ضرب الأمثال والمجاز في كتابات سعيد النورسي
ضرب الأمثال والمجاز
في كتابات سعيد النورسي
أ. د. جيـن سـمث(1)
يتميز النورسي باستخدامه كلا من القلب والعقل والخيال والفكر في كتاباته. وتعد هذه الميزة، أي قدرته على التعبير بكلمات صريحة ولكن ثرية من حيث قوتها الرمزية والدلالية، من العوامل التي أدامت أثره طوال القرن العشرين إلى يومنا هذا، بحيث مازال يعتبر من كبار دعاة الإسلام ومفسري القرآن. فالذي يقرأ رسائل النور يحس بنار الشوق التي تحرق في قلب النورسي، ويفهم تعليماته، ويتذوق الحقيقة مثله من خلال تصويرات وعبارات حية بل ودهاشة أحيانا. ولما كان النورسي مفسرا للقرآن فهو بطبيعة الحال يريد أن يبين أغمض المسائل القرآنية إلى أبسط الناس، فأصبحت الرسائل تزخر بشتى أنواع التمثيل و المجاز والحكايات التمثيلية.
تقول مترجمة حياة النورسي، السيدة شكران واحدة " إن هذه التمثيلات تجلب وتشد أنظار القراء، كما أنها في الوقت نفسه تيسر لهم فهم أمور لم تكن لتستسغيها عقولهم. وهذه الميزة سبب هام في انتشار رسائل النور وانتصاراتها المتتالية في حقل الدعوة ".
تعتبر التمثيلات والصور التي يرسمها النورسي وهو يصف الحياة والموت والقبر وما بعده في نظرنا من أقوى وجوه التمثيل والتشبيه التي يمكن للقارئ أن يعثر عليها في الرسائل. بيد أن كلمة " يصف " في هذا المقام لا تعكس تعاليم النورسي حول هذه القضايا المصيرية كما ينبغي. ذلك أن همّ النورسي ليس هو وصف الموت أو البرزخ أو القيامة على الطراز الذي نجده في الكتب الإسلامية التي تناولت هذه المواضيع سواء كانت القديمة منها أم الحديثة. ولا هو يكترث بأن يصف لنا أحوال الحشر والقيامة، تلك الأحداث الهائلة التي يكرر ذكرها القرآن، كما هي موصوفة في كتاب الله، رغم أن ذلك الكتاب كان سلوانه الوحيد، لم يتخذ أستاذا غيره ولم يعتمد في برهانه على شيء ما عدا آياته. كان دأبه في الوصف دأب كتّاب العصر الحديث الذين ركزوا على الأخلاق والإيمان، ولم يبالوا بتفاصيل وجزئيات أطوار الحياة والموت.
لكن اعتماد النورسي في هذا الصدد على تمثيلات تشير إلى حالات روحية ونفسية، عوض أن تشير إلى حقائق خارجية جعله ينفرد بأسلوب يميزه عن معظم معاصريه.
كانت ومازالت التشبيهات والتعابير المجازية إلى يومنا من الإجراءات المتبعة في الوعظ منذ قديم الزمان، والعهد القديم من الكتاب المقدس بما يحتوي عليه من ضرب الأمثال أحسن دليل على ذلك. فإذا كنا نريد أن نكشف عن سر قوة التمثيلات عند النورسي يجب علينا أن ندرك بأن النورسي إنما يتبين هذا الأسلوب لأغراض تعليمية، تهدف إلى الوعظ لا الوصف. وأكثر ما يهدف إليه هذا الوعظ هو: مقابلة الكفر بالإيمان ثم إظهار الفرق والتغاير بين تجربة الكافر وتجربة المؤمن في هذا الوجود.
قد يجد القارئ أن بعض هذه التشبيهات والتمثيلات تتكرر في مواقع كثيرة بينما يتكرر لا البعض الآخر إلا قليلا. والنورسي يعترف بأن تأليفاته كتبت بسرعة بحيث كانت ترد إلى قلبه " كاللمعات " لكننا إذا أخذنا بعين الاعتبار أن حجم كليات رسائل النور ليس بضئيل وأن النورسي كان يكتب لمخاطبين شتى وفقا لاختلاف طبقاتهم ومستوياتهم، يتيسر لنا فهم سبب تكرار مباحث الموت والقبر في كتاباته.
