معجزة انشقاق القمر

 

بِسْمِ الله الرَّحْمنِ الرَّحيمِ

﴿اقتَرَبت الساعةُ وانشق القَمَر * وإنْ يَرَوا آيةً يُعرِضوا ويقولوا سحرٌ مستمرٌ﴾ (القمر:1ــ 2)

ان فلاسفة ماديين – ومن يقلّدونهم تقليداً اعمى – يريدون ان يطمسوا ويخسفوا معجزة انشقاق القمر الساطع كالبدر، فيثيروا حولها اوهاماً فاسدة، اذ يقولون: (لو كان الانشقاق قد حدث فعلاً لعرفه العالم، ولذكرته كتب التاريخ كلها!).

الجواب: ان انشقاق القمر معجزة لإثبات النبوة، وقعت امام الذين سمعوا بدعوى النبوة وانكروها، وحدثت ليلاً، في وقت تسود فيه الغفلة، واُظهِرت آنياً، فضلاً عن ان اختلاف المطالع ووجود السحاب والغمام وامثالها من الموانع تحول دون رؤية القمر، علماً ان اعمال الرصد ووسائل الحضارة لم تكن في ذلك الوقت منتشرة؛ لذا لا يلزم ان يرى الانشقاق كلُ الناس، في كل مكان، ولا يلزم ايضاً ان يدخل كتب التاريخ.

فاستمع الآن الى نقاط خمس فقط من بين الكثير منها، تبدد باذن الله سُحبَ الاوهام التي تلبّدت على وجه هذه المعجزة الباهرة:

- النقطة الاولى:

ان تعنت الكفار في ذلك الزمان وذلك المحيط معلوم ومشهور تاريخاً، فعندما أعلن القرآن الكريم ﴿وانشق القَمَر﴾ وبلغ صداه الآفاق، لم يجرؤ أحد من الكفار - وهم يجحدون القرآن - ان يكذّب بهذه الآية الكريمة. اي ينكر وقوع الحادثة. اذ لو لم تكن الحادثة قد وقعت فعلاً في ذلك الوقت، ولم تكن ثابتة لدى اولئك الكفار، لاندفعوا بشدة ليبطلوا دعوى النبوة، ويكذّبوا الرسول صلى الله عليه وسلم . بينما لم تنقل كتب التأريخ والسير شيئاً من اقوال الكفار حول انكارهم حدوث الانشقاق، الا ما بيّنته الآية الكريمة ﴿ويقولوا سحرٌ مستمرٌ﴾ وهو ان الذين شاهدوا المعجزة من الكفار قالوا: هذا سحر فابعثوا الى أهل الآفاق حتى تنظروا أرأوا ذلك أم لا؟. ولما حان الصباح أتت القوافل من اليمن وغيرها فسألوهم، فأخبروهم: انهم رأوا مثل ذلك. فقالوا: إن سحر يتيم ابي طالب قد بلغ السماء!

- النقطة الثانية:

لقد قال معظم ائمة علم الكلام، من امثال سعد التفتازاني: (ان انشقاق القمر متواتر، مثل فوران الماء من بين اصابعه الشريفة صلى الله عليه وسلم وارتواء الجيش منه، ومثل حنين الجذع من فراقه صلى الله عليه وسلم الذي كان يستند اليه اثناء الخطبة، وسماع جماعة المسجد لأنينه. اي ان الحادثة نقلته جماعة غفيرة عن جماعة غفيرة يستحيل تواطؤهم على الكذب، فالحادثة متواترة تواتراً قطعياً كظهور المذنب قبل الف سنة وكوجود جزيرة سرنديب التي لم نرها).

وهكذا ترى أن إثارة الشكوك حول هذه المسألة القاطعة وامثالها من المسائل المشاهدة شهوداً عياناً انما هي بلاهة وحماقة، اذ يكفي فيها انها من الممكنات وليست مستحيلاً.

علماً ان انشقاق القمر ممكن كانفلاق الجبل ببركان.

