وتسعين حبةٍ من حبات المسبحة، سلسلة مركبة من ذراتٍ تسع وتسعين عالماً من عوالم الكون التي يتجلى فيها تسعٌ وتسعون اسماً من الاسماء الحسنى، ويخاطبهم: هاؤم اقرأوا أورادكم بهذه السلسلة، وهم بدورهم يقرأون اورادهم بتلك المسبحة العجيبة، ويذكرون ربهم الكريم باعدادها غير المحدودة.

فان شئت فانظر الى تلاميذ القرآن من الاولياء الصالحين امثال الشيخ الكيلاني والشيخ الرفاعي والشيخ الشاذلي (رضي الله عنهم)(1)، وانصت اليهم حينما يقرأون اورادهم، وانظر كيف أخذوا في اياديهم سلاسل الذرات، وعدد القطرات، وانفاس المخلوقات فيذكرون الله بها ويسبحونه ويقدّسونه.. تأمل كيف يتعالى ذلك الانسان الهزيل الصغير الذي يصارعه اصغر ميكروب ويصرعه أدنى كَرْب! وكيف يتسامي في التربية القرآنية الخارقة فتنبسط لطائفُه وتسطع بفيض إرشادات القرآن حتى انه يستصغر اضخم موجودات الدنيا من ان يكون مسبحةً لأوراده، بل يستقل الجنة العظمى ان تكون غاية ذكره لله سبحانه، مع انه لا يرى لنفسه فضلاً على أدنى شيء من خلق الله.. انه يجمع منتهى التواضع في منتهى العزة.. ومن هنا يمكنك ان تقدّر مدى انحطاط تلاميذ الفلسفة ومدى دناءتهم.

وهكذا فالحقائق التي تراها الفلسفة السقيمة الاوروبية بدهائها الاعور مشوهةً زائفةً يراها الهديُ القرآني واضحةً جلية، ذلك النور الذي ينظر الى كلا العالمين بعينين براقتين نافذتين الى الغيب، ويشير بكلتا يديه الى السعادتين، ويخاطب البشرية:

ايها الانسان! إن ما تملكه من نفسٍ ومال ليس ملكاً لك، بل هو أمانةٌ لديك، فمالكُ تلك الامانة قديرٌ على كل شيء، عليم بكل شيء، رحيم كريم، يشتري منك ملكه الذي عندك لسحفَظَه لك، لئلا يضيع في يدك، وسيكافؤك به ثمناً عظيماً، فانت لست الاّ جندياً مكلفاً بوظيفة، فاعمل لاجله واسعَ باسمه، فهو الذي يرسل اليك رزقَك الذي تحتاجه، ويحفظك مما لا تقدر عليه.

ان غاية حياتك هذه ونتيجتها هي أن تكون مظهراً لتجليات اسماء ذلك المالك، ومعكساً لشؤونه الحكيمة.. واذا ما اصابتك مصيبةٌ فقل: ﴿إنا لله وإنا اليهِ رَاجعُون﴾(البقرة:156). أي أنا طوعُ أمر مولاي، فان كنت قادمةً ايتها المصيبة باذنه وباسمه، فأهلاً ومرحباً بكِ، فنحن لا محالة راجعونَ اليه لا مناص من ذلك. وسنحظى بالمثول بين يديه، فنحن حقاً مشتاقون اليه.. فما دام سيُعتقنا يوماً من تكاليف الحياة فليكن ذلك على يديك ايتها المصيبة.. انا مستسلم راضٍ. ولكن إن كان الامر والارادة قد صدر اليك منه سبحانه لأجل الابتلاء والاختبار لمدى محافظتي على الامانة ولمدى قيامي بواجباتي، فلا أسلم ما استطعت امانة مالكي لأيدٍ غير أمينة. ولا استسلم لغير أمره ورضاه سبحانه.

فدونك مثالاً واحداً من بين الالوف منه على معرفة قيمة ما تلقنه دهاءُ الفلسفة، ومرتبة ما يرشده هدي القرآن من دروس.

نعم ان الوضع الحقيقي لكلا الطرفين هو على هذا المنوال، بيد أن درجات الناس متفاوتةٌ في الهداية والضلالة ومراتب الغفلة مختلفة متباينة، فلا يشعر كلُّ واحد بهذه الحقيقة في كل مرتبة، إذ الغفلة تُبطل الحس والشعور وتخدّرهما، وقد أبطلتْ في هذا الزمان الحسَ والشعورَ الى حدٍ لم يَعُد يَشعر بألم ومرارة هذا العذاب الاليم اولئك السائرون في ركاب المدنية الحاضرة. ولكن ستار الغفلة يتمزق بتزايد الاحساس العلمي، علاوةً على نذير الموت يعرض جنازة ثلاثين ألف شخص يومياً.

فيا اسفى! وياويل من ضلّ بطواغيت الاجانب وعلومهم المادية الطبيعية، ويا خسارةَ اولئك الذين يقلدونهم تقليداً اعمى، ويتبعونهم شبراً بشبر وذراعاً بذراع.

فيا ابناء هذا الوطن! لا تحاولوا تقليد الافرنج! وهل بعد كل ما رأيتم من ظلم اوروبا الشنيع وعداوتهم اللدودة، تتبعونهم في سفاهتهم، وتسيرون في ركاب أفكارهم الباطلة؟ وتلتحقون بصفوفهم، وتنضمون تحت لوائهم بلا شعور؟ فانتم بهذا تحكمون على انفسكم، وعلى اخوانكم بالاعدام الابدي.. كونوا راشدين فطنين! انكم كلما اتبعتموهم في سفاهتهم وضلالهم ازددتم كذباً وافتراءً في دعوى الحمية والتضحية، لأن هذا الاتباع استخفافٌ بأمتكم واستهزاء بملتكم.

هدانا الله واياكم الى الصراط المستقيم.(*)

_____________________

(1) الرفاعي: (512 – 578هـ) احمد بن علي بن يحيى الرفاعي، ابو العباس، الامام الزاهد مؤسس الطريقة الرفاعية، ولد في قرية حسن في واسط بالعراق سنة 512هـ وتفقه وتأدب في واسط. وكان يسكن قرية ام عبيدة بالبطائح (بين واسط والبصرة) وتوفي بها سنة 578هـ. وفيات الاعيان 1/55 الطبقات الكبرى 1/140 نور الابصار 220 الاعلام 1/174 جامع كرامات الاولياء 1/490.

الشاذلي: (591 – 656هـ) هو علي بن عبدالله بن عبدالجبار الشاذلي، والشاذلة قرية من افريقيا، الضرير الزاهد نزيل الاسكندرية وشيخ الطائفة الشاذلية، صاحب الاوراد المسماة (حزب الشاذلي). الطبقات الكبرى 2/4 الاعالام 4/305 نور الابصار 234 جامع كرامات الاولياء 2/341. – المترجم.

(*) كليات رسائل النور – اللمعة السابعة عشرة .. ص:176

قرئت 11 مرات
لإضافة تعليق يرجى تسجيل الدخول أو إنشاء قيد جديد