ولم يكن للنورسي أن يختار الأسلوب ولا الظروف التي يكتب فيها، وهو يعترف بأن تأليفاته كتبت بسرعة، وأنها كانت ترد على قلبه كاللمعات الخاطفة. فلو أخذنا مثالا السرعة التي كتبت فيها رسالة المرضى، والظروف المزعجة التي كتبت فيها رسالة الشيوخ لما عاتب الواحد منا النورسي على هذه التكرارات. سبق أن قلنا بأن ما تميز به النورسي هو تمكنه من المقايسة الصائبة بين تجربة الكافر وتجربة المؤمن بحيث لا يصعب علينا أن نرى بوضوح الفرق والتباين في فكر النورسي بين الإنسان المؤمن والإنسان الذي لا يؤمن إلا قليلا، أو الذي يكاد سلوكه ينافي مقتضيات الإيمان والدين تماما. لذا قليلا جدا ما تراه يدع حظا لوجه التشابه بين الناس حين يصف الموت والقبر لأنه كان يؤمن إيمانا جازما بأن مفهومنا لتلك الحالتين يتفاوت ويتغاير حسب درجة اعتقادنا وإيماننا بالله وإخلاصنا له. ويجدر بنا أن نشير هنا بأن النورسي كان على وعي بمعضلات الحياة الدينية كما كان يدرك أسرارها، فهو بهذه المقايسات بين الإيمان وضده لا يصر بأنه يسعنا أن نقسم المشاعر والنوايا الإنسانية إلي قبيح وحسن كما تقسم الغرفة بفاصل. إن النورسي يعترف بأن الأمر ليس بهذه البساطة إذ يعلمنا بأنه هو نفسه قد فشل في إقامة بعض تعاليم القرآن على الوجه المطلوب في مناسبات عديدة. بل وحتى وصل به الأمر إلى أن يصف نفسه بالمذنب، المكفّن داخل قبره راجيا رحمة ربه.
إن ما يجعلنا ننجذب إلى كتابات النورسي ليس هو التزامه وتعهده برسالاته فقط، بل محاورته نفسه فيها كأن إلحاحاتها تخصه هو بالدرجة الأولى. وفعلا أن الواحد منا وهو يقرأ للنورسي حين يتكلم عن تقدم سنه وعن الموت الذي ينتظره ليحسّ بأنه ينصت للنورسي وهو يخاطب نفسه. نعم، لقد كان النورسي يدرك بأن الموت بطبيعته شيء مرعب يذعر البشرية بأكملها، لذا لم يتقزز من أن يرشّح نفسه مع الذين يحتاجون إلى السلوان أمام وجه الموت المخيف و مع من هم في حاجة ماسة أن يقنعوا بوجهه الحسن الباعث على الأمل.
يزخر التراث الإسلامي بالكتب التي تبحث في أمور الآخرة والحشر. وكثير منها تلك التي تصف تفاصيل وجزئيات أطوار الموت وما بعد الموت إلى يوم الحشر، تبين فيها كيف أن كلا من تلك الأطوار يعكس نتائج ما قدمه شخصا ما وهو في الحياة من جهة، وتنبئ عما سيكون عليه ذلك الشخص يوم الحساب من جهة أخرى. يختلف النورسي عن هؤلاء في تصويره لهذه المسائل لأنه كان يؤمن بأن أطوار وأحوال الموت والقبر كما سبقنا وأن قلنا، تتعلق مباشرة بعقيدة الناس ودرجة قوة إيمانهم. فبينما هي تبدو مناظر مخيفة وموحشة، فإنها تبدو لصاحب الإيمان وكأنها جنان ترحب.
__________________
(1) استاذة في جامعة هارفورد بأمريكا.