- النقطة الثالثة:

ان المعجزة تأتي لأثبات دعوى النبوة عن طريق اقناع المنكرين، وليس ارغامهم على الايمان. لذا يلزم اظهارها للذين سمعوا دعوى النبوة، بما يوصلهم الى القناعة والاطمئنان الى صدق النبوة. أما أظهارها في جميع الاماكن، أو أظهارها اظهاراً بديهياً بحيث يضطر الناس الى القبول والرضوخ فهو منافٍ لحكمة الله الحكيم ذي الجلال، ومخالف ايضاً لسر التكليف الإلهي. ذلك لأن سر التكليف الإلهي يقتضي فتح المجال امام العقل دون سلب الاختيار منه.

فلو كان الخالق الكريم قد ترك معجزة الانشقاق باقية لساعتين من الزمان، واظهرها للعالم اجمع ودخلت بطون كتب التاريخ كما يريدها الفلاسفة لكان الكفار يقولون انها ظاهرة فلكية معتادة. وما كانت حجة على صدق النبوة، ولا معجزة تخص الرسول الاعظم صلى الله عليه وسلم. او لكانت تصبح معجزة بديهية ترغم العقل على الايمان وتسلبه من الاختيار وعندئذٍ تتساوى ارواح سافلة كالفحم الخسيس من امثال ابي جهل، مع الارواح العالية الصافية كالالماس من امثال ابي بكر الصديق رضي الله عنه، اي لكان يضيع سر التكليف الإلهي.

ولأجل هذا فقد وقعت المعجزة آنياً، وفي الليل، وحين تسود الغفلة، وغدا اختلاف المطالع والغمام وامثالها حُجباً امام رؤية الناس لها. فلم تدخل بطون كتب التاريخ.

- النقطة الرابعة:

ان هذه المعجزة التي وقعت ليلاً، وآنياً، وعلى حين غفلة، لا يراها كل الناس دون شك في كل مكان. بل حتى لو ظهرت لبعضهم، فلا يصدِّق عينه، ولوصدّقها، فان حادثة كهذه مروية من شخص واحد لا تكون ذات قيمة للتاريخ.

ولقد ردّ العلماء المحققون ما زيد في رواية المعجزة من أن القمر بعد انشقاقه قد هبط الى الارض! قالوا: ربما ادخل هذه الزيادة بعض المنافقين ليسقطوا الرواية من قيمتها ويهونوا من شأنها.

ثم ان في ذلك الوقت: كانت سُحب الجهل تغطى سماء انكلترا، والوقت على وشك الغروب في اسبانيا، وامريكا في وضح النهار، والصباح قد تنفس في الصين واليابان.. وفي غيرها من البلدان هناك موانع اخرى للرؤية. فلا تشاهد هذه المعجزة العظيمة فيها.

فاذا علمت هذا فتأمل في كلام الذي يقول: (ان تأريخ انكلترا والصين واليابان وامريكا وامثالها من البلدان لا تذكر هذه الحادثة، اذن لم تقع!). اي هذرٍ هذا.. ألا تباً للذين يقتاتون على فتات اوربا..

 

النقطة الخامسة:

ان انشقاق القمر ليس حادثة حدثت من تلقاء نفسها، بناء على اسباب طبيعية وعن طريق المصادفة! بل أوقعها الخالق الحكيم - رب الشمس والقمر - حدثاً خارقاً للسنن الكونية، تصديقاً لرسالة رسوله الحبيب صلى الله عليه وسلم ، واعلاناً عن صدق دعوته، فابرزه سبحانه وتعالى وفق حكمته وبمقتضى سر الارشاد والتكليف وحكمة تبليغ الرسالة، وليقيم الحجة على من شاء من المشاهدين له، بينما اخفاه - اقتضاء لحكمته سبحانه ومشيئته - عمن لم تبلغهم دعوة نبيه صلى الله عليه وسلم من الساكنين في اقطار العالم، وحَجَبه عنهم بالغيوم والسحاب وباختلاف المطالع وعدم طلوع القمر، أو شروق الشمس في بعض البلدان وانجلاء النهار في اخرى وغروب الشمس في غيرها.. وامثالها من الاسباب الداعية الى حَجب رؤية الانشقاق.

فلو اُظهرت المعجزة الى جميع الناس في العالم كله فإما انها كانت تبرز لهم نتيجة اشارة الرسول الاعظم صلى الله عليه وسلم واظهاراً لمعجزة نبوية، وعندها تصل الى البداهة، اي يضطر الناس كلهم الى التصديق، اي يُسلب منهم الاختيار، فيضيع سر التكليف، بينما الايمان يحافظ على حرية العقل في الاختيار ولا يسلبها منه.. أو أنها تبرز لهم كحادثة سماوية محضة، وعندها تنقطع صلتها بالرسالة الأحمدية ولا تبقى لها مزيّة خاصة.

