في طريق استانبول
في طريق استانبول:
في أثناء مجيئى إلى استانبول قبل عهد الحرية، اقتنيت بضعة كتب قيّمة تخص علم الكلام فقرأتها بدقة. وبعد مجيئى إليها دعوت العلماء ومدرسي المدارس الدينية إلى المناقشة بإعلاني (اسألوا ما شئتم). الاّ أن الشئ المحير ان المسائل التي طرحها القادمون كنت قد قرأت أجوبتها في طريقي إلى استانبول او التي ظلت عالقة في ذهني.
وكذا الأسئلة التي طرحها الفلاسفة هي المسائل التي ظلت عالقة في ذهني.
والآن [أي بعد حوالي خمسين سنة] توضح الأمر فأدرك ان ذلك النجاح الباهر وذلك الإعلان وإظهار الإعجاب والفضيـلة التي تفوق حدي بكثير، إنما كان لتهيئة الوسط الملائم لقبول رسائل النور لدى استانبول وعلمائها ومعرفة أهميتها.(1)
فلقد دعا العلماء واهل المدارس الحديثة في استانبول - قبل إعلان الحرية بستة شهور - إلى المناظرة والمناقشة، والإجابة عن أسئلتهم دون ان يسأل احداً شيئاً. فأجاب عن جميع استفساراتهم إجابة شافية صائبة.(2)(*)
______________________________________
(1) الملاحق - اميرداغ 1 / 255
(2) اللمعات/ 262 . يقول السيد "حسن فهمي باش اوغلو" (الذي اصبح فيما بعد عضواً في هيئة الاستشارة للشؤون الدينية في تركيا):
عندما كنت طالباً في " مدرسة فاتح" زمن المشروطية سمعنا بقدوم شاب الى استانبول اسمه "بديع الزمان" علق لوحة على باب غرفته (في خان الشكرجي) الذي يقيم فيه كتب فيها : هنا تحلّ كل معضلة ويجاب عن كل سؤال من دون توجيـه سؤال لأحد. وقد خطر ببـالي ان صاحب مثل هذا الادعاء لابد ان يكون مجنوناً، ولكن كثرة الثناء والمديح المتكرر الذي بدأت اسمعه من الناس ومن الطلبة ومن العلماء الذين قاموا بزيارته أثارت في نفسي رغبة كبيرة لزيارته، فقررت أن أختار أصعب الأسئلة لأدق المسائل لأطرحها عليه ، وكنت آنذاك أعدّ من الطلبة المتفوقيـن في المدرسة. وفي مساء أحد الأيام تهيأت واخترت من علوم العقائد أدق المواضيع التي تحتاج الاجابة عليها الى عدة كتب، وذهبت اليه في اليوم التالي ووجهت اليه تلك الاسئلة فكانت أجوبته خارقة ومدهشة وعجيبة فكأنه كان معي يدقق الكتب البارحة لأن أجوبته كانت تامة وكاملة. اما أنا فقد اطمأننت تماماً وعلمت علم اليقين بان علمه ليس كسبياً كعلمنا، بل هو علم لدني، ثم أخرج لنا خارطة أوضح عليها مدى أهمية وضرورة فتح المدارس العلمية في شرقي البلاد التي كانت تدار آنذاك من قبل "القوات الحميدية" فبين عدم كفاية هذا الطراز من الإدارة لتلك المنطقة، كما بين ضرورة إيقاظ هذه المنطقة علمياً وذلك بأسلوب مقنع، وانه لم يأت الى استانبول الاّ من أجل تحقيق هذه الغاية وكان يقول:(ان الدين هو ضياء القلوب، اما العلوم الحديثة فهي نور العقول).
ويقول الكاتب التركي "ماهر إيز":
"عندما أتى "بديع الزمان" الى استانبول كان شاباً، ويتجول بملابسه المحلية، وكان شخصاً بليغاً ماهراً في الحديث وخطيباً مفوهاً ومن أصحاب الذكاء الخارق الذي أنجبته المنطقة الشـرقية للبلاد، دعا العلماء للمناظرة وتحداهم جميعاً لانه كان واثقاً من نفسه".
ويسرد السيد " علي همت بركي" وهو من رؤساء محكمة التمييز السابقين ذكرياته حول وصول "بديع الزمان" الى استانبول فيقول:
"كنت آنذاك طالباً في مدرسة القضاة (أي كلية الحقوق) عندما انتشرت إشاعة تقول ان شخصاً اسمه " بديع الزمان" ذا قيافة غريبة جاء من شرقي البلاد وانه يجيب عن أي سؤال كان يوجه اليه، فشعرنا بفضول كبير وذهبنا لرؤيته.. كان جالساً يتناول بالتفنيد والدحض الفلسفة السوفسطائية بأدلة عقلية ومنطقية.. كان جديراً فعلاً بلقب "بديع الزمان" إذ لم يكن هناك حد لمعلوماته في الفلسفة الإسلامية (أي في علم الكلام) وفي علم اللغة".(ش/ 83)
(*) السيرة الذاتية ص:67