الخلاصة:

ان انشقاق القمر لا ريب في امكان وقوعه. فلقد أثبت اثباتاً قاطعاً. وسنشير هنا الى وقوعه بستة براهين قاطعة(1) من بين الكثير منها، وهي: اجماع الصحابة الكرام رضوان الله عليهم اجمعين وهم العدول. واتفاق العلماء المحققين من المفسرين لدى تفسيرهم ﴿وانشق القَمَر﴾ ونقل جميع المحدّثين الصادقين في رواياتهم وقوعه بأسانيد كثيرة وبطرق عديدة(2). وشهادة جميع اهل الكشف والالهام من الأولياء الصادقين الصالحين و تصديق ائمة علم الكلام المتبحرين رغم تباين مسالكهم ومشاربهم. وقبول الامة التي لا تجتمع على ضلالة كما نص عليه الحديث الشريف.

كل ذلك يبين انشقاق القمر ويثبته اثباتاً قاطعاً يضاهي الشمس في وضوحها.

 

حاصل الكلام:

كان البحث الى هنا باسم التحقيق العلمي، إلزاماً للخصم. اما بعد هذا فسيكون الكلام باسم الحقيقة ولأجل الايمان. فقد نطق التحقيق العلمي هكذا. أما الحقيقة فتقول:

ان خاتم ديوان النبوة صلى الله عليه وسلم وهو القمر المنير لسماء الرسالة، وقد سمَتْ ولايةُ عبوديته الى مرتبة المحبوبية، فاظهرت الكرامة العظمى والمعجزة الكبرى بالمعراج، اي بجولان جسمٍ ارضي في آفاق السموات العلى، وتعريف اهل السموات به، فأثبتت بتلك المعجزة ولايتَه العظمى لله ومحبوبيته الخالصة له وسمّوه على اهل السموات والملأ الاعلى.. كذلك فقد شق سبحانه القمر المعلق في السماء والمرتبط مع الارض باشارة من عبده في الأرض، فاظهر لأهل الارض معجزته هذه، اثباتاً لرسالة ذلك العبد الحبيب، فعرج صلى الله عليه وسلم الى أوج الكمالات بجناحَي الولاية والرسالة النورانيين كالفلقين المنيرين للقمر حتى بلغ قاب قوسين أو أدنى واصبح فخراً لأهل السموات ولأهل الارض معاً. (*)

 

عليه وعلى آله وصحبه الصلاة والتسليمات ملء الارض والسموات.

﴿سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا اِلاّ ما عَلَّمْتَنا اِنَّكَ اَنْتَ الْعَليمُ الْحَكيم﴾

 

_________________________________

(1) أي ان هناك ست حجج قاطعة على وقوع انشقاق القمر في ستة انواع من الاجماع. ولكن للأسف لم نوف هذا المقام حقّه من البحث فظل مقتضباً .ـ المؤلف.

(2) نذكر ثلاثة احاديث متفق عليها:

1ـ عن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه قال: انشق القمر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم شقين فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (اشهدوا) ـ متفق عليه ـ.

2ـ وعن انس رضي الله عنه ان اهل مكة سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ان يريهم آية فأراهم انشقاق القمر ـ متفق عليه ـ.

3ـ وعن ابن عباس رضي الله عنهما ان القمر انشق في زمان النبي صلى الله عليه وسلم ـ متفق عليه. راجع: مسند الامام احمد 1/377، 413، 447، 456، 3/ 207، 220، 275، 278، 4/ 81 ورواه الطيالسي برقم 295، 1891، 1960 . وتفسير ابن كثير ( 6/ 469) لمعرفة تواتر الحادثة.ـ المترجم.

(*)معجزة انشقاق القمر- [ذيل الكلمة التاسعة عشرة والحادية والثلاثين] –المكتوب التاسع عشر ص(271)

 

قرئت 485 مرات
لإضافة تعليق يرجى تسجيل الدخول أو إنشاء قيد جديد